الْكَمْأَةُ مِنَ الْمَنِّ، وَمَاؤُهَا شِفَاءُ الْعَيْنِ
في هذه النقول يتعرض لنبات الكمأة, فضله، سبب ورود الحديث فيه، موطنه، كيفية التداوي به، وصحة الأثر المنتشر فيه عن أبي هريرة.
--فضلها:
روى البخاري ومسلم وغيرهما والبغوي في شرح السنة وهذا سياق البغوي بإسناده فقال رحمه الله في شرح السنة:
- 2896 - أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَحْمَدَ الْمَلِيحِيُّ، أَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النُّعَيمِيُّ، أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، نَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، نَا أَبُو نُعَيْمٍ، نَا سُفْيَانُ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ هُوَ ابْنُ عُمَيْرٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ حُرَيْثٍ
عَنْ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الْكَمْأَةُ مِنَ الْمَنِّ، وَمَاؤُهَا شِفَاءُ الْعَيْنِ"
هذا حدِيثٌ مُتّفقٌ على صِحّتِهِ ورواهُ مُسْلِم عنِ ابْن أبِي عُمر، عنْ سُفْيان، وقال: "الكمْأةُ مِن المنِّ الّذِي أنْزلِ اللّه تعالى على بني إِسْرائِيل، وماؤُها شِفَاءٌ للْعيْنِ".
قوله: "من المن" قيل: معناه أنه شيء ينبته الله من غير سعي أحد، ولا مؤنة بمنزلة المن الذي كان ينزل على بني إسرائيل، وقوله: "وماؤها شفاء للعين" قيل: معناه أن ماءها يخلط بالأدوية فينفع، ليس معناه أن يقطر ماؤها بحتا في العين، وروي عن أبي هريرة قال: أخذت ثلاثة أكمؤ، أو خمسا، أو سبعا، فعصرتهن، فجعلت ماءهن في قارورة كحلت به جارية لي فبرأت.
--أقوال العلماء في كيفية التداوي بها:
قال النووي رحمه الله في شرحه على صحيح مسلم:
باب فضل الكمأة ومداواة العين بها
فيه قوله صلى الله عليه وسلم (الكماة من المن وماؤها شفاء للعين) وفي رواية من المن الذي أنزل الله تعالى على بني إسرائيل أما الكمأة فبفتح الكاف وإسكان الميم وبعدها همزة مفتوحة وفي الإسناد الحكم بن عتيبة هو بالتاء المثناة فوق وقد سبق بيانه و الحسن العرني بضم العين المهملة وفتح الراء وبعدها نون منسوب إلى عرينة واختلف في معنى قوله صلى الله عليه وسلم الكمأة من المن فقال أبو عبيد وكثيرون شبهها بالمن الذي كان ينزل على بني إسرائيل لأنه كان يحصل لهم بلا كلفة ولا علاج والكمأة تحصل بلا كلفة ولا علاج ولا زرع بزر ولا سقي ولا غيره وقيل هي من المن الذي أنزل الله تعالى على بني إسرائيل حقيقة عملا بظاهر اللفظ. وقوله صلى الله عليه وسلم (وماؤها شفاء للعين) قيل هو نفس الماء مجردا وقيل معناه أن يخلط ماؤها بدواء ويعالج به العين وقيل إن كان لبرودة ما في العين من حرارة فماؤها مجردا شفاء وإن كان لغير ذلك فمركب مع غيره والصحيح بل الصواب أن ماءها مجردا شفاء للعين مطلقا فيعصر ماؤها ويجعل في العين منه وقد رأيت أنا وغيري في زمننا من كان عمى وذهب بصره حقيقة فكحل عينه بماء الكمأة مجردا فشفي وعاد إليه بصره وهو الشيخ العدل الأيمن الكمال بن عبد الله الدمشقي صاحب صلاح ورواية للحديث وكان استعماله لماء الكمأة اعتقادا في الحديث وتبركا به والله أعلم
وقال الحافظ في الفتح عند شرحه للحديث في كتاب الطب:
قَوْله: (وَمَاؤُهَا شِفَاء لِلْعَيْنِ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ وَكَذَا عِنْد مُسْلِم، وَفِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي "مِنْ الْعَيْن" أَيْ شِفَاء مِنْ دَاء الْعَيْن، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: إِنَّمَا اِخْتَصَّتْ الْكَمْأَة بِهَذِهِ الْفَضِيلَة لِأَنَّهَا مِنْ الْحَلَال الْمَحْض الَّذِي لَيْسَ فِي اِكْتِسَابه شُبْهَة، وَيُسْتَنْبَط مِنْهُ أَنَّ اِسْتِعْمَال الْحَلَال الْمَحْض يَجْلُو الْبَصَر، وَالْعَكْس بِالْعَكْسِ، قَالَ اِبْن الْجَوْزِيّ: فِي الْمُرَاد بِكَوْنِهَا شِفَاء لِلْعَيْنِ قَوْلَانِ: أَحَدهمَا:
أَنَّهُ مَاؤُهَا حَقِيقَة، إِلَّا أَنَّ أَصْحَاب هَذَا الْقَوْل اِتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يُسْتَعْمَل صِرْفًا فِي الْعَيْن، لَكِنْ اِخْتَلَفُوا كَيْف يُصْنَع بِهِ عَلَى رَأْيَيْنِ: أَحَدهمَا: أَنَّهُ يُخْلَط فِي الْأَدْوِيَة الَّتِي يُكْتَحَل بِهَا حَكَاهُ أَبُو عُبَيْد، قَالَ: وَيُصَدِّق هَذَا الَّذِي حَكَاهُ أَبُو عُبَيْد أَنَّ بَعْض الْأَطِبَّاء قَالُوا: أَكْل الْكَمْأَة يَجْلُو الْبَصَر، ثَانِيهمَا: أَنْ تُؤْخَذ فَتُشَقّ وَتُوضَع عَلَى الْجَمْر حَتَّى يَغْلِي مَاؤُهَا، ثُمَّ يُؤْخَذ الْمِيل فَيُجْعَل فِي ذَلِكَ الشِّقّ وَهُوَ فَاتِر فَيُكْتَحَل بِمَائِهَا، لِأَنَّ النَّار تُلَطِّفهُ وَتُذْهِب فَضَلَاته الرَّدِيئَة وَيَبْقَى النَّافِع مِنْهُ، وَلَا يُجْعَل الْمِيل فِي مَائِهَا وَهِيَ بَارِدَة يَابِسَة فَلَا يَنْجَع. وَقَدْ حَكَى إِبْرَاهِيم الْحَرْبِيّ عَنْ صَالِح وَعَبْد اللَّه اِبْنَيْ أَحْمَد بْن حَنْبَل أَنَّهُمَا اِشْتَكَتْ أَعْيُنهمَا فَأَخَذَا كَمْأَة وَعَصَرَاهَا وَاكْتَحَلَا بِمَائِهَا فَهَاجَتْ أَعْيُنهمَا وَرَمِدَا. قَالَ اِبْن الْجَوْزِيّ: وَحَكَى شَيْخنَا أَبُو بَكْر بْن عَبْد الْبَاقِي أَنَّ بَعْض النَّاس عَصَرَ مَاء كَمْأَة فَاكْتَحَلَ بِهِ فَذَهَبَتْ عَيْنه. وَالْقَوْل الثَّانِي:
أَنَّ الْمُرَاد مَاؤُهَا الَّذِي تَنْبُت بِهِ، فَإِنَّهُ أَوَّل مَطَر يَقَع فِي الْأَرْض فَتُرَبَّى بِهِ الْأَكْحَال. حَكَاهُ اِبْن الْجَوْزِيّ عَنْ أَبِي بَكْر بْن عَبْد الْبَاقِي أَيْضًا، فَتَكُون الْإِضَافَة إِضَافَة الْكُلّ لَا إِضَافَة جُزْء، قَالَ اِبْن الْقَيِّم: وَهَذَا أَضْعَف الْوُجُوه.
قُلْت: وَفِيمَا اِدَّعَاهُ اِبْن الْجَوْزِيّ مِنْ الِاتِّفَاق عَلَى أَنَّهَا لَا تُسْتَعْمَل صِرْفًا نَظَر، فَقَدْ حَكَى عِيَاض عَنْ بَعْض أَهْل الطِّبّ فِي التَّدَاوِي بِمَاءِ الْكَمْأَة تَفْصِيلًا، وَهُوَ إِنْ كَانَ لِتَبْرِيدِ مَا يَكُون بِالْعَيْنِ مِنْ الْحَرَارَة فَتُسْتَعْمَل مُفْرَدَة، وَإِنْ كَانَ لِغَيْرِ ذَلِكَ فَتُسْتَعْمَل مُرَكَّبَة، وَبِهَذَا جَزَمَ اِبْن الْعَرَبِيّ فَقَالَ: الصَّحِيح أَنَّهُ يَنْفَع بِصُورَتِهِ فِي حَال، وَبِإِضَافَتِهِ فِي أُخْرَى، وَقَدْ جُرِّبَ ذَلِكَ فَوُجِدَ صَحِيحًا. نَعَمْ جَزَمَ الْخَطَّابِيُّ بِمَا قَالَ اِبْن الْجَوْزِيّ فَقَالَ: تُرَبَّى بِهَا التُّوتِيَاء وَغَيْرهَا مِنْ الْأَكْحَال، قَالَ: وَلَا تُسْتَعْمَل صَرْفًا فَإِنَّ ذَلِكَ يُؤْذِي الْعَيْن. وَقَالَ الْغَافِقِيّ فِي "الْمُفْرَدَات": مَاء الْكَمْأَة أَصْلَح الْأَدْوِيَة لِلْعَيْنِ إِذَا عُجِنَ بِهِ الْإِثْمِد وَاكْتُحِلَ بِهِ، فَإِنَّهُ يُقَوِّي الْجَفْن، وَيَزِيد الرُّوح الْبَاصِر حِدَّة وَقُوَّة، وَيَدْفَع عَنْهَا النَّوَازِل. وَقَالَ النَّوَوِيّ: الصَّوَاب أَنَّ مَاءَهَا شِفَاء لِلْعَيْنِ مُطْلَقًا فَيُعْصَر مَاؤُهَا وَيُجْعَل فِي الْعَيْن مِنْهُ، قَالَ: وَقَدْ رَأَيْت أَنَا وَغَيْرِي فِي زَمَاننَا مَنْ كَانَ عَمِيَ وَذَهَبَ بَصَره حَقِيقَة فَكَحَّلَ عَيْنه بِمَاءِ الْكَمْأَة مُجَرَّدًا فَشُفِيَ وَعَادَ إِلَيْهِ بَصَره، وَهُوَ الشَّيْخ الْعَدْل الْأَمِين الْكَمَال بْن عَبْد - الدِّمَشْقِيّ - صَاحِب صَلَاح وَرِوَايَة فِي الْحَدِيث، وَكَانَ اِسْتِعْمَاله لِمَاءِ الْكَمْأَة اِعْتِقَادًا فِي الْحَدِيث وَتَبَرُّكًا بِهِ فَنَفَعَهُ اللَّه بِهِ.
