قال العلاَّمة أحمد محمد شاكر رحمه الله تعالى: "أطلق المحدثون ألقابًا على العلماء بالحديث:
فأعلاها: "أمير المؤمنين في الحديث" وهذا اللقب لم يظفر به إلا الأفذاذ النوادر، الذين هم أئمة هذا الشأن والمرجع إليهم فيه، كشعبة بن الحجاج وسفيان الثوري وإسحاق بن راهويه وأحمد بن حنبل والبخاري والدارقطني وفي المتأخرين ابن حجر العسقلاني، رحمهم الله جميعًا.
ثم يليه "الحافظ" وقد بين الحافظ المزي الحدّ الذي إذا انتهى إليه الرجل جاز أن يُطلق عليه "الحافظ"، فقال: "أقل ما يكون أن تكون الرجال الذين يعرفهم ويعرف تراجمهم وأحوالهم وبلدانهم أكثر من الذين لا يعرفهم، ليكون الحكم للغالب"، فقال له التقي السبكي: (هذا عزيزٌ في هذا الزمان، أدركت أنت أحدًا كذلك؟)"، فقال: "ما رأينا مثل الشيخ الدمياطي، ثم قال: وابن دقيق العيد كان له في هذا مشاركة جيدة، ولكن أين الثريا من الثرى؟!، فقال السبكى: "كان يصل إلى هذا الحد"، قال: "ما هو إلا كان يشارك مشاركة جيدة في هذا، أعني في الأسانيد، وكان في المتون أكثر، لأجل الفقه والأصول".
وقال أبو الفتح: "أما المحدث في عصرنا فهو من اشتغل بالحديث رواية ودراية، وجمع رواته، واطلع على كثيرٍ من الرواة والروايات في عصره، وتميز في ذلك حتى عُرف فيه خطه واشتهر ضبطه، فإن توسع في ذلك حتى عرف شيوخه وشيوخ شيوخه طبقة بعد طبقة بحيث يكون ما يعرفه من كل طبقة أكثر مما يجهله، فهذا هو الحافظ".
وسأل الحافظُ ابنُ حجر شيخَه أبا الفضل العراقي فقال: ما الحد الذي إذا بلغه الطالب في هذا الزمان استحق أن يسمى حافظا؟ وهل يتسامح بنقص بعض الأوصاف التي ذكرها المزي وأبو الفتح في ذلك لنقص زمانه أم لا؟
فأجاب: الاجتهاد في ذلك يختلف باختلاف غلبة الظن في وقتٍ ببلوغ بعضهم للحفظ وغلبته في وقت آخر، وباختلاف من يكون كثير المخالطة للذي يصفه بذلك، وكلام المزي فيه ضيق، بحيث لم يسم ممن رآه بهذا الوصف إلا الدمياطي، وأما كلام أبي الفتح فهو أسهل، بأن ينشط بعد معرفة شيوخه إلى شيوخ شيوخه وما فوق، ولا شك أن جماعة من الحفاظ المتقدمين كان شيوخهم التابعون أو أتباع التابعين، وشيوخ شيوخهم الصحابة أو التابعين، فكان الأمر في هذا الزمان أسهل باعتبار تأخر الزمان، فإن اكتُفي بكون الحافظ يعرف شيوخه وشيوخ شيوخه أو طبقة أخرى فهو سهل لمن جعل فنه ذلك دون غيره من حفظ المتون والأسانيد، ومعرفة أنواع علوم الحديث كلها، ومعرفة الصحيح من السقيم، والمعمول به من غيره، واختلاف العلماء، واستنباط الأحكام، فهو أمر ممكن، بخلاف ما ذكر من جميع ما ذكر، فإنه يحتاج إلى فراغ وطول عمر، وانتفاء الموانع، وقد روي عن الزهري أنه قال: لا يولد الحافظ إلا في كل أربعين سنة. فإن صح كان المراد رتبة الكمال في الحفظ والإتقان، وإن وجد في زمانه من يوصف بالحفظ، وكم من حافظٍ غيرُه أحفظُ منه. نقل ذلك كله الناظم في التدريب ص 7-8
