تخريج قصة تنانين القبر في تفسير ( مَعِيشَةً ضَنكاً )
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن والاه .. وبعد ..
فقد ذكر الإمام ابن كثير - رحمه الله - في تفسيره لقوله تعالى : [ طه – 124]
) وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (
فذكر - رحمه الله – من تفسيرها حديث التسعة والتسعين تنينا التي تخرج في القبر على الكفار واستنكر رفعه جداً ..
وكثير من الناس من ينكر الحديث من أصله ، بل انساق بعض عوام المثقفين من أهل ملتنا وراء تجرأ بعض النصارى عباد الصليب لاستهزائهم على الملة الحنيفية بهذا الحديث فقام وقعد وأنكر وصحته بل وقال هو من الموضوعات !!
وفي هذه المشاركة – إن شاء الله - سنناقش هذه الأقوال ..
فنقول والله المستعان :
الحديث جاء من رواية أبي هريرة مرفوعا وعن أبي سعيد الخدري مرفوعا وموقوفا وجاء عنهما بلفظين اثنين .
الأول
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ليسلط على الكافر في قبره تسعة وتسعون تنينا تنهشه وتلدغه حتى تقوم الساعة ولو أن تنينا منها نفخ في الأرض ما نبتت خضراء .
رواه الإمام أحمد (3 / 38 ) والدارمي (2/426 ) وابن حبان (3121) وعبد بن حميد في مسنده ( رقم 929) وابن أبي حاتم كماسيأتي وابن أبي شيبة في المصنف ( 7 / 58 ) ومن طريقه الآجري في الشريعة (1/343) من رواية أبي يحيى سعيد بن أبي أيوب بن مقلاص وهو ثقة ثبت ، رواه عن دراج أبي السمح ، عن أبي الهيثم يقول سمعت أبا سعيد الخدري فذكره مرفوعا .
ورواية دراج عن أبي الهيثم متفق على تضعيفها .. كما سيأتي .
والثاني
عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : .... عذاب الكافر في قبره ، والذي نفسي بيده ، أنه يسلط عليه تسعة وتسعون تنينا ، أتدرون ما التنين ؟ سبعون حية ، لكل حية سبع رؤوس يلسعونه ويخدشونه إلى يوم القيامة .
رواه ابن حبان في صحيحه ( 3122 ) وأبو يعلى في مسنده ( رقم 6644 ) والبيهقي في عذاب القبر ( رقم 68 ) والطبري في التفسير ( 18/394 ) من رواية أبي يحيى سعيد بن أبي أيوب بن مقلاص وهو ثقة ثبت عند أبي يعلى وابن حبان ، ومن رواية عمرو بن الحارث وهو ثقة أيضا عند البيهقي والطبري كلاهما ( سعيد بن أيوب وعمرو بن الحارث ) عن دراج أبي السمح عن ابن حجيرة عن أبي هريرة به.
ترجمة دراج
ودراج هو ابن سمعان ، يقال اسمه عبد الرحمن ودراج لقب ، أبو السمح القرشى السهمى مولاهم المصرى القاص مولى عبد الله بن عمرو من أوساط التابعين توفي 126 هـ وروى له البخاري في الأدب المفرد وكذا أصحاب السنن ..
والإمام أحمد لم يصرح بتضعيفه فقد قال الذهبي في المغني : قال أحمد أحاديثه مناكير.
وجاء في الكامل لابن عدي بسنده (3 / 112) : قال أحمد بن حنبل : أحاديث دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد فيها ضعف. اهـ
فهذا يبين أمرين :
أولهما : أن حديث دراج عن غير أبي الهيثم لا يساوي في الضعف روايته عن أبي الهيثم .
وثانيهما : أن وصف أحمد لدراج بقوله : أحاديثه مناكير لا تعني الضعف المطلق كما بينه اللكنوي في الرفع والتكميل ، وهو مبحث مهم جدا لا غنى عنه لطالب العلم .
وقال ابن عبد الهادي في كتاب بحر الدم فيمن تكلم فيه أحمد بمدح أو ذم (1/52) : وعلى حاشية المغني : وثقه أحمد . اهـ
ولم أجد هذا التوثيق ، وأظنه وهم واضح ، ويكفي جهالة كاتبه .
