شرح كتاب
الفتن وأشراط الساعة
من صحيح مسلم
لفضيلة الشيخ الدكتور
سليمان بن سليم الله الرُّحيلي
-حفظه الله-
الحمد لله والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على المبعوث رحمةً للعالمين؛ نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد:
فقد بيّن لنا النبي صلى الله عليه وسلم الفتن وحذّر منها تحذيرًا شديدًا، وبيّن أسباب الخروج منها،
فاهتم بباب الفتن اهتمامًا عظيمًا، واهتم الصحابة -رضوان الله عليهم- بهذا الأمر، فكانوا يسألون
الرسول صلى الله عليه وسلم في حياته عنها، ثم بعد أن مات صلى الله عليه وسلم كانوا يسألون الأعلم بها.
وهذا يدل على أنّ المسلم ينبغي عليه أن يهتم بأمر الفتن ليَحذرها، ويُحذِّر منها، ويعرف الأسباب الجالبة للسلامة منها..
ومن هذا المنطلق كان هذا التفريغ لهذا الشرح المبارك لكتاب "الفتن وأشراط الساعة" من صحيح الإمام مسلم -رحمه الله-،
لفضيلة الشيخ سليمان بن سليم الله الرحيلي -حفظه الله-،
والذي شرحه في المسجد المبارك؛ مسجد رسولنا صلى الله عليه وسلم.
واللهَ نسأل أن ينفع به ويبارك فيه، ويتقبله منا بقبولٍ حسن.. إنه جواد كريم.
[شارك في التفريغ مجموعة من الأخوات جزاهنَّ الله خيرًا]
التفريغ كاملا في ملف واحد مفهرس
ملف PDF | ملف Word | التصفح المباشر |
Calaméo |
:: الدرس الأول ::
المـادة الصوتيـة:
[الدرس الأول]
تصفـح التفريـغ
[Calaméo]
أما بعد:
فمعاشر الفضلاء؛ نجتمع في مسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نتدارس العلم والخير، ونحن نرجو الله -عز وجل- أن يرزقنا بذلك فقهًا نافعًا، وأن يكتب لنا أجر حبس أنفسنا على التعلُّم، فإنّ النبي صلى الله عليه وسلم بشّر ببشارة عظيمة؛ فقال صلى الله عليه وسلم: «من دخل مسجدنا هذا يُعلِّم خيرًا أو يتعلَّمه كان كالمجاهد في سبيل الله»، وقال صلى الله عليه وسلم: «من غدا إلى المسجد لا يريد إلا أن يتعلَّم خيرًا أو يعلِّمه كان له كأجر حاجٍّ تامًّا حجته».
ونحن -أيها الإخوة- في هذا اليوم وما بعده من الأيام سنقرأ في أحاديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم-،
نسمع كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما صح عنه، وذلك من خلال القراءة في أمرٍ من الأهمية بمكان؛ ألا وهو:
"كتاب الفتن وأشراط الساعة من صحيح الإمام مسلم -رحمه الله عز وجل-".
والمعلوم -أيها الإخوة- أنّ النبي صلى الله عليه وسلم بيّن الفتن، وحذّر منها تحذيرًا شديدًا، وبيّن أسباب الخروج منها، فاهتم بباب الفتن اهتمامًا عظيمًا، واهتم الصحابة -رضوان الله عليهم- بهذا الأمر، فكانوا يسألون عن الفتن، كانوا يسألون الرسول -صلى الله عليه وسلم- في حياته عنها، ثم بعد أن مات -صلى الله عليه وسلم- كانوا يسألون الأعلم بها؛ كما سيردنا -إن شاء الله عز وجل- فيما أورده الإمام مسلم رحمه الله.
وهذا يدل على أنّ المسلم ينبغي عليه أن يهتم بأمر الفتن، لا ليقع فيها ولا ليكون من وَقودها؛ وإنما ليَحذرها، ويُحذِّر منها، ويعرف الأسباب الجالبة للسلامة منها.
