السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
ـــــــــــــــ
بين المباني والمعاني
كم في (تذكرة الحُفّاظ من معاني)!
إنّ فَنّ التراجم من العلوم الإسلامية البديعة, التي حفظت تاريخ أمّتنا في حصون منيعة. لا يطالها التشويه, ولا ينطلي عليها التّمويه. فالذين كتبوا تاريخ أمّتنا هم خيار بنيها شعارهم في ذلك (أعط القوس باريها).
وقد نَحَتْ كتب التراجم نحو الهدي القرآني في التأسي بالكرام (فبهداهم اقتده)؛ إذ إنّ أولئك الرجال محلّ الأسوة وموطن القدوة:
فتشبّهوا إن لم تكونوا مثلهم إنّ التشبّه بالكرام فلاحُ
فقد اتخذ علماؤنا من سير أعلام النبلاء نبراسا للأجيال, وأساساً في تغيير الأحوال, كيف لا وقد كان العَلَمُ الواحد منا أمّة كما قال شعيب بن حرب (إنّي لأحسب أنه يُجاء غدا بسفيان ـ الثوري ـ حجّة من الله على خلقه, يقول لهم: لم تدركوا نبيّكم قد أدركتم سفيان)! ففي كتب الرجال ماضٍ مجيد وعِزٌّ تليد وشوقٌ إلى المزيد. وكَمْ من العِبر في أخبار مَن عَبَر, وما أكثر شذرات الذَّهب في أخبار من ذَهَب! وأنَّى لنّا أن نُلِمَّ بما مرّ على أمّتنا من الهداية والغواية بدون استقراء البداية والنهاية!
فكتابة التراجم فنٌّ عُنِي به المسلمون, واحتَفَوا بما فيه من القصص المليحة والأخبار الصحيحة. وما شأن النبي صلى الله عليه وسلم مع خبر تميم الدَّاري عن الجسّاسة ببعيد. وكذلك تمنّيه لو صبر موسى عليه السلام ليعلم من خبر الخضر عليه السلام المزيد.
وهكذا كانت عناية علماء المسلمين بجهابذة الفنون المختلفة, فقد كتبوا في تراجم القراء كما تراه عند الذهبي وابن الجزري, ودوّنوا تراجم المحدّثين كما هو شأن الذهبي والسيوطي, وسطّروا تراجم الفقهاء من أمثال الشيرازي في طبقات الفقهاء وعياض في ترتيب المدارك والتاج السبكي في الطبقات. كما سجّلوا في تاريخ اللّغويّين والنحويّين والأدباء كتبا كثيرة لياقوت والقُفطي والسيوطي.
وما من كتاب من هذه الكتب إلا وفيه تذكرة وعبرة, ولعلّ خير دليل على ذلك ما في كتاب شمس الدين الذهبي (تذكرة الحفاظ) من روائع الحكمة وبدائع التربية, مما سنبحث اليوم عن بعض دُرَرِه في إشارةٍ قاصرة وإطلالة عابرة إلى أن يقيّض الله له باحثا نجيبا وطالبا لبيبا يستخرج من أجزائه الأربعة المغازيَ التربوية فلعلّه يجمع في ذلك الخير الكثير ويجيء عمله في سفر كبير (والدالّ على الخير فاعله).
فأوّل ما يعتمده الحافظ الذهبي في نظراته التربوية لبناء تراجم [التذكرة] أن يرفع شأن أولئك الأخيار في ناظريْك ويعظّم أقدراهم لديك, حتى تنزلَهم منازلهم وتعرفَ لهم فضلهم. فهم أُمناء الأمة على دينها وشهودها على سلامة سنّتها كما قال الدارقطني (لا يُكذب على النبي صلى الله عليه وسلم وأنا حيٌّ), فهم سلسلة الذهب والقلائد المشبّكة بالدُّرّ! كما أورد الذهبي في ترجمة مسدّد بن مسرهد قول أبي حاتم (أحاديثه عن القطان عن عبيد الله بن عمر كالدنانير كأنك تسمعها من النبي صلى الله عليه وسلم)!
