عن ابن مسعود قال: " إِنَّكُمْ فِي زَمَانٍ: كَثِيرٌ فُقَهَاؤُهُ، قَلِيلٌ خُطَبَاؤُهُ، قَلِيلٌ سُؤَّالُهُ، كَثِيرٌ مُعْطُوهُ، الْعَمَلُ فِيهِ قَائِدٌ لِلْهَوَى. وَسَيَأْتِي مِنْ بَعْدِكُمْ زَمَانٌ: قَلِيلٌ فُقَهَاؤُهُ، كَثِيرٌ خُطَبَاؤُهُ، كَثِيرٌ سُؤَّالُهُ، قَلِيلٌ مُعْطُوهُ، الْهَوَى فِيهِ قَائِدٌ لِلْعَمَلِ، اعْلَمُوا أَنَّ حُسْنَ الْهَدْيِ - فِي آخِرِ الزَّمَانِ- خيرٌ مِنْ بعض العمل"
اخرجه البخاري في الأدب المفرد- بَابُ الْغِنَاءِ وَاللَّهْوِ - الجملة الأخيرة أوردها الحافظ في "الفتح" (10/510) من رواية المؤلف وقال: "وسنده صحيح، ومثله لا يقال من قبل الرأي- وحسنه الالباني رحمه الله تعالى في صحيح الأدب المفرد..
*******************
الإستذكـــــار-العلامة ابن عبد البر رحمه الله تعالى (368 - 463 هـ )-
مالك عن يحيى بن سعيد أن عبد الله بن مسعود قال لإنسان: إنك في زمان كثير فقهاؤه قليل قراؤه تحفظ فيه حدود القرآن وتضيع حروفه قليل من يسأل كثير من يعطي يطيلون فيه الصلاة ويقصرون الخطبة يبدون أعمالهم قبل أهوائهم وسيأتي على الناس زمان قليل فقهاؤه كثير قراؤه يحفظ فيه حروف القرآن وتضيع حدوده كثير من يسأل قليل من يعطي يطيلون فيه الخطبة ويقصرون الصلاة يبدون فيه أهواءهم قبل أعمالهم .فإن هذا الحديث قد روي عن بن مسعود من وجوه متصلة حسان متواترة .
وفيه من الفقه مدح زمانه لكثرة الفقهاء فيه وقلة القراء وزمانه هذا هو القرن الممدوح على لسان النبي صلى الله عليه و سلم
وفيه دليل على أن كثرة القراء للقرآن دليل على تغير الزمان وذمه لذلك وقد روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أكثر منافقي أمتي قراؤها من حديث عقبة بن عامر وغيره وقال مالك رحمه الله قد يقرأ القرآن من لا خير فيه
والعيان في هذا الزمان على صحة معنى هذا الحديث كالبرهان
وفيه دليل أن تضييع حروف القرآن ليس به بأس لأنه قد مدح الزمان الذي تضيع فيه حروفه وذم الزمان الذي يحفظ فيه حروف القرآن وتضيع حدوده
وفيه أن كثرة السؤال مذموم وأن كثرة السائلين وقلة المعطين لا يكون إلا في زمن مذموم وبضد ذلك مدح قلة السؤال وكثرة العطاء
وفيه أن طول الصلاة محمود ممدوح عليه صاحبه وأما من أم جماعة فقد أوضحنا السنة في إمامه الجماعة فيما تقدم من أبواب هذا الكتاب والحمد لله وإذا كان من أتى الصلاة على ما ينبغي فيها محمودا عليها فبضد ذلك ذم من لم يتمها ومن لم يأت بها على كمالها مذموم على ذلك وقد جاء فيه الوعيد الشديد
وأما قصر الخطبة فسنة مسنونة كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يأمر بذلك ويفعله وفي حديث عمار بن ياسر أمرنا رسول الله صلى الله عليه و سلم بقصر الخطبة وكان يخطب بكلمات طيبات قليلات وقد كره التشدق والتفيهق وأهل العلم يكرهون من المواعظ ما ينسي بعضه بعضا لطوله ويستحبون من ذلك ما وقف عليه السامع الموعوظ فاعتبره بعد حفظه له وذلك لا يكون إلا مع القلة وبن مسعود هذا هو القائل كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يتخولنا بالموعظة مخافة السآمة علينا وأما تبدأة العمل الصالح على الهوى فهو النور والهدى وآفة العقل الهوى فمن علا على هواه عقله فقد نجا .
