بسم اللهِ الرّحمنِ الرّحيم
تصحيحُ حديثِ ابنِ عبّاسٍ في صفة ( العينين )
و الرّدُّ على مَنْ ضعّفَهُ
الحمدُ للهِ ربّ العالمين ، و الصّلاةُ و السّلامُ على رسولِهِ الأمين ، و على آله و صحابته و نِسائِهِ أجمعين ، و تابِعِيْهِمْ بإحسانٍ من أهلِ الحديث الأثريّين ؛ إلى يوم الدّين .
أمّا بعد :
فلقد نَشَرَ ( عاملٌ ) في ( مركز جمعيّة إحياء التّراث الكويتيّة الحزبيّة )##### في شبكة ( السّاحات ) البِدْعِيّة مَقالاً لـِ ( أكرم بن محمّد زيادة الفالوجيّ ) ؛ عُلوانه : " (( تجري بأعيننا)) ؛ أي : بعينينا " ؛ جاء فيه :
(( و قد أورد اللاّلكائيّ في " شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة : 3 / 411 / 691 ) عن ابن عبّاسٍ في قوله - عزّ و جلّ - : (( تجري بأعيننا )) ؛ قال : (( أشار بيده إلى عينيه )) .
قلت : و في هذا الأثر - إن صحّ الإسنادُ إليه ؛ لأنّ اللاّلكائي ساقه من طريق ( عليِّ بن صدقة ) ؛ و لم يعرفه المحقّقُ الغامديُّ - كفايةٌ في إثبات العينين - كلتيهما - من خلال هذا النّصّ )) ا.هـ
فأحببتُ أنْ أنْقُلَ لـِ ( الكاتبِ ) و ( النّاقلِ ! ) ( بابًا ) مِنْ كتابي " عونُ الواحدِ الأحد في إثباتِ عَيْنَيْ ربِّنا الصّمَد و الرّدِّ على الجهميّة الجاحِدِين في العينين العدد " ؛ حيثُ كنتُ تكلّمتُ على الحديثِ المذكورِ ( روايةً و دِراية ) .
فأقولُ – مُستعينًا باللهِ العظيم - :
( بابٌ )
من قال بذلك من الصّحابة - رضي الله عنهم -
و قال بتثنية عيني ربّنا - سبحانه - من أصحاب رسولنا - صلّى الله عليه و على آله و سلّم ، و رضي عنهم - حبرُ الأمّةِ و تُرجمانُ قرآنها أبو العبّاس عبد الله بن عبّاسٍ - رضي الله عنهما - .
فلقد فسّر قول الله - تعالى - : (( تجري بأعيينا )) بإشارته إلى عينيه .
قال الإمام أبو القاسم هبة الله الطّبريّ اللاّلكائيّ في " شرح أصول اعتقاد أهل السّنّة و الجماعة : 3 / 411 - رقم : 691 " : أخبرنا أحمدُ بن محمّدٍ الفقيه ؛ قال : أخبرنا عمرُ بن أحمدَ الواعظ ؛ قال : ثنا عبدُ الله بن سليمان ؛ قال : ثنا عليُّ بن صدقة ؛ قال ثنا حجّاج ؛ عن ابن جُريجٍ ؛ عن عطاء ؛ عن ابن عبّاسٍ ؛ في قوله - عزّ و جلّ - : (( تجري بأعيينا )) ؛ قال : أشار بيده إلى عينيه .
و هذا إسنادٌ حسنٌ - على الأقلّ - .
فأحمد بن محمّدٍ الفقيه : هو الفقيه الشّافعيّ الثّقة أبوحامدٍ أحمد بن أبي طاهرٍ محمّد بن أحمد الإسفرائينيّ ؛ و انظر : " تاريخ بغداد : 4 / 368 - رقم : 2239 " .
و عمر بن أحمد الواعظ : هو الثّقة الأمين المأمون أبو حفصٍ عمر بن أحمد بن عثمان بن أحمد بن محمّدٍ بن شاهين ؛ صاحب " تاريخ أسماء الثّقات " ؛ و ترجمته في " تاريخ بغداد : 11 / 265 - رقم : 6028 " .
و ليس هو الحافظ العالم الثّقة المتّفق عليه أبا حفصٍ عمر بن أحمدَ بن عليٍّ بن عبد الرّحمن الجوهريّ المروزيّ ؛ المعروف بابن علك ؛ و انظر : " تاريخ بغداد : 11 / 227 - رقم : 5960 " ، و " الإرشاد : 3 / 906 " للخليليّ .
قلت : فإنّ المعروف بـ ( عمر بن أحمد الواعظ ) هو : ابن شاهين .
و ابن شاهين ، و المروزيّ كلاهما روى عنهما الإسفرائينيّ ؛ لولا أنّ ابن شاهين هو الّذي يروي عن عبد الله بن سليمان .
و الحديث من أحاديث السّنّة و الصّفات ؛ و ابن شاهين مشهورٌ بالاهتمام بذلك ، و الدّفاع بالحجج عن الطّريقة السّلفيّة الأثريّة ، و له - في ذلك - كتاب " السّنّة " .
و الإسفرائينيّ البغداديّ - رحمه الله - أكثر عن عمر بن أحمد الواعظ ؛ و المروزيّ أتى بغداد حاجًّا ؛ فحدّث فيها ؛ كما قال الخطيب في ترجمته ؛ أمّا ابن شاهين فكان بغداديًّا ؛ فهذا ممّا يُرجّح أنّه هو شيخ الإسفرائينيّ في هذه الأحاديث .
و عمر بن أحمدَ الجوهريّ المروزيّ لم أجد أحدًا لقّبه بـ ( الواعظ ) ( ! ) .
لولا أنّ أبا حامدٍ الإسفرائينيّ - أو اللاّلكائيّ ذكر ذلكَ - مرّةً - في كتابه ( 2 / 322 ) - من طريق أبي حامدٍ الإسفرائينيّ ؛ عنه - ؛ فقال : عمر بن أحمد بن عليٍّ الواعظ .
و قال - مرّةً - ( 2 / 214 ) : عمر بن أحمد المروزيّ ، و قال - أخرى - ( 1 / 65 ) : عمر بن أحمد بن عليٍّ .
و أيًّا كان ؛ فكلاهما ثقةٌ .
و عبد الله بن سليمان : هو الإمام السّنّيّ العالم الحافظ العَلَم الثّقة أبو بكرٍ عبد الله بن أبي داود سليمان بن الأشعث السّجستاني .
و ليس هو أبا محمّدٍ عبد الله بن سليمان بن عيسى بن الهيثم ( و قيل : ابن عيسى بن السّنديّ بن سيرين ) ؛ الورّاق ؛ المعروف بالفاميّ ؛ قال الخطيب في " تاريخه : : 9 / 469 - رقم : 5096 " : (( كان ثقة )) .
فإنّ ابن شاهين و إن روى عنهما ؛ إلاّ أنّه أكثر عن أبي بكرٍ ابن أبي داود ؛ فهو من أوّل شيوخه .