قُلْت: الْكَمَال الْمَذْكُور هُوَ كَمَال الدِّين بْن عَبْد الْعَزِيز بْن عَبْد الْمُنْعِم بْن الْخَضِر يُعْرَف بِابْنِ عَبْد - بِغَيْرِ إِضَافَة - الْحَارِثِيّ الدِّمَشْقِيّ مِنْ أَصْحَاب أَبِي طَاهِر الْخُشُوعِيّ، سَمِعَ مِنْهُ جَمَاعَة مِنْ شُيُوخ شُيُوخنَا، عَاشَ ثَلَاثًا وَثَمَانِينَ سَنَة وَمَاتَ سَنَة اِثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ وَسِتّمِائَةِ قَبْل النَّوَوِيّ بِأَرْبَعِ سِنِينَ، وَيَنْبَغِي تَقْيِيد ذَلِكَ بِمَنْ عَرَفَ مِنْ نَفْسه قُوَّة اِعْتِقَاد فِي صِحَّة الْحَدِيث وَالْعَمَل بِهِ كَمَا يُشِير إِلَيْهِ آخِر كَلَامه، وَهُوَ يُنَافِي قَوْله أَوَّلًا مُطْلَقًا، وَقَدْ أَخْرَجَ التِّرْمِذِيّ فِي جَامِعه بِسَنَدٍ صَحِيح إِلَى قَتَادَة قَالَ: حُدِّثْت أَنَّ أَبَا هُرَيْرَة قَالَ: أَخَذْت ثَلَاثَة أَكْمُؤ أَوْ خَمْسًا أَوْ سَبْعًا فَعَصَرْتُهُنَّ فَجَعَلْت مَاءَهُنَّ فِي قَارُورَة فَكَحَّلَتْ بِهِ جَارِيَة لِي فَبَرِئَتْ، وَقَالَ اِبْن الْقَيِّم: اِعْتَرَفَ فُضَلَاء الْأَطِبَّاء أَنَّ مَاء الْكَمْأَة يَجْلُو الْعَيْن، مِنْهُمْ الْمُسَبِّحِيّ وَابْن سِينَا وَغَيْرهمَا، وَاَلَّذِي يُزِيل الْإِشْكَال عَنْ هَذَا الِاخْتِلَاف أَنَّ الْكَمْأَة وَغَيْرهَا مِنْ الْمَخْلُوقَات خُلِقَتْ فِي الْأَصْل سَلِيمَة مِنْ الْمَضَارّ، ثُمَّ عَرَضَتْ لَهَا الْآفَات بِأُمُورٍ أُخْرَى مِنْ مُجَاوَرَة أَوْ اِمْتِزَاج أَوْ غَيْر ذَلِكَ مِنْ الْأَسْبَاب الَّتِي أَرَادَهَا اللَّه تَعَالَى، فَالْكَمْأَة فِي الْأَصْل نَافِعَة لِمَا اِخْتَصَّتْ بِهِ مِنْ وَصْفهَا بِأَنَّهَا مِنْ اللَّه، وَإِنَّمَا عَرَضَتْ لَهَا الْمَضَارّ بِالْمُجَاوَرَةِ، وَاسْتِعْمَال كُلّ مَا وَرَدَتْ بِهِ السُّنَّة بِصِدْقٍ يَنْتَفِع بِهِ مَنْ يَسْتَعْمِلهُ، وَيَدْفَع اللَّه عَنْهُ الضَّرَر بِنِبَّتِهِ، وَالْعَكْس بِالْعَكْسِ. وَاَللَّه أَعْلَم.
--المقصود بالمن:
وقال ابن حجر رحمه الله في فتح الباري عند ذكر حديث الكمأ في شرح كتاب التفسير:
ثم ذكر المصنف حَدِيث سَعِيد بْن زَيْد فِي "الْكَمْأَة مِنْ الْمَنّ"، وسَيَأْتِي شَرْحه فِي كِتَاب الطِّبّ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَة اِبْن عُيَيْنَةَ عَنْ عَبْد الْمَلِك بْن عُمَيْر فِي حَدِيث الْبَاب "مِنْ الْمَنّ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيل" وَبِهِ تَظْهَر مُنَاسَبَة ذِكْره فِي التَّفْسِير، وَالرَّدّ عَلَى الْخَطَّابِيِّ حَيْثُ قَالَ: لَا وَجْه لِإِدْخَالِ هَذَا الْحَدِيث هُنَا قَالَ لِأَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَاد فِي الْحَدِيث أَنَّهَا نَوْع مِنْ الْمَنّ الْمُنَزَّل عَلَى بَنِي إِسْرَائِيل فَإِنَّ ذَاكَ شَيْء كَانَ يَسْقُط عَلَيْهِمْ كَالتَّرَنْجَبِيلِ، وَالْمُرَاد أَنَّهَا شَجَرَة تَنْبُت بِنَفْسِهَا مِنْ غَيْر اِسْتِنْبَات وَلَا مُؤْنَة. اِنْتَهَى. وَقَدْ عُرِفَ وَجْه إِدْخَاله هُنَا، وَلَوْ كَانَ الْمُرَاد مَا ذَكَرَهُ الْخَطَّابِيُّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
--سبب ورود الحديث فيها وذكر مواطنها وبعض صفاتها وأنواعها:
قال الحافظ في الفتح عند شرح الحديث من كتاب الطب في صحيح البخاري:
وَمَادَّة الْكَمْأَة مِنْ جَوْهَر أَرْضِيّ بُخَارِيّ يَحْتَقِن نَحْو سَطْح الْأَرْض بِبَرْدِ الشِّتَاء وَيُنَمِّيه مَطَر الرَّبِيع فَيَتَوَلَّد وَيَنْدَفِع مُتَجَسِّدًا، وَلِذَلِكَ كَانَ بَعْض الْعَرَب يُسَمِّيهَا جُدَرِيّ الْأَرْض تَشْبِيهًا لَهَا بِالْجُدَرِيِّ مَادَّة وَصُورَة، لِأَنَّ مَادَّته رُطُوبَة دَمَوِيَّة تَنْدَفِع غَالِبًا عِنْد التَّرَعْرُع وَفِي اِبْتِدَاء اِسْتِيلَاء الْحَرَارَة وَنَمَاء الْقُوَّة وَمُشَابَهَتهَا لَهُ فِي الصُّورَة ظَاهِر. وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيّ مِنْ حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة: "أَنَّ نَاسًا مِنْ أَصْحَاب رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالُوا: الْكَمْأَة جُدَرِيّ الْأَرْض، فَقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْكَمْأَة مِنْ الْمَنّ ..." الْحَدِيث. وَلِلطَّبَرِيّ مِنْ طَرِيق اِبْن الْمُنْكَدِر عَنْ جَابِر قَالَ: "كَثُرَتْ الْكَمْأَة عَلَى عَهْد رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَامْتَنَعَ قَوْم مِنْ أَكْلهَا وَقَالُوا: هِيَ جُدَرِيّ الْأَرْض، فَبَلَغَهُ ذَلِكَ فَقَالَ: إِنَّ الْكَمْأَة لَيْسَتْ مِنْ جُدَرِيّ الْأَرْض، أَلَا إِنَّ الْكَمْأَة مِنْ الْمَنّ". وَالْعَرَب تُسَمِّي الْكَمْأَة أَيْضًا بَنَات الرَّعْد لِأَنَّهَا تَكْثُر بِكَثْرَتِهِ ثُمَّ تَنْفَطِر عَنْهَا الْأَرْض. وَهِيَ كَثِيرَة بِأَرْضِ الْعَرَب، وَتُوجَد بِالشَّامِ وَمِصْر، فَأَجْوَدهَا مَا كَانَتْ أَرْضه رَمْلَة قَلِيلَة الْمَاء، وَمِنْهَا صِنْف قَتَّال يَضْرِب لَوْنه إِلَى الْحُمْرَة، وَهِيَ بَارِدَة رَطْبَة فِي الثَّانِيَة رَدِيئَة لِلْمَعِدَةِ بَطِيئَة الْهَضْم، وَإِدْمَان أَكْلهَا يُورِث الْقُولَنْج وَالسَّكْتَة وَالْفَالِج وَعُسْر الْبَوْل، وَالرَّطْب مِنْهَا أَقَلّ ضَرَرًا مِنْ الْيَابِس، وَإِذَا دُفِنَتْ فِي الطِّين الرَّطْب ثُمَّ سُلِقَتْ بِالْمَاءِ وَالْمِلْح وَالسَّعْتَر وَأُكِلَتْ بِالزَّيْتِ وَالتَّوَابِل الْحَارَّة قَلَّ ضَرَرهَا، وَمَعَ ذَلِكَ فَفِيهَا جَوْهَر مَائِيّ لَطِيف بِدَلِيلِ خِفْتهَا، فَلِذَلِكَ كَانَ مَاؤُهَا شِفَاء لِلْعَيْنِ.
--صحة أثر أبي هريرة فيها:
قال المباركفوري في تحفة الأحوذي عن أثر أبي هريرة في معرض شرحه لأحاديث الكمأ:
قوله: (قالوا الكمأة جدري الأرض) بضم جيم وفتح دال وكسر راء وتشديد ياء هو حب يظهر في جسد الصبي من فضلات تضمن المضرة تدفعها الطبيعة ويقال له بالهندية جيجك. قال الطيبي: شبهوها به في كونها فضلات تدفعها الأرض إلى ظاهرها ذماً لها (فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الكمأة من المن وماؤها شفاء للعين) قال الطيبي: كأنهم لما ذموها وجعلوها من الفضلات التي تتضمن المضرة وتدفعها الأرض إلى ظاهرها، كما تدفع الطبيعة الفضلات بالجدري، قابله صلى الله عليه وسلم بالمدح بأنه من المن أي مما منّ الله به عباده، أو شبهها بالمن وهو العسل الذي ينزل من السماء، إذ يحصل بلا علاج واحتياج إلى بذر وسقي، أي ليست بفضلات، بل من فضل الله ومنه، أو ليست مضرة بل شفاء كالمن النازل انتهى.
قوله: (هذا حديث حسن) وأخرجه ابن ماجه والطبري، من طريق ابن المنكدر عن جابر قال: كثرت الكمأة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فامتنع قوم من أكلها وقالوا هي جدري الأرض، فبلغه ذلك فقال: إن الكمأة ليست من جدري الأرض لا إن الكمأة من المن. كذا في الفتح.
قوله: (حدثت) بصيغة المتكلم المجهول من الحديث فيه انقطاع (أخذت ثلاثة أكمؤ) بفتح فسكون فضم ميم فهمز أي ثلاثة أشخص منها (أو خمساً أو سبعاً) كذا في بعض النسخ بالألف وهو الظاهر، ووقع في النسخة الأحمدية أو خمس أو سبع بغير الألف، ولا يظهر له وجه إلا بالتكلف فتفكر (فعصرتهن) أي في وعاء (فبرأت) بفتح الراء ويكسر أي شفيت. وحديث أبي هريرة هذا موقوف وفيه انقطاع.
وتأمل عبارة البغوي في ذلك: (وروي عن أبي هريرة)، بصيغة التمريض فإنه إشعار منه رحمه الله بضعف الأثر، وصرح بذلك ابن حجر كما مر فقال: وَقَدْ أَخْرَجَ التِّرْمِذِيّ فِي جَامِعه بِسَنَدٍ صَحِيح إِلَى قَتَادَة قَالَ: حُدِّثْت أَنَّ أَبَا هُرَيْرَة قَالَ.
