التحاكم إلى موافقة الذهبي للحاكم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن والاه ..
أما بعد :
فإن موضوع موافقة الإمام الذهبي في مختصر المستدرك لتصحيح الإمام الحاكم لكثير من الأحاديث ، شغب عليها كثير من إخواننا طلاب العلم ، والذين نسبوا لجمهور العلماء الغفلة والوهم في حكمهم بموافقة الذهبي للحاكم للأحاديث الذي نقلوا تصحيحه كما هو في المستدرك .
وصال وجال في هذه المسألة كثير من الأخوة ، تابعين في ذلك زمرة من العلماء الأفاضل ، وهم بذلك جميعا يتغافلون عن حقائق واضحة ليبرئوا ساحة الإمام الذهبي من متابعة الحاكم في كثير من أخطائه فوقعوا فيما اتهموا به العلماء .
وأنا في هذه المشاركة أحاول - قدر الجهد – أن أبين الحق - حسبما تراءى لي - ولا أجزم به كما جزم به الأخوة الكرام الذين وهموا العلماء من بعد عصر الإمام الذهبي إلى عصرنا .
وسيكون نقاشنا للموضوع في نقاط محددة حتى لا يتوسع المقال ..
وقبل بضع سنوات قرأت مقالات عدة لأخوة أفاضل يقررون فيها أن موافقة الذهبي للحاكم ما هو إلا وهم وقاعدة فاسدة أسست بالباطل بدون تحقيق ..
وكنت أمر على هذا مرور الكرام فلا أبدي أدنى رأيٍ في الموضوع إذ إنني رأيت الصواب حليف من قال أن نقل الذهبي لحكم الحاكم بالتصحيح ولم يتعقبه هو موافقة منه للحاكم على الظاهر ما لم يتراجع عنه في كتبه المتأخرة ..
ولما اشتريت كتاب الفتح الرباني في ترتيب مسند الإمام أحمد بن حنبل الشيباني ومعه شرحه بلوغ الأماني للشيخ عبد الرحمن الساعاتي رحمه الله طبعة بيت الأفكار في أربعة مجلدات وعليها تعليق حسان عبد المنان ..
وفي مقدمته في أثناء الكلام على المسند أشار إلى مقدمة كبيرة له كتبها للمسند طبعة عالم الكتب ، وبين ما فيها من مواضيع هي فهرس مقدمته المشار إليها فوجدت فيها بحثاً لموضوع موافقة الذهبي للحاكم متتبعا الشيخ شعيب في طبعة مؤسسة الرسالة للمسند ..
فلما رأيت رؤوس المواضيع اتصلت به وطلبت منه نسخة من المقدمة فصورها مشكورا وكلفت أحد إخواني هنا في قطر وكان ذاهبا إلى الأردن أن يجلبها معه ووصلت والحمد لله وشكر الله الجميع ..
وبالتالي فسيكون ردي وتعقبي يخص الشيخ حسان أيضاً لأنني وجدته أكثر من تكلم عن الموضوع من الأخوة المشاركين بمقالاتهم في الشبكة العنكبوتية في كثير من المواقع السلفية ، بل لا أخفي أن كثيرا منهم نقل عنه بدون أن يبين ، لمعرفته بالخلاف الكبير بينه وبين الإمام الألباني رحمه الله ..
وقبل البيان :
هذه أمور كالمقدمة يكاد الفريقان المختلفان في هذه المسألة أن يكونا قد اتفقا عليها .
أولها : الإمام الحاكم معروف بتساهله في التصحيح
وهذا لا يحتاج إلى برهان لشهرته بين العلماء .. وقد قالوا : أن تصحيحه دون تصحيح الترمذي والدارقطني ، بل تصحيحه كتحسين الترمذي ، وأحياناً يكون دونه .. وأن صحيحي شيخيه ابن حبان وابن خزيمة أعلى من مستدركه بمراتب ..
ولذلك لما نجد حديثا صححه الحاكم فهذا يرجع في الغالب إلى توثيقه لرجاله ، فإن كان ثمة اختلاف ظاهر بين ترجمته للراوي وتصحيحه حديثه في المستدرك كأن يأتي الحاكم نفسه فيصحح أحاديث جماعة من الرواة وقد أخبر في كتاب المدخل مثلا أنه لا يحتج بهم ، وأطلق الكذب على بعضهم .. فهذا قد يرجع إلى اجتهاده ، فيكون التصحيح أو الجرح أحدهما متأخر عن الآخر .