و أبو بكرٍ ابن أبي داود من أئمّة السّنّة و المعتقد السّلفيّ ، و حديثنا في ذلك ؛ فلهذا يغلب على الظّنّ أنّه هو راوي هذا الحديث ؛ لما عُرف به - رحمه الله - من اهتمامه بالسّنن و الآثار المنتصرة لسبيل السّلف و معتقدهم .
و عليُّ بن صدقة : ذكره ابن حبّان في " الثّقات 8 / 471 - رقم : 14481 " ؛ و قال : (( يُغرب )) ، و انظر " لسان الميزان : 4 / 235 - رقم : 634 " ؛ لولا أنّه زعم الكوثريّ الجهميّ - لحاه الله - في " تأنيبه " أنّه : (( كثير الإغراب )) ؛ فقال المعلّميّ - رحمه الله - في " التّنكيل : 1 / 272 " : (( أقول : ذكره ابن حبّان في " الثقات " ؛ و قال : (( يُغرب )) ؛ وابن حبّان قد يقول مثل هذا لمن يَستغرِب لـه حديثًا واحدًا ، أو زيادةً في حديث ؛ فقول . . . [ الكوثريّ ] : (( كثير الإغراب )) من تصرّفاته )) ( !!! ) .
قلت : فهو - إذًا - حسن الحديث على الأقلّ ؛ ما لم يُخالف ، و توثيق ابن حبّان لمثله مُعتبر ؛ إذ التّوقّف إنّما هو في توثيقه المجهولين ؛ لا المعروفين .
و حجّاجُ : هو الثّقة الثّبت أبو محمّدٍ الأعور الحجّاج بن محمّدٍ المصّيصيّ ؛ و قد اختلط في آخر عمره ؛ إلاّ أنّه قال أبو بكرٍ الخلاّل : (( فنرى أنّ حجّاجًا كان منه هذا [ أي قَبول تلقين تلميذه سنيد بن داود ] فى وقت تغيـّره ، لأنّ عبد الله بن أحمد حكى عن أبيه أنّ حجّاجًا تغيّر فى آخر عمره ، و نرى أنّ أحاديث النّاس عن حجّاجٍ صحاحٌ صالحةٌ ؛ إلا ما روى سنيدٌ من هذه الأحاديث )) .
و ابن جُريجٍ مدلّسٌ تدليسًا قبيحًا - كما قال الدّارقطنيّ - ؛ لولا أنّ عنعنة ابن جُريجٍ ؛ عن عطاءَ محمولةٌ على السّماع ؛ لقوله : (( إذا قلت : (( قال عطاء )) ؛ فأنا سمعته منه ؛ و إن لم أقل : (( سمعت )) )) ؛ و ليس من فرقٍ مؤثّرٍ بين العنعنة و التّقويل ؛ كما أشرحُهُ في جزءٍ خاصٍّ حول ( عنعنة ابن جريجٍ ؛ عن عطاء ) .
بقي أن نعرف : هل لَقِيَ عطاء ابنَ عبّاسٍ ؟؛ أم لا ؟.
لأنّ عطاء بن أبي رباحٍ كثير الإرسال ؛ إلاّ أنّه أخذ عن ابن عبّاسٍ ، و روايته عنه أخرجها العلماء في صحاحهم ، و كان ابن عبّاسٍ - رضي الله عنهما - يُجلّه ؛ فلقد قال أبو داود ؛ عن سفيان الثّوريّ ؛ عن عمر بن سعيدٍ بن أبي حسين ؛ عن أمّه : أنّها أرسلت إلى ابن عبّاسٍ ؛ تسأله عن شىء ؛ فقال : يا أهل مكّة ؛ تجتمعون عليّ و عندكم عطاء ؟!.
فالإسناد حسنٌ - على الأقلّ - ؛ لحال عليِّ بن صدقة .
هذا ؛ و تفسيرُ ابن عبّاسٍ - هذا - له حكم الرّفع ؛ لسببين :
الأوّل : أنّه لا يُقال بمجرّد الاجتهاد و الرّأي ؛ فليس للرّأي إلى ( صفات الله - سبحانه - ) سبيل ( ! ) .
و الثّاني : أنّه تفسير صحابيٍّ - لم يُخالَف فيه - ممّا لا مجال للرّأي فيه ، و ليس ممّا يُنقل عن لسان العرب ، و مُفسِّره ليس معروفًا بالنّظر في الإسرائيليّات؛ فله حكم المرفوع .
و مسألة ( الحُكم على تفسير الصّحابيّ الموقوف بالرّفع ) مُختلفٌ فيها ؛ و قال ابن حجرٍ في " النّكت : 2 / 531 - 532 " : (( و الحقّ أنّ ضابط ما يفسّره الصّحابيّ - رضي الله عنه - إن كان لا مجال للاجتهاد فيه ، و لا منقولاً عن لسان العرب فحكمه الرّفع( ) - [ قلت : يعني : إذا لم يُخالَف - و الله أعلم - ] - ؛ و إلاّ فلا . . . ؛ و هذا التّحرير الّذي حرّرناه هو معتمد خلقٍ كثيرٍ من كبار الأئمّة ؛ كصاحبيّ " الصّحيح "( ) ، و الإمام الشّافعيّ ، ، و أبي جعفرٍ الطّحاويّ ، و أبي بكرٍ ابن مردويه في " تفسيره " المسند ، و البيهقيّ ، و ابن عبد البرّ ؛ في آخرين .
إلاّ أنّه يُستثنى من ذلك ما كان المفسِّر له من الصّحابة - رضي الله - تعالى - عنهم - معروفًا بالنّظر في الإسرائيليّات ؛ كعبد الله ابن سلاّم ، و غيره من مسلمة أهل الكتاب ، و كعبد الله بن عمرٍو بن العاص ؛ فإنّه كان حصل لـه في وقعة اليرموك كتبٌ كثيرةٌ من كتب أهل الكتاب ؛ فكان يخبر بما فيها من الأمور المغيبة ؛ حتّى كان بعض أصحابه ربمّا قال لـه : حدّثنا عن النّبيّ ، و لا تحدّثنا عن الصّحيفة ( ! ) ؛ فمثل هذا لا يكون حكم ما يخبر به من الأمور النّقلية الرّفع ؛ لقوّة الاحتمال ))( ) ا.هـ
و انظر : " الرّدّ المفحم : 54 " ، و " النّصيحة " لشيخنا الإمام الفقيه الحافظ الألبانيّ( ) ، و " رسالة الحجاب : 12 ، 25 " لشيخنا المفسّر الأصوليّ الفقيه محمّد بن صالحٍ بن عثيمين - رحمهما الله - ؛ فهما - يرحمهما الله - يقولان برفع تفسير الصّحابيّ - مُطلقًا( ) - ؛ و يقول بمثل قولهما ناسٌ كثيرٌ من السّلف و السّلفيّين ، و يُخالفهما ناسٌ ؛ و إنّما نقلتُ قولهما لإجماع أهل العصر على إمامتهما ، و نبوغهما - رحمهما الله - .