الإستذكـــــار -كتاب قصر الصلاة في السفر
********************
-المنتقى شرح الموطإ للباجي رحمه الله تعالى -
المؤلف: أبو الوليد سليمان بن خلف بن سعد بن أيوب بن وارث التجيبي القرطبي الباجي الأندلسي (المتوفى: 474هـ
(مَالِكٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ قَالَ لِإِنْسَانٍ:إنَّك فِي زَمَانٍ كَثِيرٌ فُقَهَاؤُهُ قَلِيلٌ قُرَّاؤُهُ تُحْفَظُ فِيهِ حُدُودُ الْقُرْآنِ وَتُضَيَّعُ حُرُوفُهُ قَلِيلٌ مَنْ يَسْأَلُ كَثِيرٌ مَنْ يُعْطِي يُطِيلُونَ فِيهِ الصَّلَاةَ وَيَقْصُرُونَ فِيهِ الْخُطْبَةَ يَبْدَؤُنَ أَعْمَالَهُمْ قَبْلَ أَهْوَائِهِمْ وَسَيَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ قَلِيلٌ فُقَهَاؤُهُ كَثِيرٌ قُرَّاؤُهُ تُحْفَظُ فِيهِ حُرُوفُ الْقُرْآنِ وَتُضَيَّعُ حُدُودُهُ كَثِيرٌ مَنْ يَسْأَلُ قَلِيلٌ مَنْ يُعْطِي يُطِيلُونَ فِيهِ الْخُطْبَةَ وَيَقْصُرُونَ الصَّلَاةَ يَبْدَؤُنَ فِيهِ أَهْوَاءَهُمْ قَبْلَ أَعْمَالِهِمْ
-----------------
(شرح) : قَوْلُهُ إنَّك فِي زَمَانٍ كَثِيرٌ فُقَهَاؤُهُ قَلِيلٌ قُرَّاؤُهُ لَمْ يُرِدْ بِذَلِكَ عَبْدُ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ مَنْ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَانَ قَلِيلًا فِي زَمَانِهِ وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنَّ مَنْ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ فَيَكُونُ حَظُّهُ مِنْهُ قِرَاءَتَهُ دُونَ الْفِقْهِ فِيهِ قَلِيلٌ لِأَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ إنَّمَا قَصَدَ إلَى مَدْحِ الزَّمَانِ الَّذِي كَانَ فِيهِ وَهُوَ عَصْرُ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِمْ بِكَثْرَةِ الْفُقَهَاءِ وَالْعُلَمَاءِ وَجُلُّ فِقْهِ أَهْلِ ذَلِكَ الْعَصْرِ إنَّمَا كَانَ مِنْ الْقُرْآنِ وَالِاسْتِنْبَاطِ مِنْهُ وَلَمْ يَكُونُوا أَهْلَ كِتَابٍ وَلَا دَوَاوِينَ وَلَا ضَمَّنُوا الْقَرَاطِيسَ الْعِلْمَ وَإِنَّمَا كَانَ عِلْمُهُمْ فِي صُدُورِهِمْ وَاسْتِنْبَاطُهُمْ مِنْ مَحْفُوظِهِمْ وَمُحَالٌ أَنْ يَسْتَنْبِطَ مِنْ الْقُرْآنِ مَنْ لَا يَحْفَظُهُ وَأَصْلُ الْفِقْهِ وَمُعْظَمُهُ كِتَابُ اللَّهِ تَعَالَى الَّذِي {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ} [فصلت: 42] وَهُوَ الَّذِي قَالَ فِيهِ تَعَالَى {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ - وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 38 - 89] فَمُحَالٌ أَنْ يُوصَفَ بِالْفِقْهِ وَالْعِلْمِ وَالتَّقَدُّمِ فِي الدِّينِ مَنْ لَا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ مَعَ مَا عُلِمَ مِنْ حَالِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فِي اقْتِصَارِهِمْ فِي الْعِلْمِ عَلَى الْقُرْآنِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَقْصِدَ عَبْدُ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ مَعَ فَضْلِهِ وَمَحَلِّهِ مِنْ تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ وَكَوْنِهِ أَحَدَ الْأَئِمَّةِ فِيهِ إلَى أَنْ يَمْدَحَ زَمَنَ الصَّحَابَةِ وَصَدْرَ الْأُمَّةِ بِقِلَّةِ الْقُرْآنِ فِيهِ لِأَنَّ أَهْلَ ذَلِكَ الْعَصْرِ كَانُوا أَلْهَجَ النَّاسِ بِتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ وَتَلَقِّيهِ مِنْ الرُّكْبَانِ وَتَدَارُسِهِ وَالْعَمَلِ بِهِ وَكَانَ ذَلِكَ مِنْهُمْ لَمَّا رَأَوْا مِنْ تَفْضِيلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ وَتَقْدِيمِهِ فِي اللَّحْدِ مَنْ كَانَ أَكْثَرَ أَخْذًا لِلْقُرْآنِ وَدُعَائِهِ أَصْحَابَهُ فِي مَوَاطِنِ الشَّدَائِدِ أَيْنَ أَصْحَابُ الْبَقَرَةِ بِأَفْضَلِ مَا يُدْعَوْنَ بِهِ حَضًّا لَهُمْ عَلَى الرُّجُوعِ وَتَذْكِيرًا لَهُمْ بِأَنَّ هَذِهِ الصِّفَةَ مِنْ أَفْضَلِ صِفَاتِ الْمُؤْمِنِينَ الَّتِي يَجِلُّ عَنْ الْفِرَارِ صَاحِبُهَا