الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خاتم النبيين وعلى آله وصحبه أجمعين ، أما بعد:
فمن السنن المهجورة التي غفل عنها الكثير من الناس بل قلّ من يعرفها فضلا أن يعمل بها صلاة ركعتين بعد العصر فكان صلى الله عليه وسلم يصليها ويحافظ عليها كذلك أصحابه رضي الله عنهم فعلوها وعلّموها للناس،وبه قال عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وعائشة وعبد الله بن الزبير وأبو أيوب الأنصاري وتميم الداري والزبير بن العوام،وأبو بردة بن أبي موسى وأبو الشعثاء وعمرو بن ميمون والأسود بن يزيد وأبو وائل ومحمد بن سيرين ومحمد بن المنتشر ومسروق وغيرهم.
1 ـ عن عائشة رضي الله عنها قالت: ركعتان لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعهما سرا ولا علانية ركعتان قبل صلاة الصبح وركعتان بعد العصر.1
2 ـ وعن هشام قال أخبرني أبي قالت عائشة ابن أختي رضي الله عنها قالت :ما ترك النبي صلى الله عليه وسلم السجدتين بعد العصر عندي قط.2
3 ـ وعن عبد الواحد بن أيمن قال حدثني أبي أنه سمع عائشة رضي الله عنها قالت :والذي ذهب به ما تركهما حتى لقي الله وما لقي الله تعالى حتى ثقل عن الصلاة وكان يصلي كثيرا من صلاته قاعدا تعني الركعتين بعد العصر وكان النبي صلى الله عليه وسلم يصليهما ولا يصليهما في المسجد مخافة أن يثقل على أمته وكان يحب ما يخفف عنهم.3
4 ـ وعن الأسود ومسروق قالا: نشهد على عائشة رضي الله عنها أنها قالت: ما من يوم يأتي على النبي صلى الله عليه وسلم؛ إلا صلى بعد العصر ركعتين.4
5 ـ وعن مسروق قال: حدثتني الصديقة بنت الصديق حبيبة حبيب الله المبرأة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي ركعتين بعد العصر؛ فلم أكذبها.5
6 ـ وعن المقدام بن شريح عن أبيه قال : سألت عائشة عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف كان يصلي ؟ [ قالت : ] " كان يصلي الهجير ثم يصلي بعدها ركعتين ، ثم يصلي العصر ثم يصلي بعدها ركعتين . فقلت : فقد كان [ عمر ] يضرب عليهما و ينهى عنهما ؟ فقالت : قد كان عمر يصليهما ، وقد علم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم [ كان ] يصليهما ، ولكن قومك أهل الدين قوم طغام ، يصلون الظهر ، ثم يصلون ما بين الظهر والعصر ، ويصلون العصر ثم يصلون ما بين العصر والمغرب ، فضربهم عمر ، وقد أحسن ".6
7 ـ وعن إبراهيم بن محمد بن المنتشر عن أبيه : أنه كان يصلي بعد العصر ركعتين ، فقيل له ؟ فقال : لو لم أصلهما إلا أني رأيت مسروقا يصليهما لكان ثقة ، و لكني سألت عائشة ؟ فقالت : كان لا يدع ركعتين قبل الفجر ، و ركعتين بعد العصر.7
8 ـ وعن علي رضي الله عنه مرفوعا :نهى عن الصلاة بعد العصر إلا أن تكون الشمس بيضاء نقية مرتفعة.8
قال الألباني رحمه الله :وما دل عليه الحديث من جواز الصلاة ولو نفلا بعد صلاة العصر وقبل اصفرار الشمس هو الذي ينبغي الاعتماد عليه في هذه المسألة التي كثرت الأقوال فيها ، وهو الذي ذهب إليه ابن حزم تبعا لابن عمر رضي الله عنه كما ذكره الحافظ العراقي وغيره ، فلا تكن ممن تغره الكثرة ، إذا كانت على خلاف السنة . ثم وجدت للحديث طريقا أخرى عن علي رضي الله عنه بلفظ : لا تصلوا بعد العصر ، إلا أن تصلوا والشمس مرتفعة.9
وقال شيخنا محمد علي آدم الأثيوبي حفظه الله : الراجح عندي أن الصلاة مطلقا مباحة بعد صلاة العصر ما دامت الشمس نقية لصحة الحديث بذلك فيكون مخصصا لحديث :لا صلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس.10
9 ـ عن أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تصلوا عند طلوع الشمس ، ولا عند غروبها فإنها تطلع وتغرب على قرن شيطان وصلوا بين ذلك ما شئتم.11
قال الألباني -معلقا على هذين الحديثين-: و في هذين الحديثين دليل على أن ما اشتهر في كتب الفقه من المنع عن الصلاة بعد العصر مطلقا ولو كانت الشمس مرتفعة نقية مخالف لصريح هذين الحديثين وحجتهم في ذلك الأحاديث المعروفة في النهي عن الصلاة بعد العصر ، مطلقا ، غير أن الحديثين المذكورين يقيدان تلك الأحاديث فاعلمه.12
10ـ وعن عبد الله بن رباح عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى العصر ، فقام رجل يصلي ، فرآه عمر ، فقال له : اجلس ، فإنما هلك أهل الكتاب أنه لم يكن لصلاتهم فصل . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أحسن ابن الخطاب.13
قال الألباني رحمه الله : في الحديث فائدة أخرى هامة ، و هي جواز الصلاة بعد العصر ، لأنه لو كان غير جائز ، لأنكر ذلك على الرجل أيضا كما هو ظاهر ، و هو مطابق لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يصلي بعد العصر ركعتين ، و يدل على أن ذلك ليس من خصوصياته صلى الله عليه وسلم ، و ما صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لا صلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس " محمول على ما إذا كانت الشمس مصفرة ، لأحاديث صحت مقيدة بذلك.14
11 ـ وعن عاصم بن ضمرة قال : كنا مع علي رضي الله عنه في سفر فصلى بنا العصر ركعتين ثم دخل فسطاطه و أنا أنظر ، فصلى ركعتين.15
12 ـ وعن عبد العزيز قال : رأيت عبد الله بن الزبير يصلي ركعتين بعد العصر ويخبر أن عائشة رضي الله عنها حدثته أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يدخل بيتها إلا صلاهما.16