و لسنا نقول بقولهما - مطلقًا - ؛ بل الرّاجح ما نقلتُه عن ابن حجرٍ - عفا الله عنّا و عنه - ؛ من تقييد ذلك بقيودٍ ثلاثة ؛ هي : أن لا يكون تفسيرُه ممّا يُقال بالاجتهاد و الرّأي ، و لا ممّا يُنقَل عن لسان العرب ، و لا يكون مفسِّرُه من المعروفين بالنّظر في مرويّات بني إسرائيل ، و زدنا قيدًا رابعًا ؛ هو : أن لا يُخالِفه - من الصّحابة - غيُره ؛ و الله أعلم .
و هذا الوجْهُ المرفوع - من تفسير ابنِ عبّاسٍ - رضي الله عنهما يعتضد و يتقوّى بحديثي أبي هريرة ، و عقبة بن عامرٍ - رضي الله عنهما - المرفوعين .
كما أنّه يعضدهما ، و يقوّيهما ، و يشهد لهما .
هذا ؛ مع التّنبّه إلى كون ابن عبّاسٍ - رضي الله عنهما - لم يُخالَف في تفسيره - هذا - ؛ و مثل هذا القول منه - رضي الله عنه - و إن لم يُسمّى إجماعًا ؛ لعدم معرفتنا انتشاره عنه ؛ إذ هذا هو ضابط جعل أقوال الصّحابة - رضي الله عنهم - الّتي لم يُخالِفوا فيها إجماعًا ، مع شرطٍ آخر ؛ و هو : أن لا يكونوا من أولي الهيبة الّذين تُخشى مخالفتهم ؛ كعمر - رضي الله عنه - ، و أضرابه .
أقول : و إن لم يسمّى قول ابن عبّاسٍ - رضي الله عنهما - - هذا - إجماعًا ؛ إلاّ أنّه حجّةٌ ؛ فهو كالإجماع ؛ و انظر " جِماع العلم : 43 - 44 " للإمام الشّافعيّ - رحمه الله - .
و الأئمّة يجعلون ما لا يُعلم فيه بالمخالف حجّةً ؛ و إن لم يُسمّوه إجماعًا ، و يحتجّون بآثار الصّحابة إذا لم يُخالَفوا .
فكيف ؛ و أثرُنا - هذا - في ما لا يُقال بالرّأي ؛ و له حكم الرّفع - كما بيّنّا - .
و المراد بيانه ؛ أنّ هذا التّفسير إن لم يكن إجماعًا ؛ فهو كالإجماع .
على أنّي سأذكر من نقل الإجماع على تثنية عيني ربّنا – سبحان - في بابٍ خاصٍّ - إن شاء الله - .
فإن قال قائلٌ أنّ اللاّلكائيّ - نفسه - - رحمه الله - يميل إلى ضعف حديث ابن عبّاسٍ - رضي الله عنهما - المذكور ( ! ) ؛ و ذلك أنّه قال ( 3 : 412 ) ؛ تحت باب ( سياق ما دلّ من كتاب الله - عزّ و جلّ - ، و سنّة رسوله على أنّ من صفات الله - عزّ و جلّ - الوجه و العينين و اليدين ) : ((692 - و رُوي عن ابن عبّاسٍ في تفسير : (( بأعيينا )) : أنه أشار الى عينيه )) .
إن قيل : أنّ تصديره الحديث بصيغة التّمريض تضعيفٌ له ؛ و قد قال النّوويّ - عفا الله عنّا و عنه - في " المجموع شرح المهذّب : 1 / 63 " : (( قال العلماء المحقّقون من أهل الحديث و غيرهم : إذا كان الحديث ضعيفًا لا يُقال فيه : قال رسول الله - صلّى الله عليه و على آله و سلّم - ، أو : فعل ، أو : أمر ، أو : نهى ، أو : حكم ، و ما أشبه ذلك من صيغ الجزم ، و كذا لا يُقال فيه : روى أبو هريرة ، أو : قال ، أو : ذكر . . . ، و ما أشبهه ، وكذا لا يقال ذلك في التّابعين ، و من بعدهم - فيما كان ضعيفًا - ؛ فلا يقال في شيءٍ من ذلك بصيغة الجزم ؛ و إنّما يُقال في هذا كلِّه : رُوي عنه ، أو : نُقل عنه ، أو : حُكي عنه . . . ، أو : يُذكر ، أو : يُحكى . . . ، أو : يُروى ، و ما أشبه ذلك من صيغ التّمريض ؛ و ليست من صيغ الجزم .
قالوا : فصيغ الجزم موضوعةٌ للصّحيح أو الحسن ، و صيغ التّمريض لما سواهما .
وذلك أنّ صيغة الجزم تقتضي صحّته عن المضاف إليه ؛ فلا ينبغي أن يُطلق إلا فيما صحّ ؛ و إلاّ فيكون الإنسان في معنى الكاذب عليه و هذا الأدب أخلّ به المصنّف ( )، و جماهير الفقهاء من أصحابنا ، و غيرهم ؛ بل جماهير أصحاب العلوم - مطلقًا - ما عدا حذّاق المحدّثين ؛ و ذلك تساهلٌ قبيحٌ منهم ؛ فإنهّم يقولون - كثيرًا - في الصّحيح : (( رُوي عنه )) ، و في الضّعيف : (( قال )) ، أو : (( روى فلان )) ؛ و هذا حيدٌ عن الصّواب )) ا.هـ
و الإمام اللاّلكائيّ - رحمه الله - يقول : (( رُوي عن ابن عبّاسٍ في تفسير : (( بأعيينا )) : أنه أشار الى عينيه )) ؛ فيكون هذا - عنده - ضعيفًا ( ! ) .
فأقول - و بربّي - وحده - أصول و أجول - :
أوّلاً : كيف يُظنّ هذا ؛ مع أنّ اللاّلكائيّ أخرجه محتجًّا به ؟!.
هل تُراه يحتجّ بالضّعيف في عقيدته و صفات ربّه - سبحانه و تعالى - ؟!.
و ثانيًا : فإنّ القاعدة الّتي ذكرها النّوويّ صحيحةٌ .
نعم ؛
و لكنّه ذكرها فقال : (( قال العلماء المحقّقون من أهل الحديث )) ، و (( هـذا الأدب أخـلّ به المصنّف ، و جماهير الفقهاء من أصحابنا ، و غيرهم ؛ بل جماهير أصحاب العلوم - مطلقًا - ما عدا حذّاق المحدّثين )) .
و ليس عندنا أنّ الإمام اللاّلكائيّ - رحمه الله - من ( العلماء المحقّقين من أهل الحديث ) ، و لا أنّه - رحمه الله - من ( حذّاقهم ) ؛ فليس في كتابه ما يدلّ على ذلك ؛ بل فيه ما يُشعر بضدّه .
