الْكَوْكَبُ الدُّرِيّْ فِي تَرْجَمَةِ الإِمَامِ أبِي بَكْرٍ الآجُرِّيّْ
كتبه الشيخ /أحمد شحاته ألألفي السكندري
--------------------------------------------------------------------------------
أبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ عَبْدِ اللهِ الآجُرِّيُّ الْبَغْدَادِيُّ
الْعَابِدُ الزَّاهِدُ الْحَافِظُ ذُو التَّصَانِيفِ النَّافِعَةِ (1)ـ
ـــــــــــــــــــــــ
الإِمَامُ الْحَافِظُ الثَّبْتُ النِّحْرِيرْ . وَبَحْرُ الْعِلْمِ الزَّاخِرُ بِالْفَضْلِ الْغَزِيرْ . مِنْ الْقَوْمِ الَّذِينَ سَمَتْ أَنْفَسُهُمْ لِنَيْلِ الْعُلا وَالْمَعَالِي . فَمَا بَرِحَ يُدْلِجُ وَيَغْدُو فِي تَحْصِيلِ الأُصُولِ وَالْفُرُوعِ بِالأَسَانِيدِ الْعَوَالِي . مُتَدَرِّعَاً بِأَنْوَارِ الْيَقِينِ مِنْ الْوُقُوعِ فِي وَرَطَاتِ الارْتِيَابِ وَاللَّبْسِ . وَسَاعِيَاً فِى صِيَانَةِ عَقَائِدِ الْمِلَّةِ مِنْ غَارَاتِ الابْتِدَاعِ وَالرِّجْسِ . حَتَّى قَضَى فِي كَشْفِ مُشْكَلاتِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ كُلَّ حَاجَةٍ فِي النَّفْسِ . وَرَدَّ عَلَى الْمُخَالِفِينَ مِنْ أَهْلِ الزَّيْغِ وَالضَّلالِ رَدَّاً حَفِيلاً . وَكَانَ عَلَى الرَّوَافِضِ وَالْجَهْمِيَّةِ وَالْخَوَارِجِ وَالْمُرْجِئَةِ سَيْفَاً مَسْلُولاً.
وَتَنَاقَلَتْ تَصَانِيفَهُ أَئِمَّةُ الأَمْصَارِ . وَتَهَادَتْهَا شُدَاةُ الْحَقِّ فِي شَتَى الأَقْطَارِ . وَطَلَعَتْ فِي كُلِّ أُفْقٍ طُلُوعَ الشَّمْس . وَنَسَخَتْ بِمُحْكَمِ صَوَابِهَا كُلِّ رِيبَةٍ وَلَبْس .
وَأَعْرَبَتْ بِدِقَائِقِ تَحْقِيقَاتِهَا عَنْ حَقَائِقِ التَّبْيَانِ . فَرَمَقَتْهَا أَعْيُنُ وُجُوهِ الْعُلَمَاءِ بِالْمُقُلِ الْحِسَانِ . وَتَلَقَوْهَا بِالرِّضَا وَالْقَبُولِ وَالاسْتِحْسَانِ .
(( وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا . وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا )) . إنَّ تَصَانِيفَهُ كَأَبْكَارِ الْعَرَائِسِ تَرْفُلُ فِي أَبْهَى حُلاهَا . أَوْ النُّجُومِ الزَّاهِرَةِ يُهْتَدَى فِي الظُّلُمَاتِ بِضِيَائِهَا وَسَنَاهَا . وَكَفَاهُ بِكِتَابِ الشَّرِيعَةِ فَخْرَاً فَقَدْ اكْتَسَى مِنْ مَوَاهِبِ الامْتِنَانِ حُلَلَهَا . وَتَلا لِسَانُ التَّوْفِيقِ عَلَى الْعَاجِزِ عَنْ تَكْمِيلِهِ (( مَا يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا )) .