فمن ذلك ما أورده في ترجمة أبي الدّرداء عويمر بن زيد رضي الله عنه من قول ابن أبي مُلَيْكة: (سمعت يزيد بن معاوية يقول: إنّ أبا الدّرداء من الفقهاء العلماء الذين يشفون من الداء)، وقال في ترجمة أبي مسلم الخولاني: (الفقيه العابد الزاهد ريحانة الشام, الذي ألقاه الأسود العنسي في النار فنجا منها... وله مناقب وكرامات, وكان يقال هو حكيم هذه الأمة رحمه الله) وقال في ترجمة عَبِيدة السَّلَماني: (الفقيه العَلَم كاد أن يكون صحابّيا..)، وقال في ترجمة طاوس (كان شيخ أهل اليمن وبركتهم ومفتيهم, له جلالة عظيمة)، وقال في ترجمة صفوان بن سُلَيم: (الإمام أبو عبد الله, وقيل أبو الحارث الزهري مولاهم المدني الفقيه... كان ثقة حجّة من أعلام الهدى. قال أبو ضمرة: رأيته لو قيل له الساعة غداً, ما كان عنده مزيد عمل. وقال أحمد بن حنبل: ثقة من خيار عباد الله يُستنزل بذكره القطر)، ومن ذلك ما ذكره في ترجمة مالك بن أنس أنه: (اتفق لمالك مناقب ما علمتها اجتمعت لغيره: إحداها طول العمر وعلوّ الرواية, وثانيتها: الذهن الثاقب والفهم وسعة العلم, وثالثتها: اتفاق الأئمة على أنه حجة صحيح الرواية, ورابعتها: تجمّعهم على دينه وعدالته واتباعه للسنن, وخامستها: تقدّمه في الفقه والفتوى وصحة قواعده).
ومن منهج الذهبي في هذا الكتاب الجليل أنه يذكّر طالب العلم بصيانة علمه وعمله بالخوف والورع وخشية الله تعالى فلا يغترّ ولا يفتخر بل يخشى الموت والعاقبة (والساعة أدهى وأمرّ) كما نقل في ترجمة ابن مسعود رضي الله عنه قول أبي عمرو الشيباني: (كنت أجلس إلى ابن مسعود حولاً لا يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا قال: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم) استقلّته الرعدة. وقال: (هكذا أو نحو ذا أو قريب من ذا, أو, أو) وذكر في ترجمة الرّبيع بن خُثَيْم قول الشّعبي (كان الرّبيع بن خُثَيْم أشدّهم وَرَعَا)، وقال في ترجمة عبد الله بن محريز: (كان ذا فضل وجلالة حتى إنّ رجاء بن حيوة يقول: إن يَفْخَرْ علينا أهل المدينة بعابدهم ابن عمر فإنّا نفخر عليهم بعابدنا ابن محريز والله إن كنت أعُدُّ بقاءه أماناً لأهل الأرض, وعن الأوزاعي قال: من كان مقتديا فَلْيَقْتدِ بمثل ابن مُحَيْريز)، وقال في ترجمة محمد بن سيرين: (الإمام الرّبّاني... كان فقيها إماما غزير العلم ثقة ثبتا علّامة في التعبير رأسا في الورع... قال مورّق العجلي: ما رأيتُ أحداً أفقه في ورعه ولا أورع في فقهه من ابن سيرين.. وقال أبو عوانة: رأيت ابن سيرين فما رآه أحد إلا ذكر الله تعالى. وذكر الثوري عن زهير الأقطع قال: ابن سيرين إذا ذكر الموت مات كل عضو منه)، وقال في ترجمة محمد بن المنكدر: (الإمام شيخ الإسلام ... قال ابن عيينة: كان من معادن الصدق يجتمع إليه الصالحون ... قلت: مُجمَع على ثقته وتقدّمه في العلم والعمل... قيل: إنه تهجّد ليلةً فاشتدّ بكاؤه فسأله إخوانه فقال: تلوت هذه الآية (وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون)... وعن ابن المنكدر قال: كابدتُ نفسي أربعين سنة حتى استقامت ... وقال مالك: كان محمد بن المنكدر سيّد القراء لا يكاد أحد يسأله عن حديث إلا كان يبكي)، ونقل في ترجمة هشام بن حسان قول الفلاّس: (كان من البكّائين)، وقال في ترجمة هشام الدستوائي: (بكى هشام الدستوائي حتى فسدت عينه. وكان هشام يقول: ليتنا ننجو من الحديث).