وقال ابن عدي في ختام ترجمة أبي السمح في الكامل (3/115) :
وأرجو إن أخرجت دراج وبرأته من هذه الأحاديث التي أنكرت عليه أن سائر أحاديثه لا بأس بها ويقرب صورته ما قال فيه يحيى بن معين.
يعني أنه يميل إلى توثيق ابن معين ، وهذا واضح لا لبس فيه ، كما أنه ذكر ما أنكر على دراج ولم يذكر هذا الحديث فيما لم يتابع عليه أبو السمح .
وقال أبو داود [ كما في تهذيب التهذيب 3 /181 ] لما سئل عنه سمعت أحمد قال : الشأن في دراج . اهـ
وحقيقة لا أدري ما وجه هذه الكلمة عندي !! وهي أقرب أن يكون معناها الحمل عليه .
أو لعلها الحيرة في أمره كما قال المروزي [ موسوعة أقوال الإمام أحمد في الجرح والتعديل 2/357 ] : سألت أبا عبد الله , عن أبى السمح . قلت : كيف هو ؟ قال : قد روى عن أبي الهيثم أحاديث ، وتبسم ، قلت : كيف هو ؟ قال : ما أدري ما هو ! قلت : فأبو الهيثم ؟ قال : ثقة . اهـ
وفي تهذيب الكمال للمزي ( 8 / 478 ) قال عباس الدوري سألت يحيى بن معين عن حديث دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد فقال : ما كان هكذا بهذا الإسناد فليس به بأس ، دراج ثقة ، وأبو الهيثم ثقة . اهـ
ولم يتقبل الإمام الدارمي غي سؤالاته توثيق ابن معين فقال هو صدوق .
ونحن لم نأخذ بتوثيقه ابن معين مطلقا ولم نأخذ بروايته عن أبي الهيثم لطعن الأئمة فيها خاصة . فكان التوسط هو في القول بأن حديثه حسن عن غير أبي الهيثم .
وقد نسب إلى ابن أبي حاتم عن أبيه أن دراج ضعيف ؟
فالموجود في الجرح والتعديل (3/442) قوله : دراج في حديثه صنعة .
وهي ليست خطأ من النساخ ؟ فقد وجدت نفس الكلمة عنه قالها في ترجمة أبو غيلان الشيباني وعائذ بن شريح الحضرمي . وواضح أنها من صيغ التضعيف . والعلم عند الله تعالى .
وأما قول فضلك الرازي وقد ذكر له قول يحيى بن معين في دراج أنه ثقة فقال فضلك : ما هو بثقة ولا كرامة له .
فيحتمل بهذا أنه أراد نزوله عن رتبة الثقة لا أنه ساقط بمرة .
كما أن فضلك الرازي وهو أبو بكر الفضل بن العباس وهو ثقة ثبت إمام حافظ ناقد ولكنه متشدد في الجرح جدا حتى قال في أبو سعيد الربعي عبد الله شبيب وهو أخباري علامة لكنه واه قال الحاكم : ذاهب الحديث وبالغ فضلك الرازي فقال: يحل ضرب عنقه !!
وكلام الحافظين الذهبي وابن حجر - وهما من هما - خلاصة لما يقال في دراج ..
وكتبهما ما هي إلا خلاصة تجمع جميع الأقوال في المترجم له ، فيضعان خلاصة الحكم على الراوي بأوجز عبارة ..
وهذا لا نقوله تعسفا وإنما بالسبر لحال الراوي وجمع كلام علماء الجرح والتعديل فيه .
ولا يشك عاقل في أنهما اطلعا على جميع ما قيل في ترجمته ولذلك رجحا الآتي :
قال ابن حجر : صدوق وفي حديثه عن أبى الهيثم ضعف .
وقال الذهبي : وثقه ابن معين والنسائي وقال أبو داود وغيره : حديثه مستقيم ، إلا ما كان عن أبى الهيثم .
والصدوق حديثه حسن كما هو معلوم ..
وهذا ما فعله الألباني وشعيب في رواية أبي هريرة من طريق دراج عن ابن حجيرة ، ولم يعلاها باضطراب أو غيره كما تراه في تعليقهما رحمهما الله تعالى .
ترجمة ابن حجيرة
وابن حجيرة الذي روى عنه دراج هو عبد الرحمن بن حجيرة قاضي مصر من طبقة التابعين الوسطى توفي 83هـ وهو من الثقات وقد روى له مسلم وأصحاب السنن ووثقه النسائي .