وَلَا يَدْعُو بِذَلِكَ وَاحِدًا وَلَا اثْنَيْنِ لِأَنَّهُ لَا يُنْتَفَعُ بِهِمْ وَإِنَّمَا يَدْعُو بِمِثْلِ ذَلِكَ الْعَدَدَ الْكَثِيرَ وَمَعْلُومٌ فِي الْعَادَةِ أَنَّهُ لَا يَكَادُ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ إلَّا مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ كُلَّهُ وَأَكْثَرَهُ وَإِنَّمَا ثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَاهُ أَنَّ تِلَاوَةَ الْقُرْآنِ وَحِفْظَهُ مِنْ أَفْضَلِ الْمَنَاقِبِ وَأَرْفَعِ الْمَرَاتِبِ وَأَنَّهُ مِمَّا لَا يَجُوزُ أَنْ يُعَابَ بِهِ أَحَدٌ فَيَجِبُ أَنْ يُحْمَلَ قَوْلُهُ عَلَى مَا يَلِيقُ بِهِ مِنْ الْعِلْمِ وَحُسْنِ الظَّنِّ فَيُجْعَلَ مَدْحُهُ لِزَمَانِ الصَّحَابَةِ بِكَثْرَةِ الْفُقَهَاءِ وَقِلَّةِ الْقُرَّاءِ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ أَنَّ مِمَّنْ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ فِيهِ وَلَا يَفْقَهُهُ قَلِيلًا وَأَنَّ الْفُقَهَاءَ فِيهِ مِنْ قُرَّاءِ الْقُرْآنِ الْمُسْتَنْبِطِينَ الْأَحْكَامَ مِنْهُ كَثِيرٌ وَهَذَا هُوَ الْمَعْلُومُ مِنْ حَالِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَحُشِرْنَا مَعَهُمْ.
-فَصْلٌ:
وَقَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ تُحْفَظُ فِيهِ حُدُودُ الْقُرْآنِ وَتُضَيَّعُ حُرُوفُهُ مِنْ قَبِيلِ مَا ذَكَرْنَاهُ قَبْلَ هَذَا وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ حَمْلُهُ عَلَى إطْلَاقِهِ لِمَا عُرِفَ مِنْ حَالِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ الْقَائِلِ لِذَلِكَ وَحَالِ الصَّحَابَةِ الْمَوْصُوفِينَ بِذَلِكَ لِأَنَّ تَرْكَ الْحُرُوفِ لَا يَخْلُو أَنْ يُرِيدَ بِهَا حُرُوفَ الْقُرْآنِ مِنْ أَلْفٍ وَلَامٍ وَمِيمٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ حُرُوفِ التَّهَجِّي أَوْ يُرِيدَ بِهِ لُغَاتِهِ وَفِي تَضْيِيعِ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ عَلَى الْإِطْلَاقِ مَنْعٌ مِنْ تَحَفُّظِهِ وَإِطْرَاحُ تِلَاوَتِهِ وَهَذَا مَا لَا يَسْتَجِيزُهُ مُسْلِمٌ أَنْ يَؤُمَّ بِهِ أَحَدًا مِنْ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ وَصَفَهُمْ اللَّهُ بِأَنَّهُمْ خَيْرُ أَمَةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ لَا يَجُوزُ أَنْ يَمْدَحَ الزَّمَانَ بِتَضْيِيعِ حُرُوفِ الْقُرْآنِفِيهِ فَلَا بُدَّ مِنْ حَمْلِهِ عَلَى وَجْهٍ يَلِيقُ بِلَفْظِهِ فَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهُ قَصَدَ صِفَةَ الزَّمَانِ بِإِظْهَارِ الْحَقِّ وَإِقَامَةِ حُدُودِهِ وَإِجْرَاءِ الْأَحْكَامِ عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ الْقُرْآنُ وَأَنَّ ذَلِكَ عَامٌّ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ مِنْ بَيْنِ رَاغِبٍ فِيهِ وَمَحْمُودٍ عَلَيْهِ مِمَّنْ يَخْشَى أَنْ يَكُونَ مِنْ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُسْرِفِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ مِمَّنْ لَمْ يُدْرِكْ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَنَّ هَذَا الصِّنْفَ لَا يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ وَيُضَيِّعُونَ حُرُوفَهُ وَتِلَاوَتَهُ وَإِنْ أَظْهَرُوا الْتِزَامَ أَحْكَامِهِ وَحُدُودِهِ خَوْفًا مِنْ الصَّحَابَةِ وَفُضَلَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَلَمْ يُرِدْ بِذَلِكَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَفُضَلَاءَ الصَّحَابَةِ يُضَيِّعُونَ حُرُوفَ الْقُرْآنِ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ لَوْ ضَيَّعُوا حُرُوفَ الْقُرْآنِ لَمْ يَصِلْ أَحَدٌ إلَى مَعْرِفَةِ حُدُودِهِ لِأَنَّهُ لَا يَعْلَمُ مَا يَتَضَمَّنُ مِنْ الْأَحْكَامِ وَالْحُدُودِ إلَّا مَنْ قَرَأَ الْحُرُوفَ وَعَرَفَ مَعَانِيَهَا.