ونحن في هذا الزمن أشدُّ حاجة من غيرنا، لأنّا نعيش في زمن تموج فيه الفتن موجًا، فتنوّعتْ وتكاثرتْ وتولّدتْ، سواءً ما يتعلّق بفتن الشبهات التي تنوّعت، أو ما يتعلّق بفتن الشهوات التي كثرت وأصبحت سيلًا عارمًا، لا سيما ونحن في زمن تعددت فيه وسائل الاتصال، وأصبح ما يحدث في العالَم كلّه كأنه يحدث في حيٍّ واحد، فتُعرَض فتن الدنيا على الإنسان وهو في بيته، سواءً ما يتعلّق بالشبهات أو الشهوات، أصبح الإنسان يُلابِس الفتن في بيته، في شارعه، في وظيفته، في مدرسته، في كل مكان.
فما أحوجنا إلى أن نعرف هدي نبينا -صلى الله عليه وسلم- في التعامل مع الفتن؛ لأنه والله لا سلامة للأفراد ولا للمجتمعات من الفتن إلا بسلوك هدي محمد -صلى الله عليه وسلم- واتّباع محمد -صلى الله عليه وسلم- فيما بيّنه في هذا الباب.
ونحن -إن شاء الله- سنقرأ ما أورده الإمام مسلم -رحمه الله-، وستكون عنايتنا بالمتن، أمّا لطائف الأسانيد -وهي كثيرة جدًّا- فإنّا لن نعرِض لها في شرحنا هذا؛ لمقام الوقت وما يقتضيه المقام، ولذلك سنقرأ السند مختصرين على الصحابي الذي روى الحديث، مكتفِين بأنّ الحديث في صحيح مسلم؛ الذي تلقّته الأمة بالقَبول، واتفق علماء الأمّة على صحة ما فيه من حيث الجملة.
ونبدأ مستعينين بالله في قراءة ما يتعلّق بهذا الكتاب.
بسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
يَقُولُ الإِمَامُ النوَوِيُّ -رَحِمَهُ الله-: [كِتَابُ الْفِتَنِ وَأَشْرَاطِ السَّاعَةِ]
((يَقُولُ الإِمَامُ النوَوِيُّ -رَحِمَهُ الله-))؛ لأنّ الذي بوّب صحيح مسلم هو الإمام النووي، فالإمام مسلم -رحمه الله- لم يبوّب الصحيح ولم يقسّمه عَنْوَنَةً وإنما قسَّمه بالموضوعات، إذا تأمّلنا صحيح مسلم وجدنا أنه قسّمه تقسيمًا على الموضوعات؛ فكتاب الإيمان، وكتاب الطهارة، وكتاب الصلاة، كله في موضع واحد، لكنه -رحمه الله- لم يُسمّها، فجاء الإمام النووي وخدم هذا الكتاب؛ ومن خدمته له أنه بوّب له.
قال: ((كِتَابُ الْفِتَنِ وَأَشْرَاطِ السَّاعَةِ))؛ الفتن -أيها الإخوة-: جمع فتنة، والفتنة لها في لغة العرب وجوه، فمنها العذاب، ومنها الإحراق، ومنها الحروب، ومنها الابتلاء والامتحان. وكل هذه وجوه لمعاني الفتنة عند العرب.
وأصل الفتنة: الابتلاء، مأخوذة من قولك: فتنتُ الفضة والذهب إذا أذبتهما بالنار ليتميّز الرديء من الجيّد. وفي الصحاح: إذا أدخلتَه النار لتنظر ما جودته.
إذن الفتنة -أيها الإخوة- أصلها هو الابتلاء؛ ولذلك يقول الحافظ ابن عبد البر: "وجماع معنى الفتنة: الابتلاء والامتحان والاختبار".
والفتن قد تكون في المحيا، وقد تكون في الممات، ولذلك أُمرنا بأن نستعيذ من فتنة المحيا ومن فتنة الممات.
والاستعاذة من الفتن معناها -يا إخوة-:
·إما أنه طلب عدم إدراكها؛ كالاستعاذة من فتنة المسيح الدجال، تقول: أعوذ بالله من فتنة المسيح الدجال؛ يعني تطلب من الله ألا تدركك هذه الفتنة.
