أثر النَّزعة الظَّاهريَّة في منهج ابن حزم الحَديثي
بقلم :
الشَّيخ حمزة بوروبة حفظه الله
بسم الله الرحمن الرحيم
إنَّ العلاَّمة أبا محمَّد علي بن أحمد بن حزم مَعْلَمَةٌ عمليَّة عالية ، حافظٌ مُدهشٌ ، مع الدِّقة والفَهم والتَّفنُّن في سائر العلوم ، شهد له بذلك الموافق والمخالف ، إلاَّ أنَّه تفرَّد عن بقية العُلماء بمسائل خالفَهم فيها في مختلف علوم الشَّريعة وفنونها المشرفة ، سواء كانَ ذلك في الفقه والأصُول أو أصول الدِّين أو في علوم الحديث على أنَّ الأصول التي بنَى عليها مذهبَه واحدة ، يأخُذ بعضُها بأعناق بعض .
والَّذي نخصُّه بالبحث هو علوم الحديث، حيث إنَّ ابن حزم خالَف جماهير المحدِّثين في مسائل عديدة، وذلك لأسباب متعدِّدة لعلَّ أهمَّها القول بالظَّاهر.
فهو من العُلماء الَّذين سلَكوا في تفقُّههم مسلَك أهل الظَّاهر ، وهُو ترك النَّظر في المعاني والمناسَبات مطلَقًا ، بما يُظنُّ في ذلك أنَّه ظاهر النَّص ، ممَّا أدَّى به إلى الوقوع كمَا – قال العُلماء – في شذوذات كثيرة خالَف فيها الأئمَّة فجاء بأعاجيب مع سَعة علمه وحفظه ودقَّة ذكائه .
وسأذكُر في هذه العجالة مجمل ما أثَّرت الظَّاهرية أو القول بالظَّاهر في منهج ابن حزم الحديثي بإشارات سَريعات وتَنبيهات لطيفات ، وذلك بذكر لأصول المسائل دون الخَوض في التَّفاصيل – غالبًا – تنبيها بالأصل على الفَرع ، ومُراعيا في ذلك مقتضى الحال ، ولستُ مُدَّعيا الكمال في ذلكَ ، فما هي إلاَّ خطوة متواضعة في حلقة بحث واسعة الجوانب عميقة الأغوار ، وممَّا يدلُّك على ذلك اختلاف نظرة الباحثين في المسألة الواحدة في علوم الحديث عند ابن حزم ، إذ كلُّ من أدلى بدلوه لم يسلم من معتَرض ، وسببه كلام هذا العلَم الهمام مع ما يتوهَّمه الباحث أحيانا من التَّناقض في كلام ابن حزم ، فيخرج كلُّ واحد منهم بنتيجته بناء على فهمه الخاص .
لابأسَ أن نُذكَّر أنَّ الفقه الظَّاهري بمختلف صوره قائم على أربَعة أصول ، وهي : الكتاب والسُّنَّة النَّبويَّة والإجماع والدَّليل والحكم فيها يكون بلزوم ظواهرها ، وقد نصَّ ابنُ حزم على ذلك بقوله : " ثمَّ بيَّنا أقسامَ الأصول الَّتي لا يُعرف شيءٌ من الشَّرائع إلاَّ بها وأنَّها أربعة وهي : نصُّ القُرآن ، ونصُّ كلام رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم الَّذي إنَّما هُو عن الله تعالى ممَّا صحَّ عنه عليه السَّلام نقل الثِّقات أو التَّواتر ، وإجماع علماء الأمَّة ، أو دليل منها لا يحتَمل إلاَّ وجهًا واحدًا " (1) .
وقَد ذكر ابن حزم نفسُه أنَّ هذه الأصول الأربعة راجعة إلى النَّصِّ حقيقة ، ثمَّ إنَّه أبطل الأصولَ الأخرى الَّتي اعتمدها أهلُ المذاهب الأخرى كالقياس والاستحسان ، وسدِّ الذَّرائع وغيرها ، أبطلها جميعًا ، وخاصَّةً القياس الَّذي بالغ ابنُ حزم في إنكاره وإبطاله حيث إنَّه عقد لذلك فصلاً كاملاً في كتابه الإحكام وليس هذا موضع التَّفصيل والبيان ، وهذا المنهج الَّذي سلكه تأصيلاً وتفريعًا جعل كثيرًا من أهل العلم بالحديث ينتقدونه ، بل ونُسب بسبب ذلك إلى الشُّذوذ .
إنَّ النَّظرة الظَّاهرية تغلغلت في منهج ابن حزم الحديثي حتَّى بلغت علم الرِّجال والجرح والتَّعديل ، توثيقًا وتضعيفًا وتجهيلاً وتعريفًا ، نتج ذلك كلُّه أن قعَّد رحمه الله قواعد في علوم الحديث لم يسبقه أحدٌ إليها ، بل هي خاصَّةٌ به ، ومن أهمِّ تلك القواعد والمسائل الَّتي ظهرت فيها ظاهريَّته في علوم الحديث والرِّجال ما يلي :
أوَّلاً : إنَّ الرِّجال عند ابن حزم على درجتين فقط ، إمَّا الثِّقة وإمَّا الضّعيف ، وحديثُ الثِّقة عنده في غاية الصِّحَّة وحديثُ الضَّعيف عنده في غاية السُّقوط ، وكان من نتائج هذا المنهج هو أنَّ الرَّاوي الثِّقة لا يخطئ أبدًا ، كما أنَّ الرَّاوي الضَّعيف لا يحفظ أبدًا .