(فَصْلٌ) :وَقَوْلُهُ قَلِيلٌ مَنْ يَسْأَلُ كَثِيرٌ مَنْ يُعْطِي يَعْنِي أَنَّ الْمُتَصَدِّقِينَ كَثِيرٌ وَأَنَّ الْمُتَعَفِّفِينَ عَنْ الصَّدَقَةِ مِنْ الْفُقَرَاءِ كَثِيرٌ وَأَنَّ السَّائِلِينَ مِنْهُمْ قَلِيلٌ وَهَذَا وَصْفٌ لِأَغْنِيَاءِ ذَلِكَ الزَّمَانِ بِالصَّدَقَةِ وَالْفَضْلِ وَالْمُوَاسَاةِ وَوَصْفٌ لِفُقَرَائِهِمْ بِالصَّبْرِ وَغِنَى النَّفْسِ وَالْقَنَاعَةِ وَهَذِهِ صِفَةُ صَدْرِ هَذِهِ الْأُمَّةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -.
(فَصْلٌ) :وَقَوْلُهُ يُطِيلُونَ فِيهِ الصَّلَاةَ وَيَقْصُرُونَ فِيهِ الْخُطْبَةَ يَعْنِي مُلَازَمَتَهُمْ لِلسُّنَّةِ وَإِنَّ أَكْثَرَ مَنْ يَفْعَلُ الْخُطْبَةَ وَالصَّلَاةَ لِلنَّاسِ أَهْلُ الْعِلْمِ لِأَنَّ هَذَا هُوَ الْمَشْرُوعُ فِي الْخُطْبَةِ وَالصَّلَاةِ.
(فَصْلٌ) :وَقَوْلُهُ يَبْدَؤُنَ أَعْمَالَهُمْ قَبْلَ أَهْوَائِهِمْ الْأَعْمَالُ هَاهُنَا وَإِنْ كَانَ اللَّفْظُ وَاقِعًا فِي أَصْلِ كَلَامِ الْعَرَبِ عَلَى كُلِّ عَمَلٍ مِنْ بِرٍّ وَفِسْقٍ إلَّا أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ هَاهُنَا الْبِرُّ وَهَذَا يَقْتَضِي إطْلَاقَهُ فِي الشَّرْعِ وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهُ إذَا عُرِضَ لَهُمْ عَمَلُ بِرٍّ وَهَوًى بَدَءُوا بِعَمَلِ الْبِرِّ وَقَدَّمُوهُ عَلَى مَا يَهْوُونَهُ.
(فَصْلٌ) :وَقَوْلُهُ وَسَيَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ قَلِيلٌ فُقَهَاؤُهُ يَعْنِي أَنَّ مَنْ يَفْقَهُهُ مِمَّنْ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ قَلِيلٌ وَإِنَّ أَكْثَرَ مَنْ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَلَا يَفْقَهُ فِيهِ وَهَذَا إخْبَارٌ مِنْهُ بِأَنَّ تِلَاوَةَ الْقُرْآنِ لَا تَقِلُّ فِي آخِرِ الزَّمَانِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ وَعَدَ بِحِفْظِهِ وَأَمَّنَ مِنْ نِسْيَانِهِ فَقَالَ تَعَالَى {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9] وَلَمْ يُرِدْ أَنَّ كَثْرَةَ الْقُرَّاءِ عَيْبٌ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ وَإِنَّمَا عَابَهُ بِقِلَّةِ الْفُقَهَاءِ فِيهِ وَأَنَّ قُرَّاءَهُ لَا يَفْقَهُونَ وَلَا يَعْلَمُونَ بِهِ وَإِنَّمَا غَايَتُهُمْ مِنْهُ تَحَفُّظُهُ وَهَذَا نَقْصٌ وَعَيْبٌ فِيهِمْ.
