روايات حديث "من رأى منكم منكرا فليغيره بيده. فإن لم يستطع فبلسانه. ومن لم يستطع فبقلبه. وذلك أضعف الإيمان".من صحيح مسلم....مع شرح الحافظ النووي رحمه الله تعالى (كتاب المنهاج)..أسأل الله ان ينفع به..
* الحديث الذي ذكره الإمام إبن كثير رحمه الله تعالى ...من صحيح مسلم بجميع الرويات التي أوردها....
(20) باب بيان كون النهي عن المنكر من الإيمان. وأن الإيمان يزيد وينقص. وأن الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر واجبان
78 - (49) حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة. حدثنا وكيع بن سفيان. ح وحدثنا محمد بن المثنى. حدثنا محمد بن جعفر. حدثنا شعبة كلاهما عن لقيس بن مسلم، عن طارق بن شهاب. وهذا حديث أبي بكر. قال:
أول من بدأ بالخطبة، يوم العيد قبل الصلاة، مروان. فقام إليه رجل. فقال: الصلاة قبل الخطبة. فقال: قد ترك ما هنالك. فقال أبو سعيد: أما هذا فقد قضى ما عليه. سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "من رأى منكم منكرا فليغيره بيده. فإن لم يستطع فبلسانه. ومن لم يستطع فبقلبه. وذلك أضعف الإيمان".
79 - (49) حدثنا أبو كريب محمد بن العلاء. حدثنا أبو معاوية. حدثنا الأعمش عن إسماعيل بن رجاء، عن أبيه، عن أبي سعيد الخدري. وعن قيس بن مسلم، عن طارق بن شهاب، عن أبي سعيد الخدري. في قصة مروان، وحديث أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم، بمثل حديث شعبة وسفيان.
80 - (50) حدثني عمرو الناقد، وأبو بكر بن النضر، وعبد بن حميد،واللفظ لعبد. قالوا: حدثنا يعقوب بن إبراهيم بن سعد. قال: حدثني أبي عن صالح بن كيسان، عن الحارث، عن جعفر بن عبدالله بن الحكم، عن عبدالرحمن بن المسور، عن أبي رافع، عن عبدالله بن مسعود؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي، إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب. يأخذون بسنته ويقتدون بأمره. ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف. يقولون ما لا يفعلون. ويفعلون ما لا يؤمرون. فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن. وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل". قال أبو رافع: فحدثت عبد الله بن عمر فأنكره علي. فقدم ابن مسعود فنزل بقناة. فاستتبعني إليه عبدالله بن عمر يعوده. فانطلقت معه. فلما جلسنا سألت ابن مسعود عن هذا الحديث فحدثنيه كما حدثته ابن عمر. قال صالح: وقد تحدث بنحو ذلك عن أبي رافع.
(50) وحدثنيه أبو بكر بن إسحاق بن محمد. أخبرنا ابن أبي مريم. حدثنا عبدالعزيز بن محمد. قال: أخبرني الحارث بن الفضيل الخطمي. عن جعفر بن عبدالله بن الحكم، عن عبدالرحمن بن المسور بن مخرمة، عن أبي رافع مولى النبي صلى الله عليه وسلم، عن عبدالله بن مسعود؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"ما كان من نبي إلا وقد كان له حواريون يهتدون بهدية ويستنون بسنته" مثل حديث صالح. ولم يذكر قدوم ابن مسعود واجتماع ابن عمر معه.
************************************************** *********
* وهنا شرح الأحاديث السالفة الذكر للحافظ النووي رحمه الله تعالى (كتاب المنهاج)..أسأل الله ان ينفع به..
*2* باب بيان كون النهي عن المنكر من الإِيمان، وأن الإِيمان يزيد وينقص، وأن الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر واجبان
*حدّثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ. حَدّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ سُفْيَانَ. ح وَحَدّثَنَا مُحَمّدُ بْنُ الْمُثَنّى: حَدّثَنَا مُحمّدُ بْنُ جَعْفَرٍ: حَدّثَنَا شُعْبَةُ كِلاَهُمَا عَنْ قَيْس بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ. وَهَذَا حَدِيثُ أَبِي بَكْرٍ قَالَ: أَوّلُ مَنْ بَدَأَ بِالْخُطْبَةِ، يَوْمَ الْعِيدِ قَبْلَ الصّلاَةِ: مَرْوانُ. فَقَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ. فَقَالَ: الصّلاَةُ قَبْلَ الْخُطْبَةِ؟. فَقَالَ: قَدْ تُرِكَ مَا هُنَالِكَ. فَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ: أَمّا هَذَا فَقَدْ قضى مَا عَلَيْهِ. سَمِعْتُ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرا فَلْيُغَيّرْهُ بِيَدِهِ. فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ. فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ. وَذَلِكَ أَضْعَفُ الإِيمَانِ".
حدّثنا أَبُو كُرْيْبٍ مُحمّدُ بْنُ الْعَلاَءِ. حَدّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ. حَدّثَنَا الأَعْمَشُ عَنِ إِسْمَاعِيلَ ابْنِ رَجَاءٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدَرِيّ. وَعَنْ قَيْسٍ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ فِي قِصّةِ مَرْوَانَ، وَحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ عَنِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم، بِمِثْلِ حَدِيثِ شُعْبَةَ وَسُفْيَانَ.
حدّثني عَمْرُو النّاقِدُ، وَ أَبُو بَكْرٍ بْنُ النّضرِ، وَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَاللّفْظُ لِعَبْدٍ. قَالُوا: حَدّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ. قَالَ: حَدّثَنِي أَبِي، عَنْ صَالِحٍ بْنِ كَيْسَانَ، عَنِ الْحَارِثِ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ الْحَكَمِ، عَنْ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ الْمِسْوَرِ، عَنْ أَبِي رَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ الله بْنِ مَسْعُودٍ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَا مِنْ نَبِيَ بَعَثَهُ الله فِي أُمّةٍ قَبْلِي، إِلاّ كَانَ لَهُ مِنْ أُمّتِهِ حَوَارِيّونَ وَأَصْحَابٌ يَأْخُذُونَ بِسُنّتِهِ وَيَقْتَدُونَ بِأَمْرِهِ. ثُمّ إِنّهَا تَخْلُفُ مِنْ بَعْدِهِمِ خُلُوفٌ، يَقُولُونَ مَا لاَ يَفْعَلُونَ، وَيَفْعَلُونَ مَا لاَ يُؤْمَرُونَ. فَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِيَدِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِلِسَانِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِقَلْبِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ. وَلَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ مِنَ الإِيمَانِ حَبّةُ خَرْدَلٍ".
قَالَ أَبُو رَافِعٍ: فَحَدّثْتُ عَبْدِ اللّهِ بْنَ عُمَرَ فَأَنْكَرَهُ عَلَيّ. فَقَدِمَ ابْنُ مَسْعُودٍ فَنَزَلَ بِقَنَاةَ. فَاسْتَتْبَعَنِي إِلَيْهِ عَبْدُ اللّهِ بْنُ عُمَرَ يَعُودُهُ. فَانْطَلَقْتُ مَعَهُ. فَلَمّا جَلَسْنَا سَأَلْتُ ابْنَ مَسْعُودٍ عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ فَحَدّثَنِيهِ كَمَا حَدّثْتُهُ ابْنَ عُمَرَ.