فبان بهذا أن دراج رواه مرة عن أبي الهيثم عن أبي سعيد ، ومرة عن ابن حجيرة عن أبي هريرة ..
ولو كان الرجل ضعيفا بالكلية لرد الحديث ، ولكن لتوثيق من وثقه نأخذ بروايته عن ابن حجيرة عن أبي هريرة .
ولولا ما فيه من كلام لحكمنا بصحة هذا السند ولكن نزل الحديث من الصحة إلى الحسن .
ولذلك حسنه الألباني وشعيب في تحقيقهما جزاهما الله خيرا .
شبهة الإضطراب في الحديث
ومن قال أن الحديث اضطرب فيه دراج ، والمضطرب ضعيف ..
فيقال له : علة الاضطراب لا توجب رد الحديث إلا إذا ثبتت ؟
قال النووي فيما ذكره السيوطي في التدريب 1/308 : المضطرب هو الذي يروى على أوجه مختلفة متقاربة فان رجحت إحدى الروايتين على الأخرى بحفظ راويها .. أو.. أو.. فالحكم للراجحة ولا يكون مضطربا .. اهـ
وهنا نحن نعمل بقول من قال من العلماء تعليقا على هذا النوع :
ومتى كان أحد الوجوه قويا والآخر ضعيفا عمل بالقوي ..
وهذا كلام البلقيني في محاسن الاصطلاح على مقدمة ابن الصلاح ..
وكذا كتب على هامش مقدمة ابن الصلاح بخط ابن الفاسي : فإن كان أحد الوجوه مرويا من وجه ضعيف والآخر من وجه قوي فلا اضطراب . اهـ ص 269 طبعة دار المعارف بتحقيق بنت الشاطيء.
وبهذا يتبين لنا مسألة مهمة .. وهي أن رواية أبي سعيد غير رواية أبي هريرة سندا مع الاختلاف الظاهر بين اللفظين وإن اشتركا في المعنى العام ..
فدراج أبو السمح رواه بسندين ولفظين مختلفين ..
وإنما رجحنا جودة روايته عن ابن حجيرة لضعف روايته عن أبي الهيثم ..
فهذا في حد ذاته لا يعد اضطرابا .. وإنما الاضطراب يكون واضحا عنده فيما لو رواه موقوفا ومرفوعا بسند صحيح إليه أو غير ذلك كما في نوع الاضطراب من المصطلح ..
والحقيقة أن الموقوف لم يصح سنده إلى أبي السمح فلا نظلمه بهذا .. ففي طريقه إليه عبد الله بن سليمان الطويل وهو صدوق يخطيء .. فليست العهدة على أبي السمح.
ورواه الطبري من طريق ابن أبي هلال عن أبي حازم عن أبي سعيد موقوفا عليه .. وسنده ضعيف أيضا .
فعهدة الرواية الموقوفة بريء منها أبو السمح .. والله أعلم.
رواية الثقات عن الضعفاء
ومن قال : لا ينفع الراوي الضعيف ، أو من في حفظه شيء أن يروي عنه مائة ثقة ثبت.
يشير إلى رواية الثقتان سعيد بن أيوب وعمرو بن الحارث عنه ..
نقول : هذه الكلام صحيح في الغالب ، ولكن الثقات ينتقون من حديث الضعفاء ومن فيهم خطأ .. فتكون روايتهم أقوى من حيث الانتقاء .
وهنا قد روى ثقتان عنه عن ابن حجيرة .. غير رواية ابن لهيعة ..
وتابع أبي السمح سعيد بن أبي هلال عن أبي حُجَيْرة في رواية البزار ( كما في كشف الأستار برقم 2233 ) قال : حدثنا محمد بن يحيى الأزدي ( وثقه الداراقطني ) حدثنا محمد بن عمرو ( لم أجد ترجمته ) حدثنا هشام بن سعد ( صدوق حسن الحديث إن شاء الله ) عن سعيد بن أبي هلال ( والجمهور على توثيقه ) عن أبي حُجَيْرة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم به ..
وسنده ضعيف ولذلك قال الهيثمي في المجمع (7/67) : فيه من لم أعرفه .
وهي إن كانت ضعيفة إلا أننا نستأنس بها في عدم تفرد أبي السمح عن ابن حجيرة به .