13 ـ وعن بلال مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لم ينه عن الصلاة إلا عند غروب الشمس.17
14 ـ وعن ابن طاووس عن أبيه : أن أبا أيوب الأنصاري رضي الله عنه أنه كان يصلي قبل خلافة عمر ركعتين بعد العصر ، فلما استخلف عمر تركهما ، فلما توفي ركعهما ، فقيل له : ما هذا ؟ فقال : إن عمر كان يضرب الناس عليهما . قال ابن طاووس : و كان أبي لا يدعهما .18
وأما الذين منعوها –أي:صلاة ركعتين بعد العصر-من أهل العلم فأدلتهم لا تخرج عن ستة أمور :
أولا :
استدلوا بالأحاديث العامة التي وردت في النهي عن الصلاة بعد العصر،كحديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا صلاة بعد الصبح حتى ترتفع الشمس ولا صلاة بعد العصر حتى تغيب الشمس.19
فالجواب عليه: أنه لا تعارض بينها و بين الأحاديث التي مفادها تحريم الصلاة بعد العصر، فقد جاءت مطلقة ، وقيدتها الأحاديث والآثار التي وردت التي مفادها جواز الصلاة بعد العصر والشمس مرتفعة بيضاء نقية ما لم تصفر وتتهيأ للغروب وهذا معروف عند أهل العلم ،وهو أن العام المطلق يقيده الخاص.
قال النووي رحمه الله :ولا خلاف بين العلماء أنه إذا أمكن الجمع بين الأحاديث لا يصار إلى ترك بعضها بل يجب الجمع بينها والعمل بجميعها.20
وقال الشوكاني رحمه الله : قال في المحصول: العمل بكل منهما من وجه، أولى من العمل بالراجح من كل وجه وترك الآخر، انتهى. وبه قال الفقهاء جميعاً.21
وقال أحمد شاكر رحمه الله : إذا تعارض حديثان ظاهراً ، فإن أمكن الجمع بينهما فلا يُعدَل عنه إلى غيره بِحالٍ ، ويجب العمل بهما.22
وقال الشنقيطي رحمه الله :وإنما قلنا إن هذا القول أرجح عندنا لأن الجمع واجب إذا أمكن ، وهو مقدم على الترجيح بين الأدلة كما علم في الأصول.23
وقال شيخنا محمد علي آدم الأثيوبي حفظه الله :الحاصل أن الراجح جواز الصلاة بعد العصر مادامت الشمس بيضاء نقية لصحة الحديث به وعمل أهل العلم من الصحابة ومن بعدهم ممن ذكرهم أبومحمد ابن حزم رحمه الله تعالى به فيكون حديث النهي عن الصلاة بعد العصر مخصصابحديث الباب.اهـ
ثانيا :
ذكروا أن هاتين الركعتين بعد العصر من خصوصياته صلى الله عليه وسلم وهذا يفتقر إلى دليل و ليس ثمّة دليل على ذلك ، إذ الخصوصية لا تقوم بمجرّد الدعوى وإنما تكون مبنيّة على مستند شرعي صحيح ، مثل الوصال وإباحة الزوجات أكثر من أربع ، ونحو ذلك .
ثالثا :
عمدتهم في منعها وهو أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان ينهى عنها و يضرب بدرّته من رآه يصلي في هذا الوقت
فالجواب عليه : أن عمر رضي الله عنه حاشاه وكلا ولا لعلّ أن يخالف مما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم يفعله ، بل ثبت عنه رضي الله عنه أنه كان من ضمن الصحابة الذين يرون سنيتها وإنما كان يمنع فاعلها من باب سد الذرائع.
قالت عائشة رضي الله عنها : قد كان عمر يصليهما ، وقد علم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم [ كان ] يصليهما ، ولكن قومك أهل الدين قوم طغام ، يصلون الظهر ، ثم يصلون ما بين الظهر والعصر ، ويصلون العصر ثم يصلون ما بين العصر والمغرب ، فضربهم عمر ، وقد أحسن.24
وعن عبد الله بن رباح عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى العصر ، فقام رجل يصلي ، فرآه عمر ، فقال له : اجلس ، فإنما هلك أهل الكتاب أنه لم يكن لصلاتهم فصل . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أحسن ابن الخطاب.25
قال الألباني رحمه الله : إن عمر رضي الله عنه لم ينه عن الركعتين بعد العصر إنكارا لشرعيتهما ، وإنما من باب سد الذريعة ، وخشية أن يصلوها في وقت التحريم ، وهو عند غروب الشمس.26
وقال رحمه الله :وهو نص صريح أن نهي عمر رضي الله عنه عن الركعتين ليس لذاتهما كما يتوهم الكثيرون ، و إنما هو خشية الاستمرار في الصلاة بعدهما ، أو تأخيرهما إلى وقت الكراهة و هو اصفرار الشمس ، و هذا الوقت هو المراد بالنهي عن الصلاة بعد العصر الذي صح في أحاديث كما سبق بيانه تحت الحديثين المتقدمين برقم ( 200 و 314 ) . و يتلخص مما سبق أن الركعتين بعد العصر سنة إذا صليت العصر معها قبل اصفرار الشمس ، و أن ضرب عمر عليها إنما هو اجتهاد منه وافقه عليه بعض الصحابة ، و خالفه آخرون ، و على رأسهم أم المؤمنين رضي الله عنها ، و لكل من الفريقين موافقون ، فوجب الرجوع إلى السنة ، و هي ثابتة صحيحة برواية أم المؤمنين ، دون دليل يعارضه إلا العموم المخصص بحديث علي وأنس المشار إلى أرقامهما آنفا . ويبدو أن هذا هو مذهب ابن عمر أيضا ، فقد روى البخاري ( 589 ) عنه قال :" أصلي كما رأيت أصحابي يصلون ، لا أنهى أحدا يصلي بليل ولا نهار ما شاء ، غير أن لا تحروا طلوع الشمس ولا غروبها " . وهذا مذهب أبي أيوب الأنصاري أيضا ، فقد روى عبد الرزاق عنه ( 2 / 433 ) بسند صحيح عن ابن طاووس عن أبيه : أن أبا أيوب الأنصاري كان يصلي قبل خلافة عمر ركعتين بعد العصر ، فلما استخلف عمر تركهما ، فلما توفي ركعهما ، فقيل له : ما هذا ؟ فقال : إن عمر كان يضرب الناس عليهما . قال ابن طاووس : وكان أبي لا يدعهما . وهنا ينبغي أن نذكر أهل السنة الحريصين على إحياء السنن و إماتة البدع أن يصلوا هاتين الركعتين كلما صلوا العصر في وقتها المشروع ، لقوله صلى الله عليه وسلم : " من سن في الإسلام سنة حسنة .. " . وبالله التوفيق .