(فَصْلٌ) :وَقَوْلُهُ تُحْفَظُ فِيهِ حُرُوفُ الْقُرْآنِ وَتُضَيَّعُ حُدُودُهُ يَعْنِي أَنَّ التَّالِينَ لِكِتَابِ اللَّهِ كَثِيرٌ لَا يَعْلَمُونَ بِهِ وَلَا لِلنَّاسِ إمَامٌ وَلَا رُؤَسَاءُ يَحْمِلُونَهُمْ عَلَى الْعَمَلِ بِهِ فَتُضَيَّعُ لِذَلِكَ حُدُودُهُ وَأَحْكَامُهُ وَبِهَذَا خَالَفَ الزَّمَانَ الْأَوَّلَ الْمَمْدُوحَ فَإِنَّ أَئِمَّتَهُ كَانُوا يَقْضُونَ بِالْقُرْآنِ وَيَحْمِلُونَ النَّاسَ عَلَيْهِ.
(فَصْلٌ) :وَقَوْلُهُ كَثِيرٌ مَنْ يَسْأَلُ قَلِيلٌ مَنْ يُعْطِي يَعْنِي أَنَّ الْحِرْصَ وَالرَّغْبَةَ تُلْقَى فِي نُفُوسِ فُقَرَائِهِمْ وَالشُّحُّ وَالْمَنْعُ فِي نُفُوسِ أَغْنِيَائِهِمْ فَيَكْثُرُ السَّائِلُ وَيَقِلُّ الْمُعْطِي.
(فَصْلٌ) :وَقَوْلُهُ يُطِيلُونَ الْخُطْبَةَ وَيَقْصُرُونَ الصَّلَاةَ يَعْنِي أَنَّهُمْ يُخَالِفُونَ السُّنَّةَ فِي ذَلِكَ وَفِيهِ مَعْنًى آخَرُ لِأَنَّ الْخُطْبَةَ مَعْنَاهَا الْوَعْظُ وَالصَّلَاةُ عَمَلٌ مِنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ فَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ وَعْظَهُمْ يَكْثُرُ وَعَمَلَهُمْ يَقِلُّ وَقَوْلُهُ يَبْدَؤُنَ فِيهِ أَهْوَاءَهُمْ قَبْلَ أَعْمَالِهِمْ يَعْنِي أَنَّهُمْ إذَا عَرَضَ لَهُمْ هَوًى وَعَمَلُ بِرٍّ بَدَءُوا بِعَمَلِ الْهَوَى.
-----------------
(شرح) : قَوْلُهُ إنَّك فِي زَمَانٍ كَثِيرٌ فُقَهَاؤُهُ قَلِيلٌ قُرَّاؤُهُ لَمْ يُرِدْ بِذَلِكَ عَبْدُ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ مَنْ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَانَ قَلِيلًا فِي زَمَانِهِ وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنَّ مَنْ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ فَيَكُونُ حَظُّهُ مِنْهُ قِرَاءَتَهُ دُونَ الْفِقْهِ فِيهِ قَلِيلٌ لِأَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ إنَّمَا قَصَدَ إلَى مَدْحِ الزَّمَانِ الَّذِي كَانَ فِيهِ وَهُوَ عَصْرُ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِمْ بِكَثْرَةِ الْفُقَهَاءِ وَالْعُلَمَاءِ وَجُلُّ فِقْهِ أَهْلِ ذَلِكَ الْعَصْرِ إنَّمَا كَانَ مِنْ الْقُرْآنِ وَالِاسْتِنْبَاطِ مِنْهُ وَلَمْ يَكُونُوا أَهْلَ كِتَابٍ وَلَا دَوَاوِينَ وَلَا ضَمَّنُوا الْقَرَاطِيسَ الْعِلْمَ وَإِنَّمَا كَانَ عِلْمُهُمْ فِي صُدُورِهِمْ وَاسْتِنْبَاطُهُمْ مِنْ مَحْفُوظِهِمْ وَمُحَالٌ أَنْ يَسْتَنْبِطَ مِنْ الْقُرْآنِ مَنْ لَا يَحْفَظُهُ وَأَصْلُ الْفِقْهِ وَمُعْظَمُهُ كِتَابُ اللَّهِ تَعَالَى الَّذِي {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ} [فصلت: 42] وَهُوَ الَّذِي قَالَ فِيهِ تَعَالَى {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ - وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 38 - 89] فَمُحَالٌ أَنْ يُوصَفَ بِالْفِقْهِ وَالْعِلْمِ وَالتَّقَدُّمِ فِي الدِّينِ مَنْ لَا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ مَعَ مَا عُلِمَ مِنْ حَالِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فِي اقْتِصَارِهِمْ فِي الْعِلْمِ عَلَى الْقُرْآنِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَقْصِدَ عَبْدُ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ مَعَ فَضْلِهِ وَمَحَلِّهِ مِنْ تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ وَكَوْنِهِ أَحَدَ الْأَئِمَّةِ فِيهِ إلَى أَنْ يَمْدَحَ زَمَنَ الصَّحَابَةِ وَصَدْرَ الْأُمَّةِ بِقِلَّةِ الْقُرْآنِ فِيهِ لِأَنَّ أَهْلَ ذَلِكَ الْعَصْرِ كَانُوا أَلْهَجَ النَّاسِ بِتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ وَتَلَقِّيهِ مِنْ الرُّكْبَانِ وَتَدَارُسِهِ وَالْعَمَلِ بِهِ وَكَانَ ذَلِكَ مِنْهُمْ لَمَّا رَأَوْا مِنْ تَفْضِيلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ وَتَقْدِيمِهِ فِي اللَّحْدِ مَنْ كَانَ أَكْثَرَ أَخْذًا لِلْقُرْآنِ وَدُعَائِهِ أَصْحَابَهُ فِي مَوَاطِنِ الشَّدَائِدِ أَيْنَ أَصْحَابُ الْبَقَرَةِ بِأَفْضَلِ مَا يُدْعَوْنَ بِهِ حَضًّا لَهُمْ عَلَى الرُّجُوعِ وَتَذْكِيرًا لَهُمْ بِأَنَّ هَذِهِ الصِّفَةَ مِنْ أَفْضَلِ صِفَاتِ الْمُؤْمِنِينَ الَّتِي يَجِلُّ عَنْ الْفِرَارِ صَاحِبُهَا وَلَا يَدْعُو بِذَلِكَ وَاحِدًا وَلَا اثْنَيْنِ لِأَنَّهُ لَا يُنْتَفَعُ بِهِمْ وَإِنَّمَا يَدْعُو بِمِثْلِ ذَلِكَ الْعَدَدَ الْكَثِيرَ وَمَعْلُومٌ فِي الْعَادَةِ أَنَّهُ لَا يَكَادُ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ إلَّا مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ كُلَّهُ وَأَكْثَرَهُ وَإِنَّمَا ثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَاهُ أَنَّ تِلَاوَةَ الْقُرْآنِ وَحِفْظَهُ مِنْ أَفْضَلِ الْمَنَاقِبِ وَأَرْفَعِ الْمَرَاتِبِ وَأَنَّهُ مِمَّا لَا يَجُوزُ أَنْ يُعَابَ بِهِ أَحَدٌ فَيَجِبُ أَنْ يُحْمَلَ قَوْلُهُ عَلَى مَا يَلِيقُ بِهِ مِنْ الْعِلْمِ وَحُسْنِ الظَّنِّ فَيُجْعَلَ مَدْحُهُ لِزَمَانِ الصَّحَابَةِ بِكَثْرَةِ الْفُقَهَاءِ وَقِلَّةِ الْقُرَّاءِ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ أَنَّ مِمَّنْ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ فِيهِ وَلَا يَفْقَهُهُ قَلِيلًا وَأَنَّ الْفُقَهَاءَ فِيهِ مِنْ قُرَّاءِ الْقُرْآنِ الْمُسْتَنْبِطِينَ الْأَحْكَامَ مِنْهُ كَثِيرٌ وَهَذَا هُوَ الْمَعْلُومُ مِنْ حَالِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَحُشِرْنَا مَعَهُمْ.
