كشف الإستغراب بشرح حديث احثوا في وجوه المداحين التراب
بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
فهذه مباحث انتقيتها أثناء بحثي عن ضوابط المدح ومنهياته وليس لي فيها إلا الجمع والترتيب.
أبو أسامة سمير الجزائري
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
" إذا رأيتم المداحين ، فاحثوا في وجوههم التراب " .
السلسلة الصحيحة برقم:912
أولاً : من المقصود بــ (المداحين) ؟
في تفسير سنن أبي داود (معالم السنن ) لأبي سليمان الخطابي - (2 / 474)
قال الشيخ : المداحون هم الذين اتخذوا مدح الناس عادة وجعلوه بضاعة يستأكلون به الممدوح ويفتنونه ، فأما من مدح الرجل على الفعل الحسن والأمر المحمود يكون منه ترغيباً له في أمثاله وتحريضاً للناس على الاقتداء به في اشباهه فليس بمداح وإن كان قد صار مادحاً بما تكلم به من جميل القول فيه .
وفي عمدة القاري شرح صحيح البخاري - (32 / 242):
ومن ذلك تأول العلماء في قوله احثوا التراب في وجوه المداحين أن المراد بهم: المداحون الناس في وجوههم بالباطل وبما ليس فيهم ولم يرد بهم من مدح رجلا بما فيه, فقد مدح رسول الله في الأشعار والخطب والمخاطبة ولم يحث في وجوه المداحين التراب ولا أمر بذلك وقد قال أبو طالب فيه.
وفي فيض القدير - (1 / 182) يقول المناوي -رحمه الله- :
( احثوا التراب في وجوه المداحين ) عبر بصيغة المبالغة إشارة إلى أن الكلام فيمن تكرر منه المدح حتى اتخذه صناعة وبضاعة يتأكل بها الناس وجازف في الأوصاف وأكثر الكذب
وفي مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح - (14 / 93):
إذا رأيتم المداحين أي المبالغين في المدح متوجهين إليكم طمعا سواء يكون نثرا ونظما.
ثانياً : ماهو المدح المنهي عنه؟
وفي شرح سنن ابن ماجه - السيوطي وآخرون - (1 / 266)
أن نحثو في وجوه المداحين الخ قال النووي في هذا الباب الأحاديث الواردة في النهي عن المدح وقد جاءت أحاديث كثيرة في الصحيحين بالمدح في الوجه قال العلماء طريق الجمع بينهما أن النهي محمول على المجازفة في المدح والزيادة في الأوصاف أو على من يخاف عليه فتنة من اعجاب ونحوه إذا سمع المدح واما من لا يخاف عليه ذلك لكمال تقواه ورسوخ عقله ومعرفته فلا نهي في مدح في وجهه إذا لم يكن فيه مجازفة بل ان كان يحصل بذلك مصلحة كنشط الخبر أو الازدياد منه أو الدوام عليه أو الاقتداء به كان مستحبا انتهى.
وفي شرح صحيح البخارى ـ لابن بطال - (1 / 3 في شرح حديث (... إنك لتصل الرحم , وتحمل الكل...) إلخ الحديث, قال:
وفيه جواز تزكية الرجل فى وجهه بما فيه الخير ، وليس بمعارض لقوله ( صلى الله عليه وسلم ) : تمت احثوا التراب فى وجوه المداحين - . وإنما أراد بذلك إذا مدحوه بالباطل ، وبما ليس فى الممدوح .
ويقول أيضاً (9 / 254):
وكذلك تأول العلماء فى قوله عليه السلام : ( احثوا التراب فى وجه المداحين ) المراد به : المداحون الناس فى وجوههم بالباطل وبما ليس فيهم . ولذلك قال عمر بن الخطاب : المدح هو الذبح . ولم يرد به من مدح رجلاً بما فيه ، فقد مدح رسول الله عليه السلام فى الشعر والخطب والمخاطبة ، ولم يحث فى وجه المداحين ولا أمر بذلك.
وقال العيني في عمدة القاري شرح صحيح البخاري - (1 / 167):
الثامن فيه جواز مدح الإنسان في وجهه لمصلحة ولا يعارضه قوله ( احثوا في وجوه المداحين التراب ) لأن هذا فيما يمدح بباطل أو يؤدي إلى باطل .