وعن ابن طاووس عن أبيه : أن أبا أيوب الأنصاري كان يصلي قبل خلافة عمر ركعتين بعد العصر ، فلما استخلف عمر تركهما ، فلما توفي ركعهما ، فقيل له : ما هذا ؟ فقال : إن عمر كان يضرب الناس عليهما . قال ابن طاووس : و كان أبي لا يدعهما
وعن أبي سعد الأعمى عن رجل يقال له : السائب مولى الفارسيين عنه : أنه رآه عمر بن الخطاب - وهو خليفة- ركع بعد العصر ركعتين ، فمشى إليه فضربه بالدرة ، وهو يصلي كما هو ، فلما انصرف قال زيد : اضرب يا أمير المؤمنين !
فو الله ! لا أدعهما أبدا بعد إذ رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصليهما ، قال : فجلس إليه عمر ، وقال : يا زيد ! لولا أني أخشى أن يتخذها الناس سلما إلى الصلاة حتى الليل ؟ لم أضرب فيهما .27
رابعا :
استدل بعضهم على منع صلاة ركعتين بعد العصر بأن النبي صلى الله عليه وسلم صلاهما بعد العصر من باب قضاء نافلة الظهر البعدية كما جاء منصوصا في حديث أم سلمة رضي الله عنها.
فالجواب عليه : نعم قد ثبت عن عن أم سلمة وعائشة رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى ركعتين سنة الظهر البعدية بعد صلاة العصر ، لكن داوم عليها صلى الله عليه وسلم كما سبق ذكره عن عائشة وغيرها من أصحابه رضي الله عنهم ، وتبعه في ذلك أصحابه ولم ينكر عليهم.
فعن أبي سلمة أنه سأل عائشة رضي الله عنهما عن السجدتين اللتين كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يصليهما بعد العصر ؟ فقالت : كان يصليهما قبل العصر ثم إنه شغل عنهما أو نسيهما فصلاهما بعد العصر ثم أثبتهما وكان إذا صلى صلاة أثبتها.28
كذلك يمكن أن يقال أن أم سلمة رضي الله عنها حدّثت وروت بما رأت من النبي صلى الله عليه وسلم وعائشة وتميم الداري وغيرهما حدثوا بما رأو وشاهدوا منه صلى الله عليه وسلم فكلّ حدّث بما علم ، ومن علم حجة على من لم يعلم،وزيادة الثقة مقبولة.
خامسا :
استدل بعض الفقهاء على منعها بأنها منسوحة واستدلوا بحديث منكر،وهو مايروى عن ذكوان مولى عائشة أنها حدثته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان" كان يصلي بعد العصر ، وينهى عنها ، ويواصل وينهى عن الوصال ".
فالجواب عليه ما قاله الألباني رحمه الله :وهذا سند ضعيف رجاله ثقات كلهم ، لكن ابن إسحاق مدلس وقد عنعنه ، وقد صح ما يعارض حديثه هذا ، وهو ما أخرجه أحمد ( 6 / 125 ) عن المقدام بن شريح عن أبيه قال : " سألت عائشة عن الصلاة بعد العصر ؟ فقالت : صل ، إنما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم قومك أهل اليمن عن الصلاة إذا طلعت الشمس " . قلت : وسنده صحيح على شرط مسلم . ووجه المعارضة واضح منه ، وهو قولها " صل " فلوكان عندها علم بالنهي الذى رواه ابن إسحاق عنها لما أفتت بخلافه إن شاء الله تعالى ، بل لقد ثبت عنها أنها كانت تصلي بعد صلاة العصر ركعتين ، أخرجه البخاري ( 3 / 82 ) ومسلم ( 2 / 210 ) . فهذا كله يدل على خطأ حديث ابن إسحاق ونكارته . وهذا من جهة الصلاة ، وأما من حيث الوصال ، فالنهي عنه صحيح ثابت في الصحيحين وغيرهما عن غير واحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم . ثم إن الحديث يخالف من جهة ثانية حديث أم سلمة المشار إليه ، فإن فيه ؟ :
" فقالت أم سلمة ، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عنهما ( تعني الركعتين بعد العصر ) ثم رأيته يصليهما ، أما حين صلاهما فإنه صلى العصر ثم دخل وعندي نسوة من بني حرام من الأنصار فصلاهما ، فأرسلت إليه الجارية ، فقلت : قومي بجنبه فقولي له : تقول أم سلمة : يا رسول الله إني أسمعك تنهى عن هاتين الركعتين ، وأراك تصليهما ، فإن أشار بيده ، فاستأخري عنه ، قال : ففعلت الجارية فأشار بيده فاستأخرت عنه ، فلما انصرف ، قال : يا بنت أبي أمية ! سألت عن الركعتين بعد العصر ، إنه أتاني ناس من عبد القيس بالإسلام من قومهم فشغلوني عن الركعتين اللتين بعد الظهر ، فهما هاتان "
ووجه المخالفة هو أن النهي عن الصلاة بعد العصر في الحديث متأخر عن صلاته صلى الله عليه وسلم بعدها ، وفي حديث أم سلمة أن النهي متقدم وصلاته بعده متأخر ، وهذا مما لا يفسح المجال لادعاء نسخ صلاة الركعتين بعد العصر ، بل إن صلاته صلى الله عليه وسلم إياهما دليل عن تخصيص النهي السابق بغيرهما ، فالحديث دليل واضح على مشروعية قضاء الفائتة لعذر ، ولو كانت نافلة بعد العصر ، وهو أرجح المذاهب ، كما هو مذكور في المبسوطات .