وأدنى من "الحافظ" درجة يسمى "المحدث"، قال التاج السبكي في كتابه "معيد النعم" فيما نقله الناظم في التدريب ص 6: "من الناس فرقة ادعت الحديث فكان قصارى أمرها النظر في مشارق الأنوار للصغالي فإن ترفعت فإلى مصابيح البغوي، وظنت أنها بهذا القدر تصل إلى درجة المحدثين!، وما ذلك إلا بجهلها بالحديث ، فلو حفظ من ذكرناه هذين الكتابين عن ظهر قلب وضم إليهما من المتون مثليهما لم يكن محدثا، ولا يصير بذلك محدثا حتى يلج الجمل في سم الخياط، فإن رامت بلوغ الغاية في الحديث على زعمها اشتغلت بجامع الأصول لابن الأثير، فإن ضمت إليه " علوم الحديث " لابن الصلاح أو مختصره المسمى " بالتقريب والتيسير للنووي " ونحو ذلك، وحينئذ ينادى من انتهى إلى هذا المقام: بمحدث المحدثين وبخاري العصر!، وما ناسب هذه الألفاظ الكاذبة، فإن من ذكرناه لا يعد محدثا بهذا القدر، وإنما المحدث من عرف الأسانيد والعلل، وأسماء الرجال والعالي والنازل، وحفظ مع ذلك جملة مستكثرة من المتون، وسمع الكتب الستة، ومسند أحمد بن حنبل، وسنن البيهقي، ومعجم الطبراني، وضم إلى هذا القدر ألف جزء من الأجزاء الحديثية هذا أقل درجاته، فإذا سمع ما ذكرناه وكتب الطباق ودار على الشيوخ وتكلم في العلل والوفيات والمسانيد كان في أول درجات المحدثين، ثم يزيد الله من يشاء ما يشاء .
ودون هذين من يسمى "المسند" –بكسر النون- وهو الذي يقتصر على سماع الأحاديث وإسماعها من غير معرفة بعلومها أو إتقان لها، وهو الراوية فقط.
وقد وصف التاج السبكي هؤلاء الرواة فقال: "ومن أهل العلم طائفة طلبت الحديث وجعلت دأبها السماع على المشايخ، ومعرفة العالي من المسموع والنازل، وهؤلاء هم المحدثون على الحقيقة، إلا أن كثيرًا منهم يجهد نفسه في تهجي الأسماء والمتون وكثرة السماع، من غير فهم لما يقرؤنه، ولا تتعلق فكرته بأكثر من أنّي حصلت جزء ابن عرفة عن سبعين شيخًا، وجزء الأنصاري عن كذا كذا شيخًا، وجزء البطاقة ونسخة البطاقة ونسخة ابن مسهر، وأنحاء ذلك!! وإنما كان السلف يسمعون فيقرؤن فيرحلون فيفسرون، ويحفظون فيعملون".
وأما عصرنا هذا فقد ترك الناس فيه الرواية جملة، ثم تركوا الاشتغال بالأحاديث إلا نادراً، وقليل أن ترى منهم من هو أهل لأن يكون طالباً لعلوم السنة، وهيهات أن تجد من يصلح أن يكون محدثاً. وأما الحفظ فإنه انقطع أثره، وختم بالحافظ ابن حجر العسقلاني رحمه الله ، ثم قارب السخاوي والسيوطي أن يكونا حافظين ، ثم لم يبق بعدهما أحد، ومن يدري: فلعل الأمم الإسلامية تستعيد مجدها وترجع إلى دينها وعلومها، ولا يعلم الغيب إلاّ الله، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بدأ الإسلام غريبا، وسيعود غريبا كما بدأ). اهــ
المصدر: ألفية السيوطي في علم الحديث ص: 92-93 بتصرف يسير
فأعلاها: "أمير المؤمنين في الحديث" وهذا اللقب لم يظفر به إلا الأفذاذ النوادر، الذين هم أئمة هذا الشأن والمرجع إليهم فيه، كشعبة بن الحجاج وسفيان الثوري وإسحاق بن راهويه وأحمد بن حنبل والبخاري والدارقطني وفي المتأخرين ابن حجر العسقلاني، رحمهم الله جميعًا.