فَلَعْلَّ الآجُرِّيَّ الْمَقْصُود ، بِهَذَا الْمَدِيحِ الْمَحْمُود :
إِمَامُ أََهْـلِ التُّقَى وَالْعِلْمِ شِـيمَتُهُ ... بَذْلُ النَّدَى مِنْ أَيَادٍ سَيْـبُهَا رَشَـحَا
تَغْدُو الأَمَانِيُّ حَسْـرَى دُونَ هِمَّتِهُ ... إِذَا يَرُوحُ عَلَى الْعَلْـيَاءِ مُقْـتَرِحَـا
يُرِيكَ مِنْ لَفْظِهِ الْكَشَّافِ إِنْ نَطَقَتْ ... عُلْيَا بِلاغَـتِهِ مَا يُخْـرِسُ الْفُصَـحَا
فَكَمْ بِهِ مِنْ مُشْكَلٍ لِلْفَهْمِِ قَدْ وَضَحَا ... وَمُقْفَلٍ بِدَقِيقِ الْفِـكْرِ قَـدْ فُتِـحَا
فَقُلْ لِمَـنْ رَامَ فِي فَضْـلٍ يُمَاثِلُهُ ... أََقْصِرْ عَدِمَتُكَ وَاقْبَلْ نُصْحَ مَنْ نَصَحَا
إِنَّ الْمَعَالِيَ مَـا بَيْنَ الْوَرَى مِـنَحٌ ... مَقْسُـومَةٌ وَإِلهُ الْعَرشِ قَـدْ مَنَـحَا
ـــــــــ
نشأتُهُ ونبوغُهُ فِي الْعِلْمِ
نَشَأَ بِدَرْبِ الآجُرِّ (2) بِبَغْدَادَ نَشْأَةَ مَنْ يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُور . فَبَكَّرَ إِلَى مَجَالِسِ عُلَمَاءِ بَلْدَتِهِ وَهُوَ يَتْلُو : اللَّهُمَّ بَارَكَ لِي فِى الْغُدُو وُالْبُكُور . وَلازَمَ الْحِشْمَةَ وَالْوَقَارَ وَالْوَرَعَ الْمَتِين . وَسَلَكَ فِي الزُّهْدِ وَالْعِبَادَةِ سُنُنَ السَّادَةِ السَّالِفِين . وَجَدَّ فِي الْقِيَامِ فِى جَوْفِ الدَّيَاجِي قَانِتَا . يَتْلُو بِلِسَانِ التَّذَلُّلِ وَالاعْتِذَارِ وَالرَّجَا :
اتَّخِذْ طَـاعَةَ الإِلَهِ سَـبِيلاً ... تَجِدِ الْفَوْزَ بِالْجِنَانِ وَتَنْجُو
وَاتْرُكْ الإِثْمَ وَالْفَوَاحِشَ طُرَّا ... يُؤْتِكَ اللهُ مَـا تَرُومُ وَترْجُو
وَسَمِعَ وَهُوَ حَدَثٌ يَافِعٌ أَبَا مُسْلِمٍ الْكجِّيَّ الَّذِي فَاقَ مُحَدِّثِي عَصْرِهِ . وَأَقرَّ لَهُ بِالإِمَامَةِ وَالصَّدَارِةِ أَبْنَاءُ دَهْرِهِ . فَحَصَّلَ فِي سِنٍّ مُبَكِّرَةٍ الْحَدِيثَ بَالأَسَانِيدِ الْعَوَالِي . وَتَفَرَّد عَنْ أَقْرَانِهِ وَذَوِيهِ بِأَوْسَاطِ الْمَعَالِي .
تَصَدّى رِجَالٌ فِي الْمَعَالِي لِيُدْرِكُوا ... مَـدَاكَ وَمَـا أَدْرَكْتَهُ فَتَـذَبْذَبُوا
وَرُمْتَ الَّذِي رَامُوا فَأَذْلَلْتَ صَعْبَهُ ... وَرَامُوا الَّذِي أَذْلَلْتَ مِنْهُ فَأَصْعَبُوا
ثُمَّ صَحِبَ بَعْدَهُ أَئِمَّةً تُشَدُّ إِلَيْهِمْ الرِّحَالُ وَيُقْصَدُونَ . مِنْ الْقَوْمِ الَّذِينَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللهِ وَرِضْوَانَاً وَيَنصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ . فَلازَمَ أَبَا بَكْرٍ جَعْفَرَ بْنَ مُحَمَّدٍ الْفِرْيَابِيَّ أَوْحَدَ الْحُفَّاظِ الرُّفَعَاءِ . وَلَمْ يَلْتَفِتْ بِهِمَّتِهِ عَنْهُ إَلَى بَيْضَاءَ وَلا صَفْرَاءَ . حَتَّى وَعَى صَدْرُهُ وَخَزَنَتْ دَفَاتِرُهُ مَا لَدِيهِ . وَحَمِدَ عِنْدَ إِيَابِهِ السُّرَى وَالإِدْلاجَ إِلَيْهِ .