ويقول الشيخ عبدالمحسن العباد -حفظه الله في شرح سنن أبي داود :
والمقصود بذلك المدح الذي يكون بغير حق، أو يحصل به تضرر الممدوح، وذلك بكونه يؤثر ذلك فيه فيزهو ويتكبر ويترفع، وأما المدح بالحق من أجل أن يتبع الإنسان، ومن أجل أن يوافق الإنسان على ما هو عليه من الخير، وعلى ما فيه من الأعمال الطيبة، فإن هذا لا بأس به بشرط ألا يحصل هناك ضرر على الإنسان، فيذكر الإنسان بخير من أجل الاقتداء به، ومن أجل الترغيب وتحفيز الناس ليكونوا مثله ويتابعوه؛ ولهذا لما دعا الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الصدقة جاء رجل بصرة كبيرة، فقال صلى الله عليه وسلم: (من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها)، وهذا مدح لهذا الشخص الذي سبق إلى الخير، واقتدى به الناس وتابعوه، فإذا كان المدح لا يحصل من ورائه مضرة، وإنما المقصود منه الفائدة والمصلحة، وأن يقتدى به ويؤتسى به، ويذكر ويثنى عليه، ويمدح بما هو فيه من أجل أن يتابع، فإن هذا أمر مطلوب ولا بأس به، وفي ذلك تحفيز للهمم إلى أن يكون المخاطبون مثل ذلك الذي مدح وأثني عليه، وأما إذا كان لأمور دنيوية، أو لطلب حظوظ دنيوية، أو كان بغير حق، فإن هذا غير محمود بل هو مذموم. وأورد أبو داود رحمه الله حديث ابن الأسود رضي الله تعالى عنه: (أن رجلاً مدح عثمان رضي الله تعالى عنه وكان المقداد حاضراً، فأخذ تراباً وحثاه عليه، وقال: إن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: إذا رأيتم المداحين فاحثوا في وجوههم التراب)، و المقداد رضي الله عنه فهم الحديث على ظاهره، ومن أهل العلم من قال: إن المقصود من ذلك أن المادح من أجل الدنيا أو من أجل حظوظ دنيوية لا يحصل إلا الخيبة، وأنه لا يعطى شيئاً إذا مدح من أجل الدنيا؛ لأنه لا يستحق، والمقصود من ذلك مثل قوله: (وللعاهر الحجر) في قصة الزاني، وأنه لا يحصل ولداً بسبب زناه، (الولد للفراش، وللعاهر الحجر) فيكون المقصود من ذلك أن له الخيبة. ثم قوله: (فحثا في وجهه التراب) ليس المقصود من ذلك أنه يحثوه على وجهه بحيث يدخل في عينيه، وإنما في جهته واتجاهه.
فقال العثيمين-رحمه الله- في شرح رياض الصالحين :
((وهذا له أحوال:
الحال الأولى: أن يكون في مدحه خير وتشجيع له على الأوصاف الحميدة والأخلاق الفاضلة فهذا لا بأس به لأنه تشجيع تشجيع لصاحبه فإذا رأيت من رجل الكرم والشجاعة وبذل النفس والإحسان إلى الغير فذكرته بما هو فيه أمامه من أجل أن تشجعه وتثبته حتى يستمر على ما هو عليه فهذا حسن وهو داخل في قوله تعالى وتعاونوا على البر والتقوى
والثاني: أن تمدحه لتبين فضله بين الناس وينتشر ويحترمه الناس كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم مع أبي بكر وعمر رضي الله عنهما أما أبي بكر فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتحدث ذات يوم قال من أصبح منكم صائما فقال أبو بكر أنا فقال من تبع منكم جنازة قال أبو بكر أنا فقال من عاد اليوم مريضا فقال أبو بكر أنا وذكر أشياء فقال النبي صلى الله عليه وسلم ما اجتمعن في امرأ إلا دخل الجنة وكذلك لما حدث أنه من جر ثوبه خيلاء لن ينظر الله إليه قال أبو بكر يا رسول الله إن أحد شقي إزاري يسترخي علي إلا أن أتعاهده فقال أنك لست ممن يصنع ذلك خيلاء وقال لعمر إن الشيطان ما سلكت فجا إلا سلك فجا غير فجك يعني إذا سلكت طريقا فإن الشيطان يهرب منه ويذهب إلى طريق آخر كل هذا لبيان فضل أبي بكر وعمر رضي الله عنهما هذا لا بأس به
