في تاريخ دمشق (52/ 15)
قال ابن أبي حاتم الرازي : سمعت أبي يقول: أكتب أحسن ما تسمع واحفظ أحسن ما تكتب وذاكر بأحسن ما تحفظ .
هذا الانتخاب أدب حياة.
وهو منهج تحديث وتصنيف ؛
يطلق المحدثون اسم (الانتقاء)، و (الانتخاب) ، على عملية اختيار المحدث للأحاديث، على أساس معيّن.
والأنواع الأساس في الانتقاء ثلاثة:
الأول : الانتقاء من أحاديث الشيوخ المباشرين.
الثاني : الانتقاء من أحاديث الرواة غير المباشرين.
الثالث : الانتقاء بحسب الاستدلال.
فتارة يختار المحدث من أحاديث شيخه ما لم يقع فيه الخطأ والوهم، أو ما هو أمن صح حديثه، كما يصنع البخاري رحمه الله مع شيوخه الذين تكلم فيهم، ففي مقدمة الفتح (ص:
38: "إسماعيل بن أبي أويس عبد الله بن عبد الله بن أويس بن مالك بن أبي عامر الأصبحي ابن أخت مالك بن أنس احتج به الشيخان، إلا أنهما لم
يكثرا من تخريج حديثه ولا أخرج له البخاري مما تفرد به سوى حديثين وأما مسلم فأخرج له أقل مما أخرج له البخاري،
قلت (ابن حجر): وروينا في مناقب البخاري بسند صحيح أن إسماعيل أخرج له أصوله وأذن له أن ينتقي منها وأن يعلم له على ما يحدث به
ليحدث به ويعرض عما سواه وهو مشعر بأن ما أخرجه البخاري عنه هو من صحيح حديثه لأنه كتب من أصوله وعلى هذا لا يحتج بشيء من
حديثه غير ما في الصحيح من أجل ما قدح فيه النسائي وغيره إلا أن شاركه فيه غيره فيعتبر فيه"اهـ.
وفي مقدمة الفتح (ص: 442): "محمد بن يوسف الفريابي نزيل قيسارية من سواحل الشام من كبار شيوخ البخاري وثقه الجمهور وذكره ابن
عدي في الكامل فقال: له إفراد وقال العجلي: ثقة وقد أخطأ في مائة وخمسين حديثا .
وذكر له ابن معين حديثا أخطأ فيه فقال: هذا باطل
قلت (ابن حجر): اعتمده البخاري لأنه انتقى أحاديثه وميزها وروى له الباقون بواسطة"اهـ وفي مقدمة الفتح (ص: 452) : "يحيى بن عبد الله
بن بكير المصري وقد ينسب إلى جده لقيه البخاري وحدث أيضا عن رجل عنه وروى عن مالك في الموطأ وأكثر عن الليث قال ابن عدي: هو أثبت
الناس فيه.
وقال أبو حاتم: كان يفهم هذا الشأن يكتب حديثه .
وقال مسلم: تكلم في سماعه عن مالك لأنه كان يعرض حديث. وضعفه النسائي مطلقا .
وقال البخاري في تاريخه الصغير: ما روى يحيى بن بكير عن أهل الحجاز في التاريخ فإني أتقيه.
قلت (ابن حجر): فهذا يدلك على أنه ينتقى حديث شيوخه ولهذا ما أخرج عنه عن مالك سوى خمسة أحاديث مشهورة متابعة، ومعظم ما أخرج عنه
عن الليث وروى عنه بكر بن مضر ويعقوب بن عبد الرحمن والمغيرة بن عبد الرحمن أحاديث يسيرة وروى له مسلم وابن ماجة"اهـ
وقد يقع الانتقاء والانتخاب مع أحاديث الرواة غير المباشرين، المتكلم فيهم، كما يصنعه البخاري ومسلم، فإنهما لا يخرجان عن من فيه كلام، إلا ما
يتحقق فيه ضبطه، كأن يكون ضابطاً لحديث أهل بلده، فيتجنبون الرواية عنه فيما رواه عن غيرهم، أو يكون حديثه عن شيخ معين له فيه كلام،
فيتجنبون من حديثه ما يكون عن هذا الشيخ ونحو ذلك، أو أن يكون الراوي مختلطاً، فلا يروون من حديثه بعد الاختلاط، إنما يتحرون الرواية
غ=عمن أخذ منه قبله، وهكذا...