والحديث رواه ابن أبي حاتم كما في تفسير ابن كثيرمن طريق ابن لهيعة ( وضعفه مشهور ) قال حدثنا دراج أبو السمح ، عن ابن حُجَيْرة عن أبي هريرة مرفوعا..
هذا بالإضافة إلى أن ذكرالتنانين ذكر عند الترمذي في سننه (رقم2460) من طريق عبيد الله بن الوليد الوصافي وهو ضعيف جدا وعطية العوفي وهو ضعيف أيضا عن أبي سعيد قال في حديث طويل مرفوعا : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
ويقيض الله له سبعين تنينا لو أن واحدا منها نفخ في الأرض ما أنبتت شيئا ما بقيت الدنيا فينهشنه ويخدشنه حتى يفضي بهالحساب .
والخلاف في عدد التنانين ظاهر .
وقد جاء موقوفا عن أبي سعيد الخدري عند البيهقي في إثبات عذاب القبر رقم (61) من طريق عبد الله بن سليمان عن دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد موقوفا عليه .
ولعل الخطأ في وقفه من عبد الله بن سليمان الملقب بالطويل فإنه صدوق يخطيء كما قال ابن حجر ولم يروي عنه غير أبي داود والنسائي .
وكذلك جاء موقوفا بنحوه عند الطبري في تفسيره (16/227) لسورة طه من طريق ابن أبي هلال عن أبي حازم عن أبي سعيد موقوفا عليه .. وسنده ضعيف .
فحديث دراج عن ابن حجيرة عن أبي هريرة مرفوعا سنده حسن على أقل تقدير إن شاء الله ..
وبان بهذا أن قول الإمام ابن كثير رحمه الله : رفعه منكر جدا ، ليس بصواب ..
وجه قول ابن كثير رفعه منكر جدا
وقد علق بعض الأخوة الكرام على قول ابن كثير : رفعه منكر جدا إلى أنه يضعف الحديث كليا موقوفا ومرفوعا .. وهذا قول لم أعرفه في المصطلح ..
ومع ذلك بحثت الكترونيا عن قول ابن كثير ( رفعه منكر جداً ) فلم أجدها ذكرت في تفسيره كله إلا مرة واحدة بهذا اللفظ .
وباقي الألفاظ التي تؤدي نفس المعنى كلها تؤكد على أن المراد بها هو أن رفعه خطأ وصوابه الوقف .. وقد يكون الوقف صحيحا أو ضعيفا .
وفي تفسيره من هذا النوع الكثير ..
ومن أمثلته : عندما ذكر حديث الإمام أحمد في قصة يأجوج ومأجوج قال بعد أن ذكره : وهذا إسناده قوي ، ولكن في رفعه نكارة .
وذكر حديثا في المسند أيضا بلفظ : " إن العشر عشر الأضحى ، والوتر يوم عرفة ، والشفع يوم النحر" وقال : وهذا إسناد رجاله لا بأس بهم ، وعندي أن المتن في رفعه نكارة ، والله أعلم.
فبان بهذا وأمثاله أن النكارة في رفع الحديث لا تعني نكارة وقفه . والله أعلم.
وهو هنا ضعيف موقوف وحسن مرفوع إن شاء الله تعالى .
وجه ارتباط المعيشة الضنك بعذاب القبر
قال بعض المعترضين : ما علاقة الآية بهذه الرواية ؟ الآية تتحدث عن معيشة الإنسان الضنك في الدنيا وكيف أنه يحشر أعمى في الآخرة ! فما علاقة هذا بعذاب القبر ؟!يقول هذا ردا على حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بعقله وهواه ..
فأقول : وهل كلمة " معيشة " فقط للدنيا ؟
قال تعالى عن أهل الجنة : ( فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ ) ؟
وقال عليه الصلاة والسلام : " اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة ". متفق عليه.
وفي تفسير ابن كثير للآية : قال سفيان بن عيينة عن أبي حازم عن أبي سلمة عن أبي سعيد في قوله : { معيشة ضنكا } قال : يضيق عليه قبره حتى تختلف أضلاعه فيه.
وذكر أيضا رواية البزار عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم { فإن له معيشة ضنكا } قال : عذاب القبر .