ومن هَدْي أبي عبد الله الذهبي في تذكرته المباركة أنّه حدثنا عن نفاسة العبادات, وأخبرنا عن عظمة الصلوات، وأنها من أعظم القُرُبات, وأنبأنا بأنّ اعتناء العالِم بصلته بمولاه هو سبيل النجاة، كما روى في [سير أعلام النبلاء] قول الجنيد: (ما نفعني إلا رُكيعات!). وأسوة الذهبي في ذلك أنس بن مالك رضي الله عنه فقد دخل عليه الزهري وهو يبكي ـ في مواقيت الصلاة من البخاري ـ (فقال: ما يبكيك؟ قال: لم يبق مما عهدتُّه من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا الصلاة, وهذه الصلاة وقد ضُيِّعت) وأسوة أنس في ذلك سيّد الخلق صلى الله عليه وسلم الذي كان يركع حتى يقال: كأنه نسي, ويرفع حتى يقال كأنه نسي. فمن ذلك ما أورده الذهبي في ترجمة مُرّة الطَّيِّب: (يقال له مُرّة الخير. وهو مُرّة بن شراحيل الهمداني الكوفي المفسّر العابد... يقال: إنه سجد حتى أكل التراب جبهته), وذكر في ترجمة عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود: (الفقيه العلم أبو عبد الله الهذلي المدني الضرير أحد الفقهاء السبعة) أنه: (كان يطوّل الصلاة ولا يعجل عنها لأحد)، ونقل في ترجمة عطاء بن أبي رباح مفتي أهل مكة ومحدثهم قول ابن جريج: (كان من أحسن الناس صلاة), وأورد في ترجمة عمرو بن مُرّة الحافظ قول شعبة: (ما رأيت عمر بن مُرّة يصلّي فظننت أنه ينصرف حتى يغفر له)، وذكر في ترجمة منصور بن المعتمر: (لو رأيت منصورا يصلّي لقلتَ: يموت الساعة)، ونقل عن زائدة: (صام منصور أربعين سنة وقام ليلها وكان يبكي الليل كلَّه, فإذا أصبح كحل عينيه، وبرق شفتيه، ودهن رأسه، قال فتقول له أمه: أقتلتَ قتيلاً؟ فيقول: أنا أدرى بما صنعَتْ نفسي.. وكان قد عمش من البكاء)، وذكر في ترجمة محمد بن الفضل عارم أنه من أخشع الناس وأحسنهم صلاة. ونقل في ترجمة شعبة الحجاج عن أبي قطن: (ما رأيتُ شعبة قد ركع إلا ظننتُ أنه نسي ولا سجد إلا قلت نسي، وكانت ثيابه لونها كالتراب وكان كثير الصلاة).
ومن الأساليب التربوية الموفَّقة للإمام الذهبي أنّه أراد إحياء بركة العلم ونور الدّرس وحُسن السَّمْت بحيث ينتفع الناس منك بالكلام والصّمت؛ لأنّ الحال كالمقال. وهذا ما نحن بأمسّ الحاجة إليه, وينبغي لجامعاتنا أن تلتمسه وتسعى إليه, فإنّ علم الدَّلِّ والسّمت شِبهُ مفقود.
فقد ذكر الذهبي في ترجمة الربيع بن خُثيم قول ابن مسعود: (يا أبا يزيد لو رآك رسول الله صلى الله عليه وسلم لأحبّك. وما رأيتكُ إلا ذكرتُ المخبتين). وأورد في ترجمة عمرو بن ميمون قول أبي إسحا:ق (حجّ واعتمر مائة مرّة, وكان إذا رُئي ذُكر الله تعالى)، وقال في ترجمة أبي عثمان النّهدي: (كان عالما صوّاما قوّاما يصلي حتى يُغشى عليه قال سليمان التيّمي: إني لأحسبه لا يصيب ذنبا)، ونقل في ترجمة أبي إسحاق السّبيعي قول مغيرة: (كنتُ إذا رأيتُ أبا إسحاق ذكرتُ به الضرب الأوّل)، وأورد في ترجمة هشام بن حسان قول حماد بن سلمة: (كانت رؤية هشام بن حسان تُبكي)، وما أحسن وأملح ما ذكره الذهبي من التّسلسل في ترجمة أبي داود سليمان بن داود السجستاني صاحب السنن: (إنّ بعض الأئمة قال: كان أبو داود يُشَبَّه بأحمد بن حنبل في هديه ودلّه وسمته, وكان أحمد يُشَبَّه في ذلك بوكيع, وكان وكيع يُشَبَّه في ذلك بسفيان, وسفيان بمنصور, ومنصور بإبراهيم, وإبراهيم بعلقمة, وعلقمة بعبد الله بن مسعود. وقال علقمة: كان ابن مسعود يُشَبَّه بالنبي صلى الله عليه وسلم في هديه ودلّه).