وتارة يكون الانتقاء على أساس الاستدلال، فأصحاب المصنفات الحديثية المبوبة ينتقون الأحاديث على أساس ما تدل عليه الترجمة، مما جرى
عليه استدلال الفقهاء.
قال الحاكم النيسابوري رحمه الله في كتابه المدخل إلى كتاب الإكليل ص30 - 31: "الفرق بين الأبواب والتراجم أن التراجم شرطها أن يقول
المصنف: ذكر ما روي عن أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم يترجم على هذا المسند، فيقول ذكر ما روى
قيس بن أبي حازم عن أبي بكر الصديق - رضي الله عنه -، فيلزمه أن يخرج كل ما روى قيس عن أبي بكر صحيحاً كان أو سقيماً، فأما مصنف
الأبواب فإنه يقول: ذكر ما صح وثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أبواب الطهارة، أو الصلاة أو غير ذلك من العبادات"اهـ
وفي النكت على ابن الصلاح لابن حجر (1/ 446 - 447)، "أن ظاهر حال من يصنف على الأبواب أنه ادعى على أن الحكم فِي المسألة الَّتِي بوب
عليها ما بوب به، فيحتاج إلَى مستدل لصحة دعواه، والاستدلال إنَّما ينبغي أن يكون بِما يصلح أن يحتج به (أو يستشهد به)، وأمَّا من يصنف على
المسانيد فإن ظاهر قصده جَمع حديث كل صحابِي على حدة سواء أكان يصلح للاحتجاج به أم لا.
وهذا هو ظاهر من أصل الوضع بلا شك؛ لكن جَماعة من المصنفين فِي كل من الصنفين خالف أصل موضوعه فانْحط أو ارتفع؛ فإن بعض من
صنف الأبواب قد أخرج فيها الأحاديث الضعيفة بل والباطلة إمَّا لذهول عن ضعفها، وإمَّا لقلة معرفة بالنقد"اهـ
(وانظر: مقدمة تعجيل المنفعة (ص 3).
وقد قال الحافظ ابن حجر -رحِمه الله- (النكت على كتاب ابن الصلاح 1/ 447 - 44: "وبعض من صنف على المسانيد انتقى أحاديث كل صحابِي
فأخرج أصح ما وجد من حديثه، كما رُوِّينا عن إسحاق بن راهويه أنه انتقى فِي مسنده أصح ما وجده من حديث كل صحابِي إلا ألاَّ يجد ذلك المتن
إلا من تلك الطريق، فإنه يُخرجه.
ونَحَا بقي بن مخلد فِي مسنده نَحو ذلك، وكذا صنع أبو بكر البزار قريبًا من ذلك.
وقد صرَّح ببعض ذلك فِي عدة مواضع من مسنده فيخرج الإسناد الذي فيه مقال ويذكر علته، ويعتذر عند تَخريْجه بأنه لَمْ يعرفه إلا من ذلك الوجه.
وأمَّا الإمام أحمد؛ فقد صنف أبو موسى المدينِي جزءًا كبيرًا ذكر فيه أدلة كثيرة تقتضي أن أحمد انتقى مسنده، وأنه كله صحيح عنده، وأن ما
أخرجه فيه عن الضعفاء إنَّما هو فِي المتابعات؛ وإن كان أبو موسى قد ينازع فِي بعض ذلك، لكنه لا يشك منصف أن مسنده أنقى أحاديث وأتقن
رجالاً من غيره وهذا يدل على أنه انتخبه.
ويؤيد هذا: ما يحكيه ابنه عنه أنه كان يضرب على بعض الأحاديث الَّتِي يستنكرها.
وروى أبو موسى فِي هذا الكتاب من طريق حنبل بن إسحاق قال: وجمعنا أحمد وابناه عبد الله وصالِح، وقال: انتقيته من أكثر من سبعمائة ألف
وخَمسين ألفًا، فما اختلف فيه المسلمون من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فارجعوا إليه فإن وجدتموه وإلا فليس بِحجة.
فهذا صريح فيما قلناه إنه انتقاه ولو وقعت فيه الأحاديث الضعيفة والمنكرة؛ فلا يَمنع ذلك صحة هذه الدعوى؛ لأن هذه أمور نسبية، بل هذا كاف
فيما قلناه أنه لَمْ يكتف بِمطلق جَمع حديث كل صحابِي"اهـ
وليس معنى أنها منتقاة أن كل أحاديثها يحتج بها، إنما المراد أنه في الغالب أصح ما في الباب، بمعنى خير المروي فيه.
فهذا معنى الانتقاء وأنواعه،
والله الموفق.
