بيانُ السببِ الباعثِ لِأبي عبدِ اللهِ البخاريِّ عَلَى
تَصْنيفِ جامِعهِ الصَّحيحِ، وبيانُ حُسْنِ نِيَّتِهِ فِيِهِ.
**************
قال الحافظ ابن حجر -رحمه الله-:تَصْنيفِ جامِعهِ الصَّحيحِ، وبيانُ حُسْنِ نِيَّتِهِ فِيِهِ.
**************
اعْلَمْ علمني الله وإياك أنَّ آثارَ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لم تكن في عصر أصحابه، وكبار تبعهم؛ مدونة في الجوامع، ولا مرتبة؛ لأمرين:
أحدهما: أنهم كانوا في ابتداء الحال، قد نهوا عن ذلك؛ كما ثبت في صحيح مسلم، خشية أن يختلط بعض ذلك بالقرآن العظيم.
وثانيهما: لسعة حفظهم، وسيلان أذهانهم، ولأن أكثرهم كانوا لا يعرفون الكتابة؛ ثم حدث في أواخر عصر التابعين تدوين الآثار، وتبويب الأخبار، لما انتشر العلماء في الأمصار، وكثر الابتداع من الخوارج والروافض ومنكرى الاقدار، فأول من جمع ذلك الربيع بن صبيح، وسعيد بن أبي عروبة، وغيرهما، وكانوا يصنفون كل باب على حدة، إلى أن قام كبار أهل الطبقة الثالثة؛ فدونوا الأحكام:
فصنف الإمام مالك ((الموطأ))، وتوخى فيه القوي من حديث أهل الحجاز، ومزجه بأقوال الصحابة وفتاوى التابعين ومن بعدهم.
وصنف أبو محمد عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج بمكة، وأبو عمر، وعبد الرحمن بن عمر، والأوزاعي بالشام، وأبو عبد الله سفيان بن سعيد الثوري بالكوفة، وأبو سلمة حماد بن سلمة بن دينار بالبصرة؛ ثم تلاهم كثير من أهل عصرهم في النسج على منوالهم؛ إلى أن رأى بعض الأئمة منهم أن يفرد حديث النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خاصة، وذلك على رأس المائتين:
فصنف عبيد الله بن موسى العبسي الكوفي ((مسندًا))، وصنف مسدد بن مسرهد البصري(( مسندًا))، وصنف أسد بن موسى الأموي ((مسندًا))، وصنف نعيم بن حماد الخزاعي -نزيل مصر- ((مسندًا))، ثم اقتفى الأئمة بعد ذلك اثرهم فَقَلَّ إمام من الحفاظ إلا وصنف حديثه على ((المسانيد)) كالامام أحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وعثمان بن أبي شيبة؛ وغيرهم من النبلاء.
ومنهم من صنف على الأبواب، وعلى المسانيد معًا:
كأبي بكر بن أبي شيبة؛ فلما رأى البخاري -رضي الله عنه- هذه التصانيف، ورواها، وانتشق رياها، واستجلى محياها، وجدها بحسب الوضع؛ جامعة بين ما يدخل تحت التصحيح والتحسين؛ والكثير منها يشمله التضعيف، فلا يُقال لغثه سمين.
فَحَرَّكَ هِمَّتَه لجمع الحديث الصحيح -الذي لا يرتاب فيه أمين-، وقوَّى عزمه على ذلك؛ ما سمعه من أستاذه -أمير المؤمنين في الحديث والفقه- إسحاق بن إبراهيم الحنظلي، المعروف بـ ((ابن راهويه))، وذلك فيما أخبرنا أبو العباس أحمد بن عمر اللؤلؤي، عن الحافظ أبي الحجاج المزي، أخبرنا يوسف بن يعقوب، أخبرنا أبو اليمن الكندي، أخبرنا أبو منصور القزاز، أخبرنا الحافظ أبو بكر الخطيب، أخبرني محمد بن أحمد بن يعقوب، أخبرنا محمد بن نعيم، سمعت خلف بن محمد البخاري –بها- يقول: سمعت إبراهيم بن معقل النسفي يقول: قال أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري: ((كنا عند إسحاق بن راهويه؛ فقال: لو جمعتم كتابًا مختصرًا لصحيح سنَّةِ رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال –البخاري-: فوقع ذلك في قلبي، فأخذت في جمع الجامع الصحيح)).
وروينا بالإسناد الثابت، عن محمد بن سليمان بن فارس، قال: سمعت ((البخاري)) يقول: ((رأيت النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؛ وكأنني واقف بين يديه، وبيدي مروحةٌ؛ أذُبُّ بها عنه))، فسألت بعض المعبِّرين فقال لي: أنت تذبُّ عنه الكذب؛ فهو الذي حملني على إخراج الجامع الصحيح.
وقال الحافظ أبو ذر الهروي: سمعت أبا الهيثم محمد بن مكي الكشميهني يقول: سمعت محمد بن يوسف الفربري يقول: قال ((البخاري)): ((ما كتبت في كتاب الصحيح حديثًا إلَّا اغتسلت قبل ذلك، وصليت ركعتين)).
وقال أبو على الغساني: روى عنه أنه قال: ((خَرَّجْتُ الصحيحَ من ستمائة ألف حديث!)).
وروى الإسماعيلي عنه قال: ((لم أُخَرِّج في هذا الكتاب إلَّا صحيحًا، وما تركت من الصحيح أكثر))؛ قال الإسماعيلي: لأنه لو أخرج كل صحيح عنده؛ لجمع في الباب الواحد حديث جماعة من الصحابة!، ولذكر طريق كل واحد منهم إذا صحت!، فيصير كتابًا كبيرًا جدًا.
وقال أبو أحمد بن عدي: سمعت الحسن بن الحسين البزار يقول: سمعت إبراهيم بن معقل النسفي يقول: سمعت ((البخاري)) يقول: ((ما أدخلت في كتابي الجامع الا ما صحَّ، وتركت من الصحيح حتى لا يطول)).
وقال الفربري أيضًا: سمعت محمد بن أبي حاتم البخاري الوراق يقول: ((رأيت محمد بن إسماعيل البخاري في المنام ،يمشي خلف النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، والنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يمشي؛ فكلما رفع النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قدمه وضع البخاري قدمه في ذلك الموضع)).
وقال الحافظ أبو أحمد بن عد:ي سمعت الفربري يقول: سمعت نجم بن فضيل -وكان من أهل الفهم- يقول: فذكر نحو هذا المنام أنه رآه أيضًا.
وقال أبو جعفر محمود بن عمرو العقيلي: لما ألفَّ ((البخاريُّ)) كتاب الصحيح؛ عرضه على أحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، وعلى بن المديني، وغيرهم؛ فاستحسنوه، وشهدوا له بالصحة؛ الا في أربعة أحاديث، قال العقيلي: والقول فيها قول ((البخاريِّ)) وهي صحيحة.
لتحميل الملف بي دي إف [من هنا] وورد [من هنا]
تعليق