·وقد تكون الاستعاذة طلبًا لعدم الوقوع فيها إن وقعتْ؛ كالاستعاذة من فتن المعاصي، المعاصي واقعة، وأنت عندما تستعيذ بالله من فتن المعاصي فأنت تسأل الله ألا تقع فيها. وكذلك الاستعاذة من فتن الحروب التي تقع بين طوائف المسلمين، فإنّ هذا معناه أنك تسأل الله ألا تقع فيها عند وقوعها.
·وقد تكون الاستعاذة من الفتن طلبًا لإصابة جادّة الصواب فيها؛ وذلك كالاستعاذة من فتن الطاعات، فالطاعة فيها فتنة -كما سنذكر إن شاء الله- والاستعاذة من فتنتها معناه: أنك تسأل الله أن يوفقك للصواب في الطاعات.
فهذا معنى الاستعاذة الذي يشمل كل الفتن.
وفتن المحيا كثيرةٌ جدًّا، في الأهل والمال والدين والدنيا؛
فمن الفتن: الاختبار والمحنة.
ومن ذلك -يا إخوة- الافتتان بالطاعات، الواحد منا قال: آمنتْ، قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله، فلابد أن يُفتَن؛ (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ) [العنكبوت: 2] بلى والله سيُفتَن، سيُفتن الإنسان، ومن فتنة المسلم أن يُفتَن بالطاعات، فيؤمَر بالصلاة، ويؤمَر الرجل مثلا بإعفاء اللحية، فهذه فتنة وابتلاء يُختبَر بها المسلم، لأنّ بعض الناس إن أُمِرَ بما يُحب فعل، وإن أُمِرَ بما قد لا يحبه لم يفعل.
يُبتلى المؤمن بالأمر بطاعة وليّ أمره ولو كان فاسقًا، فهذه فتنة، فتنة ابتلاء واختبار ليتبيّن المطيع من العاصي، ليتبيّن أهل الجنة من أهل النار.
ومن الفتنة: المال. ومن الفتنة: الأولاد؛ (إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ) [التغابن: 15]، فقد يُفتَن المسلم بأولاده، وقد يُفتَن من أولاده، وقد يُفتن في أولاده.
قد يُفتن بأولاده فيلهوا بهم عن الطاعات؛ كما قال الله -عز وجل-: (أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ حَتَّىٰ زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ) [التكاثر: 1-2] فيلهوا بهم.
وقد تكون فتنة الإنسان من أولاده، فكم من ولد فتن أباه، كم من أب مطيع على السنة ابتلي بابن على البدعة؛ جرّ رجله من السنة إلى البدعة.
وقد يُفتَن في أولاده، بما يقع من الفتن للأولاد في الشارع والمدرسة والبيت؛ فهذه فتنة.
وقد يُفتن الإنسان بماله، وقد يفتن في ماله، يفتن بماله فيلهوا بجمعه عن الطاعات، يسمع قول المؤذن "الله أكبر" فلا يسارع إلى المسجد، يعقد الصفقات، يعلم أنّ هذه المعاملة حرام فلا يتركها فتنة بالمال، وقد يُفتن في ماله، المال عنده، الأول في طلبه، والثاني يكون المال عنده لكنه لا يعرف حق الله فيه، فلا يصل به رحمه، ولا يُخرِج منه زكاة ولا غير ذلك، فمن الفتنة المال والأولاد.
ومن الفتنة: الكفر -والعياذ بالله-؛ كما قال الله -عز وجل-: (وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ) [البقرة: 191] أي أنّ الكفر أشد من القتل.
ومن الفتنة: اختلاف الناس في الآراء؛ كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافًا كثيرًا))؛ فهذه فتنة.
ومن الفتنة: فتنة المسلم بالناس، نعم، قد يُفتن المسلم بالناس، إما بتشنيعهم، وإما بحمدهم.
يُفتن بتشنيعهم؛ كتشنيع بعض الناس على الموحّدين، فإذا وحّد الله جاء إلى الحج مثلًا وسمع كلام أهل العلم المبني على قال الله قال رسوله -صلى الله عليه وسلم- وامتلأ قلبه بنور التوحيد ورجع إلى بلاده عازمًا على ألا يصرف العبادة إلا لله، فيأتيه المشنّعون ويقولون: جاء وهّابي، رجع من السعودية بإسلام سعودي! يُشنّعون عليه، يُفتن بهذا التشنيع.