منقول من صفحة الشيخ
قال ابن أبي حاتم الرازي : سمعت أبي يقول: أكتب أحسن ما تسمع واحفظ أحسن ما تكتب وذاكر بأحسن ما تحفظ .
هذا الانتخاب أدب حياة.
وهو منهج تحديث وتصنيف ؛
يطلق المحدثون اسم (الانتقاء)، و (الانتخاب) ، على عملية اختيار المحدث للأحاديث، على أساس معيّن.
والأنواع الأساس في الانتقاء ثلاثة:
الأول : الانتقاء من أحاديث الشيوخ المباشرين.
الثاني : الانتقاء من أحاديث الرواة غير المباشرين.
الثالث : الانتقاء بحسب الاستدلال.
فتارة يختار المحدث من أحاديث شيخه ما لم يقع فيه الخطأ والوهم، أو ما هو أمن صح حديثه، كما يصنع البخاري رحمه الله مع شيوخه الذين تكلم فيهم، ففي مقدمة الفتح (ص:
38: "إسماعيل بن أبي أويس عبد الله بن عبد الله بن أويس بن مالك بن أبي عامر الأصبحي ابن أخت مالك بن أنس احتج به الشيخان، إلا أنهما لم
يكثرا من تخريج حديثه ولا أخرج له البخاري مما تفرد به سوى حديثين وأما مسلم فأخرج له أقل مما أخرج له البخاري،
قلت (ابن حجر): وروينا في مناقب البخاري بسند صحيح أن إسماعيل أخرج له أصوله وأذن له أن ينتقي منها وأن يعلم له على ما يحدث به
ليحدث به ويعرض عما سواه وهو مشعر بأن ما أخرجه البخاري عنه هو من صحيح حديثه لأنه كتب من أصوله وعلى هذا لا يحتج بشيء من
حديثه غير ما في الصحيح من أجل ما قدح فيه النسائي وغيره إلا أن شاركه فيه غيره فيعتبر فيه"اهـ.
وفي مقدمة الفتح (ص: 442): "محمد بن يوسف الفريابي نزيل قيسارية من سواحل الشام من كبار شيوخ البخاري وثقه الجمهور وذكره ابن
عدي في الكامل فقال: له إفراد وقال العجلي: ثقة وقد أخطأ في مائة وخمسين حديثا .
وذكر له ابن معين حديثا أخطأ فيه فقال: هذا باطل
قلت (ابن حجر): اعتمده البخاري لأنه انتقى أحاديثه وميزها وروى له الباقون بواسطة"اهـ وفي مقدمة الفتح (ص: 452) : "يحيى بن عبد الله
بن بكير المصري وقد ينسب إلى جده لقيه البخاري وحدث أيضا عن رجل عنه وروى عن مالك في الموطأ وأكثر عن الليث قال ابن عدي: هو أثبت
الناس فيه.
وقال أبو حاتم: كان يفهم هذا الشأن يكتب حديثه .
وقال مسلم: تكلم في سماعه عن مالك لأنه كان يعرض حديث. وضعفه النسائي مطلقا .
وقال البخاري في تاريخه الصغير: ما روى يحيى بن بكير عن أهل الحجاز في التاريخ فإني أتقيه.
قلت (ابن حجر): فهذا يدلك على أنه ينتقى حديث شيوخه ولهذا ما أخرج عنه عن مالك سوى خمسة أحاديث مشهورة متابعة، ومعظم ما أخرج عنه
عن الليث وروى عنه بكر بن مضر ويعقوب بن عبد الرحمن والمغيرة بن عبد الرحمن أحاديث يسيرة وروى له مسلم وابن ماجة"اهـ
وقد يقع الانتقاء والانتخاب مع أحاديث الرواة غير المباشرين، المتكلم فيهم، كما يصنعه البخاري ومسلم، فإنهما لا يخرجان عن من فيه كلام، إلا ما
يتحقق فيه ضبطه، كأن يكون ضابطاً لحديث أهل بلده، فيتجنبون الرواية عنه فيما رواه عن غيرهم، أو يكون حديثه عن شيخ معين له فيه كلام،
فيتجنبون من حديثه ما يكون عن هذا الشيخ ونحو ذلك، أو أن يكون الراوي مختلطاً، فلا يروون من حديثه بعد الاختلاط، إنما يتحرون الرواية
غ=عمن أخذ منه قبله، وهكذا...
وتارة يكون الانتقاء على أساس الاستدلال، فأصحاب المصنفات الحديثية المبوبة ينتقون الأحاديث على أساس ما تدل عليه الترجمة، مما جرى
عليه استدلال الفقهاء.
