بسم الله الرحمن الرحيم
القارئ في تراث المسلمين يجد زخمًا هائلا من العلوم والاجتهادات الرفيعة التي سبقت زمنها بعقود بل قرون، ويقف حائرا أمام تلك الهمم والجبال التي ثبّت الله بها هذا الدين فجعلهم منارات هدى يستضيء بها الخلق من بعدهم، ومن أعظم ما تميزت به هذه الأمة دون بقية الأمم علمي الفقه والحديث ، فهذه الملة مليئة بالتشريعات والأحكام المتعلقة بالعبادات والمعاملات والأنكحة والحدود إلى آخر هذه المجالات المختلفة، وهكذا علم الحديث النبوي = علم الإسناد -الذي شَرُفَت به هذه الأمة- يحفظ حديث نبيها -عليه الصلاة والسلام- من الدس والتغيير بأدق الوسائل العلمية لا العاطفية المبنية على الهوى.
وإنّ من الكتب التي جمعت بين هذين الفنين الأصيلين كتاب "الأوسط من السنن والإجماع والاختلاف" للعَلَم الفذ محمد بن إبراهيم بن المنذر (ت 319) -رحمه الله تعالى-، وهذا الكتاب يمثل ما كان عليه سلفنا الصالح من التجرد للحق، وما هم عليه من الاجتهاد بالنظر إلى القواعد الأصولية والمتون الحديثية دون تعصب لفرد أو طائفة، وزاد رونقه بمكانة كاتبه العلمية ، والكاتب -رغم تمسكه بالدليل- يَعُد نفسه من الشافعية، فهو مثال مضيء في تأريخ المذاهب الفقهية ، قال الإمام النووي-رحمه الله- واصفا طريقته ومنزلته في كلمات جامعة:
واعتماد علماء الطوائف كلها فى نقل المذاهب ومعرفتها على كتبه، وله من التحقيق فى كتبه ما لا يقاربه أحد، وهو فى نهاية من التمكن فى معرفة صحيح الحديث وضعيفه، وله عادات جميلة فى كتابه الإشراف، أنه إن كان فى المسألة حديث صحيح، قال: ثبت عن النبى - صلى الله عليه وسلم - كذا، أو صح عنه كذا، وإن كان فيها حديث ضعيف قال: روينا، أو يروى عن النبى - صلى الله عليه وسلم - كذا، وهذا الأدب الذى سلكه هو طريق حذاق المحدثين، وقد أهمله أكثر الفقهاء وغيرهم من أصحاب باقى العلوم.
ثم له من التحقيق ما لا يدانا فيه، وهو اعتماده ما دلت عليه السنة الصحيحة عمومًا أو خصوصًا بلا معارض، فيذكر مذاهب العلماء، ثم يقول فى أحد المذاهب: وبهذا أقول، ولا يقول ذلك إلا فيما كانت صفته كما ذكرته، وقد يذكر دليله فى بعض المواضع، ولا يلتزم التقيد فى الاختيار بمذهب أخد بعينه، ولا يتعصب لأحد، ولا على أحد على عادة أهل الخلاف، بل يدور مع ظهور الدليل ودلالة السنة الصحيحة، ويقول بها مع مَن كانت، ومع هذا فهو عند أصحابنا معدود من أصحاب الشافعى، مذكور فى جميع كتبهم فى الطبقات. ا.هــ
قلت: أحسن النووي -رحمه الله- توصيف هذا الإمام السلفي الفذ.
وقال في "المجموع" أيضًا:
بَلْ قَدْ نَقَلَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ وُجُوبَ الْغُسْلِ سَبْعًا كَمَا قَدَّمْنَاهُ،وَقَدْ عَلِمَ كُلُّ مُنْصِفٍ مِمَّنْ لَهُ أَدْنَى عِنَايَةٍ أَنَّ ابْنَ الْمُنْذِرِ إمَامُ هَذَا الْفَنِّ أَعْنِي نَقَلَ مَذَاهِبَ الْعُلَمَاءِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ فَمَنْ بَعْدَهُمْ ، وَأَنَّ مُعَوَّلَ الطَّوَائِفِ فِي نَقْلِ الْمَذَاهِبِ عَلَيْهِ . ا.هــ
وقال ابن تيمية-رحمه الله-:
أَبُو بَكْرِ بْنُ الْمُنْذِرِوَعَلَيْهِ اعْتِمَادُ أَكْثَرِ الْمُتَأَخِّرِينَ فِي نَقْلِ الْإِجْمَاعِ وَالْخِلَافِ ا.هـ مج [21/ 559]
فكفى بهذا الثناء من رجل أعجز من بعده وفاق جمعا ممن سبقه ، وهو من أعلم الناس بمواطن الإجماع والخلاف في العقائد [1] والأحكام.