ثم يليه "الحافظ" وقد بين الحافظ المزي الحدّ الذي إذا انتهى إليه الرجل جاز أن يُطلق عليه "الحافظ"، فقال: "أقل ما يكون أن تكون الرجال الذين يعرفهم ويعرف تراجمهم وأحوالهم وبلدانهم أكثر من الذين لا يعرفهم، ليكون الحكم للغالب"، فقال له التقي السبكي: (هذا عزيزٌ في هذا الزمان، أدركت أنت أحدًا كذلك؟)"، فقال: "ما رأينا مثل الشيخ الدمياطي، ثم قال: وابن دقيق العيد كان له في هذا مشاركة جيدة، ولكن أين الثريا من الثرى؟!، فقال السبكى: "كان يصل إلى هذا الحد"، قال: "ما هو إلا كان يشارك مشاركة جيدة في هذا، أعني في الأسانيد، وكان في المتون أكثر، لأجل الفقه والأصول".
وقال أبو الفتح: "أما المحدث في عصرنا فهو من اشتغل بالحديث رواية ودراية، وجمع رواته، واطلع على كثيرٍ من الرواة والروايات في عصره، وتميز في ذلك حتى عُرف فيه خطه واشتهر ضبطه، فإن توسع في ذلك حتى عرف شيوخه وشيوخ شيوخه طبقة بعد طبقة بحيث يكون ما يعرفه من كل طبقة أكثر مما يجهله، فهذا هو الحافظ".
وسأل الحافظُ ابنُ حجر شيخَه أبا الفضل العراقي فقال: ما الحد الذي إذا بلغه الطالب في هذا الزمان استحق أن يسمى حافظا؟ وهل يتسامح بنقص بعض الأوصاف التي ذكرها المزي وأبو الفتح في ذلك لنقص زمانه أم لا؟
فأجاب: الاجتهاد في ذلك يختلف باختلاف غلبة الظن في وقتٍ ببلوغ بعضهم للحفظ وغلبته في وقت آخر، وباختلاف من يكون كثير المخالطة للذي يصفه بذلك، وكلام المزي فيه ضيق، بحيث لم يسم ممن رآه بهذا الوصف إلا الدمياطي، وأما كلام أبي الفتح فهو أسهل، بأن ينشط بعد معرفة شيوخه إلى شيوخ شيوخه وما فوق، ولا شك أن جماعة من الحفاظ المتقدمين كان شيوخهم التابعون أو أتباع التابعين، وشيوخ شيوخهم الصحابة أو التابعين، فكان الأمر في هذا الزمان أسهل باعتبار تأخر الزمان، فإن اكتُفي بكون الحافظ يعرف شيوخه وشيوخ شيوخه أو طبقة أخرى فهو سهل لمن جعل فنه ذلك دون غيره من حفظ المتون والأسانيد، ومعرفة أنواع علوم الحديث كلها، ومعرفة الصحيح من السقيم، والمعمول به من غيره، واختلاف العلماء، واستنباط الأحكام، فهو أمر ممكن، بخلاف ما ذكر من جميع ما ذكر، فإنه يحتاج إلى فراغ وطول عمر، وانتفاء الموانع، وقد روي عن الزهري أنه قال: لا يولد الحافظ إلا في كل أربعين سنة. فإن صح كان المراد رتبة الكمال في الحفظ والإتقان، وإن وجد في زمانه من يوصف بالحفظ، وكم من حافظٍ غيرُه أحفظُ منه. نقل ذلك كله الناظم في التدريب ص 7-8