وَزَاحَمَ بِرُكْبَتَيْهِ أُلُوفَ الْحَاضِرِينَ مَجَالِسَ أَبِي مُحَمَّدٍ يَحِيَى بْنِ صَاعِدٍ حَامِي جَنَابِ الشَّرْعِ مِنْ الَحَدِيثِ الْمُفْتَرَى . وَالذَّائِدِ عَنْ السُّنَّةِ وَنَاصِرِهَا نَصْرَاً عَزِيزَاً مُؤَزَّرَا . فَقَرَّبَهُ مِنْهُ وَأَدْنَاهُ . وَأَمْلَى عَلَيْهِ فَوَائِدَ لَمْ يَسْبِقْهُ إِلَيْهَا سِوَاهُ . وَمَا بَرِحَ يَرْتَحِلُ فِى الأَمْصَارِ يَطْلُبُ الْمَزِيد . حَتَّى حَوَى مِنْ الْحَدِيثِ وَالآثَارِ فَوْقَ مَا يُرِيد . وَلِسَانُ حَالِهِ يَقُولُ :
وَمَا لِي حَـالَةٌ أَرْجُـو بَقَاهَا ... سِوَى التَّشْمِِيرِ فِي طَلَبِ المَعَالِي
نَظَرْتُ فَلَمْ أَجِـدْ شَيْئَاً بِعَيْنِي ... مِنْ الدُّنْيَا يَزِيـدُ عَلَى خِلالِي
وَاشْتَاقَتْ نَفْسُهُ إِلَى الْمُجَاوَرَةِ سَنَةً بِحَرَمِ اللهِ الأَمِين . فَأَمَّهُ فَحَجَّ وَاعْتَمَرَ وَلَمَّا هَمَّ بِالْخُرُوجِ نُودِيَ : أَرَدْتَ سَنَةً وَأَرَدْنَا ثَلاثِين . فَأَقَامَ بِمَكَّةَ وَصَارَ شَيْخَهَا وَمُفِيدَ حُجَّاجِهَا وَالْقَاطِنِين . عَلَى خُلُقٍ أَرَقَّ مِنْ النَّسِيمِ . وَمُحَيَّا تَعْرِفُ فِيهِ نَضْرَةَ النَّعِيمِ .
وَغَـدَتْ مَجَالِسُهُ بِكُبَرَاءِ أَهْلِ الْعِلْمِ صَبَاحَاً مُشْرِقَاً . وَأَمْسَتْ أَوْقَاتُهُ غَيْثَاً بِالْخَيْرَات مُغْدِقَاً . وَأَذَاعَ أَرِيجَ ثَنَاءِهِ مِسْكُ اللَّيْلِ وَكَافُورُ الصَّبَاح . وَخَجَلَ عِنْدَ ذِكْرِهِ كُلُّ مُنَاظِرٍ مُعَانِدٍ وَكَبْشٍ نَطَّاح . وَوَضَحَ بُرْهَانُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَتُعُوِّذَ مِنْ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاس . وَنَادِي لِسَانُ الْحَقِّ : مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيَؤُمْ النَّاس .
ويتبع بتوفيق الله تعالَى .
ـــــ هامش ـــــ(1)
تَرْجَمَتُهُ فِي : البداية والنِّهاية (11/270) ، وتاج العروس (1/2447) ، وتاريخ الإسلام (1/2690) ، وتاريخ بغداد (2/243) ، وتذكرة الْحُفَّاظِ (3/936) ، والرِّسالة الْمُسْتطرفة (1/112،102،51،43) ، وسـير أعلام النُّبَلاء (16/133) ، وشذرات الذَّهَبِ (3/35) ، وصفة الصَّفوة (2/470) ، وطبقات الْحُفَّاظِ (1/379) ، وطبقات الشَّافِعِيَّة (3/149) ، والْعِبَر فِي خَبَر مَنْ غَبَر (2/31 ، والْعِقْد الثَّمين فِي أخبار البلد الأمين (2/3) ، والفهرست (1/301) ، وكشف الظنون (1/523،52،37،28 و2/1433،1430،1255،1037) ، ومرآة الجنان وعبرة اليقظان ، ومعجم البلدان (1/51) ، والْمَقْصد الأرشد فِي ذِكْرِ أَصْحَابِ أَحْمَدَ (2/389) ، والنجوم الزاهرة (4/60) ، وهداية العارفين (1/470) ، والوافِي بالوفيات (1/300) ، ووفيات الأعيان (3/419) .