والإمام ابن القيم-رحمه الله- كعادته في الاستفادة من شيخه دون عزو قد لَخَّص بعض كلام ابن تيمية في الموطن السابق فقال:
وقال ابن المنذر وهو من أعلم الناس بالإجماع والاختلاف ا.هــ [2/ 628]
والكتاب الذي بين أيدينا يُعد مُختصرا -على كبره- من كتاب أوسع اسمه هو ((المختصر الكبير)) وربما هو ((المبسوط)) ، وقد أشار هو إلى هذا فقال:
قال أبو بكر: وقد ذكرنا سائر الأخبار في هذا الباب في كتاب "التفسير "، وفي المختصر الذي اختصرت منه هذا الكتاب ا.هـ [6/ 543]
وقال:
وكان الشافعي رحمه الله من أحسنهم احتجاجا في هذا الباب، وقد ذكرت من حجته مختصرا في الكتاب الذي اختصرت منه هذا الكتاب. ا.هــ [8/ 511]
وقال:
وقد ذكرنا هذه الأخبار بأسانيدها في "المختصر الكبير" من كتاب الدعاوى والبينات. ا.هـ [11/ 243-244]
وفي مواضع أخرى ذكرها المحققون. انظرها [1/ 108-109].
وهذا الكتاب قد طُبع عام 1403 بتحقيق الشيخ صغير أحمد بن محمد حنيف ، في ستة مجلدات تُمثل المجلد الأول من المخطوط وقطعة من المجلد الثالث، وبقي بقية الكتاب مستورًا عن طلاب العلم إلا من طالت يده المخطوط الفريد، ثم خرج الكتاب عن دار الفلاح بالاشتراك مع دار الكوثر في أتم نسخة موجودة حتى الساعة بحيث شَمِلت المجلدات الأربع المخطوطة سوى الثاني منها فلا يزال مفقودًا وهي للأسف تشمل "الزكاة، الصيام، الحج ، بعض أبواب الجهاد" ، وهي خسارة فادحة حيث إنّ هذا الكتاب من المصادر المهمة في معرفة مذاهب السلف مسندة والله المستعان.
ولهذه النسخة طبعتان الأولى 1430 ، والثانية 1431 وقد جاءت هذه الطبعة في خمسة عشر مجلدا قدموا بدراسة متوسطة عن المؤلف وكتبه ثم سرد لأسماء مشايخه مع ترجمة لكل منهم مما يساعد الباحث الوقوف على ما ورد فيهم من جرح أو تعديل، وهكذا قاموا بدراسة اختيارات المؤلف الأصولية والحديثية وفوائد أخرى منتقاة نافعة للطالب.
ودونكم صورة الكتاب ثم رابط لتحميل الطبعة الثانية 1431 (15 مجلدا) مصورة، ونسخة أخرى للشاملة في المرفقات مقابلة على المطبوع ومنقحة جزى الله من قام بالتصوير والتفريغ والله أعلم.
الهامش:
[1] سواء بين من اعتزى إلى الإسلام أو بين المسلمين والكفار على طوائفهم ونحلهم.
رابط لتحميل الكتاب مصورا
http://archive.org/details/Abu_yaala_alAwsat
أو حمله من المشاركة التالية فقد رفعه أخونا مشكورا على سيرفر الشبكة
أو حمله من المشاركة التالية فقد رفعه أخونا مشكورا على سيرفر الشبكة
رابط لتحميل نسخة الكتاب الجديدة للشاملة + نسخة (ورد word)
تعليق