وقال ابن كثير: إسناده جيد. وجود إسناده أيضا السيوطي في الإتقان وصححه الحاكم من رواية أبي هريرة وأبي سعيد ووافقه الذهبي ورواه الطبري في تهذيب الآثار ( رقم : 178 ) الحديث بطوله بلفظ :
ثم يضيق عليه قبره حتى تختلف أضلاعه قال : وذلك قوله تبارك و تعالى : { فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى } . اهـ
ورواه ابن حبان والحاكم والطبراني وحسنه الألباني .
وهذا شيخ المفسرين الإمام الطبري .. فقد عرض الأقوال التي تقول أن المعيشة الضنك هي في : جهنم نار الآخرة ، أو في الدنيا ، أو في اابرزخ ..
وقد رجح أنها في عذاب القبر بكلام نفيس جدا ، غير ما نقله من آثار ..
قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال : هو عذاب القبر ( ثم ذكر رواية أبي هريرة ) وإن الله تبارك وتعالى أتبع ذلك بقوله : { ولعذاب الآخرة أشد وأبقى } فكان معلوما بذلك أن المعيشة الضنك التي جعلها الله لهم قبل عذاب الآخرة لأن ذلك لو كان في الآخرة لم يكن لقوله : { ولعذاب الآخرة أشد وأبقى } معنى مفهوم لأن ذلك إن لم يكن تقدمه عذاب لهم قبل الآخرة حتى يكون الذي في الآخرة أشد منه بطل معنى قوله : { ولعذاب الآخرة أشد وأبقى } ..
فإذ كان ذلك كذلك فلا تخلو تلك المعيشة الضنك التي جعلها الله لهم من أن تكون لهم في حياتهم الدنيا أو في قبورهم قبل البعث إذ كان لا وجه لأن تكون في الآخرة لما قد بينا ..
فإن كانت لهم في حياتهم الدنيا فقد يجب أن يكون كل من أعرض عن ذكر الله من الكفار فإن معيشته فيها ضنك !! وفي وجودنا كثيرا منهم أوسع معيشة من كثير من المقبلين على ذكر الله تبارك وتعالى المؤمنين به ، وفي ذلك ما يدل على أن ذلك ليس كذلك .. وإذ خلا القول في ذلك من هذين الوجهين صح الوجه الثالث وهو أن ذلك في البرزخ. الخ
وهو كلام نفيس جدا مقنع أيما إقناع .. وبطل به هذا الاعتراض العقلي .
وفي شرح نفيس لمقدمة التفسير لشيخ الإسلام ابن تيمية ..
قال الشارح : قوله : ( فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً ) . قال العلماء : هذا من ضمن الأدلة التي يوردها أهل العلم على عذاب القبر ، فإن الآية ظاهرة في أن هناك معيشة ضنكاً قبل عذاب الآخرة قبل يوم القيامة وليس قبل القيامة إلا الدنيا والبرزخ ، والمشاهد أن بعض الناس من أهل المعاصي يستدرجه الله سبحانه وتعالى فلا يكون في معيشته نوع من الضنك فأين يصير الضنك إذاً ؟ الجواب : الضنك في عذاب القبر، ولذلك ذكروا في تفسير هذه الآية عن السلف رضوان الله عليهم أنهم فسروا (العذاب الضنك) : بما يكون من عذاب في القبر. اهـ
هل التنين خرافة ؟
فقد عارضني البعض بأن التنين خرافة وأسطورة لا حقيقة له !
فقلت : لعل القائل بهذا ممن اقتنع بأن التنين هو كما جاء في ترجمته في قواميس الانجليزية والفرنسية بأنه حيوان أسطوري ، أي خيالي لا وجود له ..
لكن جاء في معاجم لغتنا العربية أن التنين هو الحية العظيمة ..
كما في تاج العروس شرح القاموس للزبيدي (1/7986) : والتنين كسكيت حية عظيمة ..
وفي مختار صحاح الجوهري للرازي (1/83) : التِنِّيِّنُ ضرب من الحيات.
وفي كتاب العين للخليل بن أحمد الفراهيدي ( 8 / 108 ) : والتَّنينُ من الحَيات : أعظمُها .. وقال في (8/136) : والتِّنِّين : حَيةٌ .
ولعل من العجب وجود ذكر التنين في التوراة والإنجيل أو ما جمع في كتابهم المقدس زعموا ..