ومن روائع الذهبي في [تذكرة الحفاظ] أنه يبعث في النفس الشوق إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ومحبّة حديثه، والتعلق بآثاره، كأنما يتمثل ما جاء في صحيح مسلم: (والذي نفس محمد في يده ليأتينّ على أحدكم يوم ولا يراني فيه لحظة، ثم لأن يراني أحبُّ إليه من أهله وماله معهم). فقد ذكر ـ رحمه الله ـ في ترجمة بن عمر رضي الله عنهما أنّه: (ما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم قط إلا بكى, وما مرّ على ربعه إلا غمض عينيه), وأورد في ترجمة أيوب السختياني قول مالك: (كنّا ندخل على أيوب فإذا ذكرنا له حديث النبي صلى الله عليه وسلم بكى حتى نرحمه).
ووالله لو لم يكن في التذكرة من فضيلة إلا أنها تسعدك بأن تكون مع الصادقين, وتُحيي فيك رُوح الصالحين وتبعث بين جنبيك أنفاس الطيّبين والثقة بالمسلمين فتقول (المحيا محياكم والممات مماتكم) أو تقول (ربّ ألحقني بالصالحين) لكفاها نفعاً! فلو أنّنا ربّينا شبابنا في المدارس والمعاهد والجامعات على مثل رجال التذكرة حتى امتلأت قلوبهم بحبّ أعلام الإسلام ما كانوا ليتشبّهوا بالرّعاع والطغام والكافرين سفهاء الأحلام! ولكنّنا قصّرنا في حق الجيل فعلى أيّ مثال يقيسون؟ وعلى أيّ منوال يحتذون؟ ومتى يقولون مقالة حمّاد بن زيد: (حدثنا الضخم عن الضخام, شعبة الخير أبو بسطام)!وقد نَحَتْ كتب التراجم نحو الهدي القرآني في التأسي بالكرام (فبهداهم اقتده)؛ إذ إنّ أولئك الرجال محلّ الأسوة وموطن القدوة:
فتشبّهوا إن لم تكونوا مثلهم إنّ التشبّه بالكرام فلاحُ
فقد اتخذ علماؤنا من سير أعلام النبلاء نبراسا للأجيال, وأساساً في تغيير الأحوال, كيف لا وقد كان العَلَمُ الواحد منا أمّة كما قال شعيب بن حرب (إنّي لأحسب أنه يُجاء غدا بسفيان ـ الثوري ـ حجّة من الله على خلقه, يقول لهم: لم تدركوا نبيّكم قد أدركتم سفيان)! ففي كتب الرجال ماضٍ مجيد وعِزٌّ تليد وشوقٌ إلى المزيد. وكَمْ من العِبر في أخبار مَن عَبَر, وما أكثر شذرات الذَّهب في أخبار من ذَهَب! وأنَّى لنّا أن نُلِمَّ بما مرّ على أمّتنا من الهداية والغواية بدون استقراء البداية والنهاية!
فكتابة التراجم فنٌّ عُنِي به المسلمون, واحتَفَوا بما فيه من القصص المليحة والأخبار الصحيحة. وما شأن النبي صلى الله عليه وسلم مع خبر تميم الدَّاري عن الجسّاسة ببعيد. وكذلك تمنّيه لو صبر موسى عليه السلام ليعلم من خبر الخضر عليه السلام المزيد.
وهكذا كانت عناية علماء المسلمين بجهابذة الفنون المختلفة, فقد كتبوا في تراجم القراء كما تراه عند الذهبي وابن الجزري, ودوّنوا تراجم المحدّثين كما هو شأن الذهبي والسيوطي, وسطّروا تراجم الفقهاء من أمثال الشيرازي في طبقات الفقهاء وعياض في ترتيب المدارك والتاج السبكي في الطبقات. كما سجّلوا في تاريخ اللّغويّين والنحويّين والأدباء كتبا كثيرة لياقوت والقُفطي والسيوطي.