سادسا :
وأما قول بعضهم : بأن الأئمة الأربعة لم يذكروا سنّية صلاة ركعتين بعد العصر ولو كانت سنة متّبعة لما غفلوا عنها.
فالجواب عليه :ما قاله شيخنا محمد علي آدم الأثيوبي حفظه الله :يجب على كل مسلم أن يكون مع الحق حيثما كان ،ولا يهاب إلا الحق ، وإن خالفه جلّ الناس ،ويعتذر للأئمة الذين خالفوه بوجه من وجوه الأعذار الصحيحة ،وياليت أصحاب المذاهب اتبعوا هذا ،فإن هذا هو منشأ ائتلاف كلمتهم وتوحيد صفوفهم ،وكونهم يدا واحدة على أعداء الإسلام ،ولا يتفرقون تفرق أهل الأهواء الزائغة ،وهذا هو وصية الأئمة لأتباعهم ،وليس وصية الشافعي فقط ، إلا أن أتباعهم ما عملوا بوصاياهم إلا من وفقه الله ، قاتل الله التعصّب.
ولله درّ العلامة محمد بن إسماعيل الأمير الصنعاني رحمه الله حيث يقول :
علام جعلتم أيها الناس ديننا لأربعة لا شك في فضلهم عندي
هم علماء الدين شرقا ومغربا ونور عيون الفضل والحق والزهد
ولكنهم كالناس ليس كلامهم دليلا ولا تقليدهم في غد ينجي
ولا زعموا حاشاهم أن قولهم دليل فيستهدي به كل مستهدي
بلى صرحوا أنا نقابل قولهم إذا خالف المنصوص بالقدح والردّ.
فبعد ذكر بعض الأدلة التي تدل على ثبوت هذه السنة المهجورة وهي صلاة ركعتين بعد العصر ، فحريّ على كل سلفي أن لا يدع هذه السنة التي غفل عنها أكثر الناس،وهذا والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
كتبه :عبد الحميد الهضابي
17 / 03 / 1435
الحواشي :
ـ أخرجه البخاري (592)،ومسلم ( 835 )
2 ـ أخرجه البخاري (591)،ومسلم ( 835 )
3 ـ أخرجه البخاري (590).
4 ـ أخرجه مسلم ( 835 )
5 ـ أخرجه أحمد (26044)،والبيهقي (4193)،وصححه الألباني في "الصحيحة"(6/1010)
6 ـ أخرجه أبو العباسالسراج في " مسنده " ( ق 132 / 1 )كما في "الصحيحة"(6/1013).،وصححه الألباني في "الصحيحة"(6/1013).
7 ـ أخرجه ابن أبي شيبة في " المصنف " ( 2 / 352 ) وصححه الألباني في "الصحيحة"( 2920)
8 ـ أخرجه الطيالسى (10 ، وأحمد (610) ، وأبو داود (1274) ، و النسائي (573)والبيهقى (4196) . وأخرجه أيضا : أبو يعلى (581) ، وابن خزيمة (1284) ، والضياء (766) ،وصححه النسائي في "صحيح سنن النسائي"( 573).
9 ـ وصححه الألباني في "الصحيحة"(
10 ـ "ذخيرة العقبى"(7/196)
11 ـ أخرجه أبو يعلى (4216)،وصححه الألباني في "الصحيحة"(314).
12 ـ "الصحيحة"(1/625).
13 ـ أخرجه أحمد (23121)،وأبو يعلى (7166)،وصححه الألباني في "الصحيحة"( 2549).
14 ـ "الصحيحة"(6/105)
15 ـ أخرجه البيهقي (4199)،وصححه الألباني في "الصحيحة"عقب حديث(200)
16 ـ أخرجه البخاري (1631).
17 ـ أخرجه ابن أبي شيبة (7359)، وصححه الألباني في "الصحيحة" عقب حديث(200)
18 ـ أخرجه عبد الرزاق عنه ( 2 / 433 ) وصححه الألباني في "الصحيحة"(6/1014)
19 ـ أخرجه البخاري (586).
20 ـ "شرح مسلم" (3/155)
21 ـ "الإرشاد "(ص :276)
22 ـ "الباعث الحثيث" (2/482) .
23 ـ "أضواء البيان" (2/304) .
24 ـ تقدم تخريجه.
25 ــ تقدم تخريجه.
26 ـ "الصحيحة"(6/1427)
27 ـ أخرجه أحمد (17036)،وعبد الرزاق (3972) - والسياق له- ، وعنه وعنغيره : أحمد (4/115)، والطبراني في «المعجم الكبير» (5/260/5166 و 67 51) . وقال الهيثمي بعدما عزاه لأحمد والطبراني :"وإسناده حسن" .
28 ـ أخرجه مسلم ( 835 )
29 ـ للمزيد من الفائدة انظر "الضعيفة"للألباني (945).