وحدّثنيهِ أَبُو بَكْرِ بْنُ إِسْحَقَ بْنِ مُحَمّدُ: أَخْبَرَنَا ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ: حَدّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمّدُ قَالَ: أَخْبَرَنِي الْحَارِثُ بْنِ الْفُضَيْلِ الْخَطْمِيّ. عَنْ جَعْفَرِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ الْحَكَمِ، عَنْ عَبْدِ الرحمَنِ بْنِ المِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ، عَنْ أَبِي رَافِعٍ، مولى النبيّ صلى الله عليه وسلم، عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، أَنّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ "مَا كَانَ مِنْ نَبِيَ إِلاّ وَقَدْ كَانَ لَهُ حَوَارِيّونَ يَهْتَدُونَ بِهَدْيِهِ وَيَسْتَنّونَ بِسُنّتِهِ" مِثْلَ حَدِيثِ صَالِحٍ. وَلَمْ يَذْكُرْ قدُومَ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَاجْتِمَاعَ ابْنِ عُمَرَ مَعَهُ.
قوله: (أول من بدأ بالخطبة يوم العيد قبل الصلاة مروان) قال القاضي عياض رحمه الله: اختلف في هذا فوقع هنا ما تراه، وقيل: أول من بدأ بالخطبة قبل الصلاة عثمان رضي الله عنه. وقيل: عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما رأى الناس يذهبون عند تمام الصلاة ولا ينتظرون الخطبة. وقيل: بل ليدرك الصلاة من تأخر وبعد منزله. وقيل: أول من فعله معاوية. وقيل: فعله ابن الزبير رضي الله عنه. والذي ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم تقديم الصلاة، وعليه جماعة فقهاء الأنصار، وقد عده بعضهم إجماعا، يعني والله أعلم بعد الخلاف، أو لم يلتفت إلى خلاف بني أمية بعد إجماع الخلفاء والصدر الأول. وفي قوله: بعد هذا، أما هذا، فقد قضى ما عليه بمحضر من ذلك الجمع العظيم دليل على استقرار السنة عندهم، على خلاف ما فعله مروان وبينه أيضا احتجاجه بقوله: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من رأى منكرا فليغيره" ولا يسمى منكرا لو اعتقده، ومن حضر أو سبق به عمل أو مضت به سنة. وفي هذا دليل على أنه لم يعمل به خليفة قبل مروان، وأن ما حكي عن عمر وعثمان ومعاوية لا يصح، والله أعلم. قوله: (فقام إليه رجل فقال: الصلاة قبل الخطبة، فقال: قد ترك ما هنالك، فقال أبو سعيد: أما هذا فقد قضى ما عليه، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من رأى منكم منكرا فليغيره بيده" الحديث) قد يقال: كيف تأخر أبو سعيد رضي الله عنه عن إنكار هذا المنكر حتى سبقه إليه هذا الرجل؟ وجوابه أنه يحتمل أن أبا سعيد لم يكن حاضرا أول ما شرع مروان في أسباب تقديم الخطبة فأنكر عليه الرجل ثم دخل أبو سعيد وهما في الكلام. ويحتمل أن أبا سعيد كان حاضرا من الأول، ولكنه خاف على نفسه أو غيره حصول فتنة بسبب إنكاره فسقط عنه الإنكار، ولم يخف ذلك الرجل شيئا لاعتضاده بظهور عشيرته أو غير ذلك، أو أنه خاف وخاطر بنفسه، وذلك جائز في مثل هذا بل مستحب، ويحتمل أن أبا سعيد هم بالإنكار فبدره الرجل فعضده أبو سعيد والله أعلم. ثم إنه جاء في الحديث الاَخر الذي اتفق البخاري ومسلم رضي الله عنهما على إخراجه في باب صلاة العيد: أن أبا سعيد هو الذي جذب بيد مروان حين رآه يصعد المنبر وكانا جاءا معا، فرد عليه مروان بمثل ما رد هنا على الرجل، فيحتمل أنهما قضيتان: إحداهما لأبي سعيد، والأخرى للرجل بحضرة أبي سعيد، والله أعلم. وأما قوله: فقد قضى ما عليه ففيه تصريح بالإنكار أيضا من أبي سعيد. وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "فليغيره" فهو أمر إيحاب بإجماع الأمة، وقد تطابق على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الكتاب والسنة وإجماع الأمة، وهو أيضا من النصيحة التي هي الدين، ولم يخالف في ذلك إلا بعض الرافضة ولا يعتد بخلافهم، كما قال الإمام أبو المعالي إمام الحرمين: لا يكترث بخلافهم في هذا، فقد أجمع المسلمون عليه قبل أن ينبغ هؤلاء، ووجوبه بالشرع لا بالعقل خلافا للمعتزلة. وأما قول الله عز وجل: {عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم} فليس مخالفا لما ذكرناه، لأن المذهب الصحيح عند المحققين في معنى الاَية: أنكم إذا فعلتم ما كلفتم به فلا يضركم تقصير غيركم، مثل قوله تعالى: {ولا تزر وازرة وزر أخرى} وإذا كان كذلك فمما كلف به الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإذا فعله ولم يمتثل المخاطب فلا عتب بعد ذلك على الفاعل لكونه أدى ما عليه، فإنما عليه الأمر والنهي لا القبول، والله أعلم. ثم إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض كفاية، إذا قام به بعض الناس سقط الحرج عن الباقين، وإذا تركه الجميع أثم كل من تمكن منه بلا عذر ولا خوف، ثم إنه قد يتعين كما إذا كان في موضع لا يعلم به إلا هو، أو لا يتمكن من إزالته إلا هو، وكمن يرى زوجته أو ولده أو غلامه على منكر أو تقصير في المعروف. قال العلماء رضي الله عنهم: ولا يسقط عن المكلف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لكونه لا يفيد في ظنه، بل يجب عليه فعله، فإن الذكرى تنفع المؤمنين. وقد قدمنا أن الذي عليه الأمر والنهي لا القبول، وكما قال الله عز وجل: {ما على الرسول إلا البلاغ} ومثل العلماء هذا بمن يرى إنسانا في الحمام أو غيره مكشوف بعض العورة ونحو ذلك، والله أعلم. قال العلماء: ولا يشترط في الاَمر والناهي أن يكون كامل الحال، ممتثلاً ما يأمر به، مجتنبا ما ينهى عنه، بل عليه الأمر وإن كان مخلاً بما يأمر به، والنهي وإن كان متلبسا بما ينهى عنه، فإنه يجب عليه شيئان: أن يأمر نفسه وينهاها، ويأمر غيره وينهاه. فإذا أخل بأحدهما كيف يباح له الإخلال بالاَخر؟ قال العلماء: ولا يختص الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بأصحاب الولايات، بل ذلك جائز لاَحاد المسلمين. قال إمام الحرمين: والدليل عليه إجماع المسلمين، فإن غير الولاة في الصدر الأول والعصر الذي يليه كانوا يأمرون الولاة بالمعروف وينهونهم عن المنكر، مع تقرير المسلمين إياهم وترك توبيخهم على التشاغل بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من غير ولاية، والله أعلم.
ثم أنه إنما يأمر وينهى من كان عالما بما يأمر به وينهى عنه، وذلك يختلف باختلاف الشيء، فإن كان من الواجبات الظاهرة والمحرمات المشهورة كالصلاة والصيام والزنا والخمر ونحوها فكل المسلمين علماء بها، وإن كان من دقائق الأفعال والأقوال ومما يتعلق بالاجتهاد لم يكن للعوام مدخل فيه ولا لهم إنكاره بل ذلك للعلماء، ثم العلماء إنما ينكرون ما أجمع عليه، أما المختلف فيه فلا إنكار فيه، لأن على أحد المذهبين كل مجتهد مصيب، وهذا هو المختار عند كثيرين من المحققين أو أكثرهم، وعلى المذهب الاَخر المصيب واحد، والمخطئ غير متعين لنا، والإثم مرفوع عنه، لكن إن ندبه على جهة النصيحة إلى الخروج من الخلاف فهو حسن محبوب مندوب إلى فعله برفق، فإن العلماء متفقون على الحث على الخروج من الخلاف إذا لم يلزم منه إخلال بسنة أو وقوع في خلاف آخر. وذكر أقضى القضاة أبو الحسن الماوردي البصري الشافعي في كتابه الأحكام السلطانية خلافا بين العلماء في أن من قلده السلطان الحسبة هل له أن يحمل الناس على مذهبه فيما اختلف فيه الفقهاء إذا كان المحتسب من أهل الاجتهاد أم لا يغير ما كان على مذهب غيره؟ والأصح أنه لا يغير لما ذكرناه، ولم يزل الخلاف في الفروع بين الصحابة والتابعين فمن بعدهم رضي الله عنهم أجمعين، ولا ينكر محتسب ولا غيره على غيره، وكذلك قالوا: ليس للمفتي ولا للقاضي أن يعترض على من خالفه إذا لم يخالف نصا أو إجماعا أو قياسا جليا، والله أعلم. واعلم أن هذا الباب أعني باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قد ضيع أكثره من أزمان متطاولة، ولم يبق منه في هذه الأزمان إلا رسوم قليلة جدا، وهو باب عظيم به قوام الأمر وملاكه، وإذا كثر الخبث عم العقاب الصالح والطالح، وإذا لم يأخذوا على يد الظالم أو شك أو يعمهم الله تعالى بعقابه فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم، فينبغي لطالب الاَخرة والساعي في تحصيل رضا الله عز وجل أن يعتني بهذا الباب فإن نفعه عظيم، لاسيما وقد ذهب معظمه ويخلص نيته، ولا يهابن من ينكر عليه لارتفاع مرتبته، فإن الله تعالى قال: {ولينصرن الله من ينصره} وقال تعالى: {ومن يعتصم بالله فقد هدى إلى صراط مستقيم} وقال تعالى: {والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا} وقال تعالى: {أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون} {ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمون الكاذبين} واعلم أن الأجر على قدر النصب، ولا يتاركه أيضا لصداقته ومودته ومداهنته وطلب الوجاهة عنده ودوام المنزلة لديه، فإن صداقته ومودته توجب له حرمة وحقا، ومن حقه أن ينصحه ويهديه إلى مصالح آخرته وينقذه من مضارها، وصديق الإنسان ومحبه هو من سعى في عمارة آخرته، وإن أدى ذلك إلى نقص في دنياه، وعدوه من يسعى في ذهاب أو نقص آخرته، وإن حصل بسبب ذلك صورة نفع في دنياه، وإنما كان إبليس عدوا لنا لهذا، وكانت الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين أولياء للمؤمنين لسعيهم في مصالح آخرتهم وهدايتهم إليها، ونسأل الله الكريم توفيقنا وأحبابنا وسائر المسلمين لمرضاته، وأن يعمنا بجوده ورحمته، والله أعلم. وينبغي للاَمر بالمعروف والناهي عن المنكر أن يرفق ليكون أقرب إلى تحصيل المطلوب، فقد قال الإمام الشافعي رضي الله عنه: من وعظ أخاه سرا فقد نصحه وزانه، ومن وعظه علانية فقد فضحه وشانه. ومما يتساهل أكثر الناس فيه من هذا الباب ما إذا رأى إنسانا يبيع متاعا معيبا أو نحوه، فإنهم لا ينكرون ذلك، ولا يعرفون المشتري بعيبه، وهذا خطأ ظاهر، وقد نص العلماء على أنه يجب على من علم ذلك أن ينكر على البائع وأن يعلم المشتري به، والله أعلم. وأما صفة النهي ومراتبه فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الصحيح: "فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه" فقوله صلى الله عليه وسلم: "فبقلبه" معناه فليكرهه بقلبه، وليس ذلك بإزالة وتغيير منه للمنكر، ولكنه هو الذي في وسعه. وقوله صلى الله عليه وسلم: (وذلك أضعف الإيمان) معناه والله أعلم أقله ثمرة.
قال القاضي عياض رحمه الله: هذا الحديث أصل في صفة التغيير، فحق المغير أن يغيره بكل وجه أمكنه زواله به قولاً كان أو فعلاً، فيكسر آلات الباطل ويريق المسكر بنفسه، أو يأمر من يفعله وينزع الغصوب ويردها إلى أصحابها بنفسه أو بأمره إذا أمكنه، ويرفق في التغيير جهده بالجاهل، وبذي العزة الظالم المخوف شره، إذ ذلك أدعى إلى قبول قوله، كما يستحب أن يكون متولي ذلك من أهل الصلاح والفضل لهذا المعنى، ويغلظ على المتمادي في غيه والمسرف في بطالته إذا أمن أن يؤثر إغلاظه منكرا أشد ما غيره، لكون جانبه محميا عن سطوة الظالم، فإن غلب على ظنه أن تغييره بيده يسبب منكرا أشد منه من قتله أو قتل غيره بسبب كف يده واقتصر على القول باللسان والوعظ والتخويف، فإن خاف أن يسبب قوله مثل ذلك غير بقلبه وكان في سعة، وهذا هو المراد بالحديث إن شاء الله تعالى، وإن وجد من يستعين به على ذلك استعان ما لم يؤد ذلك إلى إظهار سلاح وحرب، وليرفع ذلك إلى من له الأمر إن كان المنكر من غيره، أو يقتصر على تغييره بقلبه، هذا هو فقه المسألة وصواب العمل فيها عند العلماء والمحققين، خلافا لمن رأى الإنكار بالتصريح بكل حال وإن قتل ونيل منه كل أذى، هذا آخر كلام القاضي رحمه الله. قال إمام الحرمين رحمه الله: ويسوغ لاَحاد الرعية أن يصد مرتكب الكبيرة إن لم يندفع عنها بقوله ما لم ينته الأمر إلى نصب قتال وشهر سلاح، فإن انتهى الأمر إلى ذلك ربط الأمر بالسلطان. قال: وإذا جار وإلى الوقت وظهر ظلمه وغشمه ولم ينزجر حين زجر عن سوء صنيعه بالقول فلأهل الحل والعقد التواطؤ على خلعه ولو بشهر الأسلحة ونصب الحروب. هذا كلام إمام الحرمين، وهذا الذي ذكره من خلعه غريب، ومع هذا فهو محمول على ما إذا لم يخف منه إثارة مفسدة أعظم منه. قال: وليس للاَمر بالمعروف البحث والتنقير والتجسس واقتحام الدور بالظنون، بل إن عثر على منكر غيره جهده، هذا كلام إمام الحرمين. وقال أقضى القضاة الماوردي: ليس للمحتسب أن يبحث عما لم يظهر من المحرمات، فإن غلب على الظن استسرار قوم بها لأمارة وآثار ظهرت فذلك ضربان: أحدهما: أن يكون ذلك في انتهاك حرمة يفوت استدراكها مثل أن يخبره من يثق بصدقه أن رجلاً خلا برجل ليقتله، أو بامرأة ليزني بها، فيجوز له في مثل هذا الحال أن يتجسس ويقدم على الكشف والبحث حذرا من فوات ما لا يستدرك، وكذا لو عرف ذلك غير المحتسب من المتطوعة جاز لهم الإقدام على الكشف والإنكار. الضرب الثاني: ما قصر عن هذه الرتبة فلا يجوز التجسس عليه ولا كشف الأستار عنه، فإن سمع أصوات الملاهي المنكرة من دار أنكرها خارج الدار لم يهجم عليها بالدخول لأن المنكر ظاهر، وليس عليه أن يكشف عن الباطن. وقد ذكر الماوردي في آخر الأحكام السلطانية بابا حسنا في الحسبة مشتملاً على جمل من قواعد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد أشرنا هنا إلى مقاصدها، وبسطت الكلام في هذا الباب لعظم فائدته وكثرة الحاجة إليه وكونه من أعظم قواعد الإسلام، والله أعلم.