فهاهو جاء ذكره في أول أسفار التوراة .. سِفْرُ اَلتَّكْوِينِ : اَلإصْحَاحُ اَلأوَّلُ-21
فَخَلَقَ اَللهُ اَلتَّنَانِينَ اَلْعِظَامَ وَكُلَّ نَفْسٍ حَيَّةٍ تَدِبُّ اَلَّتِي فَاضَتْ بِهَا اَلْمِيَاهُ كَأَجْنَاسِهَا وَكُلَّ طَائِرٍ ذِي جَنَاحٍ كَجِنْسِهِ. وَرَأَى اَللهُ ذَلِكَ أَنَّهُ حَسَنٌ. اهـ
وجاء في قصة دانيال مع التنين في سفر دانيال ، وجاء في رؤيا يوحنا اللاهوتي ..
وأنا لا أحتج بما عندهم صراحة ولا أردها عموما .. لحديث : حدثوا عن بني إسرائيل .. ولقوله : فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم ..
وإنما لتوافق ما جاء عندنا في الشريعة ولو في حديث ضعيف .. ولما يفسره أهل اللغة العربية لغة القرآن العظيم ..
وانظروا لتلك القصة التي عاشها ياقوت الحموي في رؤية أهل بلده لتنين عظيم في حجم المنارة ، أهلك الحرث والدواب .. ( معجم البلدان 4/476)
وأنا لا أصدق خرافة ولا أسطورة وإنما نتبع الدليل ، ومهما كان من أمر فالقصص والحكايات في التنين كثيرة وكلها تثبت أنه حية في حجم كبير جدا ..
وهناك نوع أو أنواع من الحيات كالأناكوندا مثلا قد يصل حجمها إلى أضعاف كثيرة من حجم الحيات الكبيرة ، وهذا في الدنيا ، فكيف بالأمر لو كان في عذاب القبر ؟
ومع ذلك .. هب عدم وجوده في أي مرجع في الدنيا إلا في كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فهل نرده لذلك ؟
كلام ابن رجب في الأهوال
وحديث تنانين القبر بمعنى حياته .. ذكر له ابن رجب في كتاب أهوال القبور أدلة كثيرة مرفوعة وموقوفة ومرسلة وإن كانت كلها ضعيفة سندا ، لكنني أذكرها كشواهد لمجمل الموضوع ، وليس لتصحيح حديث أبي هريرة ..
قال رحمه الله في الأهوال (1/94) :
وخرج ابن منده من طريق أبي حازم عن أبي هريرة وذكر قبض روح المؤمن والكافر وقال في الكافر [ وتسلط عليه الهوام وهي الحيات فينام كالمنهوس ويفزع ] وخرجه مرفوعا أيضا .
وخرج الإمام أحمد من حديث علي بن زيد بن جدعان عن أم محمد عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : [ يرسل على الكافرين حيتان واحدة من قبل رأسه والأخرى من قبل رجليه يقرصانه قرصا كلما فرغتا عادتا إلى يوم القيامة ]
قلت : وسنده ضعيف لجهالة أم محمد وضعف ابن جدعان ومع ذلك حسنه الهيثمي !
وخرج ابن أبي الدنيا بإسناده ضعيف عن الحسن [ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا يرى أحد خارجا من الدنيا شاتما لأحد منهم يعني من أول هذه الأمة إلا سلط الله عليه دابة في قبره تقرص لحمه يجد ألمه إلى يوم القيامة ] .
وخرج الخلال من طريق عاصم عن زر عن ابن مسعود قال [ يقال للكافر في قبره ما أنت ؟ فيقول لا أدري فيقال لا دريت ثلاثا ويضيق عليه قبره حتى تختلف أضلاعه ويرسل عليه حيات من جوانب قبره تنهشه وتأكله فإذا خرج فصاح قمع بمقمع من نار أو حديد ]
وخرجه أبو بكر الآجري وزاد فيه [ ويضرب ضربة يلتهب قبره نارا ] وعنده [ ويبعث عليه حيات من حيات القبر كأعناق الإبل ]
وخرج ابن أبي الدنيا في كتاب الموت بإسناده عن عبيد بن عمير قال [ يسلط عليه شجاع أقرع فيأكله حتى يأكل أم هامته فهذا أول ما يصيبه من عذاب الله ]
وبإسناده عن مسروق قال : ما من ميت وهو يزني أو يسرق أو يشرب أو يأتي شيئا من هذه إلا جعل معه شجاعان ينهشانه في قبره . اهـ
هذا والله أعلى وأعلم ..
وأستغفر الله من الزلل والخطأ..
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .