التزويرُ لا يَنْطلي على أئمة الحديثِ وإنْ تظاهرَ صاحب التزوير بالصّلاحِ و سَبّحَ!
((حَدِيثٌ رَواهُ مُحَمَّدُ بنُ أيّوب بنِ سُوَيد الرَّمليُّ عَنْ أبيهِ عَنْ الأوزَاعيّ.
قَالَ: حَدِيثُ "بارك لأمتي في بكورها".
قُلْتُ: نَعم.
قَالَ: مُفْتَعلٌ.
ثم قَالَ: كنتُ بالرّملة فَرأيتُ شيخاً جَالساً بحذائي؛ إذا نَظَرتُ إليهِ سَبّحَ، وَإذا لَمْ أنظرْ إليه سَكَتَ، فَقُلتُ في نفسي: هذا شيخٌ هُوَ ذَا يتصنع لي!.
فَسألتُ عَنْهُ فقالوا: هذا مُحَمَّدُ بنُ أيّوب بن سُوَيد.
فَقُلتُ لبعضِ أصحابنا: اذهبْ بَنا إليهِ.
فأتيناهُ فَأخرَجَ إلينَا كُتُبَ أبيهِ أبواباً مُصَنّفةً، بخَطِ أيّوب بن سُوَيد، وَقدْ بَيّضَ أبوهُ كُلَّ بابٍ، وَقدْ زِيدَ في البَياضِ أحَادِيث بغيرِ الخَط الأوَّلِ.
فَنظرتُ فِيهَا، فإذا الذي بخَطّ الأوَّلِ أحاديثُ صِحاحٌ، وإذا الزّياداتُ أحاديثُ مَوضوعةٌ، ليستْ مِنْ حَدِيث أيّوب بن سُوَيد!.
قُلْتُ: هذا الخطُ الأوَّلُ خَطّ مَنْ هُو؟
فَقَالَ: خَطّ أبي.
فَقُلتُ: هذه الزّياداتُ خَطّ مَنْ هُو؟
قَالَ: خَطّي.
قُلْتُ: فَهذهُ الأحاديثُ مِنْ أينَ جِئتَ بها؟
قَالَ: أخرَجْتُهَا مِنْ كُتُبِ أبي.
قُلْتُ: لا ضَيْرَ، أخرِجْ إليّ كُتُبَ أبيكَ التي أخْرجتَ هذهِ الأحاديثَ مِنْهَا.
قَالَ أبوزُرْعةَ: فاصْفارّ لَونُهُ، وَبَقِي([1]).
وقَالَ: الكُتُبُ ببيتِ المقدِسِ.
فَقُلتُ: لا ضَيْرَ، أنا أكتَرِي فيُجَاءُ بِها إليّ، فَأوجه إلى بيتِ المقدِسِ، واكتبْ إلىّ مِنْ كُتُبكَ مَعَهُ حتى يوجهَهَا.
فَبَقي وَلم يكنْ لهُ جَوابٌ.
فَقُلتُ له:
وَيْحَكَ! أمَا تتقي الله؟
مَا وَجَدتَ لأبيكَ ما تَفقهُ بهِ سِوَى هذا؟
أبوكَ عِنْدَ النّاسِ مَستورٌ وتَكْذبُ عليه!
أما تَتّقي اللهَ؟
فَلمْ أزَل أكلّمهُ بكَلامٍ مِنْ نحو هذا، ولا يقدرُ لي عَلى جَواب))([2]).
وَقريبٌ مِنْ هذا ما ذكرهُ أبو مُحمّد ابنُ أبي حَاتم قَالَ:
((سمعتُ أبا زُرْعةَ يقولُ:
سَمعتُ مِنْ بعضِ المشايخِ أحَادِيثَ فَسَألني رَجُلٌ مِنْ أصحابِ الحَدِيثِ فَأعطيتُهُ كِتَابي فردَّ علىّ الكِتابَ بَعدَ ستةِ أشهرٍ فَأنظرُ في الكِتابِ فَإذا إنّهُ قدْ غَيّرَ سبعةَ مَوَاضع.
قَالَ أبو زُرْعةَ: فَأخذتُ الكِتابَ وَصرتُ إلى عندهِ، فَقلتُ: ألا تَتَقى اللهَ تَفْعلُ مِثلَ هذا!.
قَالَ أبو زُرْعةَ: فَأوْقفتُه عَلى مَوْضعٍ مَوْضعٍ، وَأخبرتُهُ، وَقلتُ لهُ:
أمَّا هَذا الذي غَيّرتَ فإنّهُ هذا الذي جَعَلتَ عَنْ ابنِ أبى فُدَيك فإنّهُ عَنْ أبى ضَمْرةَ مَشْهور، وَليسَ هَذا مِنْ حَدِيثِ ابنِ أبى فُدَيك، و أمَّا هَذا فإنّهُ كَذا وكَذا فإنّهُ لا يجيء عَنْ فُلاَن، وَإنَّمَا هَذا كَذا فَلمْ أزلْ أُخْبرهُ حَتى أوْقفتُهُ عَلى كُلِّهِ.
ثُمّ قُلْتُ لَهُ: فإني حَفظتُ جَميعَ مَا فيهِ في الوقتِ الذي انتخبتُ عَلى الشيخِ، وَلو لم أحْفظهُ لَكَانَ لاَ يَخْفى عَلىّ مِثلَ هَذا فاتقِ اللهَ عز وجل يا رجل!.
قَالَ أبو مُحمّد فَقلتُ لَهُ: مَنْ ذَلكَ الرّجل الذي فَعَلَ هَذا؟
فَأبى أنْ يُسميَهُ))([3]).
وَقالَ ابنُ أبي حَاتم:((وَ سَمعتُ أبا زُرْعةَ يَقولُ: دَفعتُ كِتابَ الصّومِ إلى رَجُلٍ بَغْدَاديّ فَرَدَّ عَلىّ فإذا إنّهُ قَدْ غَيّرَ حَرْفاً مِنْ الإسنادِ عَنْ جِهَتِهِ.
قَالَ أبو زُرْعةَ: فَتَعجبتُ مِنْهُ فَقُلتُ في نفسِي: يَا سُبْحَانَ اللهِ مَنْ يُريدُ أنْ يَفْعلَ هَذا بي؟! أيّ شيءٍ يَظُنّ؟ وقلتُ في نفسِي: إنَّهُ يَظُنّ أنّهُ عَمِلَ شَيئاً))([4]).
([1])أي : سكت ولم يتكلم محرجاً.
([2])سؤالات البرذعي (2/389).
قلتُ: تأملْ كيفَ عَرَفَ أبوزُرْعةَ الحديثَ مباشرةً بعدَما ذُكِرَ لهُ طرفٌ منْ الإسناد، ثم ذَكَرَ حُكمه، ثم دلل عَلى ذلكَ من خلالِ مباشرتهِ العلةَ نفسها بقصةٍ عجيبة يتجلى فيها دقة النقد، والجرأة في ذلك، وعدم الاغترار بالمظاهر- فَرَحمَ اللهُ أبازُرْعةَ رحمةً واسعةً -.
([3])الجرح والتعديل (1/332).
([4])المرجع السابق.
انتهى من كتاب
مِنْ قَصَصِ أئمةِ الحَدِيثِ المُتقدّمين
وَنوادرِهم في تتبعِ سُنّةِ سيّدِ المُرْسلين والذبِّ عنها
وَنوادرِهم في تتبعِ سُنّةِ سيّدِ المُرْسلين والذبِّ عنها
د.علي بن عبد الله الصّياح