الثالث: أن يمدح غيره ويغلو في إطرائه ويصفه بما لا يستحق فهذا محرم وهو كذب وخداع مثل أن يذكر رجلا أميرا أو وزيرا أو ما أشبه ذلك ويطريه ويصفه بما ليس فيه من الصفات الحميدة فهذا حرام عليك وهو أيضا ضرر على الممدوح الرابع أن يمدحه بما هو فيه لكن يخشى أن الإنسان الممدوح يغتر بنفسه ويزهو بنفسه ويترفع على غيره فهذا أيضا محرم لا يجوز وذكر المؤلف أحاديث في ذلك أن رجلا ذكر عند النبي صلى الله عليه وسلم آخر فأثنى عليه فقال ويحك قطعت عنق صاحبك يعني كأنك ذبحته بسبب مدحك إياه لأن ذلك يوجب أن هذا الممدوح يترفع ويتعالى وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يحثى التراب في وجوه المداحين يعني إن كان هذا الإنسان معروفا, ما جلس مجلسا أمام أحد له جاه وشرف إلا امتدحه هذا مداح والمداح غير المادح ؛ المادح هو الذي يسمع منه مرة بعد أخرى لكن المداح كلما جلس عند إنسان كبيرا أو أميرا أو قاضيا أو عالم أو ما أشبه ذلك قام يمدحه هذا حقه أن يحثي في وجهه التراب لأن رجلا امتدح عثمان رضي الله عنه فقام المقداد وأخذ الحصباء ونفضها في وجه المداح فسأله عثمان لما فعل ذلك قال إن النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا رأيتم المداحين فاحثوا في وجوههم التراب وعلى كل حال فالذي ينبغي للإنسان ألا يتكلم إلا بخير لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت والله الموفق))
ثالثاً: ما المقصود بقوله ( فاحثوا في وجوههم التراب )؟
في تفسير سنن أبي داود (معالم السنن ) لأبي سليمان الخطابي - (2 / 474) قوله:
وقد استعمل المقداد الحديث على ظاهره وحمله على وجهه في تناول عين التراب بيده وحثيه في وجه المادح .
وقد يتأول أيضاً على وجه آخر وهو أن يكون معناه الخيبة والحرمان أي من تعرض لكم بالثناء والمدح فلا تعطوه واحرموه . كني بالتراب عن الحرمان كقولهم ما له غير التراب وما في يده غير التَيْرب ، وكقوله صلى اللّه عليه وسلم: إذا جاءك يطلب ثمن الكلب فاملأ كفه تراباً ، وكقوله وللعاهر الحجر ومثله كثير في الكلام .
وفي فتح الباري لابن حجر - (17 / 225) تفصيل أوسع وأكثر في أقوال العلماء , وإن كان بعضها قد يدخل في بعض حيث يقول:
فَأَمَّا الْحَدِيث الْمُشَار إِلَيْهِ فَأَخْرَجَهُ مُسْلِم مِنْ حَدِيث الْمِقْدَاد ، وَلِلْعُلَمَاءِ فِيهِ خَمْسَة أَقْوَال : أَحَدهَا هَذَا وَهُوَ حَمْله عَلَى ظَاهِره وَاسْتَعْمَلَهُ الْمِقْدَاد رَاوِي الْحَدِيث ، وَالثَّانِي الْخَيْبَة وَالْحِرْمَان كَقَوْلِهِمْ لِمَنْ رَجَعَ خَائِبًا رَجَعَ وَكَفّه مَمْلُوءَة تُرَابًا . وَالثَّالِث قُولُوا لَهُ بِفِيك التُّرَاب ، وَالْعَرَب تَسْتَعْمِل ذَلِكَ لِمَنْ تَكْرَه قَوْله . وَالرَّابِع أَنَّ ذَلِكَ يَتَعَلَّق بِالْمَمْدُوحِ كَأَنْ يَأْخُذ تُرَابًا فَيَبْذُرهُ بَيْنَ يَدَيْهِ يَتَذَكَّر بِذَلِكَ مَصِيره إِلَيْهِ فَلَا يَطْغَى بِالْمَدْحِ الَّذِي سَمِعَهُ . وَالْخَامِس الْمُرَاد بِحَثْوِ التُّرَاب فِي وَجْه الْمَادِح إِعْطَاؤُهُ مَا طُلِبَ لِأَنَّ كُلّ الَّذِي فَوْق التُّرَاب تُرَاب ، وَبِهَذَا جَزَمَ الْبَيْضَاوِيّ وَقَالَ : شَبَّهَ الْإِعْطَاء بِالْحَثْيِ عَلَى سَبِيل التَّرْشِيح وَالْمُبَالَغَة فِي التَّقْلِيل وَالِاسْتِهَانَة ، قَالَ الطِّيبِيُّ : وَيَحْتَمِل أَنْ يُرَاد رَفْعُهُ عَنْهُ وَقَطْع لِسَانه عَنْ عِرْضه بِمَا يُرْضِيه مِنْ الرَّضْخ ، وَالدَّافِع قَدْ يَدْفَع خَصْمه بِحَثْيِ التُّرَاب عَلَى وَجْهه اِسْتِهَانَة بِهِ .
يقول النووي قي شرح مسلم - (18 / 12 :
(قد حمله على ظاهره المقداد الذى هو راويه ووافقه طائفة وكانوا يحثون التراب فى وجهه حقيقة......) ثم قال النووي عن هذا القول: (هو الصحيح وهو الذى ذكره البخارى وغيره ).
رابعاً: الكيفية عند من يرى أن الحديث على ظاهره:
يقول الشيخ عبدالمحسن العباد - حفظه الله في شرح سنن أبي داود :
وأما ما ورد أنه صلى الله عليه وسلم أخذ تراباً من الأرض فرمى به في وجه شارب الخمر كما في حديث عبد الرحمن بن أزهر، فهذا لا يلزم أنه أصاب به وجهه، وقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا رأيتم المداحين فاحثوا في وجوههم التراب)، معناه: أنه يحثا إلى جهة وجهه.
تنبيه مهم.
في شرح السنة ـ للإمام البغوى (13 / 151):
وفي الجملة المدح والثناء على الرجل مكروهٌ ، لأنه قلما يسلم
المادح من كذب يقوله في مدحه ، وقلما يسلم الممدوح من عجبٍ
يدخله. وروي أن رجلاً أثنى على رجلٍ عند عمرَ ، فقال عمر :
عقرت الرجل ، عقرك الله.
قال المناوي في فيض القدير شرح الجامع الصغير :
"(احثوا) بضم الهمزة وسكون الحاء وضم المثلثة ارموا (التراب في وجوه المداحين) عبربصيغة المبالغة إشارة إلى أن الكلام فيمن تكرر منه المدح حتى اتخذه صناعة وبضاعة يتأكل بها الناس وجازف في الأوصاف وأكثر الكذب يريد لا تعطوهم على المدح شيئا ، فالحثي كناية عن الحرمان والرد والتخجيل
وللمزيد في هذا الموضوع راجع:
تفسير سنن أبي داود (معالم السنن ) لأبي سليمان الخطابي - (2 / 474)
فيض القدير - (1 / 182)
مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح - (14 / 93)
مصابيح التنوير على صحيح الجامع الصغير للألباني - (1 / 314)
تفسير سنن أبي داود (معالم السنن ) لأبي سليمان الخطابي - (2 / 474)
فتح الباري لابن حجر - (17 / 225)
شرح السنة ـ للإمام البغوى متنا وشرحا - (13 / 151)
شرح النووي على مسلم - (18 / 12
شرح سنن ابن ماجه - السيوطي وآخرون - (1 / 266)
شرح صحيح البخارى ـ لابن بطال - (1 / 3 , (9 / 254)
عمدة القاري شرح صحيح البخاري - (1 / 167), (32 / 242)
شرح النووي على مسلم - (18 / 12
جامع غريب الحديث - (1 / 114)
حاشية السندي على ابن ماجه - (7 / 142)
شرح السنة ـ للإمام البغوى - (13 / 151)
التيسير بشرح الجامع الصغير ـ للمناوى - (1 / 200)
الديباج على مسلم - (6 / 302)
الفتح الرباني/ الساعاتي ( أجزاء منه ) - (1 / 2) , (1 / 3)
تحفة الأحوذي - (7 / 62)
انتقاء وترتيب
أبي أسامة سمير الجزائري
غفر الله له ما تقدم وما تأخر من ذنبه
بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
فهذه مباحث انتقيتها أثناء بحثي عن ضوابط المدح ومنهياته وليس لي فيها إلا الجمع والترتيب.
أبو أسامة سمير الجزائري
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
" إذا رأيتم المداحين ، فاحثوا في وجوههم التراب " .
السلسلة الصحيحة برقم:912
أولاً : من المقصود بــ (المداحين) ؟
في تفسير سنن أبي داود (معالم السنن ) لأبي سليمان الخطابي - (2 / 474)
قال الشيخ : المداحون هم الذين اتخذوا مدح الناس عادة وجعلوه بضاعة يستأكلون به الممدوح ويفتنونه ، فأما من مدح الرجل على الفعل الحسن والأمر المحمود يكون منه ترغيباً له في أمثاله وتحريضاً للناس على الاقتداء به في اشباهه فليس بمداح وإن كان قد صار مادحاً بما تكلم به من جميل القول فيه .
وفي عمدة القاري شرح صحيح البخاري - (32 / 242):
ومن ذلك تأول العلماء في قوله احثوا التراب في وجوه المداحين أن المراد بهم: المداحون الناس في وجوههم بالباطل وبما ليس فيهم ولم يرد بهم من مدح رجلا بما فيه, فقد مدح رسول الله في الأشعار والخطب والمخاطبة ولم يحث في وجوه المداحين التراب ولا أمر بذلك وقد قال أبو طالب فيه.
وفي فيض القدير - (1 / 182) يقول المناوي -رحمه الله- :
( احثوا التراب في وجوه المداحين ) عبر بصيغة المبالغة إشارة إلى أن الكلام فيمن تكرر منه المدح حتى اتخذه صناعة وبضاعة يتأكل بها الناس وجازف في الأوصاف وأكثر الكذب
وفي مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح - (14 / 93):
إذا رأيتم المداحين أي المبالغين في المدح متوجهين إليكم طمعا سواء يكون نثرا ونظما.
ثانياً : ماهو المدح المنهي عنه؟
وفي شرح سنن ابن ماجه - السيوطي وآخرون - (1 / 266)
أن نحثو في وجوه المداحين الخ قال النووي في هذا الباب الأحاديث الواردة في النهي عن المدح وقد جاءت أحاديث كثيرة في الصحيحين بالمدح في الوجه قال العلماء طريق الجمع بينهما أن النهي محمول على المجازفة في المدح والزيادة في الأوصاف أو على من يخاف عليه فتنة من اعجاب ونحوه إذا سمع المدح واما من لا يخاف عليه ذلك لكمال تقواه ورسوخ عقله ومعرفته فلا نهي في مدح في وجهه إذا لم يكن فيه مجازفة بل ان كان يحصل بذلك مصلحة كنشط الخبر أو الازدياد منه أو الدوام عليه أو الاقتداء به كان مستحبا انتهى.
وفي شرح صحيح البخارى ـ لابن بطال - (1 / 3 في شرح حديث (... إنك لتصل الرحم , وتحمل الكل...) إلخ الحديث, قال:
وفيه جواز تزكية الرجل فى وجهه بما فيه الخير ، وليس بمعارض لقوله ( صلى الله عليه وسلم ) : تمت احثوا التراب فى وجوه المداحين - . وإنما أراد بذلك إذا مدحوه بالباطل ، وبما ليس فى الممدوح .
ويقول أيضاً (9 / 254):
وكذلك تأول العلماء فى قوله عليه السلام : ( احثوا التراب فى وجه المداحين ) المراد به : المداحون الناس فى وجوههم بالباطل وبما ليس فيهم . ولذلك قال عمر بن الخطاب : المدح هو الذبح . ولم يرد به من مدح رجلاً بما فيه ، فقد مدح رسول الله عليه السلام فى الشعر والخطب والمخاطبة ، ولم يحث فى وجه المداحين ولا أمر بذلك.
وقال العيني في عمدة القاري شرح صحيح البخاري - (1 / 167):
الثامن فيه جواز مدح الإنسان في وجهه لمصلحة ولا يعارضه قوله ( احثوا في وجوه المداحين التراب ) لأن هذا فيما يمدح بباطل أو يؤدي إلى باطل .
ويقول الشيخ عبدالمحسن العباد -حفظه الله في شرح سنن أبي داود :
والمقصود بذلك المدح الذي يكون بغير حق، أو يحصل به تضرر الممدوح، وذلك بكونه يؤثر ذلك فيه فيزهو ويتكبر ويترفع، وأما المدح بالحق من أجل أن يتبع الإنسان، ومن أجل أن يوافق الإنسان على ما هو عليه من الخير، وعلى ما فيه من الأعمال الطيبة، فإن هذا لا بأس به بشرط ألا يحصل هناك ضرر على الإنسان، فيذكر الإنسان بخير من أجل الاقتداء به، ومن أجل الترغيب وتحفيز الناس ليكونوا مثله ويتابعوه؛ ولهذا لما دعا الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الصدقة جاء رجل بصرة كبيرة، فقال صلى الله عليه وسلم: (من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها)، وهذا مدح لهذا الشخص الذي سبق إلى الخير، واقتدى به الناس وتابعوه، فإذا كان المدح لا يحصل من ورائه مضرة، وإنما المقصود منه الفائدة والمصلحة، وأن يقتدى به ويؤتسى به، ويذكر ويثنى عليه، ويمدح بما هو فيه من أجل أن يتابع، فإن هذا أمر مطلوب ولا بأس به، وفي ذلك تحفيز للهمم إلى أن يكون المخاطبون مثل ذلك الذي مدح وأثني عليه، وأما إذا كان لأمور دنيوية، أو لطلب حظوظ دنيوية، أو كان بغير حق، فإن هذا غير محمود بل هو مذموم. وأورد أبو داود رحمه الله حديث ابن الأسود رضي الله تعالى عنه: (أن رجلاً مدح عثمان رضي الله تعالى عنه وكان المقداد حاضراً، فأخذ تراباً وحثاه عليه، وقال: إن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: إذا رأيتم المداحين فاحثوا في وجوههم التراب)، و المقداد رضي الله عنه فهم الحديث على ظاهره، ومن أهل العلم من قال: إن المقصود من ذلك أن المادح من أجل الدنيا أو من أجل حظوظ دنيوية لا يحصل إلا الخيبة، وأنه لا يعطى شيئاً إذا مدح من أجل الدنيا؛ لأنه لا يستحق، والمقصود من ذلك مثل قوله: (وللعاهر الحجر) في قصة الزاني، وأنه لا يحصل ولداً بسبب زناه، (الولد للفراش، وللعاهر الحجر) فيكون المقصود من ذلك أن له الخيبة. ثم قوله: (فحثا في وجهه التراب) ليس المقصود من ذلك أنه يحثوه على وجهه بحيث يدخل في عينيه، وإنما في جهته واتجاهه.
فقال العثيمين-رحمه الله- في شرح رياض الصالحين :
((وهذا له أحوال:
الحال الأولى: أن يكون في مدحه خير وتشجيع له على الأوصاف الحميدة والأخلاق الفاضلة فهذا لا بأس به لأنه تشجيع تشجيع لصاحبه فإذا رأيت من رجل الكرم والشجاعة وبذل النفس والإحسان إلى الغير فذكرته بما هو فيه أمامه من أجل أن تشجعه وتثبته حتى يستمر على ما هو عليه فهذا حسن وهو داخل في قوله تعالى وتعاونوا على البر والتقوى
والثاني: أن تمدحه لتبين فضله بين الناس وينتشر ويحترمه الناس كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم مع أبي بكر وعمر رضي الله عنهما أما أبي بكر فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتحدث ذات يوم قال من أصبح منكم صائما فقال أبو بكر أنا فقال من تبع منكم جنازة قال أبو بكر أنا فقال من عاد اليوم مريضا فقال أبو بكر أنا وذكر أشياء فقال النبي صلى الله عليه وسلم ما اجتمعن في امرأ إلا دخل الجنة وكذلك لما حدث أنه من جر ثوبه خيلاء لن ينظر الله إليه قال أبو بكر يا رسول الله إن أحد شقي إزاري يسترخي علي إلا أن أتعاهده فقال أنك لست ممن يصنع ذلك خيلاء وقال لعمر إن الشيطان ما سلكت فجا إلا سلك فجا غير فجك يعني إذا سلكت طريقا فإن الشيطان يهرب منه ويذهب إلى طريق آخر كل هذا لبيان فضل أبي بكر وعمر رضي الله عنهما هذا لا بأس به