فمن السنن المهجورة التي غفل عنها الكثير من الناس بل قلّ من يعرفها فضلا أن يعمل بها صلاة ركعتين بعد العصر فكان صلى الله عليه وسلم يصليها ويحافظ عليها كذلك أصحابه رضي الله عنهم فعلوها وعلّموها للناس،وبه قال عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وعائشة وعبد الله بن الزبير وأبو أيوب الأنصاري وتميم الداري والزبير بن العوام،وأبو بردة بن أبي موسى وأبو الشعثاء وعمرو بن ميمون والأسود بن يزيد وأبو وائل ومحمد بن سيرين ومحمد بن المنتشر ومسروق وغيرهم.
1 ـ عن عائشة رضي الله عنها قالت: ركعتان لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعهما سرا ولا علانية ركعتان قبل صلاة الصبح وركعتان بعد العصر.1
2 ـ وعن هشام قال أخبرني أبي قالت عائشة ابن أختي رضي الله عنها قالت :ما ترك النبي صلى الله عليه وسلم السجدتين بعد العصر عندي قط.2
3 ـ وعن عبد الواحد بن أيمن قال حدثني أبي أنه سمع عائشة رضي الله عنها قالت :والذي ذهب به ما تركهما حتى لقي الله وما لقي الله تعالى حتى ثقل عن الصلاة وكان يصلي كثيرا من صلاته قاعدا تعني الركعتين بعد العصر وكان النبي صلى الله عليه وسلم يصليهما ولا يصليهما في المسجد مخافة أن يثقل على أمته وكان يحب ما يخفف عنهم.3
4 ـ وعن الأسود ومسروق قالا: نشهد على عائشة رضي الله عنها أنها قالت: ما من يوم يأتي على النبي صلى الله عليه وسلم؛ إلا صلى بعد العصر ركعتين.4
5 ـ وعن مسروق قال: حدثتني الصديقة بنت الصديق حبيبة حبيب الله المبرأة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي ركعتين بعد العصر؛ فلم أكذبها.5
6 ـ وعن المقدام بن شريح عن أبيه قال : سألت عائشة عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف كان يصلي ؟ [ قالت : ] " كان يصلي الهجير ثم يصلي بعدها ركعتين ، ثم يصلي العصر ثم يصلي بعدها ركعتين . فقلت : فقد كان [ عمر ] يضرب عليهما و ينهى عنهما ؟ فقالت : قد كان عمر يصليهما ، وقد علم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم [ كان ] يصليهما ، ولكن قومك أهل الدين قوم طغام ، يصلون الظهر ، ثم يصلون ما بين الظهر والعصر ، ويصلون العصر ثم يصلون ما بين العصر والمغرب ، فضربهم عمر ، وقد أحسن ".6
7 ـ وعن إبراهيم بن محمد بن المنتشر عن أبيه : أنه كان يصلي بعد العصر ركعتين ، فقيل له ؟ فقال : لو لم أصلهما إلا أني رأيت مسروقا يصليهما لكان ثقة ، و لكني سألت عائشة ؟ فقالت : كان لا يدع ركعتين قبل الفجر ، و ركعتين بعد العصر.7
8 ـ وعن علي رضي الله عنه مرفوعا :نهى عن الصلاة بعد العصر إلا أن تكون الشمس بيضاء نقية مرتفعة.8
قال الألباني رحمه الله :وما دل عليه الحديث من جواز الصلاة ولو نفلا بعد صلاة العصر وقبل اصفرار الشمس هو الذي ينبغي الاعتماد عليه في هذه المسألة التي كثرت الأقوال فيها ، وهو الذي ذهب إليه ابن حزم تبعا لابن عمر رضي الله عنه كما ذكره الحافظ العراقي وغيره ، فلا تكن ممن تغره الكثرة ، إذا كانت على خلاف السنة . ثم وجدت للحديث طريقا أخرى عن علي رضي الله عنه بلفظ : لا تصلوا بعد العصر ، إلا أن تصلوا والشمس مرتفعة.9
وقال شيخنا محمد علي آدم الأثيوبي حفظه الله : الراجح عندي أن الصلاة مطلقا مباحة بعد صلاة العصر ما دامت الشمس نقية لصحة الحديث بذلك فيكون مخصصا لحديث :لا صلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس.10
9 ـ عن أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تصلوا عند طلوع الشمس ، ولا عند غروبها فإنها تطلع وتغرب على قرن شيطان وصلوا بين ذلك ما شئتم.11
قال الألباني -معلقا على هذين الحديثين-: و في هذين الحديثين دليل على أن ما اشتهر في كتب الفقه من المنع عن الصلاة بعد العصر مطلقا ولو كانت الشمس مرتفعة نقية مخالف لصريح هذين الحديثين وحجتهم في ذلك الأحاديث المعروفة في النهي عن الصلاة بعد العصر ، مطلقا ، غير أن الحديثين المذكورين يقيدان تلك الأحاديث فاعلمه.12
10ـ وعن عبد الله بن رباح عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى العصر ، فقام رجل يصلي ، فرآه عمر ، فقال له : اجلس ، فإنما هلك أهل الكتاب أنه لم يكن لصلاتهم فصل . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أحسن ابن الخطاب.13
قال الألباني رحمه الله : في الحديث فائدة أخرى هامة ، و هي جواز الصلاة بعد العصر ، لأنه لو كان غير جائز ، لأنكر ذلك على الرجل أيضا كما هو ظاهر ، و هو مطابق لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يصلي بعد العصر ركعتين ، و يدل على أن ذلك ليس من خصوصياته صلى الله عليه وسلم ، و ما صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لا صلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس " محمول على ما إذا كانت الشمس مصفرة ، لأحاديث صحت مقيدة بذلك.14
11 ـ وعن عاصم بن ضمرة قال : كنا مع علي رضي الله عنه في سفر فصلى بنا العصر ركعتين ثم دخل فسطاطه و أنا أنظر ، فصلى ركعتين.15
12 ـ وعن عبد العزيز قال : رأيت عبد الله بن الزبير يصلي ركعتين بعد العصر ويخبر أن عائشة رضي الله عنها حدثته أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يدخل بيتها إلا صلاهما.16
13 ـ وعن بلال مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لم ينه عن الصلاة إلا عند غروب الشمس.17