في هذه النقول يتعرض لنبات الكمأة, فضله، سبب ورود الحديث فيه، موطنه، كيفية التداوي به، وصحة الأثر المنتشر فيه عن أبي هريرة.
--فضلها:
روى البخاري ومسلم وغيرهما والبغوي في شرح السنة وهذا سياق البغوي بإسناده فقال رحمه الله في شرح السنة:
- 2896 - أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَحْمَدَ الْمَلِيحِيُّ، أَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النُّعَيمِيُّ، أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، نَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، نَا أَبُو نُعَيْمٍ، نَا سُفْيَانُ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ هُوَ ابْنُ عُمَيْرٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ حُرَيْثٍ
عَنْ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الْكَمْأَةُ مِنَ الْمَنِّ، وَمَاؤُهَا شِفَاءُ الْعَيْنِ"
هذا حدِيثٌ مُتّفقٌ على صِحّتِهِ ورواهُ مُسْلِم عنِ ابْن أبِي عُمر، عنْ سُفْيان، وقال: "الكمْأةُ مِن المنِّ الّذِي أنْزلِ اللّه تعالى على بني إِسْرائِيل، وماؤُها شِفَاءٌ للْعيْنِ".
قوله: "من المن" قيل: معناه أنه شيء ينبته الله من غير سعي أحد، ولا مؤنة بمنزلة المن الذي كان ينزل على بني إسرائيل، وقوله: "وماؤها شفاء للعين" قيل: معناه أن ماءها يخلط بالأدوية فينفع، ليس معناه أن يقطر ماؤها بحتا في العين، وروي عن أبي هريرة قال: أخذت ثلاثة أكمؤ، أو خمسا، أو سبعا، فعصرتهن، فجعلت ماءهن في قارورة كحلت به جارية لي فبرأت.
--أقوال العلماء في كيفية التداوي بها:
قال النووي رحمه الله في شرحه على صحيح مسلم:
باب فضل الكمأة ومداواة العين بها
فيه قوله صلى الله عليه وسلم (الكماة من المن وماؤها شفاء للعين) وفي رواية من المن الذي أنزل الله تعالى على بني إسرائيل أما الكمأة فبفتح الكاف وإسكان الميم وبعدها همزة مفتوحة وفي الإسناد الحكم بن عتيبة هو بالتاء المثناة فوق وقد سبق بيانه و الحسن العرني بضم العين المهملة وفتح الراء وبعدها نون منسوب إلى عرينة واختلف في معنى قوله صلى الله عليه وسلم الكمأة من المن فقال أبو عبيد وكثيرون شبهها بالمن الذي كان ينزل على بني إسرائيل لأنه كان يحصل لهم بلا كلفة ولا علاج والكمأة تحصل بلا كلفة ولا علاج ولا زرع بزر ولا سقي ولا غيره وقيل هي من المن الذي أنزل الله تعالى على بني إسرائيل حقيقة عملا بظاهر اللفظ. وقوله صلى الله عليه وسلم (وماؤها شفاء للعين) قيل هو نفس الماء مجردا وقيل معناه أن يخلط ماؤها بدواء ويعالج به العين وقيل إن كان لبرودة ما في العين من حرارة فماؤها مجردا شفاء وإن كان لغير ذلك فمركب مع غيره والصحيح بل الصواب أن ماءها مجردا شفاء للعين مطلقا فيعصر ماؤها ويجعل في العين منه وقد رأيت أنا وغيري في زمننا من كان عمى وذهب بصره حقيقة فكحل عينه بماء الكمأة مجردا فشفي وعاد إليه بصره وهو الشيخ العدل الأيمن الكمال بن عبد الله الدمشقي صاحب صلاح ورواية للحديث وكان استعماله لماء الكمأة اعتقادا في الحديث وتبركا به والله أعلم
وقال الحافظ في الفتح عند شرحه للحديث في كتاب الطب:
قَوْله: (وَمَاؤُهَا شِفَاء لِلْعَيْنِ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ وَكَذَا عِنْد مُسْلِم، وَفِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي "مِنْ الْعَيْن" أَيْ شِفَاء مِنْ دَاء الْعَيْن، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: إِنَّمَا اِخْتَصَّتْ الْكَمْأَة بِهَذِهِ الْفَضِيلَة لِأَنَّهَا مِنْ الْحَلَال الْمَحْض الَّذِي لَيْسَ فِي اِكْتِسَابه شُبْهَة، وَيُسْتَنْبَط مِنْهُ أَنَّ اِسْتِعْمَال الْحَلَال الْمَحْض يَجْلُو الْبَصَر، وَالْعَكْس بِالْعَكْسِ، قَالَ اِبْن الْجَوْزِيّ: فِي الْمُرَاد بِكَوْنِهَا شِفَاء لِلْعَيْنِ قَوْلَانِ: أَحَدهمَا:
أَنَّهُ مَاؤُهَا حَقِيقَة، إِلَّا أَنَّ أَصْحَاب هَذَا الْقَوْل اِتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يُسْتَعْمَل صِرْفًا فِي الْعَيْن، لَكِنْ اِخْتَلَفُوا كَيْف يُصْنَع بِهِ عَلَى رَأْيَيْنِ: أَحَدهمَا: أَنَّهُ يُخْلَط فِي الْأَدْوِيَة الَّتِي يُكْتَحَل بِهَا حَكَاهُ أَبُو عُبَيْد، قَالَ: وَيُصَدِّق هَذَا الَّذِي حَكَاهُ أَبُو عُبَيْد أَنَّ بَعْض الْأَطِبَّاء قَالُوا: أَكْل الْكَمْأَة يَجْلُو الْبَصَر، ثَانِيهمَا: أَنْ تُؤْخَذ فَتُشَقّ وَتُوضَع عَلَى الْجَمْر حَتَّى يَغْلِي مَاؤُهَا، ثُمَّ يُؤْخَذ الْمِيل فَيُجْعَل فِي ذَلِكَ الشِّقّ وَهُوَ فَاتِر فَيُكْتَحَل بِمَائِهَا، لِأَنَّ النَّار تُلَطِّفهُ وَتُذْهِب فَضَلَاته الرَّدِيئَة وَيَبْقَى النَّافِع مِنْهُ، وَلَا يُجْعَل الْمِيل فِي مَائِهَا وَهِيَ بَارِدَة يَابِسَة فَلَا يَنْجَع. وَقَدْ حَكَى إِبْرَاهِيم الْحَرْبِيّ عَنْ صَالِح وَعَبْد اللَّه اِبْنَيْ أَحْمَد بْن حَنْبَل أَنَّهُمَا اِشْتَكَتْ أَعْيُنهمَا فَأَخَذَا كَمْأَة وَعَصَرَاهَا وَاكْتَحَلَا بِمَائِهَا فَهَاجَتْ أَعْيُنهمَا وَرَمِدَا. قَالَ اِبْن الْجَوْزِيّ: وَحَكَى شَيْخنَا أَبُو بَكْر بْن عَبْد الْبَاقِي أَنَّ بَعْض النَّاس عَصَرَ مَاء كَمْأَة فَاكْتَحَلَ بِهِ فَذَهَبَتْ عَيْنه. وَالْقَوْل الثَّانِي:
أَنَّ الْمُرَاد مَاؤُهَا الَّذِي تَنْبُت بِهِ، فَإِنَّهُ أَوَّل مَطَر يَقَع فِي الْأَرْض فَتُرَبَّى بِهِ الْأَكْحَال. حَكَاهُ اِبْن الْجَوْزِيّ عَنْ أَبِي بَكْر بْن عَبْد الْبَاقِي أَيْضًا، فَتَكُون الْإِضَافَة إِضَافَة الْكُلّ لَا إِضَافَة جُزْء، قَالَ اِبْن الْقَيِّم: وَهَذَا أَضْعَف الْوُجُوه.
قُلْت: وَفِيمَا اِدَّعَاهُ اِبْن الْجَوْزِيّ مِنْ الِاتِّفَاق عَلَى أَنَّهَا لَا تُسْتَعْمَل صِرْفًا نَظَر، فَقَدْ حَكَى عِيَاض عَنْ بَعْض أَهْل الطِّبّ فِي التَّدَاوِي بِمَاءِ الْكَمْأَة تَفْصِيلًا، وَهُوَ إِنْ كَانَ لِتَبْرِيدِ مَا يَكُون بِالْعَيْنِ مِنْ الْحَرَارَة فَتُسْتَعْمَل مُفْرَدَة، وَإِنْ كَانَ لِغَيْرِ ذَلِكَ فَتُسْتَعْمَل مُرَكَّبَة، وَبِهَذَا جَزَمَ اِبْن الْعَرَبِيّ فَقَالَ: الصَّحِيح أَنَّهُ يَنْفَع بِصُورَتِهِ فِي حَال، وَبِإِضَافَتِهِ فِي أُخْرَى، وَقَدْ جُرِّبَ ذَلِكَ فَوُجِدَ صَحِيحًا. نَعَمْ جَزَمَ الْخَطَّابِيُّ بِمَا قَالَ اِبْن الْجَوْزِيّ فَقَالَ: تُرَبَّى بِهَا التُّوتِيَاء وَغَيْرهَا مِنْ الْأَكْحَال، قَالَ: وَلَا تُسْتَعْمَل صَرْفًا فَإِنَّ ذَلِكَ يُؤْذِي الْعَيْن. وَقَالَ الْغَافِقِيّ فِي "الْمُفْرَدَات": مَاء الْكَمْأَة أَصْلَح الْأَدْوِيَة لِلْعَيْنِ إِذَا عُجِنَ بِهِ الْإِثْمِد وَاكْتُحِلَ بِهِ، فَإِنَّهُ يُقَوِّي الْجَفْن، وَيَزِيد الرُّوح الْبَاصِر حِدَّة وَقُوَّة، وَيَدْفَع عَنْهَا النَّوَازِل. وَقَالَ النَّوَوِيّ: الصَّوَاب أَنَّ مَاءَهَا شِفَاء لِلْعَيْنِ مُطْلَقًا فَيُعْصَر مَاؤُهَا وَيُجْعَل فِي الْعَيْن مِنْهُ، قَالَ: وَقَدْ رَأَيْت أَنَا وَغَيْرِي فِي زَمَاننَا مَنْ كَانَ عَمِيَ وَذَهَبَ بَصَره حَقِيقَة فَكَحَّلَ عَيْنه بِمَاءِ الْكَمْأَة مُجَرَّدًا فَشُفِيَ وَعَادَ إِلَيْهِ بَصَره، وَهُوَ الشَّيْخ الْعَدْل الْأَمِين الْكَمَال بْن عَبْد - الدِّمَشْقِيّ - صَاحِب صَلَاح وَرِوَايَة فِي الْحَدِيث، وَكَانَ اِسْتِعْمَاله لِمَاءِ الْكَمْأَة اِعْتِقَادًا فِي الْحَدِيث وَتَبَرُّكًا بِهِ فَنَفَعَهُ اللَّه بِهِ.