وكما لو تمسّك المسلم بالسنة فأعفى لحيته ورفع إزاره فيُشنّعون عليه ويقولون: متشدد، حنبلي! فيُفتن بالتشنيع فيترك الحق من أجل فتنة الناس.
وهذه فتنة عظيمة، قال الله -عز وجل-: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ)[العنكبوت: 10] فإذا أوذي في الله فشنّع عليه من حوله ترك الحق، فجعل فتنة الناس كعذاب الله، فأوقَع نفسه في عذاب الله من أجل الناس -والعياذ بالله-.
وقد يُفتن بحمدهم، فيقولون مثلًا: فلان يصلي في المسجد، فلان يُكثر من الصلاة في المسجد، فلان يقوم الليل، فلان رجل صالح، فلان حسن الخلق، والأصل في هذا أنه من عاجل بشرى المؤمن ما لم يطلبه الإنسان، لكن قد يُفتَن به فيقع في الرياء بسببه، فإذا كان يحضر للصلاة عند الأذان يبدأ يحضر قبل الأذان من أجل أن يزيد الناس، وإذا كان يخشع في صلاته يكون في صدره أزيز من خوفه من الله يزيد فيُظهِر الصوت بالخشوع من أجل أن يزيد الناس، هذا يُفتَن بكلام الناس يُفتّن بحمد الناس، قد يكون الإنسان طالب علم نفع الله به في مجاله، فيُحمَد فيقال: أنت علامة، أنت عالم، أنت إمام المسلمين! فيُفتن بهذا فيُصبح يتكلم في كل شيء، ثم ينقلب من أن يتكلم بما يُصلح الناس إلى أن يتكلم بما يُصالِح الناس، فيُفتَن بالناس.
فالمسلم قد يُفتن بالناس؛ سواء من جهة التشنيع أو من جهة الحمد.
والمعاصي كلها فتنة، وكل من فُتن بشيء من المعاصي والشهوات المحظورة فهو مفتون. وقد يكون في هذا الباب من الفتنة ما هو أشدّ من مجرد المعصية -كما ذكره الحافظ ابن عبد البر-؛ ألا وهو الإصرار على المعصية والإقامة على الذنب، فالإصرار على المعصية أمره خطير حتى في الصغائر، ولذلك جاء عن السلف: "لا كبيرة مع الاستغفار، ولا كبيرة مع الإصرار" .
ومن الفتن العظيمة شديدة الخطر عظيمة الأثر: البدع المحدَثة التي تُتّخذ دينًا وإيمانًا، ويُشهَد بها على الله افتراءً، ما شرعها الله لا في كتابه ولا في سنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- فيُفترى على الله بها، ومن فُتِنَ بها أحبها ولا يحب أن يُقصّر فيها، وأهون عليه أن يُقصّر في السنة الثابتة من أن يُقصّر في البدعة المحدَثة، ولا ينتقل عنها ويودّ أن يقبضه الله عليها، ولذا قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «إنّ الله حجب التوبة عن كل صاحب بدعة؛ حتى يدعها» رواه الطبراني وصححه الألباني، فهذا أيضًا مفتون بفتنةٍ أشدَّ من فتنة المعاصي؛ لأنّ البدع أعلى المعاصي، هي فوق الكبائر، وقد تكون كفرًا وقد تكون دون الكفر، فهذا مفتون، زُيّن له سوء عمله، ويودّ لو أنّ كل الناس مثله في هذا الأمر.
ومن الفتن: القتل -كما سيأتي إن شاء الله-.