-فَصْلٌ:
وَقَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ تُحْفَظُ فِيهِ حُدُودُ الْقُرْآنِ وَتُضَيَّعُ حُرُوفُهُ مِنْ قَبِيلِ مَا ذَكَرْنَاهُ قَبْلَ هَذَا وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ حَمْلُهُ عَلَى إطْلَاقِهِ لِمَا عُرِفَ مِنْ حَالِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ الْقَائِلِ لِذَلِكَ وَحَالِ الصَّحَابَةِ الْمَوْصُوفِينَ بِذَلِكَ لِأَنَّ تَرْكَ الْحُرُوفِ لَا يَخْلُو أَنْ يُرِيدَ بِهَا حُرُوفَ الْقُرْآنِ مِنْ أَلْفٍ وَلَامٍ وَمِيمٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ حُرُوفِ التَّهَجِّي أَوْ يُرِيدَ بِهِ لُغَاتِهِ وَفِي تَضْيِيعِ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ عَلَى الْإِطْلَاقِ مَنْعٌ مِنْ تَحَفُّظِهِ وَإِطْرَاحُ تِلَاوَتِهِ وَهَذَا مَا لَا يَسْتَجِيزُهُ مُسْلِمٌ أَنْ يَؤُمَّ بِهِ أَحَدًا مِنْ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ وَصَفَهُمْ اللَّهُ بِأَنَّهُمْ خَيْرُ أَمَةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ لَا يَجُوزُ أَنْ يَمْدَحَ الزَّمَانَ بِتَضْيِيعِ حُرُوفِ الْقُرْآنِفِيهِ فَلَا بُدَّ مِنْ حَمْلِهِ عَلَى وَجْهٍ يَلِيقُ بِلَفْظِهِ فَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهُ قَصَدَ صِفَةَ الزَّمَانِ بِإِظْهَارِ الْحَقِّ وَإِقَامَةِ حُدُودِهِ وَإِجْرَاءِ الْأَحْكَامِ عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ الْقُرْآنُ وَأَنَّ ذَلِكَ عَامٌّ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ مِنْ بَيْنِ رَاغِبٍ فِيهِ وَمَحْمُودٍ عَلَيْهِ مِمَّنْ يَخْشَى أَنْ يَكُونَ مِنْ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُسْرِفِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ مِمَّنْ لَمْ يُدْرِكْ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَنَّ هَذَا الصِّنْفَ لَا يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ وَيُضَيِّعُونَ حُرُوفَهُ وَتِلَاوَتَهُ وَإِنْ أَظْهَرُوا الْتِزَامَ أَحْكَامِهِ وَحُدُودِهِ خَوْفًا مِنْ الصَّحَابَةِ وَفُضَلَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَلَمْ يُرِدْ بِذَلِكَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَفُضَلَاءَ الصَّحَابَةِ يُضَيِّعُونَ حُرُوفَ الْقُرْآنِ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ لَوْ ضَيَّعُوا حُرُوفَ الْقُرْآنِ لَمْ يَصِلْ أَحَدٌ إلَى مَعْرِفَةِ حُدُودِهِ لِأَنَّهُ لَا يَعْلَمُ مَا يَتَضَمَّنُ مِنْ الْأَحْكَامِ وَالْحُدُودِ إلَّا مَنْ قَرَأَ الْحُرُوفَ وَعَرَفَ مَعَانِيَهَا.
(فَصْلٌ) :وَقَوْلُهُ قَلِيلٌ مَنْ يَسْأَلُ كَثِيرٌ مَنْ يُعْطِي يَعْنِي أَنَّ الْمُتَصَدِّقِينَ كَثِيرٌ وَأَنَّ الْمُتَعَفِّفِينَ عَنْ الصَّدَقَةِ مِنْ الْفُقَرَاءِ كَثِيرٌ وَأَنَّ السَّائِلِينَ مِنْهُمْ قَلِيلٌ وَهَذَا وَصْفٌ لِأَغْنِيَاءِ ذَلِكَ الزَّمَانِ بِالصَّدَقَةِ وَالْفَضْلِ وَالْمُوَاسَاةِ وَوَصْفٌ لِفُقَرَائِهِمْ بِالصَّبْرِ وَغِنَى النَّفْسِ وَالْقَنَاعَةِ وَهَذِهِ صِفَةُ صَدْرِ هَذِهِ الْأُمَّةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -.
(فَصْلٌ) :وَقَوْلُهُ يُطِيلُونَ فِيهِ الصَّلَاةَ وَيَقْصُرُونَ فِيهِ الْخُطْبَةَ يَعْنِي مُلَازَمَتَهُمْ لِلسُّنَّةِ وَإِنَّ أَكْثَرَ مَنْ يَفْعَلُ الْخُطْبَةَ وَالصَّلَاةَ لِلنَّاسِ أَهْلُ الْعِلْمِ لِأَنَّ هَذَا هُوَ الْمَشْرُوعُ فِي الْخُطْبَةِ وَالصَّلَاةِ.
(فَصْلٌ) :وَقَوْلُهُ يَبْدَؤُنَ أَعْمَالَهُمْ قَبْلَ أَهْوَائِهِمْ الْأَعْمَالُ هَاهُنَا وَإِنْ كَانَ اللَّفْظُ وَاقِعًا فِي أَصْلِ كَلَامِ الْعَرَبِ عَلَى كُلِّ عَمَلٍ مِنْ بِرٍّ وَفِسْقٍ إلَّا أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ هَاهُنَا الْبِرُّ وَهَذَا يَقْتَضِي إطْلَاقَهُ فِي الشَّرْعِ وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهُ إذَا عُرِضَ لَهُمْ عَمَلُ بِرٍّ وَهَوًى بَدَءُوا بِعَمَلِ الْبِرِّ وَقَدَّمُوهُ عَلَى مَا يَهْوُونَهُ.