قوله: (وحدثنا أبو كريب، حدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش عن إسماعيل بن رجاء عن أبيه عن أبي سعيد وعن قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب عن أبي سعيد) فقوله: وعن قيس معطوف على إسماعيل معناه: رواه الأعمش عن إسماعيل عن قيس، والله أعلم.
قوله: (عن صالح بن كيسان عن الحارث عن جعفر بن عبد الله بن الحكم عن عبد الرحمن بن المسور عن أبي رافع عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل. قال أبو رافع: فحدثت عبد الله بن عمر رضي الله عنهما فأنكره علي، فقدم ابن مسعود رضي الله عنه فنزل بقناة فاستتبعني إليه عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يعوده فانطلقت معه فلما جلسنا سألت ابن مسعود عن هذا الحديث فحدثنيه كما حدثته ابن عمر، قال صالح: وقد تحدث بنحو ذلك عن أبي رافع) أما الحارث فهو ابن فضيل الأنصاري الخطمي أبو عبد الله المدني، روى عن عبد الرحمن بن أبي قراد الصحابي، قال يحيى بن معين: هو ثقة. وأما أبو رافع فهو مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، والأصح أن اسمه أسلم، وقيل: إبراهيم، وقيل: هرمز، وقيل: ثابت، وقيل: يزيد وهو غريب، حكاه ابن الجوزي في كتابه جامع المسانيد، وفي هذا الإسناد طريفة وهو أنه اجتمع فيه أربعة تابعيون يروى بعضهم عن بعض: صالح والحارث وجعفر وعبد الرحمن، وقد تقدم نظير هذا. وقد جمعت فيه بحمد الله تعالى جزءا مشتملاً على أحاديث رباعيات منها أربعة صحابيون بعضهم عن بعض، وأربعة تابعيون بعضهم عن بعض. وأما قوله: قال صالح وقد تحدث بنحو ذلك عن أبي رافع فهو بضم التاء والحاء، قال القاضي عياض رحمه الله: معنى هذا أن صالح بن كيسان قال: إن هذا الحديث روي عن أبي رافع عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير ذكر ابن مسعود فيه. وقد ذكره البخاري كذلك في تاريخه مختصرا عن أبي رافع عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقد قال أبو علي الجياني عن أحمد بن حنبل رحمه الله قال: هذا الحديث غير محفوظ، قال: وهذا الكلام لا يشبه كلام ابن مسعود، وابن مسعود يقول: اصبروا حتى تلقوني، هذا كلام القاضي رحمه الله. وقال الشيخ أبو عمرو: هذا الحديث قد أنكره أحمد بن حنبل رحمه الله. وقد روى عن الحارث هذا جماعة من الثقات ولم نجد له ذكرا في كتب الضعفاء. وفي كتاب ابن أبي حاتم عن يحيى بن معين أنه ثقة، ثم أن الحارث لم ينفرد به بل توبع عليه على ما أشعر به كلام صالح بن كيسان المذكور. وذكر الإمام الدارقطني رحمه الله في كتاب العلل أن هذا الحديث قد روي من وجوه أخر، منها عن أبي واقد الليثي عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم. وأما قوله: اصبروا حتى تلقوني فذلك حيث يلزم من ذلك سفك الدماء أو إثارة الفتن أو نحو ذلك. وما ورد في هذا الحديث من الحث على جهاد المبطلين باليد واللسان فذلك حيث لا يلزم منه إثارة فتنة، على أن هذا الحديث مسوق فيمن سبق من الأمم وليس في لفظه ذكر لهذه الأمة، هذا آخر كلام الشيخ أبي عمرو وهو ظاهر كما قال، وقدح الإمام أحمد رحمه الله في هذا بهذا عجب، والله أعلم. وأما الحواريون المذكورون فاختلف فيهم، فقال الأزهري وغيره: هم خلصان الأنبياء وأصفياؤهم، والخلصان الذين نقوا من كل عيب، وقال غيرهم: أنصارهم، وقيل: المجاهدون، وقيل: الذين يصلحون للخلافة بعدهم. قوله صلى الله عليه وسلم: "ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف" الضمير في إنها هو الذي يسميه النحويون ضمير القصة والشأن، ومعنى تخلف تحدث وهو بضم اللام. وأما الخلوف فبضم الخاء وهو جمع خلف بإسكان اللام وهو الخالف بشر. وأما بفتح اللام فهو الخالف بخير، هذا هو الأشهر. وقال جماعة وجماعات من أهل اللغة منهم أبو زيد: يقال كل واحد منهما بالفتح والإسكان، ومنهم من جوز الفتح في الشر، ولم يجوز الإسكان في الخير، والله أعلم. قوله: فنزل بقناة هكذا هو في بعض الأصول المحققة بقناة بالقاف المفتوحة وآخره تاء التأنيث وهو غير مصروف للعلمية والتأنيث، وهكذا ذكره أبو عبد الله الحميدي في الجمع بين الصحيحين ووقع في أكثر الأصول، ولمعظم رواة كتاب مسلم بفنائه بالفاء المكسورة وبالمد وآخره هاء الضمير قبلها همزة، والفناء ما بين أيدي المنازل والدور، وكذا رواه أبو عوانة الأسفرايني. قال القاضي عياض رحمه الله في رواية السمرقندي بقناة وهو الصواب، وقناة واد من أودية المدينة عليه مال من أموالها، قال: ورواية الجمهور بفنائه وهو خطأ وتصحيف.
قوله صلى الله عليه وسلم: (يهتدون بهديه) هو بفتح الهاء وإسكان الدال أي بطريقته وسمته. قول مسلم رحمه الله: (ولم يذكر قدوم ابن مسعود واجتماع ابن عمر معه) هذا مما أنكره الحريري في كتابه درة الغواص فقال: لا يقال اجتمع فلان مع فلان، وإنما يقال اجتمع فلان وفلان، وقد خالفه الجوهري فقال في صحاحه: جامعه على كذا أي اجتمع معه.