الثالث: أن يمدح غيره ويغلو في إطرائه ويصفه بما لا يستحق فهذا محرم وهو كذب وخداع مثل أن يذكر رجلا أميرا أو وزيرا أو ما أشبه ذلك ويطريه ويصفه بما ليس فيه من الصفات الحميدة فهذا حرام عليك وهو أيضا ضرر على الممدوح الرابع أن يمدحه بما هو فيه لكن يخشى أن الإنسان الممدوح يغتر بنفسه ويزهو بنفسه ويترفع على غيره فهذا أيضا محرم لا يجوز وذكر المؤلف أحاديث في ذلك أن رجلا ذكر عند النبي صلى الله عليه وسلم آخر فأثنى عليه فقال ويحك قطعت عنق صاحبك يعني كأنك ذبحته بسبب مدحك إياه لأن ذلك يوجب أن هذا الممدوح يترفع ويتعالى وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يحثى التراب في وجوه المداحين يعني إن كان هذا الإنسان معروفا, ما جلس مجلسا أمام أحد له جاه وشرف إلا امتدحه هذا مداح والمداح غير المادح ؛ المادح هو الذي يسمع منه مرة بعد أخرى لكن المداح كلما جلس عند إنسان كبيرا أو أميرا أو قاضيا أو عالم أو ما أشبه ذلك قام يمدحه هذا حقه أن يحثي في وجهه التراب لأن رجلا امتدح عثمان رضي الله عنه فقام المقداد وأخذ الحصباء ونفضها في وجه المداح فسأله عثمان لما فعل ذلك قال إن النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا رأيتم المداحين فاحثوا في وجوههم التراب وعلى كل حال فالذي ينبغي للإنسان ألا يتكلم إلا بخير لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت والله الموفق))
ثالثاً: ما المقصود بقوله ( فاحثوا في وجوههم التراب )؟
في تفسير سنن أبي داود (معالم السنن ) لأبي سليمان الخطابي - (2 / 474) قوله:
وقد استعمل المقداد الحديث على ظاهره وحمله على وجهه في تناول عين التراب بيده وحثيه في وجه المادح .
وقد يتأول أيضاً على وجه آخر وهو أن يكون معناه الخيبة والحرمان أي من تعرض لكم بالثناء والمدح فلا تعطوه واحرموه . كني بالتراب عن الحرمان كقولهم ما له غير التراب وما في يده غير التَيْرب ، وكقوله صلى اللّه عليه وسلم: إذا جاءك يطلب ثمن الكلب فاملأ كفه تراباً ، وكقوله وللعاهر الحجر ومثله كثير في الكلام .
وفي فتح الباري لابن حجر - (17 / 225) تفصيل أوسع وأكثر في أقوال العلماء , وإن كان بعضها قد يدخل في بعض حيث يقول:
فَأَمَّا الْحَدِيث الْمُشَار إِلَيْهِ فَأَخْرَجَهُ مُسْلِم مِنْ حَدِيث الْمِقْدَاد ، وَلِلْعُلَمَاءِ فِيهِ خَمْسَة أَقْوَال : أَحَدهَا هَذَا وَهُوَ حَمْله عَلَى ظَاهِره وَاسْتَعْمَلَهُ الْمِقْدَاد رَاوِي الْحَدِيث ، وَالثَّانِي الْخَيْبَة وَالْحِرْمَان كَقَوْلِهِمْ لِمَنْ رَجَعَ خَائِبًا رَجَعَ وَكَفّه مَمْلُوءَة تُرَابًا . وَالثَّالِث قُولُوا لَهُ بِفِيك التُّرَاب ، وَالْعَرَب تَسْتَعْمِل ذَلِكَ لِمَنْ تَكْرَه قَوْله . وَالرَّابِع أَنَّ ذَلِكَ يَتَعَلَّق بِالْمَمْدُوحِ كَأَنْ يَأْخُذ تُرَابًا فَيَبْذُرهُ بَيْنَ يَدَيْهِ يَتَذَكَّر بِذَلِكَ مَصِيره إِلَيْهِ فَلَا يَطْغَى بِالْمَدْحِ الَّذِي سَمِعَهُ . وَالْخَامِس الْمُرَاد بِحَثْوِ التُّرَاب فِي وَجْه الْمَادِح إِعْطَاؤُهُ مَا طُلِبَ لِأَنَّ كُلّ الَّذِي فَوْق التُّرَاب تُرَاب ، وَبِهَذَا جَزَمَ الْبَيْضَاوِيّ وَقَالَ : شَبَّهَ الْإِعْطَاء بِالْحَثْيِ عَلَى سَبِيل التَّرْشِيح وَالْمُبَالَغَة فِي التَّقْلِيل وَالِاسْتِهَانَة ، قَالَ الطِّيبِيُّ : وَيَحْتَمِل أَنْ يُرَاد رَفْعُهُ عَنْهُ وَقَطْع لِسَانه عَنْ عِرْضه بِمَا يُرْضِيه مِنْ الرَّضْخ ، وَالدَّافِع قَدْ يَدْفَع خَصْمه بِحَثْيِ التُّرَاب عَلَى وَجْهه اِسْتِهَانَة بِهِ .