(فَصْلٌ) :وَقَوْلُهُ وَسَيَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ قَلِيلٌ فُقَهَاؤُهُ يَعْنِي أَنَّ مَنْ يَفْقَهُهُ مِمَّنْ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ قَلِيلٌ وَإِنَّ أَكْثَرَ مَنْ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَلَا يَفْقَهُ فِيهِ وَهَذَا إخْبَارٌ مِنْهُ بِأَنَّ تِلَاوَةَ الْقُرْآنِ لَا تَقِلُّ فِي آخِرِ الزَّمَانِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ وَعَدَ بِحِفْظِهِ وَأَمَّنَ مِنْ نِسْيَانِهِ فَقَالَ تَعَالَى {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9] وَلَمْ يُرِدْ أَنَّ كَثْرَةَ الْقُرَّاءِ عَيْبٌ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ وَإِنَّمَا عَابَهُ بِقِلَّةِ الْفُقَهَاءِ فِيهِ وَأَنَّ قُرَّاءَهُ لَا يَفْقَهُونَ وَلَا يَعْلَمُونَ بِهِ وَإِنَّمَا غَايَتُهُمْ مِنْهُ تَحَفُّظُهُ وَهَذَا نَقْصٌ وَعَيْبٌ فِيهِمْ.
(فَصْلٌ) :وَقَوْلُهُ تُحْفَظُ فِيهِ حُرُوفُ الْقُرْآنِ وَتُضَيَّعُ حُدُودُهُ يَعْنِي أَنَّ التَّالِينَ لِكِتَابِ اللَّهِ كَثِيرٌ لَا يَعْلَمُونَ بِهِ وَلَا لِلنَّاسِ إمَامٌ وَلَا رُؤَسَاءُ يَحْمِلُونَهُمْ عَلَى الْعَمَلِ بِهِ فَتُضَيَّعُ لِذَلِكَ حُدُودُهُ وَأَحْكَامُهُ وَبِهَذَا خَالَفَ الزَّمَانَ الْأَوَّلَ الْمَمْدُوحَ فَإِنَّ أَئِمَّتَهُ كَانُوا يَقْضُونَ بِالْقُرْآنِ وَيَحْمِلُونَ النَّاسَ عَلَيْهِ.
(فَصْلٌ) :وَقَوْلُهُ كَثِيرٌ مَنْ يَسْأَلُ قَلِيلٌ مَنْ يُعْطِي يَعْنِي أَنَّ الْحِرْصَ وَالرَّغْبَةَ تُلْقَى فِي نُفُوسِ فُقَرَائِهِمْ وَالشُّحُّ وَالْمَنْعُ فِي نُفُوسِ أَغْنِيَائِهِمْ فَيَكْثُرُ السَّائِلُ وَيَقِلُّ الْمُعْطِي.
(فَصْلٌ) :وَقَوْلُهُ يُطِيلُونَ الْخُطْبَةَ وَيَقْصُرُونَ الصَّلَاةَ يَعْنِي أَنَّهُمْ يُخَالِفُونَ السُّنَّةَ فِي ذَلِكَ وَفِيهِ مَعْنًى آخَرُ لِأَنَّ الْخُطْبَةَ مَعْنَاهَا الْوَعْظُ وَالصَّلَاةُ عَمَلٌ مِنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ فَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ وَعْظَهُمْ يَكْثُرُ وَعَمَلَهُمْ يَقِلُّ وَقَوْلُهُ يَبْدَؤُنَ فِيهِ أَهْوَاءَهُمْ قَبْلَ أَعْمَالِهِمْ يَعْنِي أَنَّهُمْ إذَا عَرَضَ لَهُمْ هَوًى وَعَمَلُ بِرٍّ بَدَءُوا بِعَمَلِ الْهَوَى.
[[العمل في جامع الصلاة] -جامع الصلاة] (جزء 1/ صفحة 308 )
مطبعة السعادة -الطبعة: الأولى، 1332 هـ
المنتقى شرح الموطأ المؤلف: أبو الوليد سليمان بن خلف بن سعد بن أيوب بن وارث التجيبي القرطبي الباجي الأندلسي (المتوفى: 474هـ)
المنتقى شرح الموطأ المؤلف: أبو الوليد سليمان بن خلف بن سعد بن أيوب بن وارث التجيبي القرطبي الباجي الأندلسي (المتوفى: 474هـ)
للتحميل شرح ابن عبد البر و الباجي رحمهما الله تعالى
http://www.ajurry.com/vb/attachment....8&d=1405177176
***************************
http://www.ajurry.com/vb/attachment....8&d=1405177176
***************************