* الحديث الذي ذكره الإمام إبن كثير رحمه الله تعالى ...من صحيح مسلم بجميع الرويات التي أوردها....
(20) باب بيان كون النهي عن المنكر من الإيمان. وأن الإيمان يزيد وينقص. وأن الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر واجبان
78 - (49) حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة. حدثنا وكيع بن سفيان. ح وحدثنا محمد بن المثنى. حدثنا محمد بن جعفر. حدثنا شعبة كلاهما عن لقيس بن مسلم، عن طارق بن شهاب. وهذا حديث أبي بكر. قال:
أول من بدأ بالخطبة، يوم العيد قبل الصلاة، مروان. فقام إليه رجل. فقال: الصلاة قبل الخطبة. فقال: قد ترك ما هنالك. فقال أبو سعيد: أما هذا فقد قضى ما عليه. سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "من رأى منكم منكرا فليغيره بيده. فإن لم يستطع فبلسانه. ومن لم يستطع فبقلبه. وذلك أضعف الإيمان".
79 - (49) حدثنا أبو كريب محمد بن العلاء. حدثنا أبو معاوية. حدثنا الأعمش عن إسماعيل بن رجاء، عن أبيه، عن أبي سعيد الخدري. وعن قيس بن مسلم، عن طارق بن شهاب، عن أبي سعيد الخدري. في قصة مروان، وحديث أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم، بمثل حديث شعبة وسفيان.
80 - (50) حدثني عمرو الناقد، وأبو بكر بن النضر، وعبد بن حميد،واللفظ لعبد. قالوا: حدثنا يعقوب بن إبراهيم بن سعد. قال: حدثني أبي عن صالح بن كيسان، عن الحارث، عن جعفر بن عبدالله بن الحكم، عن عبدالرحمن بن المسور، عن أبي رافع، عن عبدالله بن مسعود؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي، إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب. يأخذون بسنته ويقتدون بأمره. ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف. يقولون ما لا يفعلون. ويفعلون ما لا يؤمرون. فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن. وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل". قال أبو رافع: فحدثت عبد الله بن عمر فأنكره علي. فقدم ابن مسعود فنزل بقناة. فاستتبعني إليه عبدالله بن عمر يعوده. فانطلقت معه. فلما جلسنا سألت ابن مسعود عن هذا الحديث فحدثنيه كما حدثته ابن عمر. قال صالح: وقد تحدث بنحو ذلك عن أبي رافع.
(50) وحدثنيه أبو بكر بن إسحاق بن محمد. أخبرنا ابن أبي مريم. حدثنا عبدالعزيز بن محمد. قال: أخبرني الحارث بن الفضيل الخطمي. عن جعفر بن عبدالله بن الحكم، عن عبدالرحمن بن المسور بن مخرمة، عن أبي رافع مولى النبي صلى الله عليه وسلم، عن عبدالله بن مسعود؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"ما كان من نبي إلا وقد كان له حواريون يهتدون بهدية ويستنون بسنته" مثل حديث صالح. ولم يذكر قدوم ابن مسعود واجتماع ابن عمر معه.
************************************************** *********
* وهنا شرح الأحاديث السالفة الذكر للحافظ النووي رحمه الله تعالى (كتاب المنهاج)..أسأل الله ان ينفع به..
*2* باب بيان كون النهي عن المنكر من الإِيمان، وأن الإِيمان يزيد وينقص، وأن الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر واجبان
*حدّثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ. حَدّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ سُفْيَانَ. ح وَحَدّثَنَا مُحَمّدُ بْنُ الْمُثَنّى: حَدّثَنَا مُحمّدُ بْنُ جَعْفَرٍ: حَدّثَنَا شُعْبَةُ كِلاَهُمَا عَنْ قَيْس بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ. وَهَذَا حَدِيثُ أَبِي بَكْرٍ قَالَ: أَوّلُ مَنْ بَدَأَ بِالْخُطْبَةِ، يَوْمَ الْعِيدِ قَبْلَ الصّلاَةِ: مَرْوانُ. فَقَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ. فَقَالَ: الصّلاَةُ قَبْلَ الْخُطْبَةِ؟. فَقَالَ: قَدْ تُرِكَ مَا هُنَالِكَ. فَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ: أَمّا هَذَا فَقَدْ قضى مَا عَلَيْهِ. سَمِعْتُ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرا فَلْيُغَيّرْهُ بِيَدِهِ. فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ. فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ. وَذَلِكَ أَضْعَفُ الإِيمَانِ".
حدّثنا أَبُو كُرْيْبٍ مُحمّدُ بْنُ الْعَلاَءِ. حَدّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ. حَدّثَنَا الأَعْمَشُ عَنِ إِسْمَاعِيلَ ابْنِ رَجَاءٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدَرِيّ. وَعَنْ قَيْسٍ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ فِي قِصّةِ مَرْوَانَ، وَحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ عَنِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم، بِمِثْلِ حَدِيثِ شُعْبَةَ وَسُفْيَانَ.
حدّثني عَمْرُو النّاقِدُ، وَ أَبُو بَكْرٍ بْنُ النّضرِ، وَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَاللّفْظُ لِعَبْدٍ. قَالُوا: حَدّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ. قَالَ: حَدّثَنِي أَبِي، عَنْ صَالِحٍ بْنِ كَيْسَانَ، عَنِ الْحَارِثِ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ الْحَكَمِ، عَنْ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ الْمِسْوَرِ، عَنْ أَبِي رَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ الله بْنِ مَسْعُودٍ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَا مِنْ نَبِيَ بَعَثَهُ الله فِي أُمّةٍ قَبْلِي، إِلاّ كَانَ لَهُ مِنْ أُمّتِهِ حَوَارِيّونَ وَأَصْحَابٌ يَأْخُذُونَ بِسُنّتِهِ وَيَقْتَدُونَ بِأَمْرِهِ. ثُمّ إِنّهَا تَخْلُفُ مِنْ بَعْدِهِمِ خُلُوفٌ، يَقُولُونَ مَا لاَ يَفْعَلُونَ، وَيَفْعَلُونَ مَا لاَ يُؤْمَرُونَ. فَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِيَدِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِلِسَانِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِقَلْبِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ. وَلَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ مِنَ الإِيمَانِ حَبّةُ خَرْدَلٍ".
قَالَ أَبُو رَافِعٍ: فَحَدّثْتُ عَبْدِ اللّهِ بْنَ عُمَرَ فَأَنْكَرَهُ عَلَيّ. فَقَدِمَ ابْنُ مَسْعُودٍ فَنَزَلَ بِقَنَاةَ. فَاسْتَتْبَعَنِي إِلَيْهِ عَبْدُ اللّهِ بْنُ عُمَرَ يَعُودُهُ. فَانْطَلَقْتُ مَعَهُ. فَلَمّا جَلَسْنَا سَأَلْتُ ابْنَ مَسْعُودٍ عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ فَحَدّثَنِيهِ كَمَا حَدّثْتُهُ ابْنَ عُمَرَ.