وأدنى من "الحافظ" درجة يسمى "المحدث"، قال التاج السبكي في كتابه "معيد النعم" فيما نقله الناظم في التدريب ص 6: "من الناس فرقة ادعت الحديث فكان قصارى أمرها النظر في مشارق الأنوار للصغالي فإن ترفعت فإلى مصابيح البغوي، وظنت أنها بهذا القدر تصل إلى درجة المحدثين!، وما ذلك إلا بجهلها بالحديث ، فلو حفظ من ذكرناه هذين الكتابين عن ظهر قلب وضم إليهما من المتون مثليهما لم يكن محدثا، ولا يصير بذلك محدثا حتى يلج الجمل في سم الخياط، فإن رامت بلوغ الغاية في الحديث على زعمها اشتغلت بجامع الأصول لابن الأثير، فإن ضمت إليه " علوم الحديث " لابن الصلاح أو مختصره المسمى " بالتقريب والتيسير للنووي " ونحو ذلك، وحينئذ ينادى من انتهى إلى هذا المقام: بمحدث المحدثين وبخاري العصر!، وما ناسب هذه الألفاظ الكاذبة، فإن من ذكرناه لا يعد محدثا بهذا القدر، وإنما المحدث من عرف الأسانيد والعلل، وأسماء الرجال والعالي والنازل، وحفظ مع ذلك جملة مستكثرة من المتون، وسمع الكتب الستة، ومسند أحمد بن حنبل، وسنن البيهقي، ومعجم الطبراني، وضم إلى هذا القدر ألف جزء من الأجزاء الحديثية هذا أقل درجاته، فإذا سمع ما ذكرناه وكتب الطباق ودار على الشيوخ وتكلم في العلل والوفيات والمسانيد كان في أول درجات المحدثين، ثم يزيد الله من يشاء ما يشاء .
ودون هذين من يسمى "المسند" –بكسر النون- وهو الذي يقتصر على سماع الأحاديث وإسماعها من غير معرفة بعلومها أو إتقان لها، وهو الراوية فقط.
وقد وصف التاج السبكي هؤلاء الرواة فقال: "ومن أهل العلم طائفة طلبت الحديث وجعلت دأبها السماع على المشايخ، ومعرفة العالي من المسموع والنازل، وهؤلاء هم المحدثون على الحقيقة، إلا أن كثيرًا منهم يجهد نفسه في تهجي الأسماء والمتون وكثرة السماع، من غير فهم لما يقرؤنه، ولا تتعلق فكرته بأكثر من أنّي حصلت جزء ابن عرفة عن سبعين شيخًا، وجزء الأنصاري عن كذا كذا شيخًا، وجزء البطاقة ونسخة البطاقة ونسخة ابن مسهر، وأنحاء ذلك!! وإنما كان السلف يسمعون فيقرؤن فيرحلون فيفسرون، ويحفظون فيعملون".
وأما عصرنا هذا فقد ترك الناس فيه الرواية جملة، ثم تركوا الاشتغال بالأحاديث إلا نادراً، وقليل أن ترى منهم من هو أهل لأن يكون طالباً لعلوم السنة، وهيهات أن تجد من يصلح أن يكون محدثاً. وأما الحفظ فإنه انقطع أثره، وختم بالحافظ ابن حجر العسقلاني رحمه الله ، ثم قارب السخاوي والسيوطي أن يكونا حافظين ، ثم لم يبق بعدهما أحد، ومن يدري: فلعل الأمم الإسلامية تستعيد مجدها وترجع إلى دينها وعلومها، ولا يعلم الغيب إلاّ الله، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بدأ الإسلام غريبا، وسيعود غريبا كما بدأ). اهــ
المصدر: ألفية السيوطي في علم الحديث ص: 92-93 بتصرف يسير