و حتّى لو كان منهم ؛ فليس ذلك مستلزمًا التزامَه ما ذكره النّوويّ عنهم ؛ فإنّ كثيرًا من حذّاقهم لم يكونوا يلتزمون ذلك ؛ كشيخ الإسلام - رحمه الله - ، و غيره ؛ و إن التزمه بعضهم ؛ كالمنذريّ - رحمه الله - في " التّرغيب و التّرهيب " و غيره .
و ثالثًا : فإنّ تصدير الحديث بصيغة التّمريض ليس إشعارًا بضعفه - دائمًا - ؛ حتّى عند حذّاق و أئمّة المحدّثين ؛ فهذا أمير المؤمنين في الحديث ، شيخُ أهل الصّنعة ؛ الإمامُ البخاريّ - رحمه الله - يُصدّر بعض الأحاديث بالتّمريض في " صحيحه " ؛ فيقول الحافظ في " الفتح : 1 / 91 " : (( قاعدةٌ ذكرها لي شيخنا أبو الفضل بن الحسين الحافظ - رحمه الله - ؛ و هي : أنّ البخاريّ لا يخصّ صيغة التّمريض بضعف الإسناد ؛ بل إذا ذكر المتن بالمعنى ، أو اختصره أتى بها - أيضًا - )) .
و الإمام اللاّلكائيّ لمّا صدّر الحديث بصيغة التّمريض كان أتى به مختصرًا ، و بالمعنى .
فلعلّ هذا هو سبب تصديره إيّاه بالتّمريض ؛ لا أنّه يُضعّفه ( ! ) .
و آخر ما يُقال - في حديث ابن عبّاسٍ - رضي الله عنهما - - هذا - أنّه هو الجواب على تساؤلٍ عن سلف الدّارميّ - رحمه الله - في قوله بتثنية عيني ربّنا - سبحانه - .
و هو الجواب على تشكيك من شكّك - من الجهميّة - في الإجماع السّلفيّ على تثنية عيني ربّنا - سبحانه - .
فالحمد لله ناصر جنده ، و مخزي عدوّه .
=========================
الحواشي
=========================
(1) و قال قولَه تلميذُه السّخاويّ في " فتح المغيث :1 / 124 " .
(2) قلت : و قد زعم الحاكم أنّهما يقولان برفع تفسير الصّحابيّ مطلقًا ؛ كما سيأتي ( ! ) .
(3) و قال قوله - قبله - في اشتراط أن لا يكون الصّحابيّ - رضي الله عنه - من الآخذين عن بني إسرائيل شيخُه العراقيّ - رحمه الله – في " شرح التّقييد " ؛ و ردّه تلميذه السّخاويّ في " فتح المغيث : 130 - 131 " ؛ فقال : (( وفي ذلك نظر ؛ فإنّه يبعُد أن الصّحابيّ المتّصف بالأخذ عن أهل الكتاب يسوّغ حكاية شيءٍ من الأحكام الشّرعيّة الّتي لا مجال للرّأي فيها مستندًا لذلك من غير عزوٍ ؛ مع علمه بما وقع فيه من التّبديل و التّحريف ؛ بحيث سمّى ابن عمرٍو بن العاص الصّحيفة النّبويّة : (( الصّادقة )) ؛ احترازًا عن الصّحيفة اليرموكيّة ، و . . . )) ا.هـ
قلت : و قول العراقيّ و العسقلانيّ أوثق ؛ فلسنا نزعم الرّفع بالظّنون ( ! ) .
(4) و قال شيخنا - رحمه الله - في " الصّحيحة : 3 / 188 - رقم : 1191 " : تفسير الصّحابيّ للقرآن له حكم الرّفع ؛ كما قرّره الحاكم في " المستدرك " .
قلت : و أبو عبد الله الحاكم - رحمه الله - إنّما ينقل - ما يقوله من إسناد تفسير الصّحابيّ و رفعه - عن صاحبيّ الصّحيح ؛ فلذلك يقول ( 1 / 726 - تحت الحديث : 1988 ) : (( قد اتّفقا على أنّ تفسير الصّحابيّ حديثٌ مسند )) ، و قال ( 2 / 283 – تحت الحديث : 3021 ) : (( ليعلم طالب هذا العلم أنّ تفسير الصّحابيّ الّذي شهد الوحي و التّنزيل عند الشّيخين حديثٌ مسند )) ، و قال ( 2 / 289 – تحت الحديث : 3043 ) : (( اتّفق الشّيخان على سند تفسير الصّحابيّ )) .
و لذلك قال الحافظ – عفا الله عنّا و عنه - في " النّكت : 2 / 530 " : (( أطلق الحاكم النّقل عن البخاريّ و مسلمٍ : أنّ تفسير الصّحابيّ - رضي الله عنه - الّذي شهد الوحي و التّنزيل حديثٌ مسند )) .
قلت :
و لكنّه قيّد - ما أطلقه - في " معرفة علوم الحديث : 20 " ؛ فقال : (( فأمّا ما نقول في تفسير الصّحابيّ مسند ؛ فإنّما نقوله في غير هذا النّوع ؛ فإنّه كما أخبرنا أبو عبد الله محمّدُ بن عبد الله بن صفّارٍ : حدّثنا إسماعيل بن إسحق القاضي : حدّثنا إسحق بن أبي أويسٍ : حدّثني مالكُ بن أنسٍ ؛ عم محمّدٍ بن المنكدر ؛ عن جابرٍ ؛ قال : كانت اليهود تقول : من أتى امرأته من دبرها في قُبلها جاء الولد أحول ؛ فأنزل الله - عزّ و جلّ - : (( نساؤكم حرثٌ لكم )) .
قال الحاكم : هذا الحديث و أشباهه مسندةٌ عن آخرها ؛ و ليست بموقوفة ؛ فإنّ الصّحابيّ الّذي شهد الوحي و التّنزيل ؛ فأخبر عن آيةٍ من القرآن ؛ أنّها نزلت في كذا و كذا ؛ فإنّه حديثٌ مسند .
قلت :
و هذا مثل قول الخطيب ، و أبي منصورٍ البغداديّ ، و ابن الصّلاح ، و السّخاويّ غيرهم ؛ أنّ تفسير الصّحابيّ ليس لـه حكم الرّفع إلاّ إذا تعلّق بسبب النّزول ( ! ) .
و الله أعلم .
(5) هذا ما في كُتب شيخِنا الإمام الألبانيّ - رحمه الله - ؛ لولا أنّه قيّد ذلك بقيدين - كما في الشّريط رقم : ( 843 ) ؛ من ( سلسلة الهدى و النّور ) - ؛ و هما : أن لا يكون قول الصّحابيّ أو تفسيره ممّا يُقال بالاجتهاد أو بالرّأي ، و أن لا يكون الصّحابيّ ممّن اشتهر بالأخذ عن بني إسرائيل .
(6) أي : الشّيرازي ؛ صاحب " المهذّب " .