14 ـ وعن ابن طاووس عن أبيه : أن أبا أيوب الأنصاري رضي الله عنه أنه كان يصلي قبل خلافة عمر ركعتين بعد العصر ، فلما استخلف عمر تركهما ، فلما توفي ركعهما ، فقيل له : ما هذا ؟ فقال : إن عمر كان يضرب الناس عليهما . قال ابن طاووس : و كان أبي لا يدعهما .18
وأما الذين منعوها –أي:صلاة ركعتين بعد العصر-من أهل العلم فأدلتهم لا تخرج عن ستة أمور :
أولا :
استدلوا بالأحاديث العامة التي وردت في النهي عن الصلاة بعد العصر،كحديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا صلاة بعد الصبح حتى ترتفع الشمس ولا صلاة بعد العصر حتى تغيب الشمس.19
فالجواب عليه: أنه لا تعارض بينها و بين الأحاديث التي مفادها تحريم الصلاة بعد العصر، فقد جاءت مطلقة ، وقيدتها الأحاديث والآثار التي وردت التي مفادها جواز الصلاة بعد العصر والشمس مرتفعة بيضاء نقية ما لم تصفر وتتهيأ للغروب وهذا معروف عند أهل العلم ،وهو أن العام المطلق يقيده الخاص.
قال النووي رحمه الله :ولا خلاف بين العلماء أنه إذا أمكن الجمع بين الأحاديث لا يصار إلى ترك بعضها بل يجب الجمع بينها والعمل بجميعها.20
وقال الشوكاني رحمه الله : قال في المحصول: العمل بكل منهما من وجه، أولى من العمل بالراجح من كل وجه وترك الآخر، انتهى. وبه قال الفقهاء جميعاً.21
وقال أحمد شاكر رحمه الله : إذا تعارض حديثان ظاهراً ، فإن أمكن الجمع بينهما فلا يُعدَل عنه إلى غيره بِحالٍ ، ويجب العمل بهما.22
وقال الشنقيطي رحمه الله :وإنما قلنا إن هذا القول أرجح عندنا لأن الجمع واجب إذا أمكن ، وهو مقدم على الترجيح بين الأدلة كما علم في الأصول.23
وقال شيخنا محمد علي آدم الأثيوبي حفظه الله :الحاصل أن الراجح جواز الصلاة بعد العصر مادامت الشمس بيضاء نقية لصحة الحديث به وعمل أهل العلم من الصحابة ومن بعدهم ممن ذكرهم أبومحمد ابن حزم رحمه الله تعالى به فيكون حديث النهي عن الصلاة بعد العصر مخصصابحديث الباب.اهـ
ثانيا :
ذكروا أن هاتين الركعتين بعد العصر من خصوصياته صلى الله عليه وسلم وهذا يفتقر إلى دليل و ليس ثمّة دليل على ذلك ، إذ الخصوصية لا تقوم بمجرّد الدعوى وإنما تكون مبنيّة على مستند شرعي صحيح ، مثل الوصال وإباحة الزوجات أكثر من أربع ، ونحو ذلك .
ثالثا :
عمدتهم في منعها وهو أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان ينهى عنها و يضرب بدرّته من رآه يصلي في هذا الوقت
فالجواب عليه : أن عمر رضي الله عنه حاشاه وكلا ولا لعلّ أن يخالف مما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم يفعله ، بل ثبت عنه رضي الله عنه أنه كان من ضمن الصحابة الذين يرون سنيتها وإنما كان يمنع فاعلها من باب سد الذرائع.
قالت عائشة رضي الله عنها : قد كان عمر يصليهما ، وقد علم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم [ كان ] يصليهما ، ولكن قومك أهل الدين قوم طغام ، يصلون الظهر ، ثم يصلون ما بين الظهر والعصر ، ويصلون العصر ثم يصلون ما بين العصر والمغرب ، فضربهم عمر ، وقد أحسن.24
وعن عبد الله بن رباح عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى العصر ، فقام رجل يصلي ، فرآه عمر ، فقال له : اجلس ، فإنما هلك أهل الكتاب أنه لم يكن لصلاتهم فصل . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أحسن ابن الخطاب.25
قال الألباني رحمه الله : إن عمر رضي الله عنه لم ينه عن الركعتين بعد العصر إنكارا لشرعيتهما ، وإنما من باب سد الذريعة ، وخشية أن يصلوها في وقت التحريم ، وهو عند غروب الشمس.26
وقال رحمه الله :وهو نص صريح أن نهي عمر رضي الله عنه عن الركعتين ليس لذاتهما كما يتوهم الكثيرون ، و إنما هو خشية الاستمرار في الصلاة بعدهما ، أو تأخيرهما إلى وقت الكراهة و هو اصفرار الشمس ، و هذا الوقت هو المراد بالنهي عن الصلاة بعد العصر الذي صح في أحاديث كما سبق بيانه تحت الحديثين المتقدمين برقم ( 200 و 314 ) . و يتلخص مما سبق أن الركعتين بعد العصر سنة إذا صليت العصر معها قبل اصفرار الشمس ، و أن ضرب عمر عليها إنما هو اجتهاد منه وافقه عليه بعض الصحابة ، و خالفه آخرون ، و على رأسهم أم المؤمنين رضي الله عنها ، و لكل من الفريقين موافقون ، فوجب الرجوع إلى السنة ، و هي ثابتة صحيحة برواية أم المؤمنين ، دون دليل يعارضه إلا العموم المخصص بحديث علي وأنس المشار إلى أرقامهما آنفا . ويبدو أن هذا هو مذهب ابن عمر أيضا ، فقد روى البخاري ( 589 ) عنه قال :" أصلي كما رأيت أصحابي يصلون ، لا أنهى أحدا يصلي بليل ولا نهار ما شاء ، غير أن لا تحروا طلوع الشمس ولا غروبها " . وهذا مذهب أبي أيوب الأنصاري أيضا ، فقد روى عبد الرزاق عنه ( 2 / 433 ) بسند صحيح عن ابن طاووس عن أبيه : أن أبا أيوب الأنصاري كان يصلي قبل خلافة عمر ركعتين بعد العصر ، فلما استخلف عمر تركهما ، فلما توفي ركعهما ، فقيل له : ما هذا ؟ فقال : إن عمر كان يضرب الناس عليهما . قال ابن طاووس : وكان أبي لا يدعهما . وهنا ينبغي أن نذكر أهل السنة الحريصين على إحياء السنن و إماتة البدع أن يصلوا هاتين الركعتين كلما صلوا العصر في وقتها المشروع ، لقوله صلى الله عليه وسلم : " من سن في الإسلام سنة حسنة .. " . وبالله التوفيق .
وعن ابن طاووس عن أبيه : أن أبا أيوب الأنصاري كان يصلي قبل خلافة عمر ركعتين بعد العصر ، فلما استخلف عمر تركهما ، فلما توفي ركعهما ، فقيل له : ما هذا ؟ فقال : إن عمر كان يضرب الناس عليهما . قال ابن طاووس : و كان أبي لا يدعهما
وعن أبي سعد الأعمى عن رجل يقال له : السائب مولى الفارسيين عنه : أنه رآه عمر بن الخطاب - وهو خليفة- ركع بعد العصر ركعتين ، فمشى إليه فضربه بالدرة ، وهو يصلي كما هو ، فلما انصرف قال زيد : اضرب يا أمير المؤمنين !
فو الله ! لا أدعهما أبدا بعد إذ رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصليهما ، قال : فجلس إليه عمر ، وقال : يا زيد ! لولا أني أخشى أن يتخذها الناس سلما إلى الصلاة حتى الليل ؟ لم أضرب فيهما .27
رابعا :
استدل بعضهم على منع صلاة ركعتين بعد العصر بأن النبي صلى الله عليه وسلم صلاهما بعد العصر من باب قضاء نافلة الظهر البعدية كما جاء منصوصا في حديث أم سلمة رضي الله عنها.
فالجواب عليه : نعم قد ثبت عن عن أم سلمة وعائشة رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى ركعتين سنة الظهر البعدية بعد صلاة العصر ، لكن داوم عليها صلى الله عليه وسلم كما سبق ذكره عن عائشة وغيرها من أصحابه رضي الله عنهم ، وتبعه في ذلك أصحابه ولم ينكر عليهم.
فعن أبي سلمة أنه سأل عائشة رضي الله عنهما عن السجدتين اللتين كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يصليهما بعد العصر ؟ فقالت : كان يصليهما قبل العصر ثم إنه شغل عنهما أو نسيهما فصلاهما بعد العصر ثم أثبتهما وكان إذا صلى صلاة أثبتها.28
كذلك يمكن أن يقال أن أم سلمة رضي الله عنها حدّثت وروت بما رأت من النبي صلى الله عليه وسلم وعائشة وتميم الداري وغيرهما حدثوا بما رأو وشاهدوا منه صلى الله عليه وسلم فكلّ حدّث بما علم ، ومن علم حجة على من لم يعلم،وزيادة الثقة مقبولة.
خامسا :
استدل بعض الفقهاء على منعها بأنها منسوحة واستدلوا بحديث منكر،وهو مايروى عن ذكوان مولى عائشة أنها حدثته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان" كان يصلي بعد العصر ، وينهى عنها ، ويواصل وينهى عن الوصال ".
فالجواب عليه ما قاله الألباني رحمه الله :وهذا سند ضعيف رجاله ثقات كلهم ، لكن ابن إسحاق مدلس وقد عنعنه ، وقد صح ما يعارض حديثه هذا ، وهو ما أخرجه أحمد ( 6 / 125 ) عن المقدام بن شريح عن أبيه قال : " سألت عائشة عن الصلاة بعد العصر ؟ فقالت : صل ، إنما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم قومك أهل اليمن عن الصلاة إذا طلعت الشمس " . قلت : وسنده صحيح على شرط مسلم . ووجه المعارضة واضح منه ، وهو قولها " صل " فلوكان عندها علم بالنهي الذى رواه ابن إسحاق عنها لما أفتت بخلافه إن شاء الله تعالى ، بل لقد ثبت عنها أنها كانت تصلي بعد صلاة العصر ركعتين ، أخرجه البخاري ( 3 / 82 ) ومسلم ( 2 / 210 ) . فهذا كله يدل على خطأ حديث ابن إسحاق ونكارته . وهذا من جهة الصلاة ، وأما من حيث الوصال ، فالنهي عنه صحيح ثابت في الصحيحين وغيرهما عن غير واحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم . ثم إن الحديث يخالف من جهة ثانية حديث أم سلمة المشار إليه ، فإن فيه ؟ :
" فقالت أم سلمة ، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عنهما ( تعني الركعتين بعد العصر ) ثم رأيته يصليهما ، أما حين صلاهما فإنه صلى العصر ثم دخل وعندي نسوة من بني حرام من الأنصار فصلاهما ، فأرسلت إليه الجارية ، فقلت : قومي بجنبه فقولي له : تقول أم سلمة : يا رسول الله إني أسمعك تنهى عن هاتين الركعتين ، وأراك تصليهما ، فإن أشار بيده ، فاستأخري عنه ، قال : ففعلت الجارية فأشار بيده فاستأخرت عنه ، فلما انصرف ، قال : يا بنت أبي أمية ! سألت عن الركعتين بعد العصر ، إنه أتاني ناس من عبد القيس بالإسلام من قومهم فشغلوني عن الركعتين اللتين بعد الظهر ، فهما هاتان "
ووجه المخالفة هو أن النهي عن الصلاة بعد العصر في الحديث متأخر عن صلاته صلى الله عليه وسلم بعدها ، وفي حديث أم سلمة أن النهي متقدم وصلاته بعده متأخر ، وهذا مما لا يفسح المجال لادعاء نسخ صلاة الركعتين بعد العصر ، بل إن صلاته صلى الله عليه وسلم إياهما دليل عن تخصيص النهي السابق بغيرهما ، فالحديث دليل واضح على مشروعية قضاء الفائتة لعذر ، ولو كانت نافلة بعد العصر ، وهو أرجح المذاهب ، كما هو مذكور في المبسوطات .