وحدّثنيهِ أَبُو بَكْرِ بْنُ إِسْحَقَ بْنِ مُحَمّدُ: أَخْبَرَنَا ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ: حَدّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمّدُ قَالَ: أَخْبَرَنِي الْحَارِثُ بْنِ الْفُضَيْلِ الْخَطْمِيّ. عَنْ جَعْفَرِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ الْحَكَمِ، عَنْ عَبْدِ الرحمَنِ بْنِ المِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ، عَنْ أَبِي رَافِعٍ، مولى النبيّ صلى الله عليه وسلم، عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، أَنّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ "مَا كَانَ مِنْ نَبِيَ إِلاّ وَقَدْ كَانَ لَهُ حَوَارِيّونَ يَهْتَدُونَ بِهَدْيِهِ وَيَسْتَنّونَ بِسُنّتِهِ" مِثْلَ حَدِيثِ صَالِحٍ. وَلَمْ يَذْكُرْ قدُومَ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَاجْتِمَاعَ ابْنِ عُمَرَ مَعَهُ.
قوله: (أول من بدأ بالخطبة يوم العيد قبل الصلاة مروان) قال القاضي عياض رحمه الله: اختلف في هذا فوقع هنا ما تراه، وقيل: أول من بدأ بالخطبة قبل الصلاة عثمان رضي الله عنه. وقيل: عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما رأى الناس يذهبون عند تمام الصلاة ولا ينتظرون الخطبة. وقيل: بل ليدرك الصلاة من تأخر وبعد منزله. وقيل: أول من فعله معاوية. وقيل: فعله ابن الزبير رضي الله عنه. والذي ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم تقديم الصلاة، وعليه جماعة فقهاء الأنصار، وقد عده بعضهم إجماعا، يعني والله أعلم بعد الخلاف، أو لم يلتفت إلى خلاف بني أمية بعد إجماع الخلفاء والصدر الأول. وفي قوله: بعد هذا، أما هذا، فقد قضى ما عليه بمحضر من ذلك الجمع العظيم دليل على استقرار السنة عندهم، على خلاف ما فعله مروان وبينه أيضا احتجاجه بقوله: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من رأى منكرا فليغيره" ولا يسمى منكرا لو اعتقده، ومن حضر أو سبق به عمل أو مضت به سنة. وفي هذا دليل على أنه لم يعمل به خليفة قبل مروان، وأن ما حكي عن عمر وعثمان ومعاوية لا يصح، والله أعلم. قوله: (فقام إليه رجل فقال: الصلاة قبل الخطبة، فقال: قد ترك ما هنالك، فقال أبو سعيد: أما هذا فقد قضى ما عليه، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من رأى منكم منكرا فليغيره بيده" الحديث) قد يقال: كيف تأخر أبو سعيد رضي الله عنه عن إنكار هذا المنكر حتى سبقه إليه هذا الرجل؟ وجوابه أنه يحتمل أن أبا سعيد لم يكن حاضرا أول ما شرع مروان في أسباب تقديم الخطبة فأنكر عليه الرجل ثم دخل أبو سعيد وهما في الكلام. ويحتمل أن أبا سعيد كان حاضرا من الأول، ولكنه خاف على نفسه أو غيره حصول فتنة بسبب إنكاره فسقط عنه الإنكار، ولم يخف ذلك الرجل شيئا لاعتضاده بظهور عشيرته أو غير ذلك، أو أنه خاف وخاطر بنفسه، وذلك جائز في مثل هذا بل مستحب، ويحتمل أن أبا سعيد هم بالإنكار فبدره الرجل فعضده أبو سعيد والله أعلم. ثم إنه جاء في الحديث الاَخر الذي اتفق البخاري ومسلم رضي الله عنهما على إخراجه في باب صلاة العيد: أن أبا سعيد هو الذي جذب بيد مروان حين رآه يصعد المنبر وكانا جاءا معا، فرد عليه مروان بمثل ما رد هنا على الرجل، فيحتمل أنهما قضيتان: إحداهما لأبي سعيد، والأخرى للرجل بحضرة أبي سعيد، والله أعلم. وأما قوله: فقد قضى ما عليه ففيه تصريح بالإنكار أيضا من أبي سعيد. وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "فليغيره" فهو أمر إيحاب بإجماع الأمة، وقد تطابق على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الكتاب والسنة وإجماع الأمة، وهو أيضا من النصيحة التي هي الدين، ولم يخالف في ذلك إلا بعض الرافضة ولا يعتد بخلافهم، كما قال الإمام أبو المعالي إمام الحرمين: لا يكترث بخلافهم في هذا، فقد أجمع المسلمون عليه قبل أن ينبغ هؤلاء، ووجوبه بالشرع لا بالعقل خلافا للمعتزلة. وأما قول الله عز وجل: {عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم} فليس مخالفا لما ذكرناه، لأن المذهب الصحيح عند المحققين في معنى الاَية: أنكم إذا فعلتم ما كلفتم به فلا يضركم تقصير غيركم، مثل قوله تعالى: {ولا تزر وازرة وزر أخرى} وإذا كان كذلك فمما كلف به الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإذا فعله ولم يمتثل المخاطب فلا عتب بعد ذلك على الفاعل لكونه أدى ما عليه، فإنما عليه الأمر والنهي لا القبول، والله أعلم. ثم إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض كفاية، إذا قام به بعض الناس سقط الحرج عن الباقين، وإذا تركه الجميع أثم كل من تمكن منه بلا عذر ولا خوف، ثم إنه قد يتعين كما إذا كان في موضع لا يعلم به إلا هو، أو لا يتمكن من إزالته إلا هو، وكمن يرى زوجته أو ولده أو غلامه على منكر أو تقصير في المعروف. قال العلماء رضي الله عنهم: ولا يسقط عن المكلف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لكونه لا يفيد في ظنه، بل يجب عليه فعله، فإن الذكرى تنفع المؤمنين. وقد قدمنا أن الذي عليه الأمر والنهي لا القبول، وكما قال الله عز وجل: {ما على الرسول إلا البلاغ} ومثل العلماء هذا بمن يرى إنسانا في الحمام أو غيره مكشوف بعض العورة ونحو ذلك، والله أعلم. قال العلماء: ولا يشترط في الاَمر والناهي أن يكون كامل الحال، ممتثلاً ما يأمر به، مجتنبا ما ينهى عنه، بل عليه الأمر وإن كان مخلاً بما يأمر به، والنهي وإن كان متلبسا بما ينهى عنه، فإنه يجب عليه شيئان: أن يأمر نفسه وينهاها، ويأمر غيره وينهاه. فإذا أخل بأحدهما كيف يباح له الإخلال بالاَخر؟ قال العلماء: ولا يختص الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بأصحاب الولايات، بل ذلك جائز لاَحاد المسلمين. قال إمام الحرمين: والدليل عليه إجماع المسلمين، فإن غير الولاة في الصدر الأول والعصر الذي يليه كانوا يأمرون الولاة بالمعروف وينهونهم عن المنكر، مع تقرير المسلمين إياهم وترك توبيخهم على التشاغل بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من غير ولاية، والله أعلم.