وأمر آخر : وهو أنه ألف المستدرك ليرد به على أقوام شنعوا على السنة واستقلوا المروي الصحيح فيها ، فألف المستدرك ليبين لهم أن هناك أحاديث كثيرة تركها الشيخان ..
والثانية : أن الإمام الحاكم ألف المستدرك ولم ينقحه كله
وهذا يشهد له عدة أمور ، أهمها أن الإمام الحاكم كان يملي على تلاميذه المستدرك وكان من أجل تلاميذه الحافظ أحمد بن حسين البيهقي صاحب السنن ، وظهر أن الربع الأول من الكتاب والذي أملاه الحاكم على تلاميذه منقح ، وَقَلَّتْ فيه الأوهام والأحاديث الضعيفة ولذلك ينقل البيهقي عن هذا الربع بصيغة التحديث وينقل عن الباقي بالإجازة ..
وقال الذهبي في سير النبلاء (19/411) : إن الحاكم إنما ألف المستدرك في أواخر عمره .
وقد اختلف في زمن تأليفه فقيل ألفه وهو في الخمسين من عمره وقيل بل تجاوز السبعين ..
وهذا وإن كان ترجيح أحدهما صعب المنال إلا أنه من المتفق عليه أنه بدأ في تنقيح المستدرك ولم يتمه كما أشرنا أعلاه .
والثالثة : أن الإمام الذهبي اختصر المستدرك في منتصف عمره
وهذا لا إشكال فيه بين الفريقين وأدلته واضحة لا حاجة إلى ذكرها ، فمن المسلم به أن الإمام الذهبي اختصر المستدرك في أوائل تصنيفه بدليل ذكره له في غالب مؤلفاته ، ومن المعروف أن البدايات تكون باختصار الكتب النافعة كما هو معلوم .
وقد قال في السير كما سيأتي : ولقد كنت زماناً طويلاً أظن أن حديث الطير لم يجسر الحاكم أن يودعه في مستدركه ، فلما علقت هذا الكتاب رأيت الهوْل من الموضوعات التي فيه !! فإذا حديث الطير بالنسبة إليها سماء !! .
فبين هذا النص أن تعليقه على المستدرك بعد زمان طويل .. وهو تقريبا في منتصف العمر وأوائل التصنيف لما قدمنا ..
فمن قال أنه ألف المختصر وهو في بداياته فقد أخطأ ، لتصريح الذهبي أنه كان زمانا طويلا لا يعتقد أن يكون حديث الطير في المستدرك .. وهذا يبين أنه ألفه في منتصف عمره وقبل إخراجه كتب الرجال الأخرى .
والرابعة : كلامنا هنا على إقرار الذهبي وليس على سكوته
فيجب أن نفرق بين سكوت الإمام الذهبي وبين نقله لتحقيق الحاكم ، فالأول ليس هو مدار النقاش ، ولا اختلاف في أنه ليس للذهبي فيه حكما ، أما الثاني وهو نقل كلام الحاكم فهذا هو المعني به في نقاشنا .
وقد يكون سكوت الذهبي عن بعض الأحاديث يرجع إلى تكرارها أو أنه توقف فيها فلم يبدي فيها حكما ..
والآن نذكر الأدلة التي احتج بها المعاصرين
قال :
الأول : أنه إن كان الأمر كذلك : كان معناه ولازمه أن الإمام الذهبي كثير الخطأ وكثير التساهل وكثير التناقض ، فإنه قد سكت على أحاديث كثيرة صححها الحاكم مطلقاً أو على شرط الشيخين أو أحدهما وفيها رواة قد وهنهم الذهبي نفسه في الميزان أو غيره أو فيها علل أخرى مانعة من ذلك التصحيح معروفة بل مشهورة عند عامة المشتغلين بالحديث فضلاً عن الحافظ الذهبي ذلك الإمام النقاد المدقق الذي لا يخفى مثلها على مثله بحال .
وهذه اللوازم الثلاثة أي كثرة الخطأ وفحش التساهل وتكرار التناقض منتفية - قطعاً - عن الإمام الذهبي ، باطلٌ - جزماً - وصْفُهُ بها ، فالملزوم - وهو أن سكوت الذهبي عما سكت عليه من أحكام الحاكم كان إقراراً له فيها وموافقة له عليها - : باطل أيضاً .