ومن الفتن: ما يُبتلى به الإنسان من زينة الدنيا وشهواتها ولو كانت مباحة، فقد يُفتن الإنسان بالزوجة، هي حلاله؛ لكن يُفتن بها بأن يُعجَب بها فتشغله عن آخرته، بعض الناس يُفتن بزوجته، لا يُعفي لحيته لأن الزوجة لا تريد اللحية؛ تقول: نحَّي عنك هذه اللحية، أنا أريد أن يكون خدك كخدي، فيحلق لحيته، وكم من سائل سألني بنفس هذا المعنى، وقد تطلب منه الحرام فيأتي به وهو يعلم أنه حرام؛ لأنه يحبها أعجبته فشغلته عن آخرته. ولذلك فسّر بعض السلف قول النبي صلى الله عليه وسلم: «ما تركتُ على أمتي فتنة أضرّ على الرجال من النساء بمثل هذا» قالوا معناه: أخاف أن تُعجبوا بهن فتنشغلوا بهن عن الآخرة.
ومن الفتن -كما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله-: الحروب بين ملوك المسلمين وطوائفهم؛ مع أنّ كل واحدة من الطائفتين ملتزمةٌ لشرائع الإسلام، انتبه للقيود، الحروب بين طوائف المسلمين وملوكهم؛ مع أنّ كل طائفة ملتزمة لشرائع الإسلام، مثل ما كان من أهل الجَمل وصِفِّين من المسلمين، مع أنّ كل واحدة من الطائفتين ملتزمةٌ بشرائع الإسلام؛ لكنهم اقتتلوا لشُبَهٍ عرضتْ لهم.
قال شيخ الإسلام: "وأما قتال الخوارج ومانِعي الزكاة فليس من حروب الفتن، بل هؤلاء يُقاتَلون حتى يَدخلوا في الشرائع الثابتة عن النبي -صلى الله عليه وسلم-".
وهذا أمر مهم ننبِّه عليه -أيها الإخوة- لأنّ بعض الناس يخلط بين حروب الفتن وبين غيرها، فلا يقف الموقف الشرعي.
فمثلًا؛ ما وقع من شرور من الطوائف الضالة في بلدان المسلمين -ومنها ما وقع في هذا البلد المبارك- من اعتداءات من قوم يزعمون أنهم يجاهدون، وليسوا بمجاهدين، فقاتلتهم الدولة منعًا لشرهم، وجزاها الله خيرا، فظنّ بعض الناس أنّ هذا الأمر من الفتن؛ أعني من قتال الفتن، فقال: فتنة طهّر الله منها سيوفنا فنطهّر منها ألسنتنا، فلا يُنكر على أولئك ولا يُبغض أعمالهم ولا يصفهم بما يستحقون شرعًا، وهذا ليس موقفًا شرعيًّا.
فيجب أن يُفرّق المسلم بين ما كان من قتال الفتن على الوصف الذي وصفه شيخ الإسلام وهو أنّ كل طائفة ملتزمة للشرائع وبين قتال البغاة والخوارج؛ فهذا ليس من الفتن بل ينبغي أن يكون للمسلم دور في إنكار منكر هؤلاء الذين جلبوا الشر على المسلمين من أول ظهور الخوارج إلى يومنا هذا.
هذا شيء من فتن المحيا.
وأما فتن الممات؛ فقد تكون عند الاحتضار، فإنّ الميت تحضره الملائكة، وقد تكون في القبر أيضًا، فإنّا نُفتن في قبورنا، والإنسان يُفتن في قبره بالسؤال عن ربه ونبيه ودينه، فمن الناس من ينجو ويوفّق للصواب فينادي منادٍ: أن صدق عبدي فأفرشوه من الجنة، وألبِسوه من الجنة، وافتحوا له بابًا من الجنة، فيأتيه له من روحها وطيبها، ويُفسّح له مدّ بصره، ويأتيه رجل حسن الوجه حسن الثياب طيّب الريح فيقول: أبشر هذا يومك الذي كنتَ توعَد، أبشر برضوان من الله وجنات فيها نعيم مقيم، فيقول: وأنت بشرك الله بالخير من أنت؟ فيقول: "أنا عملك الصالح؛ فوالله ما علمتُُ إلا كنتََ سريعًا في طاعة الله، بطيئًا في معصية الله، فجزاك الله خيرًا". ولا يوفّق بعض الناس، فلا يوفق إلى الصواب، وقد يكون كان يقول الصواب في الدنيا لكنه لا يوفَّق للصواب في قبره فيكون جوابه: هاه هاه لا أدري سمعتُ الناس يقولون قولًا فقلته، فينادي منادٍ: أن كَذَب فأفرشوه من النار وألبسوه من النار وافتحوا له بابًا من النار، فيأتيه من حرها وسمومها ويُضيَّق عليه في قبره حتى تختلف فيه أضلاعه، ويأتيه رجل قبيح الوجه قبيح الثياب مُنتِن الريح فيقول: أبشر بالذي يسوؤك هذا يومك الذي كنتَ توعَد، فيقول: من أنت بشرك الله بالشر فوجهك يجيء بالشر؟ فيقول: "أنا عملك السيء -وفي رواية: أنا عملك الخبيث- فوالله ما علمتُ إلا كنتََ بطيئًا في طاعة الله سريعًا في معصية الله". فتعوّذوا إخواني من فتنة المحيا، ومن فتنة الممات.