وما من كتاب من هذه الكتب إلا وفيه تذكرة وعبرة, ولعلّ خير دليل على ذلك ما في كتاب شمس الدين الذهبي (تذكرة الحفاظ) من روائع الحكمة وبدائع التربية, مما سنبحث اليوم عن بعض دُرَرِه في إشارةٍ قاصرة وإطلالة عابرة إلى أن يقيّض الله له باحثا نجيبا وطالبا لبيبا يستخرج من أجزائه الأربعة المغازيَ التربوية فلعلّه يجمع في ذلك الخير الكثير ويجيء عمله في سفر كبير (والدالّ على الخير فاعله).
فأوّل ما يعتمده الحافظ الذهبي في نظراته التربوية لبناء تراجم [التذكرة] أن يرفع شأن أولئك الأخيار في ناظريْك ويعظّم أقدراهم لديك, حتى تنزلَهم منازلهم وتعرفَ لهم فضلهم. فهم أُمناء الأمة على دينها وشهودها على سلامة سنّتها كما قال الدارقطني (لا يُكذب على النبي صلى الله عليه وسلم وأنا حيٌّ), فهم سلسلة الذهب والقلائد المشبّكة بالدُّرّ! كما أورد الذهبي في ترجمة مسدّد بن مسرهد قول أبي حاتم (أحاديثه عن القطان عن عبيد الله بن عمر كالدنانير كأنك تسمعها من النبي صلى الله عليه وسلم)!
فمن ذلك ما أورده في ترجمة أبي الدّرداء عويمر بن زيد رضي الله عنه من قول ابن أبي مُلَيْكة: (سمعت يزيد بن معاوية يقول: إنّ أبا الدّرداء من الفقهاء العلماء الذين يشفون من الداء)، وقال في ترجمة أبي مسلم الخولاني: (الفقيه العابد الزاهد ريحانة الشام, الذي ألقاه الأسود العنسي في النار فنجا منها... وله مناقب وكرامات, وكان يقال هو حكيم هذه الأمة رحمه الله) وقال في ترجمة عَبِيدة السَّلَماني: (الفقيه العَلَم كاد أن يكون صحابّيا..)، وقال في ترجمة طاوس (كان شيخ أهل اليمن وبركتهم ومفتيهم, له جلالة عظيمة)، وقال في ترجمة صفوان بن سُلَيم: (الإمام أبو عبد الله, وقيل أبو الحارث الزهري مولاهم المدني الفقيه... كان ثقة حجّة من أعلام الهدى. قال أبو ضمرة: رأيته لو قيل له الساعة غداً, ما كان عنده مزيد عمل. وقال أحمد بن حنبل: ثقة من خيار عباد الله يُستنزل بذكره القطر)، ومن ذلك ما ذكره في ترجمة مالك بن أنس أنه: (اتفق لمالك مناقب ما علمتها اجتمعت لغيره: إحداها طول العمر وعلوّ الرواية, وثانيتها: الذهن الثاقب والفهم وسعة العلم, وثالثتها: اتفاق الأئمة على أنه حجة صحيح الرواية, ورابعتها: تجمّعهم على دينه وعدالته واتباعه للسنن, وخامستها: تقدّمه في الفقه والفتوى وصحة قواعده).