تصحيحُ حديثِ ابنِ عبّاسٍ في صفة ( العينين )
و الرّدُّ على مَنْ ضعّفَهُ
الحمدُ للهِ ربّ العالمين ، و الصّلاةُ و السّلامُ على رسولِهِ الأمين ، و على آله و صحابته و نِسائِهِ أجمعين ، و تابِعِيْهِمْ بإحسانٍ من أهلِ الحديث الأثريّين ؛ إلى يوم الدّين .
أمّا بعد :
فلقد نَشَرَ ( عاملٌ ) في ( مركز جمعيّة إحياء التّراث الكويتيّة الحزبيّة )##### في شبكة ( السّاحات ) البِدْعِيّة مَقالاً لـِ ( أكرم بن محمّد زيادة الفالوجيّ ) ؛ عُلوانه : " (( تجري بأعيننا)) ؛ أي : بعينينا " ؛ جاء فيه :
(( و قد أورد اللاّلكائيّ في " شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة : 3 / 411 / 691 ) عن ابن عبّاسٍ في قوله - عزّ و جلّ - : (( تجري بأعيننا )) ؛ قال : (( أشار بيده إلى عينيه )) .
قلت : و في هذا الأثر - إن صحّ الإسنادُ إليه ؛ لأنّ اللاّلكائي ساقه من طريق ( عليِّ بن صدقة ) ؛ و لم يعرفه المحقّقُ الغامديُّ - كفايةٌ في إثبات العينين - كلتيهما - من خلال هذا النّصّ )) ا.هـ
فأحببتُ أنْ أنْقُلَ لـِ ( الكاتبِ ) و ( النّاقلِ ! ) ( بابًا ) مِنْ كتابي " عونُ الواحدِ الأحد في إثباتِ عَيْنَيْ ربِّنا الصّمَد و الرّدِّ على الجهميّة الجاحِدِين في العينين العدد " ؛ حيثُ كنتُ تكلّمتُ على الحديثِ المذكورِ ( روايةً و دِراية ) .
فأقولُ – مُستعينًا باللهِ العظيم - :
( بابٌ )
من قال بذلك من الصّحابة - رضي الله عنهم -
و قال بتثنية عيني ربّنا - سبحانه - من أصحاب رسولنا - صلّى الله عليه و على آله و سلّم ، و رضي عنهم - حبرُ الأمّةِ و تُرجمانُ قرآنها أبو العبّاس عبد الله بن عبّاسٍ - رضي الله عنهما - .
فلقد فسّر قول الله - تعالى - : (( تجري بأعيينا )) بإشارته إلى عينيه .
قال الإمام أبو القاسم هبة الله الطّبريّ اللاّلكائيّ في " شرح أصول اعتقاد أهل السّنّة و الجماعة : 3 / 411 - رقم : 691 " : أخبرنا أحمدُ بن محمّدٍ الفقيه ؛ قال : أخبرنا عمرُ بن أحمدَ الواعظ ؛ قال : ثنا عبدُ الله بن سليمان ؛ قال : ثنا عليُّ بن صدقة ؛ قال ثنا حجّاج ؛ عن ابن جُريجٍ ؛ عن عطاء ؛ عن ابن عبّاسٍ ؛ في قوله - عزّ و جلّ - : (( تجري بأعيينا )) ؛ قال : أشار بيده إلى عينيه .
و هذا إسنادٌ حسنٌ - على الأقلّ - .
فأحمد بن محمّدٍ الفقيه : هو الفقيه الشّافعيّ الثّقة أبوحامدٍ أحمد بن أبي طاهرٍ محمّد بن أحمد الإسفرائينيّ ؛ و انظر : " تاريخ بغداد : 4 / 368 - رقم : 2239 " .
و عمر بن أحمد الواعظ : هو الثّقة الأمين المأمون أبو حفصٍ عمر بن أحمد بن عثمان بن أحمد بن محمّدٍ بن شاهين ؛ صاحب " تاريخ أسماء الثّقات " ؛ و ترجمته في " تاريخ بغداد : 11 / 265 - رقم : 6028 " .
و ليس هو الحافظ العالم الثّقة المتّفق عليه أبا حفصٍ عمر بن أحمدَ بن عليٍّ بن عبد الرّحمن الجوهريّ المروزيّ ؛ المعروف بابن علك ؛ و انظر : " تاريخ بغداد : 11 / 227 - رقم : 5960 " ، و " الإرشاد : 3 / 906 " للخليليّ .
قلت : فإنّ المعروف بـ ( عمر بن أحمد الواعظ ) هو : ابن شاهين .
و ابن شاهين ، و المروزيّ كلاهما روى عنهما الإسفرائينيّ ؛ لولا أنّ ابن شاهين هو الّذي يروي عن عبد الله بن سليمان .
و الحديث من أحاديث السّنّة و الصّفات ؛ و ابن شاهين مشهورٌ بالاهتمام بذلك ، و الدّفاع بالحجج عن الطّريقة السّلفيّة الأثريّة ، و له - في ذلك - كتاب " السّنّة " .
و الإسفرائينيّ البغداديّ - رحمه الله - أكثر عن عمر بن أحمد الواعظ ؛ و المروزيّ أتى بغداد حاجًّا ؛ فحدّث فيها ؛ كما قال الخطيب في ترجمته ؛ أمّا ابن شاهين فكان بغداديًّا ؛ فهذا ممّا يُرجّح أنّه هو شيخ الإسفرائينيّ في هذه الأحاديث .
و عمر بن أحمدَ الجوهريّ المروزيّ لم أجد أحدًا لقّبه بـ ( الواعظ ) ( ! ) .
لولا أنّ أبا حامدٍ الإسفرائينيّ - أو اللاّلكائيّ ذكر ذلكَ - مرّةً - في كتابه ( 2 / 322 ) - من طريق أبي حامدٍ الإسفرائينيّ ؛ عنه - ؛ فقال : عمر بن أحمد بن عليٍّ الواعظ .
و قال - مرّةً - ( 2 / 214 ) : عمر بن أحمد المروزيّ ، و قال - أخرى - ( 1 / 65 ) : عمر بن أحمد بن عليٍّ .
و أيًّا كان ؛ فكلاهما ثقةٌ .
و عبد الله بن سليمان : هو الإمام السّنّيّ العالم الحافظ العَلَم الثّقة أبو بكرٍ عبد الله بن أبي داود سليمان بن الأشعث السّجستاني .
و ليس هو أبا محمّدٍ عبد الله بن سليمان بن عيسى بن الهيثم ( و قيل : ابن عيسى بن السّنديّ بن سيرين ) ؛ الورّاق ؛ المعروف بالفاميّ ؛ قال الخطيب في " تاريخه : : 9 / 469 - رقم : 5096 " : (( كان ثقة )) .
فإنّ ابن شاهين و إن روى عنهما ؛ إلاّ أنّه أكثر عن أبي بكرٍ ابن أبي داود ؛ فهو من أوّل شيوخه .