الثاني : أن الذهبي لم يصرح بهذا الذي صرح به الناس على لسانه نيابة عنه ، ولا رأيناه قال هذا الذي قولوه إياه .
الثالث : أن الذهبي نفسه قد صرح عند ذكره اختصاره للمستدرك ، بأن المستدرك لا يزال به حاجة إلى العمل والتحرير ؛ فقد قال في السير ( ... وبكل حال فهو كتاب مفيد ، قد اختصرته ، ويُعْوِز عملاً وتحريراً ) .
فتدبر عبارته الأخيرة هذه ، ترى لو كان الذهبي استوفى نقده للحاكم في تلخيص المستدرك أيكون لهذه العبارة معنى ؟ بل الظاهر أنه لو كان أتى على جميع الكتاب نقداً واستدراكاً لذكره ، ولما اقتصر على قوله ( قد اختصرته ) ثم أردفه بما رأيت ، فنقد المستدرك أنفع من اختصاره بلا ريب .
ومما يؤيد قول من يرى أن الذهبي لم يقصد نقد المستدرك ، وإنما أراد تلخيصه واختصاره كيفما اتفق - والذهبي مشهور بكثرة اختصاره للمطولات من كتب الرواية والرجال - أن الذهبي نفسه سمى تلخيص المستدرك تعليقاً فقد قال في التلخيص عند رواية الحاكم لحديث الطير (3/130-131) : ( ولقد كنت زماناً طويلاً أظن أن حديث الطير لم يجسر الحاكم أن يودعه في مستدركه ، فلما علقت هذا الكتاب رأيت الهوْل من الموضوعات التي فيه !! فإذا حديث الطير بالنسبة إليها سماء !! ) .
الرابع : عدم اشتهار هذا المعنى وشيوعه إلا عند المعاصرين ، فيما يظهر ، بل الظاهر أنه ما صرح بما صرح به المعاصرون في هذا الباب أحد من معاصري الذهبي أو تلامذته من الحفاظ والمحدثين والمؤرخين ، وما كان أكثرهم ، وما أكثر من ترجم منهم للحافظ الذهبي ، وما كان أحرصهم على مثل هذه التنبيهات بل على ما هو دونها بكثير ، كابن عبد الهادي وابن القيم والعلائي وابن كثير وابن رافع والحسيني وغيرهم . انتهى ..
خلاصة ومجمل للشبهات والرد عليها
فمما ذكره الفريق القائل بأن كلام الذهبي على المستدرك ما هو إلا اختصار لا إقرار :
1- قالوا أنه أكثر من المختصرات في مقتبل عمره لينتفع بها فيما بعد !!
قلنا : وهل هذا فعله ليفيد غيره ويستفيد هو أم لا ؟ إن قالوا إنما فعل ذلك لنفسه ! قلنا وكيف انتشرت هذه المختصرات في حياته وبعد مماته ؟
فلا مناص من الاعتراف أنه اختصرها للناس ولنفسه تبعا ، وإن كان ذلك كذلك ، فهو مسئول أمام الله عما يقدمه للناس من دين الله عز وجل .. وسيأتي مزيد بيان لهذا إن شاء الله تعالى .
2- قالوا أنه مُختَصِر وليس للمُختَصِر إلا نقل كلام من اختصر كلامه !!
قلنا جاء على لسانه أنه اختصره وأنه علق عليه .. والمعنيان من لوازمهما التحقيق والتعليق والنقد .. لأن من إقبال المُختَصِر لأي كتاب يكون لدواعي معروفة ، منها :
- أنه يختصر لطول الكتاب وكبر حجمه فيأخذ المختصر المفيد من الكتاب إرادة التيسير ..
- أو لرفع ما فيه من أحاديث واهية وباطلة فيبين ما في الكتاب من حق ويكشف الباطل ..
- أو يختصره لينقده ويعقب عليه .
والمتأمل لاختصار الذهبي يجد الهدف الأسمى من هذا الاختصار هو تبيين ما فيه من أحاديث صحيحة وضعيفة أو باطلة ..
وذلك لأن كتاب الحاكم كتاب حديث مسند وليس كتاب وعظ ورقائق أو سير ومغازي ، فإقباله عليه لا يكون إلا للتعقيب والبيان عما فيه من أحاديث ضعيفة أو موضوعة وإقراره على ما فيه من أحاديث صحيحة .