(2) قال العلامة يَاقُوتُ الْحَمَوِيُّ (( معجم البلدان ))(1/51) : دَرْبُ الآجُرِّ مَحَلَّةٌ كَانَتْ بِبَغْدَادَ مِنْ مَحَالِ نَهْرِ طَابِقٍ بِالْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ ، سَكَنَهَا غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْعَلِمِ ، وَهُوَ الآنَ خَرَابٌ . يُنْسَبُ إِلَيْهَا : أبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ عَبْدِ اللهِ الآجُرِّيُّ الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ .
وَقَالَ أبُو الْفَيْضِ مُحَمَّدُ مُرْتَضَى الزَّبِيدِيُّ (( تَاجُ الْعَرُوسِ شَرْحُ الْقَامُوسِ ))(1/2447) : ودَرْبُ آجُرٍّ : مَوْضَـعَانِ بِبَغْدَادَ أَحَدُهُمَا بِالْغَرْبِيَّةِ وَهُوَ الْيَوْمَ خَرَابٌ ، وَالثَّانِي بِنَهْرِ مُعَـلَىً عِنْدَ خَـرَابَةِ ابْنِ جَرْدَةَ ، قَالَهُ الصَّاغَانِيّ . مِنْ أَحَدِهِمَا أبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ الآجُرِّيُّ الْعَابِدُ الزَّاهِدُ الشَّافِعِيُّ تُوفِّي بِمَكَّةَ سَنَةَ ستين وثلاثمائة .
وَجَدْتُ بِخِطِّ الْحَافِظِ ابْنِ حَجَرٍ الْعَسْقَلانِيِّ مَا نَصُّـهُ : الآجُرِّيُّ هَكَذَا ضَبَطَهُ النَّاسُ ، وَقَـالَ أبُو عَبْدِ اللهِ مُحَمّدُ بْنُ الْجَلابِ الْفِِهْرِيُّ الشَّهِيدُ نَزِيلُ تُونُسَ فِي (( كِتَابِ الْفَوَائِدِ الْمُنْتَخَبَةِ )) لَهُ : أَفَادَنِي الرَّئِيسُ - يَعْنِي أبَا عُثْمَانَ بْنَ حَكَمَةَ الْقُرَشِيَّ - وَقَرَأْتُهُ فِي بَعْضِ أُصُـولِهِ بِخِطِّ أَبِي دَاوُدَ الْمُقْرِئُ مَـا نَصُّهُ : وَجَـدْتُ فِي كِتَابِ الْقَاضِي أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَبْدِ اللهِ بنِ جَحَّافٍ الرَّاوِي عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ خَلِيفَةَ وَغَيْرِه ، قال لي محمدُ بنُ خليفةَ فِي ذي القعدة سنة 386 عَنْ اللاجُرِيِّ ، وَكُنْتُ سَمِعْتُ مَنْ يَقْرَأُ عَلَيْهِ : حَدَّثَكَ أبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بنُ الحُسَيْنِ الآجُرِّيُّ ، فَقَالَ لِي : لَيْسَ كَذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ اللاجُرِيُّ - بتشديد اللام وتخفيف الرَّاءِ - مُنْسُوبٌ إِلَى لاجُرٍ قَرِيَةٍ مِنْ قُرَى بَغْدَادَ لَيْسَ بِهَا أَطَيْـبُ مِنْ مَائِهَا . قال ابْنُ الْجَلابِ : وَرَوَيْنَا عَنْ غَيْرِهِ : الآجُـرِّيُّ بِتَشَدِيدِ الرَّاءِ ، وَابْنُ خَلِيفَةَ قَدْ لَقِيَهُ ، وَضَبَطَ عَلَيْهِ كِتَابَهُ ، فَهُوَ أَعْلَمُ بِهِ . اهـ
قَـالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ : قُلْتُ : هَذَا مِمَّا يُسْقِطُ الثِّقَةَ بِابْنِ خَلِيفَةَ الْمَذْكُـورِ ، فَأَبُو بَكْرٍ الآجُرِّيُّ أَشْهَرُ مِنْ أَنْ يُنَبَّهَ عَلَى نِسْبَتِهِ ، فَمَا اكْتَفَى بِالتَّغِييرِ وَالتَّحْرِيفِ حَتَّى ادَّعَى نِسْبَتَهُ إِلَى بَلْدَةٍ لا حَقِيقَةَ لَهَا ، وَقَدْ ضَعَّفَهُ ابْنُ الْقُوصِيِّ فِي تَارِيْخِهِ
كتبه الشيخ /أحمد شحاته ألألفي السكندري
--------------------------------------------------------------------------------
أبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ عَبْدِ اللهِ الآجُرِّيُّ الْبَغْدَادِيُّ
الْعَابِدُ الزَّاهِدُ الْحَافِظُ ذُو التَّصَانِيفِ النَّافِعَةِ (1)ـ
ـــــــــــــــــــــــ
الإِمَامُ الْحَافِظُ الثَّبْتُ النِّحْرِيرْ . وَبَحْرُ الْعِلْمِ الزَّاخِرُ بِالْفَضْلِ الْغَزِيرْ . مِنْ الْقَوْمِ الَّذِينَ سَمَتْ أَنْفَسُهُمْ لِنَيْلِ الْعُلا وَالْمَعَالِي . فَمَا بَرِحَ يُدْلِجُ وَيَغْدُو فِي تَحْصِيلِ الأُصُولِ وَالْفُرُوعِ بِالأَسَانِيدِ الْعَوَالِي . مُتَدَرِّعَاً بِأَنْوَارِ الْيَقِينِ مِنْ الْوُقُوعِ فِي وَرَطَاتِ الارْتِيَابِ وَاللَّبْسِ . وَسَاعِيَاً فِى صِيَانَةِ عَقَائِدِ الْمِلَّةِ مِنْ غَارَاتِ الابْتِدَاعِ وَالرِّجْسِ . حَتَّى قَضَى فِي كَشْفِ مُشْكَلاتِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ كُلَّ حَاجَةٍ فِي النَّفْسِ . وَرَدَّ عَلَى الْمُخَالِفِينَ مِنْ أَهْلِ الزَّيْغِ وَالضَّلالِ رَدَّاً حَفِيلاً . وَكَانَ عَلَى الرَّوَافِضِ وَالْجَهْمِيَّةِ وَالْخَوَارِجِ وَالْمُرْجِئَةِ سَيْفَاً مَسْلُولاً.
وَتَنَاقَلَتْ تَصَانِيفَهُ أَئِمَّةُ الأَمْصَارِ . وَتَهَادَتْهَا شُدَاةُ الْحَقِّ فِي شَتَى الأَقْطَارِ . وَطَلَعَتْ فِي كُلِّ أُفْقٍ طُلُوعَ الشَّمْس . وَنَسَخَتْ بِمُحْكَمِ صَوَابِهَا كُلِّ رِيبَةٍ وَلَبْس .
وَأَعْرَبَتْ بِدِقَائِقِ تَحْقِيقَاتِهَا عَنْ حَقَائِقِ التَّبْيَانِ . فَرَمَقَتْهَا أَعْيُنُ وُجُوهِ الْعُلَمَاءِ بِالْمُقُلِ الْحِسَانِ . وَتَلَقَوْهَا بِالرِّضَا وَالْقَبُولِ وَالاسْتِحْسَانِ .
(( وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا . وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا )) . إنَّ تَصَانِيفَهُ كَأَبْكَارِ الْعَرَائِسِ تَرْفُلُ فِي أَبْهَى حُلاهَا . أَوْ النُّجُومِ الزَّاهِرَةِ يُهْتَدَى فِي الظُّلُمَاتِ بِضِيَائِهَا وَسَنَاهَا . وَكَفَاهُ بِكِتَابِ الشَّرِيعَةِ فَخْرَاً فَقَدْ اكْتَسَى مِنْ مَوَاهِبِ الامْتِنَانِ حُلَلَهَا . وَتَلا لِسَانُ التَّوْفِيقِ عَلَى الْعَاجِزِ عَنْ تَكْمِيلِهِ (( مَا يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا )) .