و أبو بكرٍ ابن أبي داود من أئمّة السّنّة و المعتقد السّلفيّ ، و حديثنا في ذلك ؛ فلهذا يغلب على الظّنّ أنّه هو راوي هذا الحديث ؛ لما عُرف به - رحمه الله - من اهتمامه بالسّنن و الآثار المنتصرة لسبيل السّلف و معتقدهم .
و عليُّ بن صدقة : ذكره ابن حبّان في " الثّقات 8 / 471 - رقم : 14481 " ؛ و قال : (( يُغرب )) ، و انظر " لسان الميزان : 4 / 235 - رقم : 634 " ؛ لولا أنّه زعم الكوثريّ الجهميّ - لحاه الله - في " تأنيبه " أنّه : (( كثير الإغراب )) ؛ فقال المعلّميّ - رحمه الله - في " التّنكيل : 1 / 272 " : (( أقول : ذكره ابن حبّان في " الثقات " ؛ و قال : (( يُغرب )) ؛ وابن حبّان قد يقول مثل هذا لمن يَستغرِب لـه حديثًا واحدًا ، أو زيادةً في حديث ؛ فقول . . . [ الكوثريّ ] : (( كثير الإغراب )) من تصرّفاته )) ( !!! ) .
قلت : فهو - إذًا - حسن الحديث على الأقلّ ؛ ما لم يُخالف ، و توثيق ابن حبّان لمثله مُعتبر ؛ إذ التّوقّف إنّما هو في توثيقه المجهولين ؛ لا المعروفين .
و حجّاجُ : هو الثّقة الثّبت أبو محمّدٍ الأعور الحجّاج بن محمّدٍ المصّيصيّ ؛ و قد اختلط في آخر عمره ؛ إلاّ أنّه قال أبو بكرٍ الخلاّل : (( فنرى أنّ حجّاجًا كان منه هذا [ أي قَبول تلقين تلميذه سنيد بن داود ] فى وقت تغيـّره ، لأنّ عبد الله بن أحمد حكى عن أبيه أنّ حجّاجًا تغيّر فى آخر عمره ، و نرى أنّ أحاديث النّاس عن حجّاجٍ صحاحٌ صالحةٌ ؛ إلا ما روى سنيدٌ من هذه الأحاديث )) .
و ابن جُريجٍ مدلّسٌ تدليسًا قبيحًا - كما قال الدّارقطنيّ - ؛ لولا أنّ عنعنة ابن جُريجٍ ؛ عن عطاءَ محمولةٌ على السّماع ؛ لقوله : (( إذا قلت : (( قال عطاء )) ؛ فأنا سمعته منه ؛ و إن لم أقل : (( سمعت )) )) ؛ و ليس من فرقٍ مؤثّرٍ بين العنعنة و التّقويل ؛ كما أشرحُهُ في جزءٍ خاصٍّ حول ( عنعنة ابن جريجٍ ؛ عن عطاء ) .
بقي أن نعرف : هل لَقِيَ عطاء ابنَ عبّاسٍ ؟؛ أم لا ؟.
لأنّ عطاء بن أبي رباحٍ كثير الإرسال ؛ إلاّ أنّه أخذ عن ابن عبّاسٍ ، و روايته عنه أخرجها العلماء في صحاحهم ، و كان ابن عبّاسٍ - رضي الله عنهما - يُجلّه ؛ فلقد قال أبو داود ؛ عن سفيان الثّوريّ ؛ عن عمر بن سعيدٍ بن أبي حسين ؛ عن أمّه : أنّها أرسلت إلى ابن عبّاسٍ ؛ تسأله عن شىء ؛ فقال : يا أهل مكّة ؛ تجتمعون عليّ و عندكم عطاء ؟!.
فالإسناد حسنٌ - على الأقلّ - ؛ لحال عليِّ بن صدقة .
هذا ؛ و تفسيرُ ابن عبّاسٍ - هذا - له حكم الرّفع ؛ لسببين :
الأوّل : أنّه لا يُقال بمجرّد الاجتهاد و الرّأي ؛ فليس للرّأي إلى ( صفات الله - سبحانه - ) سبيل ( ! ) .
و الثّاني : أنّه تفسير صحابيٍّ - لم يُخالَف فيه - ممّا لا مجال للرّأي فيه ، و ليس ممّا يُنقل عن لسان العرب ، و مُفسِّره ليس معروفًا بالنّظر في الإسرائيليّات؛ فله حكم المرفوع .
و مسألة ( الحُكم على تفسير الصّحابيّ الموقوف بالرّفع ) مُختلفٌ فيها ؛ و قال ابن حجرٍ في " النّكت : 2 / 531 - 532 " : (( و الحقّ أنّ ضابط ما يفسّره الصّحابيّ - رضي الله عنه - إن كان لا مجال للاجتهاد فيه ، و لا منقولاً عن لسان العرب فحكمه الرّفع( ) - [ قلت : يعني : إذا لم يُخالَف - و الله أعلم - ] - ؛ و إلاّ فلا . . . ؛ و هذا التّحرير الّذي حرّرناه هو معتمد خلقٍ كثيرٍ من كبار الأئمّة ؛ كصاحبيّ " الصّحيح "( ) ، و الإمام الشّافعيّ ، ، و أبي جعفرٍ الطّحاويّ ، و أبي بكرٍ ابن مردويه في " تفسيره " المسند ، و البيهقيّ ، و ابن عبد البرّ ؛ في آخرين .
إلاّ أنّه يُستثنى من ذلك ما كان المفسِّر له من الصّحابة - رضي الله - تعالى - عنهم - معروفًا بالنّظر في الإسرائيليّات ؛ كعبد الله ابن سلاّم ، و غيره من مسلمة أهل الكتاب ، و كعبد الله بن عمرٍو بن العاص ؛ فإنّه كان حصل لـه في وقعة اليرموك كتبٌ كثيرةٌ من كتب أهل الكتاب ؛ فكان يخبر بما فيها من الأمور المغيبة ؛ حتّى كان بعض أصحابه ربمّا قال لـه : حدّثنا عن النّبيّ ، و لا تحدّثنا عن الصّحيفة ( ! ) ؛ فمثل هذا لا يكون حكم ما يخبر به من الأمور النّقلية الرّفع ؛ لقوّة الاحتمال ))( ) ا.هـ
و انظر : " الرّدّ المفحم : 54 " ، و " النّصيحة " لشيخنا الإمام الفقيه الحافظ الألبانيّ( ) ، و " رسالة الحجاب : 12 ، 25 " لشيخنا المفسّر الأصوليّ الفقيه محمّد بن صالحٍ بن عثيمين - رحمهما الله - ؛ فهما - يرحمهما الله - يقولان برفع تفسير الصّحابيّ - مُطلقًا( ) - ؛ و يقول بمثل قولهما ناسٌ كثيرٌ من السّلف و السّلفيّين ، و يُخالفهما ناسٌ ؛ و إنّما نقلتُ قولهما لإجماع أهل العصر على إمامتهما ، و نبوغهما - رحمهما الله - .