قُلْت: الْكَمَال الْمَذْكُور هُوَ كَمَال الدِّين بْن عَبْد الْعَزِيز بْن عَبْد الْمُنْعِم بْن الْخَضِر يُعْرَف بِابْنِ عَبْد - بِغَيْرِ إِضَافَة - الْحَارِثِيّ الدِّمَشْقِيّ مِنْ أَصْحَاب أَبِي طَاهِر الْخُشُوعِيّ، سَمِعَ مِنْهُ جَمَاعَة مِنْ شُيُوخ شُيُوخنَا، عَاشَ ثَلَاثًا وَثَمَانِينَ سَنَة وَمَاتَ سَنَة اِثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ وَسِتّمِائَةِ قَبْل النَّوَوِيّ بِأَرْبَعِ سِنِينَ، وَيَنْبَغِي تَقْيِيد ذَلِكَ بِمَنْ عَرَفَ مِنْ نَفْسه قُوَّة اِعْتِقَاد فِي صِحَّة الْحَدِيث وَالْعَمَل بِهِ كَمَا يُشِير إِلَيْهِ آخِر كَلَامه، وَهُوَ يُنَافِي قَوْله أَوَّلًا مُطْلَقًا، وَقَدْ أَخْرَجَ التِّرْمِذِيّ فِي جَامِعه بِسَنَدٍ صَحِيح إِلَى قَتَادَة قَالَ: حُدِّثْت أَنَّ أَبَا هُرَيْرَة قَالَ: أَخَذْت ثَلَاثَة أَكْمُؤ أَوْ خَمْسًا أَوْ سَبْعًا فَعَصَرْتُهُنَّ فَجَعَلْت مَاءَهُنَّ فِي قَارُورَة فَكَحَّلَتْ بِهِ جَارِيَة لِي فَبَرِئَتْ، وَقَالَ اِبْن الْقَيِّم: اِعْتَرَفَ فُضَلَاء الْأَطِبَّاء أَنَّ مَاء الْكَمْأَة يَجْلُو الْعَيْن، مِنْهُمْ الْمُسَبِّحِيّ وَابْن سِينَا وَغَيْرهمَا، وَاَلَّذِي يُزِيل الْإِشْكَال عَنْ هَذَا الِاخْتِلَاف أَنَّ الْكَمْأَة وَغَيْرهَا مِنْ الْمَخْلُوقَات خُلِقَتْ فِي الْأَصْل سَلِيمَة مِنْ الْمَضَارّ، ثُمَّ عَرَضَتْ لَهَا الْآفَات بِأُمُورٍ أُخْرَى مِنْ مُجَاوَرَة أَوْ اِمْتِزَاج أَوْ غَيْر ذَلِكَ مِنْ الْأَسْبَاب الَّتِي أَرَادَهَا اللَّه تَعَالَى، فَالْكَمْأَة فِي الْأَصْل نَافِعَة لِمَا اِخْتَصَّتْ بِهِ مِنْ وَصْفهَا بِأَنَّهَا مِنْ اللَّه، وَإِنَّمَا عَرَضَتْ لَهَا الْمَضَارّ بِالْمُجَاوَرَةِ، وَاسْتِعْمَال كُلّ مَا وَرَدَتْ بِهِ السُّنَّة بِصِدْقٍ يَنْتَفِع بِهِ مَنْ يَسْتَعْمِلهُ، وَيَدْفَع اللَّه عَنْهُ الضَّرَر بِنِبَّتِهِ، وَالْعَكْس بِالْعَكْسِ. وَاَللَّه أَعْلَم.
--المقصود بالمن:
وقال ابن حجر رحمه الله في فتح الباري عند ذكر حديث الكمأ في شرح كتاب التفسير:
ثم ذكر المصنف حَدِيث سَعِيد بْن زَيْد فِي "الْكَمْأَة مِنْ الْمَنّ"، وسَيَأْتِي شَرْحه فِي كِتَاب الطِّبّ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَة اِبْن عُيَيْنَةَ عَنْ عَبْد الْمَلِك بْن عُمَيْر فِي حَدِيث الْبَاب "مِنْ الْمَنّ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيل" وَبِهِ تَظْهَر مُنَاسَبَة ذِكْره فِي التَّفْسِير، وَالرَّدّ عَلَى الْخَطَّابِيِّ حَيْثُ قَالَ: لَا وَجْه لِإِدْخَالِ هَذَا الْحَدِيث هُنَا قَالَ لِأَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَاد فِي الْحَدِيث أَنَّهَا نَوْع مِنْ الْمَنّ الْمُنَزَّل عَلَى بَنِي إِسْرَائِيل فَإِنَّ ذَاكَ شَيْء كَانَ يَسْقُط عَلَيْهِمْ كَالتَّرَنْجَبِيلِ، وَالْمُرَاد أَنَّهَا شَجَرَة تَنْبُت بِنَفْسِهَا مِنْ غَيْر اِسْتِنْبَات وَلَا مُؤْنَة. اِنْتَهَى. وَقَدْ عُرِفَ وَجْه إِدْخَاله هُنَا، وَلَوْ كَانَ الْمُرَاد مَا ذَكَرَهُ الْخَطَّابِيُّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
--سبب ورود الحديث فيها وذكر مواطنها وبعض صفاتها وأنواعها:
قال الحافظ في الفتح عند شرح الحديث من كتاب الطب في صحيح البخاري:
وَمَادَّة الْكَمْأَة مِنْ جَوْهَر أَرْضِيّ بُخَارِيّ يَحْتَقِن نَحْو سَطْح الْأَرْض بِبَرْدِ الشِّتَاء وَيُنَمِّيه مَطَر الرَّبِيع فَيَتَوَلَّد وَيَنْدَفِع مُتَجَسِّدًا، وَلِذَلِكَ كَانَ بَعْض الْعَرَب يُسَمِّيهَا جُدَرِيّ الْأَرْض تَشْبِيهًا لَهَا بِالْجُدَرِيِّ مَادَّة وَصُورَة، لِأَنَّ مَادَّته رُطُوبَة دَمَوِيَّة تَنْدَفِع غَالِبًا عِنْد التَّرَعْرُع وَفِي اِبْتِدَاء اِسْتِيلَاء الْحَرَارَة وَنَمَاء الْقُوَّة وَمُشَابَهَتهَا لَهُ فِي الصُّورَة ظَاهِر. وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيّ مِنْ حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة: "أَنَّ نَاسًا مِنْ أَصْحَاب رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالُوا: الْكَمْأَة جُدَرِيّ الْأَرْض، فَقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْكَمْأَة مِنْ الْمَنّ ..." الْحَدِيث. وَلِلطَّبَرِيّ مِنْ طَرِيق اِبْن الْمُنْكَدِر عَنْ جَابِر قَالَ: "كَثُرَتْ الْكَمْأَة عَلَى عَهْد رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَامْتَنَعَ قَوْم مِنْ أَكْلهَا وَقَالُوا: هِيَ جُدَرِيّ الْأَرْض، فَبَلَغَهُ ذَلِكَ فَقَالَ: إِنَّ الْكَمْأَة لَيْسَتْ مِنْ جُدَرِيّ الْأَرْض، أَلَا إِنَّ الْكَمْأَة مِنْ الْمَنّ". وَالْعَرَب تُسَمِّي الْكَمْأَة أَيْضًا بَنَات الرَّعْد لِأَنَّهَا تَكْثُر بِكَثْرَتِهِ ثُمَّ تَنْفَطِر عَنْهَا الْأَرْض. وَهِيَ كَثِيرَة بِأَرْضِ الْعَرَب، وَتُوجَد بِالشَّامِ وَمِصْر، فَأَجْوَدهَا مَا كَانَتْ أَرْضه رَمْلَة قَلِيلَة الْمَاء، وَمِنْهَا صِنْف قَتَّال يَضْرِب لَوْنه إِلَى الْحُمْرَة، وَهِيَ بَارِدَة رَطْبَة فِي الثَّانِيَة رَدِيئَة لِلْمَعِدَةِ بَطِيئَة الْهَضْم، وَإِدْمَان أَكْلهَا يُورِث الْقُولَنْج وَالسَّكْتَة وَالْفَالِج وَعُسْر الْبَوْل، وَالرَّطْب مِنْهَا أَقَلّ ضَرَرًا مِنْ الْيَابِس، وَإِذَا دُفِنَتْ فِي الطِّين الرَّطْب ثُمَّ سُلِقَتْ بِالْمَاءِ وَالْمِلْح وَالسَّعْتَر وَأُكِلَتْ بِالزَّيْتِ وَالتَّوَابِل الْحَارَّة قَلَّ ضَرَرهَا، وَمَعَ ذَلِكَ فَفِيهَا جَوْهَر مَائِيّ لَطِيف بِدَلِيلِ خِفْتهَا، فَلِذَلِكَ كَانَ مَاؤُهَا شِفَاء لِلْعَيْنِ.
--صحة أثر أبي هريرة فيها:
قال المباركفوري في تحفة الأحوذي عن أثر أبي هريرة في معرض شرحه لأحاديث الكمأ:
قوله: (قالوا الكمأة جدري الأرض) بضم جيم وفتح دال وكسر راء وتشديد ياء هو حب يظهر في جسد الصبي من فضلات تضمن المضرة تدفعها الطبيعة ويقال له بالهندية جيجك. قال الطيبي: شبهوها به في كونها فضلات تدفعها الأرض إلى ظاهرها ذماً لها (فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الكمأة من المن وماؤها شفاء للعين) قال الطيبي: كأنهم لما ذموها وجعلوها من الفضلات التي تتضمن المضرة وتدفعها الأرض إلى ظاهرها، كما تدفع الطبيعة الفضلات بالجدري، قابله صلى الله عليه وسلم بالمدح بأنه من المن أي مما منّ الله به عباده، أو شبهها بالمن وهو العسل الذي ينزل من السماء، إذ يحصل بلا علاج واحتياج إلى بذر وسقي، أي ليست بفضلات، بل من فضل الله ومنه، أو ليست مضرة بل شفاء كالمن النازل انتهى.
قوله: (هذا حديث حسن) وأخرجه ابن ماجه والطبري، من طريق ابن المنكدر عن جابر قال: كثرت الكمأة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فامتنع قوم من أكلها وقالوا هي جدري الأرض، فبلغه ذلك فقال: إن الكمأة ليست من جدري الأرض لا إن الكمأة من المن. كذا في الفتح.
قوله: (حدثت) بصيغة المتكلم المجهول من الحديث فيه انقطاع (أخذت ثلاثة أكمؤ) بفتح فسكون فضم ميم فهمز أي ثلاثة أشخص منها (أو خمساً أو سبعاً) كذا في بعض النسخ بالألف وهو الظاهر، ووقع في النسخة الأحمدية أو خمس أو سبع بغير الألف، ولا يظهر له وجه إلا بالتكلف فتفكر (فعصرتهن) أي في وعاء (فبرأت) بفتح الراء ويكسر أي شفيت. وحديث أبي هريرة هذا موقوف وفيه انقطاع.
وتأمل عبارة البغوي في ذلك: (وروي عن أبي هريرة)، بصيغة التمريض فإنه إشعار منه رحمه الله بضعف الأثر، وصرح بذلك ابن حجر كما مر فقال: وَقَدْ أَخْرَجَ التِّرْمِذِيّ فِي جَامِعه بِسَنَدٍ صَحِيح إِلَى قَتَادَة قَالَ: حُدِّثْت أَنَّ أَبَا هُرَيْرَة قَالَ.