ثم أنه إنما يأمر وينهى من كان عالما بما يأمر به وينهى عنه، وذلك يختلف باختلاف الشيء، فإن كان من الواجبات الظاهرة والمحرمات المشهورة كالصلاة والصيام والزنا والخمر ونحوها فكل المسلمين علماء بها، وإن كان من دقائق الأفعال والأقوال ومما يتعلق بالاجتهاد لم يكن للعوام مدخل فيه ولا لهم إنكاره بل ذلك للعلماء، ثم العلماء إنما ينكرون ما أجمع عليه، أما المختلف فيه فلا إنكار فيه، لأن على أحد المذهبين كل مجتهد مصيب، وهذا هو المختار عند كثيرين من المحققين أو أكثرهم، وعلى المذهب الاَخر المصيب واحد، والمخطئ غير متعين لنا، والإثم مرفوع عنه، لكن إن ندبه على جهة النصيحة إلى الخروج من الخلاف فهو حسن محبوب مندوب إلى فعله برفق، فإن العلماء متفقون على الحث على الخروج من الخلاف إذا لم يلزم منه إخلال بسنة أو وقوع في خلاف آخر. وذكر أقضى القضاة أبو الحسن الماوردي البصري الشافعي في كتابه الأحكام السلطانية خلافا بين العلماء في أن من قلده السلطان الحسبة هل له أن يحمل الناس على مذهبه فيما اختلف فيه الفقهاء إذا كان المحتسب من أهل الاجتهاد أم لا يغير ما كان على مذهب غيره؟ والأصح أنه لا يغير لما ذكرناه، ولم يزل الخلاف في الفروع بين الصحابة والتابعين فمن بعدهم رضي الله عنهم أجمعين، ولا ينكر محتسب ولا غيره على غيره، وكذلك قالوا: ليس للمفتي ولا للقاضي أن يعترض على من خالفه إذا لم يخالف نصا أو إجماعا أو قياسا جليا، والله أعلم. واعلم أن هذا الباب أعني باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قد ضيع أكثره من أزمان متطاولة، ولم يبق منه في هذه الأزمان إلا رسوم قليلة جدا، وهو باب عظيم به قوام الأمر وملاكه، وإذا كثر الخبث عم العقاب الصالح والطالح، وإذا لم يأخذوا على يد الظالم أو شك أو يعمهم الله تعالى بعقابه فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم، فينبغي لطالب الاَخرة والساعي في تحصيل رضا الله عز وجل أن يعتني بهذا الباب فإن نفعه عظيم، لاسيما وقد ذهب معظمه ويخلص نيته، ولا يهابن من ينكر عليه لارتفاع مرتبته، فإن الله تعالى قال: {ولينصرن الله من ينصره} وقال تعالى: {ومن يعتصم بالله فقد هدى إلى صراط مستقيم} وقال تعالى: {والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا} وقال تعالى: {أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون} {ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمون الكاذبين} واعلم أن الأجر على قدر النصب، ولا يتاركه أيضا لصداقته ومودته ومداهنته وطلب الوجاهة عنده ودوام المنزلة لديه، فإن صداقته ومودته توجب له حرمة وحقا، ومن حقه أن ينصحه ويهديه إلى مصالح آخرته وينقذه من مضارها، وصديق الإنسان ومحبه هو من سعى في عمارة آخرته، وإن أدى ذلك إلى نقص في دنياه، وعدوه من يسعى في ذهاب أو نقص آخرته، وإن حصل بسبب ذلك صورة نفع في دنياه، وإنما كان إبليس عدوا لنا لهذا، وكانت الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين أولياء للمؤمنين لسعيهم في مصالح آخرتهم وهدايتهم إليها، ونسأل الله الكريم توفيقنا وأحبابنا وسائر المسلمين لمرضاته، وأن يعمنا بجوده ورحمته، والله أعلم. وينبغي للاَمر بالمعروف والناهي عن المنكر أن يرفق ليكون أقرب إلى تحصيل المطلوب، فقد قال الإمام الشافعي رضي الله عنه: من وعظ أخاه سرا فقد نصحه وزانه، ومن وعظه علانية فقد فضحه وشانه. ومما يتساهل أكثر الناس فيه من هذا الباب ما إذا رأى إنسانا يبيع متاعا معيبا أو نحوه، فإنهم لا ينكرون ذلك، ولا يعرفون المشتري بعيبه، وهذا خطأ ظاهر، وقد نص العلماء على أنه يجب على من علم ذلك أن ينكر على البائع وأن يعلم المشتري به، والله أعلم. وأما صفة النهي ومراتبه فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الصحيح: "فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه" فقوله صلى الله عليه وسلم: "فبقلبه" معناه فليكرهه بقلبه، وليس ذلك بإزالة وتغيير منه للمنكر، ولكنه هو الذي في وسعه. وقوله صلى الله عليه وسلم: (وذلك أضعف الإيمان) معناه والله أعلم أقله ثمرة.
قال القاضي عياض رحمه الله: هذا الحديث أصل في صفة التغيير، فحق المغير أن يغيره بكل وجه أمكنه زواله به قولاً كان أو فعلاً، فيكسر آلات الباطل ويريق المسكر بنفسه، أو يأمر من يفعله وينزع الغصوب ويردها إلى أصحابها بنفسه أو بأمره إذا أمكنه، ويرفق في التغيير جهده بالجاهل، وبذي العزة الظالم المخوف شره، إذ ذلك أدعى إلى قبول قوله، كما يستحب أن يكون متولي ذلك من أهل الصلاح والفضل لهذا المعنى، ويغلظ على المتمادي في غيه والمسرف في بطالته إذا أمن أن يؤثر إغلاظه منكرا أشد ما غيره، لكون جانبه محميا عن سطوة الظالم، فإن غلب على ظنه أن تغييره بيده يسبب منكرا أشد منه من قتله أو قتل غيره بسبب كف يده واقتصر على القول باللسان والوعظ والتخويف، فإن خاف أن يسبب قوله مثل ذلك غير بقلبه وكان في سعة، وهذا هو المراد بالحديث إن شاء الله تعالى، وإن وجد من يستعين به على ذلك استعان ما لم يؤد ذلك إلى إظهار سلاح وحرب، وليرفع ذلك إلى من له الأمر إن كان المنكر من غيره، أو يقتصر على تغييره بقلبه، هذا هو فقه المسألة وصواب العمل فيها عند العلماء والمحققين، خلافا لمن رأى الإنكار بالتصريح بكل حال وإن قتل ونيل منه كل أذى، هذا آخر كلام القاضي رحمه الله. قال إمام الحرمين رحمه الله: ويسوغ لاَحاد الرعية أن يصد مرتكب الكبيرة إن لم يندفع عنها بقوله ما لم ينته الأمر إلى نصب قتال وشهر سلاح، فإن انتهى الأمر إلى ذلك ربط الأمر بالسلطان. قال: وإذا جار وإلى الوقت وظهر ظلمه وغشمه ولم ينزجر حين زجر عن سوء صنيعه بالقول فلأهل الحل والعقد التواطؤ على خلعه ولو بشهر الأسلحة ونصب الحروب. هذا كلام إمام الحرمين، وهذا الذي ذكره من خلعه غريب، ومع هذا فهو محمول على ما إذا لم يخف منه إثارة مفسدة أعظم منه. قال: وليس للاَمر بالمعروف البحث والتنقير والتجسس واقتحام الدور بالظنون، بل إن عثر على منكر غيره جهده، هذا كلام إمام الحرمين. وقال أقضى القضاة الماوردي: ليس للمحتسب أن يبحث عما لم يظهر من المحرمات، فإن غلب على الظن استسرار قوم بها لأمارة وآثار ظهرت فذلك ضربان: أحدهما: أن يكون ذلك في انتهاك حرمة يفوت استدراكها مثل أن يخبره من يثق بصدقه أن رجلاً خلا برجل ليقتله، أو بامرأة ليزني بها، فيجوز له في مثل هذا الحال أن يتجسس ويقدم على الكشف والبحث حذرا من فوات ما لا يستدرك، وكذا لو عرف ذلك غير المحتسب من المتطوعة جاز لهم الإقدام على الكشف والإنكار. الضرب الثاني: ما قصر عن هذه الرتبة فلا يجوز التجسس عليه ولا كشف الأستار عنه، فإن سمع أصوات الملاهي المنكرة من دار أنكرها خارج الدار لم يهجم عليها بالدخول لأن المنكر ظاهر، وليس عليه أن يكشف عن الباطن. وقد ذكر الماوردي في آخر الأحكام السلطانية بابا حسنا في الحسبة مشتملاً على جمل من قواعد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد أشرنا هنا إلى مقاصدها، وبسطت الكلام في هذا الباب لعظم فائدته وكثرة الحاجة إليه وكونه من أعظم قواعد الإسلام، والله أعلم.