و لسنا نقول بقولهما - مطلقًا - ؛ بل الرّاجح ما نقلتُه عن ابن حجرٍ - عفا الله عنّا و عنه - ؛ من تقييد ذلك بقيودٍ ثلاثة ؛ هي : أن لا يكون تفسيرُه ممّا يُقال بالاجتهاد و الرّأي ، و لا ممّا يُنقَل عن لسان العرب ، و لا يكون مفسِّرُه من المعروفين بالنّظر في مرويّات بني إسرائيل ، و زدنا قيدًا رابعًا ؛ هو : أن لا يُخالِفه - من الصّحابة - غيُره ؛ و الله أعلم .
و هذا الوجْهُ المرفوع - من تفسير ابنِ عبّاسٍ - رضي الله عنهما يعتضد و يتقوّى بحديثي أبي هريرة ، و عقبة بن عامرٍ - رضي الله عنهما - المرفوعين .
كما أنّه يعضدهما ، و يقوّيهما ، و يشهد لهما .
هذا ؛ مع التّنبّه إلى كون ابن عبّاسٍ - رضي الله عنهما - لم يُخالَف في تفسيره - هذا - ؛ و مثل هذا القول منه - رضي الله عنه - و إن لم يُسمّى إجماعًا ؛ لعدم معرفتنا انتشاره عنه ؛ إذ هذا هو ضابط جعل أقوال الصّحابة - رضي الله عنهم - الّتي لم يُخالِفوا فيها إجماعًا ، مع شرطٍ آخر ؛ و هو : أن لا يكونوا من أولي الهيبة الّذين تُخشى مخالفتهم ؛ كعمر - رضي الله عنه - ، و أضرابه .
أقول : و إن لم يسمّى قول ابن عبّاسٍ - رضي الله عنهما - - هذا - إجماعًا ؛ إلاّ أنّه حجّةٌ ؛ فهو كالإجماع ؛ و انظر " جِماع العلم : 43 - 44 " للإمام الشّافعيّ - رحمه الله - .
و الأئمّة يجعلون ما لا يُعلم فيه بالمخالف حجّةً ؛ و إن لم يُسمّوه إجماعًا ، و يحتجّون بآثار الصّحابة إذا لم يُخالَفوا .
فكيف ؛ و أثرُنا - هذا - في ما لا يُقال بالرّأي ؛ و له حكم الرّفع - كما بيّنّا - .
و المراد بيانه ؛ أنّ هذا التّفسير إن لم يكن إجماعًا ؛ فهو كالإجماع .
على أنّي سأذكر من نقل الإجماع على تثنية عيني ربّنا – سبحان - في بابٍ خاصٍّ - إن شاء الله - .
فإن قال قائلٌ أنّ اللاّلكائيّ - نفسه - - رحمه الله - يميل إلى ضعف حديث ابن عبّاسٍ - رضي الله عنهما - المذكور ( ! ) ؛ و ذلك أنّه قال ( 3 : 412 ) ؛ تحت باب ( سياق ما دلّ من كتاب الله - عزّ و جلّ - ، و سنّة رسوله على أنّ من صفات الله - عزّ و جلّ - الوجه و العينين و اليدين ) : ((692 - و رُوي عن ابن عبّاسٍ في تفسير : (( بأعيينا )) : أنه أشار الى عينيه )) .
إن قيل : أنّ تصديره الحديث بصيغة التّمريض تضعيفٌ له ؛ و قد قال النّوويّ - عفا الله عنّا و عنه - في " المجموع شرح المهذّب : 1 / 63 " : (( قال العلماء المحقّقون من أهل الحديث و غيرهم : إذا كان الحديث ضعيفًا لا يُقال فيه : قال رسول الله - صلّى الله عليه و على آله و سلّم - ، أو : فعل ، أو : أمر ، أو : نهى ، أو : حكم ، و ما أشبه ذلك من صيغ الجزم ، و كذا لا يُقال فيه : روى أبو هريرة ، أو : قال ، أو : ذكر . . . ، و ما أشبهه ، وكذا لا يقال ذلك في التّابعين ، و من بعدهم - فيما كان ضعيفًا - ؛ فلا يقال في شيءٍ من ذلك بصيغة الجزم ؛ و إنّما يُقال في هذا كلِّه : رُوي عنه ، أو : نُقل عنه ، أو : حُكي عنه . . . ، أو : يُذكر ، أو : يُحكى . . . ، أو : يُروى ، و ما أشبه ذلك من صيغ التّمريض ؛ و ليست من صيغ الجزم .
قالوا : فصيغ الجزم موضوعةٌ للصّحيح أو الحسن ، و صيغ التّمريض لما سواهما .
وذلك أنّ صيغة الجزم تقتضي صحّته عن المضاف إليه ؛ فلا ينبغي أن يُطلق إلا فيما صحّ ؛ و إلاّ فيكون الإنسان في معنى الكاذب عليه و هذا الأدب أخلّ به المصنّف ( )، و جماهير الفقهاء من أصحابنا ، و غيرهم ؛ بل جماهير أصحاب العلوم - مطلقًا - ما عدا حذّاق المحدّثين ؛ و ذلك تساهلٌ قبيحٌ منهم ؛ فإنهّم يقولون - كثيرًا - في الصّحيح : (( رُوي عنه )) ، و في الضّعيف : (( قال )) ، أو : (( روى فلان )) ؛ و هذا حيدٌ عن الصّواب )) ا.هـ
و الإمام اللاّلكائيّ - رحمه الله - يقول : (( رُوي عن ابن عبّاسٍ في تفسير : (( بأعيينا )) : أنه أشار الى عينيه )) ؛ فيكون هذا - عنده - ضعيفًا ( ! ) .
فأقول - و بربّي - وحده - أصول و أجول - :
أوّلاً : كيف يُظنّ هذا ؛ مع أنّ اللاّلكائيّ أخرجه محتجًّا به ؟!.
هل تُراه يحتجّ بالضّعيف في عقيدته و صفات ربّه - سبحانه و تعالى - ؟!.
و ثانيًا : فإنّ القاعدة الّتي ذكرها النّوويّ صحيحةٌ .
نعم ؛
و لكنّه ذكرها فقال : (( قال العلماء المحقّقون من أهل الحديث )) ، و (( هـذا الأدب أخـلّ به المصنّف ، و جماهير الفقهاء من أصحابنا ، و غيرهم ؛ بل جماهير أصحاب العلوم - مطلقًا - ما عدا حذّاق المحدّثين )) .
و ليس عندنا أنّ الإمام اللاّلكائيّ - رحمه الله - من ( العلماء المحقّقين من أهل الحديث ) ، و لا أنّه - رحمه الله - من ( حذّاقهم ) ؛ فليس في كتابه ما يدلّ على ذلك ؛ بل فيه ما يُشعر بضدّه .