سادسا :
وأما قول بعضهم : بأن الأئمة الأربعة لم يذكروا سنّية صلاة ركعتين بعد العصر ولو كانت سنة متّبعة لما غفلوا عنها.
فالجواب عليه :ما قاله شيخنا محمد علي آدم الأثيوبي حفظه الله :يجب على كل مسلم أن يكون مع الحق حيثما كان ،ولا يهاب إلا الحق ، وإن خالفه جلّ الناس ،ويعتذر للأئمة الذين خالفوه بوجه من وجوه الأعذار الصحيحة ،وياليت أصحاب المذاهب اتبعوا هذا ،فإن هذا هو منشأ ائتلاف كلمتهم وتوحيد صفوفهم ،وكونهم يدا واحدة على أعداء الإسلام ،ولا يتفرقون تفرق أهل الأهواء الزائغة ،وهذا هو وصية الأئمة لأتباعهم ،وليس وصية الشافعي فقط ، إلا أن أتباعهم ما عملوا بوصاياهم إلا من وفقه الله ، قاتل الله التعصّب.
ولله درّ العلامة محمد بن إسماعيل الأمير الصنعاني رحمه الله حيث يقول :
علام جعلتم أيها الناس ديننا لأربعة لا شك في فضلهم عندي
هم علماء الدين شرقا ومغربا ونور عيون الفضل والحق والزهد
ولكنهم كالناس ليس كلامهم دليلا ولا تقليدهم في غد ينجي
ولا زعموا حاشاهم أن قولهم دليل فيستهدي به كل مستهدي
بلى صرحوا أنا نقابل قولهم إذا خالف المنصوص بالقدح والردّ.
فبعد ذكر بعض الأدلة التي تدل على ثبوت هذه السنة المهجورة وهي صلاة ركعتين بعد العصر ، فحريّ على كل سلفي أن لا يدع هذه السنة التي غفل عنها أكثر الناس،وهذا والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
كتبه :عبد الحميد الهضابي
17 / 03 / 1435
الحواشي :
ـ أخرجه البخاري (592)،ومسلم ( 835 )
2 ـ أخرجه البخاري (591)،ومسلم ( 835 )
3 ـ أخرجه البخاري (590).
4 ـ أخرجه مسلم ( 835 )
5 ـ أخرجه أحمد (26044)،والبيهقي (4193)،وصححه الألباني في "الصحيحة"(6/1010)
6 ـ أخرجه أبو العباسالسراج في " مسنده " ( ق 132 / 1 )كما في "الصحيحة"(6/1013).،وصححه الألباني في "الصحيحة"(6/1013).
7 ـ أخرجه ابن أبي شيبة في " المصنف " ( 2 / 352 ) وصححه الألباني في "الصحيحة"( 2920)
8 ـ أخرجه الطيالسى (10 ، وأحمد (610) ، وأبو داود (1274) ، و النسائي (573)والبيهقى (4196) . وأخرجه أيضا : أبو يعلى (581) ، وابن خزيمة (1284) ، والضياء (766) ،وصححه النسائي في "صحيح سنن النسائي"( 573).
9 ـ وصححه الألباني في "الصحيحة"(
10 ـ "ذخيرة العقبى"(7/196)
11 ـ أخرجه أبو يعلى (4216)،وصححه الألباني في "الصحيحة"(314).
12 ـ "الصحيحة"(1/625).
13 ـ أخرجه أحمد (23121)،وأبو يعلى (7166)،وصححه الألباني في "الصحيحة"( 2549).
14 ـ "الصحيحة"(6/105)
15 ـ أخرجه البيهقي (4199)،وصححه الألباني في "الصحيحة"عقب حديث(200)
16 ـ أخرجه البخاري (1631).
17 ـ أخرجه ابن أبي شيبة (7359)، وصححه الألباني في "الصحيحة" عقب حديث(200)
18 ـ أخرجه عبد الرزاق عنه ( 2 / 433 ) وصححه الألباني في "الصحيحة"(6/1014)
19 ـ أخرجه البخاري (586).
20 ـ "شرح مسلم" (3/155)
21 ـ "الإرشاد "(ص :276)
22 ـ "الباعث الحثيث" (2/482) .
23 ـ "أضواء البيان" (2/304) .
24 ـ تقدم تخريجه.
25 ــ تقدم تخريجه.
26 ـ "الصحيحة"(6/1427)
27 ـ أخرجه أحمد (17036)،وعبد الرزاق (3972) - والسياق له- ، وعنه وعنغيره : أحمد (4/115)، والطبراني في «المعجم الكبير» (5/260/5166 و 67 51) . وقال الهيثمي بعدما عزاه لأحمد والطبراني :"وإسناده حسن" .
28 ـ أخرجه مسلم ( 835 )
29 ـ للمزيد من الفائدة انظر "الضعيفة"للألباني (945).