قوله: (وحدثنا أبو كريب، حدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش عن إسماعيل بن رجاء عن أبيه عن أبي سعيد وعن قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب عن أبي سعيد) فقوله: وعن قيس معطوف على إسماعيل معناه: رواه الأعمش عن إسماعيل عن قيس، والله أعلم.
قوله: (عن صالح بن كيسان عن الحارث عن جعفر بن عبد الله بن الحكم عن عبد الرحمن بن المسور عن أبي رافع عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل. قال أبو رافع: فحدثت عبد الله بن عمر رضي الله عنهما فأنكره علي، فقدم ابن مسعود رضي الله عنه فنزل بقناة فاستتبعني إليه عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يعوده فانطلقت معه فلما جلسنا سألت ابن مسعود عن هذا الحديث فحدثنيه كما حدثته ابن عمر، قال صالح: وقد تحدث بنحو ذلك عن أبي رافع) أما الحارث فهو ابن فضيل الأنصاري الخطمي أبو عبد الله المدني، روى عن عبد الرحمن بن أبي قراد الصحابي، قال يحيى بن معين: هو ثقة. وأما أبو رافع فهو مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، والأصح أن اسمه أسلم، وقيل: إبراهيم، وقيل: هرمز، وقيل: ثابت، وقيل: يزيد وهو غريب، حكاه ابن الجوزي في كتابه جامع المسانيد، وفي هذا الإسناد طريفة وهو أنه اجتمع فيه أربعة تابعيون يروى بعضهم عن بعض: صالح والحارث وجعفر وعبد الرحمن، وقد تقدم نظير هذا. وقد جمعت فيه بحمد الله تعالى جزءا مشتملاً على أحاديث رباعيات منها أربعة صحابيون بعضهم عن بعض، وأربعة تابعيون بعضهم عن بعض. وأما قوله: قال صالح وقد تحدث بنحو ذلك عن أبي رافع فهو بضم التاء والحاء، قال القاضي عياض رحمه الله: معنى هذا أن صالح بن كيسان قال: إن هذا الحديث روي عن أبي رافع عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير ذكر ابن مسعود فيه. وقد ذكره البخاري كذلك في تاريخه مختصرا عن أبي رافع عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقد قال أبو علي الجياني عن أحمد بن حنبل رحمه الله قال: هذا الحديث غير محفوظ، قال: وهذا الكلام لا يشبه كلام ابن مسعود، وابن مسعود يقول: اصبروا حتى تلقوني، هذا كلام القاضي رحمه الله. وقال الشيخ أبو عمرو: هذا الحديث قد أنكره أحمد بن حنبل رحمه الله. وقد روى عن الحارث هذا جماعة من الثقات ولم نجد له ذكرا في كتب الضعفاء. وفي كتاب ابن أبي حاتم عن يحيى بن معين أنه ثقة، ثم أن الحارث لم ينفرد به بل توبع عليه على ما أشعر به كلام صالح بن كيسان المذكور. وذكر الإمام الدارقطني رحمه الله في كتاب العلل أن هذا الحديث قد روي من وجوه أخر، منها عن أبي واقد الليثي عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم. وأما قوله: اصبروا حتى تلقوني فذلك حيث يلزم من ذلك سفك الدماء أو إثارة الفتن أو نحو ذلك. وما ورد في هذا الحديث من الحث على جهاد المبطلين باليد واللسان فذلك حيث لا يلزم منه إثارة فتنة، على أن هذا الحديث مسوق فيمن سبق من الأمم وليس في لفظه ذكر لهذه الأمة، هذا آخر كلام الشيخ أبي عمرو وهو ظاهر كما قال، وقدح الإمام أحمد رحمه الله في هذا بهذا عجب، والله أعلم. وأما الحواريون المذكورون فاختلف فيهم، فقال الأزهري وغيره: هم خلصان الأنبياء وأصفياؤهم، والخلصان الذين نقوا من كل عيب، وقال غيرهم: أنصارهم، وقيل: المجاهدون، وقيل: الذين يصلحون للخلافة بعدهم. قوله صلى الله عليه وسلم: "ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف" الضمير في إنها هو الذي يسميه النحويون ضمير القصة والشأن، ومعنى تخلف تحدث وهو بضم اللام. وأما الخلوف فبضم الخاء وهو جمع خلف بإسكان اللام وهو الخالف بشر. وأما بفتح اللام فهو الخالف بخير، هذا هو الأشهر. وقال جماعة وجماعات من أهل اللغة منهم أبو زيد: يقال كل واحد منهما بالفتح والإسكان، ومنهم من جوز الفتح في الشر، ولم يجوز الإسكان في الخير، والله أعلم. قوله: فنزل بقناة هكذا هو في بعض الأصول المحققة بقناة بالقاف المفتوحة وآخره تاء التأنيث وهو غير مصروف للعلمية والتأنيث، وهكذا ذكره أبو عبد الله الحميدي في الجمع بين الصحيحين ووقع في أكثر الأصول، ولمعظم رواة كتاب مسلم بفنائه بالفاء المكسورة وبالمد وآخره هاء الضمير قبلها همزة، والفناء ما بين أيدي المنازل والدور، وكذا رواه أبو عوانة الأسفرايني. قال القاضي عياض رحمه الله في رواية السمرقندي بقناة وهو الصواب، وقناة واد من أودية المدينة عليه مال من أموالها، قال: ورواية الجمهور بفنائه وهو خطأ وتصحيف.
قوله صلى الله عليه وسلم: (يهتدون بهديه) هو بفتح الهاء وإسكان الدال أي بطريقته وسمته. قول مسلم رحمه الله: (ولم يذكر قدوم ابن مسعود واجتماع ابن عمر معه) هذا مما أنكره الحريري في كتابه درة الغواص فقال: لا يقال اجتمع فلان مع فلان، وإنما يقال اجتمع فلان وفلان، وقد خالفه الجوهري فقال في صحاحه: جامعه على كذا أي اجتمع معه.