و حتّى لو كان منهم ؛ فليس ذلك مستلزمًا التزامَه ما ذكره النّوويّ عنهم ؛ فإنّ كثيرًا من حذّاقهم لم يكونوا يلتزمون ذلك ؛ كشيخ الإسلام - رحمه الله - ، و غيره ؛ و إن التزمه بعضهم ؛ كالمنذريّ - رحمه الله - في " التّرغيب و التّرهيب " و غيره .
و ثالثًا : فإنّ تصدير الحديث بصيغة التّمريض ليس إشعارًا بضعفه - دائمًا - ؛ حتّى عند حذّاق و أئمّة المحدّثين ؛ فهذا أمير المؤمنين في الحديث ، شيخُ أهل الصّنعة ؛ الإمامُ البخاريّ - رحمه الله - يُصدّر بعض الأحاديث بالتّمريض في " صحيحه " ؛ فيقول الحافظ في " الفتح : 1 / 91 " : (( قاعدةٌ ذكرها لي شيخنا أبو الفضل بن الحسين الحافظ - رحمه الله - ؛ و هي : أنّ البخاريّ لا يخصّ صيغة التّمريض بضعف الإسناد ؛ بل إذا ذكر المتن بالمعنى ، أو اختصره أتى بها - أيضًا - )) .
و الإمام اللاّلكائيّ لمّا صدّر الحديث بصيغة التّمريض كان أتى به مختصرًا ، و بالمعنى .
فلعلّ هذا هو سبب تصديره إيّاه بالتّمريض ؛ لا أنّه يُضعّفه ( ! ) .
و آخر ما يُقال - في حديث ابن عبّاسٍ - رضي الله عنهما - - هذا - أنّه هو الجواب على تساؤلٍ عن سلف الدّارميّ - رحمه الله - في قوله بتثنية عيني ربّنا - سبحانه - .
و هو الجواب على تشكيك من شكّك - من الجهميّة - في الإجماع السّلفيّ على تثنية عيني ربّنا - سبحانه - .
فالحمد لله ناصر جنده ، و مخزي عدوّه .
=========================
الحواشي
=========================
(1) و قال قولَه تلميذُه السّخاويّ في " فتح المغيث :1 / 124 " .
(2) قلت : و قد زعم الحاكم أنّهما يقولان برفع تفسير الصّحابيّ مطلقًا ؛ كما سيأتي ( ! ) .
(3) و قال قوله - قبله - في اشتراط أن لا يكون الصّحابيّ - رضي الله عنه - من الآخذين عن بني إسرائيل شيخُه العراقيّ - رحمه الله – في " شرح التّقييد " ؛ و ردّه تلميذه السّخاويّ في " فتح المغيث : 130 - 131 " ؛ فقال : (( وفي ذلك نظر ؛ فإنّه يبعُد أن الصّحابيّ المتّصف بالأخذ عن أهل الكتاب يسوّغ حكاية شيءٍ من الأحكام الشّرعيّة الّتي لا مجال للرّأي فيها مستندًا لذلك من غير عزوٍ ؛ مع علمه بما وقع فيه من التّبديل و التّحريف ؛ بحيث سمّى ابن عمرٍو بن العاص الصّحيفة النّبويّة : (( الصّادقة )) ؛ احترازًا عن الصّحيفة اليرموكيّة ، و . . . )) ا.هـ
قلت : و قول العراقيّ و العسقلانيّ أوثق ؛ فلسنا نزعم الرّفع بالظّنون ( ! ) .
(4) و قال شيخنا - رحمه الله - في " الصّحيحة : 3 / 188 - رقم : 1191 " : تفسير الصّحابيّ للقرآن له حكم الرّفع ؛ كما قرّره الحاكم في " المستدرك " .
قلت : و أبو عبد الله الحاكم - رحمه الله - إنّما ينقل - ما يقوله من إسناد تفسير الصّحابيّ و رفعه - عن صاحبيّ الصّحيح ؛ فلذلك يقول ( 1 / 726 - تحت الحديث : 1988 ) : (( قد اتّفقا على أنّ تفسير الصّحابيّ حديثٌ مسند )) ، و قال ( 2 / 283 – تحت الحديث : 3021 ) : (( ليعلم طالب هذا العلم أنّ تفسير الصّحابيّ الّذي شهد الوحي و التّنزيل عند الشّيخين حديثٌ مسند )) ، و قال ( 2 / 289 – تحت الحديث : 3043 ) : (( اتّفق الشّيخان على سند تفسير الصّحابيّ )) .
و لذلك قال الحافظ – عفا الله عنّا و عنه - في " النّكت : 2 / 530 " : (( أطلق الحاكم النّقل عن البخاريّ و مسلمٍ : أنّ تفسير الصّحابيّ - رضي الله عنه - الّذي شهد الوحي و التّنزيل حديثٌ مسند )) .
قلت :
و لكنّه قيّد - ما أطلقه - في " معرفة علوم الحديث : 20 " ؛ فقال : (( فأمّا ما نقول في تفسير الصّحابيّ مسند ؛ فإنّما نقوله في غير هذا النّوع ؛ فإنّه كما أخبرنا أبو عبد الله محمّدُ بن عبد الله بن صفّارٍ : حدّثنا إسماعيل بن إسحق القاضي : حدّثنا إسحق بن أبي أويسٍ : حدّثني مالكُ بن أنسٍ ؛ عم محمّدٍ بن المنكدر ؛ عن جابرٍ ؛ قال : كانت اليهود تقول : من أتى امرأته من دبرها في قُبلها جاء الولد أحول ؛ فأنزل الله - عزّ و جلّ - : (( نساؤكم حرثٌ لكم )) .
قال الحاكم : هذا الحديث و أشباهه مسندةٌ عن آخرها ؛ و ليست بموقوفة ؛ فإنّ الصّحابيّ الّذي شهد الوحي و التّنزيل ؛ فأخبر عن آيةٍ من القرآن ؛ أنّها نزلت في كذا و كذا ؛ فإنّه حديثٌ مسند .
قلت :
و هذا مثل قول الخطيب ، و أبي منصورٍ البغداديّ ، و ابن الصّلاح ، و السّخاويّ غيرهم ؛ أنّ تفسير الصّحابيّ ليس لـه حكم الرّفع إلاّ إذا تعلّق بسبب النّزول ( ! ) .
و الله أعلم .
(5) هذا ما في كُتب شيخِنا الإمام الألبانيّ - رحمه الله - ؛ لولا أنّه قيّد ذلك بقيدين - كما في الشّريط رقم : ( 843 ) ؛ من ( سلسلة الهدى و النّور ) - ؛ و هما : أن لا يكون قول الصّحابيّ أو تفسيره ممّا يُقال بالاجتهاد أو بالرّأي ، و أن لا يكون الصّحابيّ ممّن اشتهر بالأخذ عن بني إسرائيل .
(6) أي : الشّيرازي ؛ صاحب " المهذّب " .
تعليق