بل الظاهر من فعله وتتبعه الكتاب كله من أوله وآخره أنه أراد التعليق على الأسانيد بما تراءى له وقتئذ ..
3- قالوا أنه وصف عمله بأنه في حاجة إلى مراجعة وتحرير !!
قلنا : وهذا الكلام متى قاله وأين ؟ الإجابة : قاله في كتابه سير النبلاء ..
قلنا : وهذا الكتاب من أواخر كتبه وبعد تمرسه في فن علم الحديث وتراجم رجاله ، بل بعد إخراجه لأكثر كتبه وموسوعاته ، فإن سير النبلاء مختصر ومستل من كتابه الكبير تاريخ الإسلام ..
وإذا كان ذلك كذلك : فقد بين أن كتابه المختصر على المستدرك يحتاج إلى تحرير ومراجعة ..
فإن قلتم أنه كان يختصر فقط ، فلماذا قال أنه في حاجة إلى تحرير ومراجعة ؟
أما نحن فنقول : أنه جمع وصنف ودرس وصار بفضل الله إمام عصره في الرجال مع الحافظ المزي ، فمن أصبحت هذه حاله فهو بلا شك تغير اجتهاده وأصبح ما كتبه قديما في حاجة إلى مراجعة ..
وقد يكون في هذا إشارة قوية إلى أنه أقر الحاكم على أحاديث كثيرة ظهر له ضعفها فيما بعد ، وهذا حق لا شك فيه ، بل قوله : أن الكتاب في حاجة إلى مراجعة وتحرير هو أكبر شاهد على أنه رأى من نفسه التقصير في خدمة هذا الكتاب ولا نقول قصر في الاختصار !! وإنما قصر في الأحكام على الأسانيد وظهر له هذا بعد أن فتح الله عليه .
4- قالوا أنه يخالف الحاكم في كتبه الأخرى فكيف يكون وافقه ؟
قلنا : وهذا من أوضح الأدلة على أنه كان موافقا له أولا وقت تصنيفه مختصر المستدرك ، ولما فتح الله عليه وترجم لجمهور رواة الأحاديث بان له ما كان وافق الحاكم عليه فأنكر أحاديث وضعف رواة ..
ومعرفة أن كتبه التي نقد أو خالف الحاكم فيها هي المتأخرة ، أي بعد المختصر بسنين كثيرة فلا إشكال حينئذ .. وهذا من أوضح ما يكون ..
فمن جعلها حجة في أن الذهبي لم يوافق الحاكم لأنه قال بخلافه في كتبه الأخرى - كالميزان مثلا – فقد دلس على ضعاف العقول لأن الفرق بين الكتابين في وقت التأليف واضح جدا ولا يحتاج إلى برهان .
وأنا أتعجب من الأخوة الذين نقلوا أحاديث كثيرة من التلخيص وافق الحاكم عليها ثم جاؤا بما يخالفه في السير أو الميزان أو غيرهما ، مستدلين بهذا أنه لا يمكن أن يقر في المختصر وينكر في غيره ، فقدموا حكمه المتأخر عن الأول وحاكموا أنفسهم بما لا يجدي نفعا ، لأنهم يعلمون أن كتبه الأخيرة حاكمة على كتبه الأولى ..
وأقرب مثال على ذلك : بعض الاختلافات بين سير النبلاء وتاريخ الإسلام مع أن السير من التاريخ ، ومع ذلك يتغير اجتهاده في الحكم على الرواة أو بيان وهم أو تصحيح تاريخ أو غير ذلك ..
5- قالوا : أنه على هذا فالإمام الذهبي كثير الخطأ وكثير التساهل وكثير التناقض !
قلنا : إذا تبين لنا أن هذا الذي فعله كان في أوائل التصنيف ، وأن نقده لما سبق وأقر الحاكم عليه كان بعد تمكنه في علم الرجال حتى صار من أئمة عصره بلا نزاع ، فلا إشكال حينئذ ..
بل هي في الحقيقة منقبة له ، إذ إنه بين أن بعض كتبه في حاجة إلى تحرير ومراجعة ، وهذا من سمات العلماء الكبار الذين حمى الله قلوبهم من الكبر ، وهذا ديدن علماء الأمة الناصحون من قديم الزمان ..