ومن منهج الذهبي في هذا الكتاب الجليل أنه يذكّر طالب العلم بصيانة علمه وعمله بالخوف والورع وخشية الله تعالى فلا يغترّ ولا يفتخر بل يخشى الموت والعاقبة (والساعة أدهى وأمرّ) كما نقل في ترجمة ابن مسعود رضي الله عنه قول أبي عمرو الشيباني: (كنت أجلس إلى ابن مسعود حولاً لا يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا قال: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم) استقلّته الرعدة. وقال: (هكذا أو نحو ذا أو قريب من ذا, أو, أو) وذكر في ترجمة الرّبيع بن خُثَيْم قول الشّعبي (كان الرّبيع بن خُثَيْم أشدّهم وَرَعَا)، وقال في ترجمة عبد الله بن محريز: (كان ذا فضل وجلالة حتى إنّ رجاء بن حيوة يقول: إن يَفْخَرْ علينا أهل المدينة بعابدهم ابن عمر فإنّا نفخر عليهم بعابدنا ابن محريز والله إن كنت أعُدُّ بقاءه أماناً لأهل الأرض, وعن الأوزاعي قال: من كان مقتديا فَلْيَقْتدِ بمثل ابن مُحَيْريز)، وقال في ترجمة محمد بن سيرين: (الإمام الرّبّاني... كان فقيها إماما غزير العلم ثقة ثبتا علّامة في التعبير رأسا في الورع... قال مورّق العجلي: ما رأيتُ أحداً أفقه في ورعه ولا أورع في فقهه من ابن سيرين.. وقال أبو عوانة: رأيت ابن سيرين فما رآه أحد إلا ذكر الله تعالى. وذكر الثوري عن زهير الأقطع قال: ابن سيرين إذا ذكر الموت مات كل عضو منه)، وقال في ترجمة محمد بن المنكدر: (الإمام شيخ الإسلام ... قال ابن عيينة: كان من معادن الصدق يجتمع إليه الصالحون ... قلت: مُجمَع على ثقته وتقدّمه في العلم والعمل... قيل: إنه تهجّد ليلةً فاشتدّ بكاؤه فسأله إخوانه فقال: تلوت هذه الآية (وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون)... وعن ابن المنكدر قال: كابدتُ نفسي أربعين سنة حتى استقامت ... وقال مالك: كان محمد بن المنكدر سيّد القراء لا يكاد أحد يسأله عن حديث إلا كان يبكي)، ونقل في ترجمة هشام بن حسان قول الفلاّس: (كان من البكّائين)، وقال في ترجمة هشام الدستوائي: (بكى هشام الدستوائي حتى فسدت عينه. وكان هشام يقول: ليتنا ننجو من الحديث).
ومن هَدْي أبي عبد الله الذهبي في تذكرته المباركة أنّه حدثنا عن نفاسة العبادات, وأخبرنا عن عظمة الصلوات، وأنها من أعظم القُرُبات, وأنبأنا بأنّ اعتناء العالِم بصلته بمولاه هو سبيل النجاة، كما روى في [سير أعلام النبلاء] قول الجنيد: (ما نفعني إلا رُكيعات!). وأسوة الذهبي في ذلك أنس بن مالك رضي الله عنه فقد دخل عليه الزهري وهو يبكي ـ في مواقيت الصلاة من البخاري ـ (فقال: ما يبكيك؟ قال: لم يبق مما عهدتُّه من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا الصلاة, وهذه الصلاة وقد ضُيِّعت) وأسوة أنس في ذلك سيّد الخلق صلى الله عليه وسلم الذي كان يركع حتى يقال: كأنه نسي, ويرفع حتى يقال كأنه نسي. فمن ذلك ما أورده الذهبي في ترجمة مُرّة الطَّيِّب: (يقال له مُرّة الخير. وهو مُرّة بن شراحيل الهمداني الكوفي المفسّر العابد... يقال: إنه سجد حتى أكل التراب جبهته), وذكر في ترجمة عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود: (الفقيه العلم أبو عبد الله الهذلي المدني الضرير أحد الفقهاء السبعة) أنه: (كان يطوّل الصلاة ولا يعجل عنها لأحد)، ونقل في ترجمة عطاء بن أبي رباح مفتي أهل مكة ومحدثهم قول ابن جريج: (كان من أحسن الناس صلاة), وأورد في ترجمة عمرو بن مُرّة الحافظ قول شعبة: (ما رأيت عمر بن مُرّة يصلّي فظننت أنه ينصرف حتى يغفر له)، وذكر في ترجمة منصور بن المعتمر: (لو رأيت منصورا يصلّي لقلتَ: يموت الساعة)، ونقل عن زائدة: (صام منصور أربعين سنة وقام ليلها وكان يبكي الليل كلَّه, فإذا أصبح كحل عينيه، وبرق شفتيه، ودهن رأسه، قال فتقول له أمه: أقتلتَ قتيلاً؟ فيقول: أنا أدرى بما صنعَتْ نفسي.. وكان قد عمش من البكاء)، وذكر في ترجمة محمد بن الفضل عارم أنه من أخشع الناس وأحسنهم صلاة. ونقل في ترجمة شعبة الحجاج عن أبي قطن: (ما رأيتُ شعبة قد ركع إلا ظننتُ أنه نسي ولا سجد إلا قلت نسي، وكانت ثيابه لونها كالتراب وكان كثير الصلاة).