يقول النووي قي شرح مسلم - (18 / 12 :
(قد حمله على ظاهره المقداد الذى هو راويه ووافقه طائفة وكانوا يحثون التراب فى وجهه حقيقة......) ثم قال النووي عن هذا القول: (هو الصحيح وهو الذى ذكره البخارى وغيره ).
رابعاً: الكيفية عند من يرى أن الحديث على ظاهره:
يقول الشيخ عبدالمحسن العباد - حفظه الله في شرح سنن أبي داود :
وأما ما ورد أنه صلى الله عليه وسلم أخذ تراباً من الأرض فرمى به في وجه شارب الخمر كما في حديث عبد الرحمن بن أزهر، فهذا لا يلزم أنه أصاب به وجهه، وقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا رأيتم المداحين فاحثوا في وجوههم التراب)، معناه: أنه يحثا إلى جهة وجهه.
تنبيه مهم.
في شرح السنة ـ للإمام البغوى (13 / 151):
وفي الجملة المدح والثناء على الرجل مكروهٌ ، لأنه قلما يسلم
المادح من كذب يقوله في مدحه ، وقلما يسلم الممدوح من عجبٍ
يدخله. وروي أن رجلاً أثنى على رجلٍ عند عمرَ ، فقال عمر :
عقرت الرجل ، عقرك الله.
قال المناوي في فيض القدير شرح الجامع الصغير :
"(احثوا) بضم الهمزة وسكون الحاء وضم المثلثة ارموا (التراب في وجوه المداحين) عبربصيغة المبالغة إشارة إلى أن الكلام فيمن تكرر منه المدح حتى اتخذه صناعة وبضاعة يتأكل بها الناس وجازف في الأوصاف وأكثر الكذب يريد لا تعطوهم على المدح شيئا ، فالحثي كناية عن الحرمان والرد والتخجيل
وللمزيد في هذا الموضوع راجع:
تفسير سنن أبي داود (معالم السنن ) لأبي سليمان الخطابي - (2 / 474)
فيض القدير - (1 / 182)
مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح - (14 / 93)
مصابيح التنوير على صحيح الجامع الصغير للألباني - (1 / 314)
تفسير سنن أبي داود (معالم السنن ) لأبي سليمان الخطابي - (2 / 474)
فتح الباري لابن حجر - (17 / 225)
شرح السنة ـ للإمام البغوى متنا وشرحا - (13 / 151)
شرح النووي على مسلم - (18 / 12
شرح سنن ابن ماجه - السيوطي وآخرون - (1 / 266)
شرح صحيح البخارى ـ لابن بطال - (1 / 3 , (9 / 254)
عمدة القاري شرح صحيح البخاري - (1 / 167), (32 / 242)
شرح النووي على مسلم - (18 / 12
جامع غريب الحديث - (1 / 114)
حاشية السندي على ابن ماجه - (7 / 142)
شرح السنة ـ للإمام البغوى - (13 / 151)
التيسير بشرح الجامع الصغير ـ للمناوى - (1 / 200)
الديباج على مسلم - (6 / 302)
الفتح الرباني/ الساعاتي ( أجزاء منه ) - (1 / 2) , (1 / 3)
تحفة الأحوذي - (7 / 62)
انتقاء وترتيب
أبي أسامة سمير الجزائري
غفر الله له ما تقدم وما تأخر من ذنبه