فالشافعي مثلا له القديم والجديد وما هذا إلا من تغير الاجتهاد .. ولأحمد تغير واضح في الرجال وفي الحكم على بعض الأحاديث ، ومن راجع كتب ابنه عبد الله علم ذلك ، وكثير من علمائنا كذلك والمقام لا يتسع لذكر الأمثلة إذ إن هذا مما تقرر بداهة بالحس والعقل والنقل ..
فعجيب قول الفاضل صاحب لسان المحدثين :
وهذه اللوازم الثلاثة أي كثرة الخطأ وفحش التساهل وتكرار التناقض منتفية - قطعاً - عن الإمام الذهبي ، باطلٌ - جزماً - وصْفُهُ بها ، فالملزوم - وهو أن سكوت الذهبي عما سكت عليه من أحكام الحاكم كان إقراراً له فيها وموافقة له عليها - : باطل أيضاً . اهـ
فقد صور الإمام الذهبي وكأنه معصوم ، فنفى عنه الخطأ والوهم والتساهل والتناقض !! ولو أنه بين للناس أن هذا في أوائل التصنيف وفي بداياته لأراح نفسه من هذا الغلو ..
6- أنه لم ينقل عن أحد أن نقله لتصحيح الحاكم موافقة له ؟
قلنا هذا منقول عن العلماء عمليا في كثير من كتبهم ؟ والأمثلة عليه كثيرة ..
فمعنى أنهم يقولون صححه الحاكم ووافقه الذهبي أنهم فهموا أن تلخيص الذهبي يشمل التضعيف والتصحيح ، وليس بهذه التفرقة المخترعة في هذه الحقبة الأخيرة ...
ومع ذلك فقد يرجع هذا إلى أمور :
منها : أن يكون المختصر ليس مشهورا بيد يدي بعض تلاميذه ..
فهذا الإمام ابن كثير في البداية والنهاية ، نقل كثيرا من تصحيح الحاكم ولم يتعقبه ولم يذكر إقرار الذهبي عليه .
وعلى سبيل المثال في البداية (1/149) قال عن حديث : الكرسي موضع القدمين : رواه الحاكم في مستدركه وقال إنه على شرط الشيخين ولم يخرجاه .
وقد رواه الحاكم رقم ( 3116 ) وقال صحيح على شرط الشيخين و لم يخرجاه ، وقال الذهبي في التلخيص : على شرط البخاري ومسلم .
وفي (1/73) قال في حديث : رواه .. والحاكم من حديث عبادة بن مسلم به وقال الحاكم صحيح الإسناد . وهذا الحديث رواه الحاكم رقم (1902) وقال : هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه وسكت عنه الذهبي في التلخيص .
وفي حديث عن ابن عباس رضي الله عنهما : فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه قال أي رب ألم تخلقني بيدك الحديث قال ابن كثير (1/90) : ثم قال الحاكم صحيح الإسناد ولم يخرجاه .
وقد رواه الحاكم في المستدرك رقم (4002) وقال : صحيح الإسناد و لم يخرجاه ، وقال الذهبي في التلخيص : صحيح .
وموافقاته للحاكم كثيرة جدا انظر على سبيل المثال في البداية (1/97) وفي (1/100) وفي (1/10
وقال في حديث غدير خم في البداية (5/22 : قال شيخنا أبو عبد الله الذهبي وهذا حديث صحيح .
وقد رواه الحاكم في المستدرك (3/11 وقال : صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه بطوله ، وسكت عنه الذهبي في التلخيص .
ورواه الحاكم في (3/613 رقم 6272) وقال هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ، وقال الذهبي في التلخيص : صحيح .
ولا أجزم بأن ابن كثير اطلع على مختصر المستدرك لشيخه ، لاحتمال أن يكون نقل تصحيحه من كتبه الأخرى وهي كثيرة .
ومنها : أن يكون وقع لبعض تلاميذه ونقلوا عنه التضعيف ولم ينقلوا التصحيح حسب الحاجة فيما يكتبون ..
ومنها : أنهم قد يصححون للحاكم اكتفاء بإقرار الذهبي وحينئذ لا حاجة لذكره لمقام الاختصار في التخريج .