ومن الأساليب التربوية الموفَّقة للإمام الذهبي أنّه أراد إحياء بركة العلم ونور الدّرس وحُسن السَّمْت بحيث ينتفع الناس منك بالكلام والصّمت؛ لأنّ الحال كالمقال. وهذا ما نحن بأمسّ الحاجة إليه, وينبغي لجامعاتنا أن تلتمسه وتسعى إليه, فإنّ علم الدَّلِّ والسّمت شِبهُ مفقود.
فقد ذكر الذهبي في ترجمة الربيع بن خُثيم قول ابن مسعود: (يا أبا يزيد لو رآك رسول الله صلى الله عليه وسلم لأحبّك. وما رأيتكُ إلا ذكرتُ المخبتين). وأورد في ترجمة عمرو بن ميمون قول أبي إسحا:ق (حجّ واعتمر مائة مرّة, وكان إذا رُئي ذُكر الله تعالى)، وقال في ترجمة أبي عثمان النّهدي: (كان عالما صوّاما قوّاما يصلي حتى يُغشى عليه قال سليمان التيّمي: إني لأحسبه لا يصيب ذنبا)، ونقل في ترجمة أبي إسحاق السّبيعي قول مغيرة: (كنتُ إذا رأيتُ أبا إسحاق ذكرتُ به الضرب الأوّل)، وأورد في ترجمة هشام بن حسان قول حماد بن سلمة: (كانت رؤية هشام بن حسان تُبكي)، وما أحسن وأملح ما ذكره الذهبي من التّسلسل في ترجمة أبي داود سليمان بن داود السجستاني صاحب السنن: (إنّ بعض الأئمة قال: كان أبو داود يُشَبَّه بأحمد بن حنبل في هديه ودلّه وسمته, وكان أحمد يُشَبَّه في ذلك بوكيع, وكان وكيع يُشَبَّه في ذلك بسفيان, وسفيان بمنصور, ومنصور بإبراهيم, وإبراهيم بعلقمة, وعلقمة بعبد الله بن مسعود. وقال علقمة: كان ابن مسعود يُشَبَّه بالنبي صلى الله عليه وسلم في هديه ودلّه).
ومن روائع الذهبي في [تذكرة الحفاظ] أنه يبعث في النفس الشوق إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ومحبّة حديثه، والتعلق بآثاره، كأنما يتمثل ما جاء في صحيح مسلم: (والذي نفس محمد في يده ليأتينّ على أحدكم يوم ولا يراني فيه لحظة، ثم لأن يراني أحبُّ إليه من أهله وماله معهم). فقد ذكر ـ رحمه الله ـ في ترجمة بن عمر رضي الله عنهما أنّه: (ما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم قط إلا بكى, وما مرّ على ربعه إلا غمض عينيه), وأورد في ترجمة أيوب السختياني قول مالك: (كنّا ندخل على أيوب فإذا ذكرنا له حديث النبي صلى الله عليه وسلم بكى حتى نرحمه).
ـــــــــــــــ
وهل تُرى نَرى في زماننا من يُشَبَّه بشمس الدين الذهبي فيقال فيه ما قاله التاج السبكي: (شيخ الجرح والتعديل, ورجل الرجال في كل سبيل, كأنما جُمعت الأمة في صعيد واحد, فنظرها ثم أخذ يُخبر عنها إخبار من حضرها)!
فلو أنّنا ربّينا شبابنا في المدارس والمعاهد والجامعات على مثل رجال التذكرة حتى امتلأت قلوبهم بحبّ أعلام الإسلام ما كانوا ليتشبّهوا بالرّعاع والطغام والكافرين سفهاء الأحلام! ولكنّنا قصّرنا في حق الجيل فعلى أيّ مثال يقيسون؟ وعلى أيّ منوال يحتذون؟
والله المستعان
منقول بتصرف يسيير
والله المستعان
منقول بتصرف يسيير
تعليق