قال الحاكم النيسابوري رحمه الله في كتابه المدخل إلى كتاب الإكليل ص30 - 31: "الفرق بين الأبواب والتراجم أن التراجم شرطها أن يقول
المصنف: ذكر ما روي عن أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم يترجم على هذا المسند، فيقول ذكر ما روى
قيس بن أبي حازم عن أبي بكر الصديق - رضي الله عنه -، فيلزمه أن يخرج كل ما روى قيس عن أبي بكر صحيحاً كان أو سقيماً، فأما مصنف
الأبواب فإنه يقول: ذكر ما صح وثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أبواب الطهارة، أو الصلاة أو غير ذلك من العبادات"اهـ
وفي النكت على ابن الصلاح لابن حجر (1/ 446 - 447)، "أن ظاهر حال من يصنف على الأبواب أنه ادعى على أن الحكم فِي المسألة الَّتِي بوب
عليها ما بوب به، فيحتاج إلَى مستدل لصحة دعواه، والاستدلال إنَّما ينبغي أن يكون بِما يصلح أن يحتج به (أو يستشهد به)، وأمَّا من يصنف على
المسانيد فإن ظاهر قصده جَمع حديث كل صحابِي على حدة سواء أكان يصلح للاحتجاج به أم لا.
وهذا هو ظاهر من أصل الوضع بلا شك؛ لكن جَماعة من المصنفين فِي كل من الصنفين خالف أصل موضوعه فانْحط أو ارتفع؛ فإن بعض من
صنف الأبواب قد أخرج فيها الأحاديث الضعيفة بل والباطلة إمَّا لذهول عن ضعفها، وإمَّا لقلة معرفة بالنقد"اهـ
(وانظر: مقدمة تعجيل المنفعة (ص 3).
وقد قال الحافظ ابن حجر -رحِمه الله- (النكت على كتاب ابن الصلاح 1/ 447 - 44: "وبعض من صنف على المسانيد انتقى أحاديث كل صحابِي
فأخرج أصح ما وجد من حديثه، كما رُوِّينا عن إسحاق بن راهويه أنه انتقى فِي مسنده أصح ما وجده من حديث كل صحابِي إلا ألاَّ يجد ذلك المتن
إلا من تلك الطريق، فإنه يُخرجه.
ونَحَا بقي بن مخلد فِي مسنده نَحو ذلك، وكذا صنع أبو بكر البزار قريبًا من ذلك.
وقد صرَّح ببعض ذلك فِي عدة مواضع من مسنده فيخرج الإسناد الذي فيه مقال ويذكر علته، ويعتذر عند تَخريْجه بأنه لَمْ يعرفه إلا من ذلك الوجه.
وأمَّا الإمام أحمد؛ فقد صنف أبو موسى المدينِي جزءًا كبيرًا ذكر فيه أدلة كثيرة تقتضي أن أحمد انتقى مسنده، وأنه كله صحيح عنده، وأن ما
أخرجه فيه عن الضعفاء إنَّما هو فِي المتابعات؛ وإن كان أبو موسى قد ينازع فِي بعض ذلك، لكنه لا يشك منصف أن مسنده أنقى أحاديث وأتقن
رجالاً من غيره وهذا يدل على أنه انتخبه.
ويؤيد هذا: ما يحكيه ابنه عنه أنه كان يضرب على بعض الأحاديث الَّتِي يستنكرها.
وروى أبو موسى فِي هذا الكتاب من طريق حنبل بن إسحاق قال: وجمعنا أحمد وابناه عبد الله وصالِح، وقال: انتقيته من أكثر من سبعمائة ألف
وخَمسين ألفًا، فما اختلف فيه المسلمون من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فارجعوا إليه فإن وجدتموه وإلا فليس بِحجة.
فهذا صريح فيما قلناه إنه انتقاه ولو وقعت فيه الأحاديث الضعيفة والمنكرة؛ فلا يَمنع ذلك صحة هذه الدعوى؛ لأن هذه أمور نسبية، بل هذا كاف
فيما قلناه أنه لَمْ يكتف بِمطلق جَمع حديث كل صحابِي"اهـ
وليس معنى أنها منتقاة أن كل أحاديثها يحتج بها، إنما المراد أنه في الغالب أصح ما في الباب، بمعنى خير المروي فيه.
فهذا معنى الانتقاء وأنواعه،
والله الموفق.
منقول من صفحة الشيخ