ومنها : أن ينقلوا تصحيحه وإقراره في بعض الأحيان مثل ما وقع للزيلعي وابن الملقن :
فقد ذكر الإمام الزيلعي في نصب الراية (4/161) عن حديث : " سيد الشهداء عند اللّه يوم القيامة حمزة " قال : رواه الحاكم وقال صحيح الإسناد ، ولم يخرجاه ، وأقره الذهبي عليه . اهـ
فهاهو ينقل إقرار الذهبي على الحديث ، وبهذا نرد على من قال أن تلاميذ الذهبي لم يعرفوا هذا الإقرار !!
وقد يأخذ بتصحيح الذهبي فيما سكت عليه الحاكم كما في حديث " إذا شربوا الخمر فاجلدوهم " قال الزيلعي في نصب الراية (3/347) : رواه .. والحاكم في المستدرك وسكت عنه ، قال شيخنا الذهبي في مختصره : هو صحيح . اهـ وهذا من أبين ما يكون ، ولا فرق أن يقول أقره أو صححه .
وفي حديث : " يا عمر هاهنا تسكب العيون " قال الزيلعي في نصب الراية (3/3 :
رواه الحاكم في المستدرك وقال : حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ، ولم يتعقبه الذهبي في مختصره ولكنه في ميزانه أعله بمحمد بن عون ونقل عن البخاري أنه قال : هو منكر الحديث ، انتهى
وهنا قال أن الذهبي لم يقر الحاكم ، والذهبي إنما سكت ولم ينقل كلام الحاكم ، فبان بهذا أن غير سكوته عنده إقرار ، وهذا من أوضح ما يكون ، وهو من كلام الزيلعي تلميذ الذهبي ..
ومثل هذا حديث آخر (3/80) قال فيه : ووهم الحاكم في المستدرك فرواه وقال : حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ، ولم يتعقبه الذهبي في ذلك .
وهذا الحديث رواه الحاكم (1743) وسكت الحافظ الذهبي عليه ، فبان بهذا أن تعقب الذهبي عند الزيلعي ما هو إلا إقرار أو مخالفة في التصحيح أو التضعيف .
وقريب من هذا صنيع ابن الملقن - وهو من طبقة الزيلعي – عند حديث المسور بن مخرمة مرفوعاً : " إن الأنساب تنقطع يوم القيامة غير نسبي وسببي وصهري " قال : ثم قال الحاكم : صحيح ، وأقره الذهبي عليه . ( نقلا من كلام الدكتور سعد بن عبد الله الحميد في مناهج المحدثين )
وكثير من الناس بعد ذلك اطلع على مختصر الذهبي للمستدرك ونقلوا عنه ، وليس بالضرورة أن ينقلوا تصحيح الذهبي ، بل العناية في النقد تكون فيما ضعفه الذهبي عند الحاكم فهي أولى بالنقل ..
فهذا ابن حجر : قال في فتح الباري (12/181) :
وقد أخرج الحاكم من طريق ابن عباس عن عمر أنه قال لرجل أقعد جاريته وقد اتهمها بالفاحشة على النار حتى احترق فرجها هل رأيت ذلك عليها ؟ قال لا قال فاعترفت لك ؟ قال لا قال فضربه وقال لولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لا يقاد مملوك من مالكه ، لأقدتها منك .
قال الحاكم صحيح الإسناد وتعقبه الذهبي بأن في إسناده عمرو بن عيسى شيخ الليث وفيه منكر الحديث ، كذا قال فأوهم أن لغيره كلاما وليس كذلك فإنه ذكره في الميزان فقال لا يعرف لم يزد على ذلك ولا يلزم من ذلك القدح فيما رواه بل يتوقف فيه .
وابن حجر ينقل تصحيح الحاكم ويقره أحيانا كثيرة ، ولا يذكر تعقيب الذهبي ، ولا يبعد أن يكون ذلك لمعرفته بإقرار الذهبي عليه .
والأئمة الذين قالوا بإقرار الذهبي للحاكم فيما ينقله من عبارات التصحيح هم العلماء الحفاظ الثقات ، ومن بعدهم مجموعة من المحققين الكبار لا يبلغ شأوهم ولا يصنع صنيعهم أحد ممن بعدهم ..
فمن قال بخلاف هؤلاء كيف نرجح قوله عليهم وما معه إلا أوهام وتخيلات وضرب من الحدس يقوله غير جازم به ..
تعليق