فَلَعْلَّ الآجُرِّيَّ الْمَقْصُود ، بِهَذَا الْمَدِيحِ الْمَحْمُود :
إِمَامُ أََهْـلِ التُّقَى وَالْعِلْمِ شِـيمَتُهُ ... بَذْلُ النَّدَى مِنْ أَيَادٍ سَيْـبُهَا رَشَـحَا
تَغْدُو الأَمَانِيُّ حَسْـرَى دُونَ هِمَّتِهُ ... إِذَا يَرُوحُ عَلَى الْعَلْـيَاءِ مُقْـتَرِحَـا
يُرِيكَ مِنْ لَفْظِهِ الْكَشَّافِ إِنْ نَطَقَتْ ... عُلْيَا بِلاغَـتِهِ مَا يُخْـرِسُ الْفُصَـحَا
فَكَمْ بِهِ مِنْ مُشْكَلٍ لِلْفَهْمِِ قَدْ وَضَحَا ... وَمُقْفَلٍ بِدَقِيقِ الْفِـكْرِ قَـدْ فُتِـحَا
فَقُلْ لِمَـنْ رَامَ فِي فَضْـلٍ يُمَاثِلُهُ ... أََقْصِرْ عَدِمَتُكَ وَاقْبَلْ نُصْحَ مَنْ نَصَحَا
إِنَّ الْمَعَالِيَ مَـا بَيْنَ الْوَرَى مِـنَحٌ ... مَقْسُـومَةٌ وَإِلهُ الْعَرشِ قَـدْ مَنَـحَا
ـــــــــ
نشأتُهُ ونبوغُهُ فِي الْعِلْمِ
نَشَأَ بِدَرْبِ الآجُرِّ (2) بِبَغْدَادَ نَشْأَةَ مَنْ يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُور . فَبَكَّرَ إِلَى مَجَالِسِ عُلَمَاءِ بَلْدَتِهِ وَهُوَ يَتْلُو : اللَّهُمَّ بَارَكَ لِي فِى الْغُدُو وُالْبُكُور . وَلازَمَ الْحِشْمَةَ وَالْوَقَارَ وَالْوَرَعَ الْمَتِين . وَسَلَكَ فِي الزُّهْدِ وَالْعِبَادَةِ سُنُنَ السَّادَةِ السَّالِفِين . وَجَدَّ فِي الْقِيَامِ فِى جَوْفِ الدَّيَاجِي قَانِتَا . يَتْلُو بِلِسَانِ التَّذَلُّلِ وَالاعْتِذَارِ وَالرَّجَا :
اتَّخِذْ طَـاعَةَ الإِلَهِ سَـبِيلاً ... تَجِدِ الْفَوْزَ بِالْجِنَانِ وَتَنْجُو
وَاتْرُكْ الإِثْمَ وَالْفَوَاحِشَ طُرَّا ... يُؤْتِكَ اللهُ مَـا تَرُومُ وَترْجُو
وَسَمِعَ وَهُوَ حَدَثٌ يَافِعٌ أَبَا مُسْلِمٍ الْكجِّيَّ الَّذِي فَاقَ مُحَدِّثِي عَصْرِهِ . وَأَقرَّ لَهُ بِالإِمَامَةِ وَالصَّدَارِةِ أَبْنَاءُ دَهْرِهِ . فَحَصَّلَ فِي سِنٍّ مُبَكِّرَةٍ الْحَدِيثَ بَالأَسَانِيدِ الْعَوَالِي . وَتَفَرَّد عَنْ أَقْرَانِهِ وَذَوِيهِ بِأَوْسَاطِ الْمَعَالِي .
تَصَدّى رِجَالٌ فِي الْمَعَالِي لِيُدْرِكُوا ... مَـدَاكَ وَمَـا أَدْرَكْتَهُ فَتَـذَبْذَبُوا
وَرُمْتَ الَّذِي رَامُوا فَأَذْلَلْتَ صَعْبَهُ ... وَرَامُوا الَّذِي أَذْلَلْتَ مِنْهُ فَأَصْعَبُوا
ثُمَّ صَحِبَ بَعْدَهُ أَئِمَّةً تُشَدُّ إِلَيْهِمْ الرِّحَالُ وَيُقْصَدُونَ . مِنْ الْقَوْمِ الَّذِينَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللهِ وَرِضْوَانَاً وَيَنصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ . فَلازَمَ أَبَا بَكْرٍ جَعْفَرَ بْنَ مُحَمَّدٍ الْفِرْيَابِيَّ أَوْحَدَ الْحُفَّاظِ الرُّفَعَاءِ . وَلَمْ يَلْتَفِتْ بِهِمَّتِهِ عَنْهُ إَلَى بَيْضَاءَ وَلا صَفْرَاءَ . حَتَّى وَعَى صَدْرُهُ وَخَزَنَتْ دَفَاتِرُهُ مَا لَدِيهِ . وَحَمِدَ عِنْدَ إِيَابِهِ السُّرَى وَالإِدْلاجَ إِلَيْهِ .
وَزَاحَمَ بِرُكْبَتَيْهِ أُلُوفَ الْحَاضِرِينَ مَجَالِسَ أَبِي مُحَمَّدٍ يَحِيَى بْنِ صَاعِدٍ حَامِي جَنَابِ الشَّرْعِ مِنْ الَحَدِيثِ الْمُفْتَرَى . وَالذَّائِدِ عَنْ السُّنَّةِ وَنَاصِرِهَا نَصْرَاً عَزِيزَاً مُؤَزَّرَا . فَقَرَّبَهُ مِنْهُ وَأَدْنَاهُ . وَأَمْلَى عَلَيْهِ فَوَائِدَ لَمْ يَسْبِقْهُ إِلَيْهَا سِوَاهُ . وَمَا بَرِحَ يَرْتَحِلُ فِى الأَمْصَارِ يَطْلُبُ الْمَزِيد . حَتَّى حَوَى مِنْ الْحَدِيثِ وَالآثَارِ فَوْقَ مَا يُرِيد . وَلِسَانُ حَالِهِ يَقُولُ :
وَمَا لِي حَـالَةٌ أَرْجُـو بَقَاهَا ... سِوَى التَّشْمِِيرِ فِي طَلَبِ المَعَالِي
نَظَرْتُ فَلَمْ أَجِـدْ شَيْئَاً بِعَيْنِي ... مِنْ الدُّنْيَا يَزِيـدُ عَلَى خِلالِي
وَاشْتَاقَتْ نَفْسُهُ إِلَى الْمُجَاوَرَةِ سَنَةً بِحَرَمِ اللهِ الأَمِين . فَأَمَّهُ فَحَجَّ وَاعْتَمَرَ وَلَمَّا هَمَّ بِالْخُرُوجِ نُودِيَ : أَرَدْتَ سَنَةً وَأَرَدْنَا ثَلاثِين . فَأَقَامَ بِمَكَّةَ وَصَارَ شَيْخَهَا وَمُفِيدَ حُجَّاجِهَا وَالْقَاطِنِين . عَلَى خُلُقٍ أَرَقَّ مِنْ النَّسِيمِ . وَمُحَيَّا تَعْرِفُ فِيهِ نَضْرَةَ النَّعِيمِ .
وَغَـدَتْ مَجَالِسُهُ بِكُبَرَاءِ أَهْلِ الْعِلْمِ صَبَاحَاً مُشْرِقَاً . وَأَمْسَتْ أَوْقَاتُهُ غَيْثَاً بِالْخَيْرَات مُغْدِقَاً . وَأَذَاعَ أَرِيجَ ثَنَاءِهِ مِسْكُ اللَّيْلِ وَكَافُورُ الصَّبَاح . وَخَجَلَ عِنْدَ ذِكْرِهِ كُلُّ مُنَاظِرٍ مُعَانِدٍ وَكَبْشٍ نَطَّاح . وَوَضَحَ بُرْهَانُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَتُعُوِّذَ مِنْ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاس . وَنَادِي لِسَانُ الْحَقِّ : مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيَؤُمْ النَّاس .
ويتبع بتوفيق الله تعالَى .
ـــــ هامش ـــــ(1)
تَرْجَمَتُهُ فِي : البداية والنِّهاية (11/270) ، وتاج العروس (1/2447) ، وتاريخ الإسلام (1/2690) ، وتاريخ بغداد (2/243) ، وتذكرة الْحُفَّاظِ (3/936) ، والرِّسالة الْمُسْتطرفة (1/112،102،51،43) ، وسـير أعلام النُّبَلاء (16/133) ، وشذرات الذَّهَبِ (3/35) ، وصفة الصَّفوة (2/470) ، وطبقات الْحُفَّاظِ (1/379) ، وطبقات الشَّافِعِيَّة (3/149) ، والْعِبَر فِي خَبَر مَنْ غَبَر (2/31 ، والْعِقْد الثَّمين فِي أخبار البلد الأمين (2/3) ، والفهرست (1/301) ، وكشف الظنون (1/523،52،37،28 و2/1433،1430،1255،1037) ، ومرآة الجنان وعبرة اليقظان ، ومعجم البلدان (1/51) ، والْمَقْصد الأرشد فِي ذِكْرِ أَصْحَابِ أَحْمَدَ (2/389) ، والنجوم الزاهرة (4/60) ، وهداية العارفين (1/470) ، والوافِي بالوفيات (1/300) ، ووفيات الأعيان (3/419) .
(2) قال العلامة يَاقُوتُ الْحَمَوِيُّ (( معجم البلدان ))(1/51) : دَرْبُ الآجُرِّ مَحَلَّةٌ كَانَتْ بِبَغْدَادَ مِنْ مَحَالِ نَهْرِ طَابِقٍ بِالْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ ، سَكَنَهَا غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْعَلِمِ ، وَهُوَ الآنَ خَرَابٌ . يُنْسَبُ إِلَيْهَا : أبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ عَبْدِ اللهِ الآجُرِّيُّ الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ .
وَقَالَ أبُو الْفَيْضِ مُحَمَّدُ مُرْتَضَى الزَّبِيدِيُّ (( تَاجُ الْعَرُوسِ شَرْحُ الْقَامُوسِ ))(1/2447) : ودَرْبُ آجُرٍّ : مَوْضَـعَانِ بِبَغْدَادَ أَحَدُهُمَا بِالْغَرْبِيَّةِ وَهُوَ الْيَوْمَ خَرَابٌ ، وَالثَّانِي بِنَهْرِ مُعَـلَىً عِنْدَ خَـرَابَةِ ابْنِ جَرْدَةَ ، قَالَهُ الصَّاغَانِيّ . مِنْ أَحَدِهِمَا أبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ الآجُرِّيُّ الْعَابِدُ الزَّاهِدُ الشَّافِعِيُّ تُوفِّي بِمَكَّةَ سَنَةَ ستين وثلاثمائة .
وَجَدْتُ بِخِطِّ الْحَافِظِ ابْنِ حَجَرٍ الْعَسْقَلانِيِّ مَا نَصُّـهُ : الآجُرِّيُّ هَكَذَا ضَبَطَهُ النَّاسُ ، وَقَـالَ أبُو عَبْدِ اللهِ مُحَمّدُ بْنُ الْجَلابِ الْفِِهْرِيُّ الشَّهِيدُ نَزِيلُ تُونُسَ فِي (( كِتَابِ الْفَوَائِدِ الْمُنْتَخَبَةِ )) لَهُ : أَفَادَنِي الرَّئِيسُ - يَعْنِي أبَا عُثْمَانَ بْنَ حَكَمَةَ الْقُرَشِيَّ - وَقَرَأْتُهُ فِي بَعْضِ أُصُـولِهِ بِخِطِّ أَبِي دَاوُدَ الْمُقْرِئُ مَـا نَصُّهُ : وَجَـدْتُ فِي كِتَابِ الْقَاضِي أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَبْدِ اللهِ بنِ جَحَّافٍ الرَّاوِي عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ خَلِيفَةَ وَغَيْرِه ، قال لي محمدُ بنُ خليفةَ فِي ذي القعدة سنة 386 عَنْ اللاجُرِيِّ ، وَكُنْتُ سَمِعْتُ مَنْ يَقْرَأُ عَلَيْهِ : حَدَّثَكَ أبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بنُ الحُسَيْنِ الآجُرِّيُّ ، فَقَالَ لِي : لَيْسَ كَذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ اللاجُرِيُّ - بتشديد اللام وتخفيف الرَّاءِ - مُنْسُوبٌ إِلَى لاجُرٍ قَرِيَةٍ مِنْ قُرَى بَغْدَادَ لَيْسَ بِهَا أَطَيْـبُ مِنْ مَائِهَا . قال ابْنُ الْجَلابِ : وَرَوَيْنَا عَنْ غَيْرِهِ : الآجُـرِّيُّ بِتَشَدِيدِ الرَّاءِ ، وَابْنُ خَلِيفَةَ قَدْ لَقِيَهُ ، وَضَبَطَ عَلَيْهِ كِتَابَهُ ، فَهُوَ أَعْلَمُ بِهِ . اهـ
قَـالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ : قُلْتُ : هَذَا مِمَّا يُسْقِطُ الثِّقَةَ بِابْنِ خَلِيفَةَ الْمَذْكُـورِ ، فَأَبُو بَكْرٍ الآجُرِّيُّ أَشْهَرُ مِنْ أَنْ يُنَبَّهَ عَلَى نِسْبَتِهِ ، فَمَا اكْتَفَى بِالتَّغِييرِ وَالتَّحْرِيفِ حَتَّى ادَّعَى نِسْبَتَهُ إِلَى بَلْدَةٍ لا حَقِيقَةَ لَهَا ، وَقَدْ ضَعَّفَهُ ابْنُ الْقُوصِيِّ فِي تَارِيْخِهِ
تعليق