وأما الساعة؛ وما أدراك ما الساعة! قال الله -عز وجل-: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ) [الحج: 1 – 2] الله -عز وجل- حذّرنا من زلزلة الساعة؛ (يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ) وما الذي يُذهل المرضعة عما ترضع؟! والله لا يذهلها إلا زلزلة الساعة، (وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ) أخافهم فتمايلوا من شدة عذاب الله -سبحانه وتعالى-.
ولا يعلم متى تقوم الساعة إلا الله (يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً سورة الأعراف) [الأعراف: 187] ، فعلم وقت الساعة لا يعلمه نبيٌّ مرسل ولا ملك مقرب؛ إلا أنها قريبة، والله إنها لقريبة! يخبر الله -عز وجل- عن اقتراب الساعة بالفعل الماضي الدال على التحقيق والوقوع لا محالة؛ كقوله: (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ) [ الأنبياء: 1] وقوله: (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) [القمر: 1]، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «بُعثتُ أنا والساعة كهاتين، يشير بأصبعيه يمدهما» رواه البخاري.
وحال أهل الإيمان أنهم مشفقون من الساعة خائفون وجلون (وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ) [الأنبياء: 49] خائفون ولا يعلمون متى تأتي، فهم على استعدادٍ لها، لأنّ الواحد منهم لا يدري متى تقوم ساعته، ومن حضرت منيّته قامت ساعته، فهم من الساعة خائفون وجلون ولها مستعدون.
وأما من فرَّّط وأتبع نفسه هواها ولم يحسِب للساعة حسابها فإنه خاسر إذا جاءته الساعة بغتة، قال الله -عز وجل-: ( حَتَّىٰ إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَىٰ مَا فَرَّطْنَا فِيهَا) [الأنعام: 31]، فالساعة شأنها عظيم -أيها الإخوة-!
وأما أشراط الساعة؛ فعلاماتها: علامات القيامة التي تسبقها وتدل على قرب وقوعها، وهي عند أهل العلم أيها الإخوة نوعان:
·كبرى: وهي العلامات العظام التي تظهر قرب الساعة ولم يقع منها شيء، ولكنها إن وقعت تتابعتْ.
·وصغرى: وهي دون الكبرى، ومنها ما وقع وانقضى، مضى؛ كانشقاق القمر، ومنها ما وقع ولا زال، ولا زال يكثر؛ كانتشار الجهل، فانتشار الجهل وقع ولا زال واقعًا ولا زال يتسع. وظهر اليوم من الجهل أنواع كانت قليلة في الماضي؛ كالجهل المركب، جهل الجاهل الذي لا يعلم أنه جاهل، يظن نفسه عالمًا أو واعظا أو مفتيًا وهو أجهل من الكرسي الذي يجلس عليه، وهذا من علامات الساعة الصغرى، ومنها ما سيقع إن شاء الله -عز وجل-.
فإن قال قائل: ما الرابط بين الفتن وأشراط الساعة حتى يجمع الإمام مسلم بينهما في موضع واحد ويبوّب النووي بهذا التبويب؟
الجامع -يا إخوة-: أنّ الفتن من علامات الساعة، وكلما كثرت الفتن كان ذلك دليلًا على قرب الساعة، فهذا هو الجامع بينهما.
تعليق