وكان من نتائجه ترك النَّظر في دقائق العلل والتَّرجيح بينَ روايات الحفَّاظ والثِّقات ، وقَد صرَّح بتخطئة القياسيِّن في كتابه الإحكام ، بل إنَّه خطَّأ جماهير المحدِّثين وأئمَّة العلل في ترجيحاتهم بالأوثق والأحفَظ والأكثر .
وكانَ من نتائجه أنَّه لا وجود للحَديث الشَّاذِّ عند ابن حزم أو المعلّ وَفق نظر المحدِّثين ، كيف لا ومنهجه هذا في الرَّاوي الثِّقة الَّذي يقولُ فيه ابنُ حَزم : إنَّه لا يخطئ ، بل وجعل دعوى الخطأ في خبر الثِّقة لا يجوز إلاَّ بأحَد ثلاثة الأمور (2) :
الأمر الأوَّل : اعتراف الرَّاوي بخطئه .
الأمر الثَّاني : شهادة عدل على أنَّه سمع الخَبر مع روايه ، فوهم فيه فلان .
الأمر الثَّالث: أن توجب المشاهدة بأنَّه أخطأ.
قال ابنُ حزم: " ولكنَّا نلتفتُ إلى دعوى الخَطأ في رواية الثِّقة إلاَّ ببيان لا يُشكُّ فيه " (3)
وهذه الأمور الَّتي ذكرها ابنُ حزم الَّتي توجبُ خطأَ هذا الرَّاوي الثَّقة، كلُّها راجعة إلى ظاهر الأمر، ولو أرادَ محدِّثٌ أن يطبِّقها لما استطاع، لأنَّها ليسَت خاصَّة بالنَّقد الدَّاخلي، فهو بهذه النَّظرة الظَّاهرية خالفَ المحدِّثين في كثير من أحكامهم وقواعِدهم.
ثانيًّا : أنَّ الحَديث الصَّحيح عند ابن حزم هو : " الحَديث المسنَد الَّذي يتَّصل سنده بنقل العَدل الضَّابط عن مثله إلى منتهاه فقَط ، ونفي الشُّذوذ والعلَّة القادحة الخفيَّة غير وارد هنا لما ذكرنَاه عنه ، وهذَا منهجه غالبًا ، ولكنَّه أحيانًا يجري على سَنَن المحدِّثين في التَّعليل ، وإعلاله للحديث يكون بما ظهر وما خفي كمَا هو مُبيَّن في موضعه .
ثالثًا : ترك الاعتبار بالحَديث الضَّعيف مطلقًا ، حتَّى ولو كان مختلفًا فيه ، حيث ابنَ حزم يعتَبر حديث الضَّعيف في الضِّعف لا يقبل حديثه أبدًا ، كما هُو مُوضَّح في بابه فهُو يرى بأن حديث الضَّعيف حديث باطل غير صحيح ، ولا يرتقي إلى الحسن إبدًا ولو جاء من ألف طريق ، ولا يُقيم وزنًا لمتابع ولا شاهد ، حتَّى إنَّ بعض الأحاديث الَّتي ضعَّفها أصولها في الصَّحيحين وغيرهما ، فهو بطريقته هذه لم يقبل كثيرًا من الأحاديث الَّتي هي مِن هذا القَبيل .
ويكفي أن ننظُر في قوله عن إسنادٍ فيه : " أبو بكر ابن عيَّاش ، وعبد الملك بن أبي سُليمان ، وزُهير بن محمَّد ، وهؤلاء مخرج لهم في الصَّحيحين ، " وهؤلاء ثلاث الأثافي والدِّيار البَلاقع أحدهم كانَ يكفي في سُقوط الحَديث " (4) ، ووصَفَهم في مواضع أخرى بأوصاف الجَرح الَّتي تدلُّ على سُقوطهم، كقَوله : "ساقط" ، "متروك" ونحوها ؟؟
وكذلكَ من الأمثلة على ذلك :
" طلحة بن يحيي الأنصاري " أخرج له البُخاري ومسلم ، قال فيه : " ضعيف جدًّا " .
" طَلق بن غَنَّام النَّخعي " أخرجه له البخاري وأصحاب السُّنن الأربعة ، قال فيه ابنُ حزم " ضعيف " (6) .
وغيرها من الأمثلة الَّتي تبيّن أنَّ ابنَ حزم منهجه في الرَّاوي الضَّعيف عنده ، هو ترك حديثه مطلقًا وعدم الاعتداد به ، ولو كانَ ضعفُه يسيرًا من جهة حفظِه ، وأنَّه لا وجودَ للمتابعات والشَّواهد عنده الَّتي تبيِّن أنَّ هذَا الحديثَ له أصل معين .
رابعًا : التَّدليس وزيادة الثِّقة عند ابن حزم مبنيٌّ على قاعدته " أنَّ الراويِّ الثِّقة لا يُخطئ أبدًا ، وأنَّ الضَّعيف متروك حديثه مطلقًا ، فهو عنده تدليسُ الثِّقة وتدليس الضَّعيف ، فتدليس الثِّقة عندَه مقبول ولو عنعن ولم يصرِّح بالسَّماع جريًا على أنَّ خَبر الثِّقة مقبولٌ مطلقًا ولو خالفَ أو دلَّس ونحو ذلك .
وتدليس الرُّواة الضُّعفاء مردودٌ عنده مطلقًا ، بل ذلك جرحٌ فيهم ، وعليه تُردُّ جميعُ رواياتِهم ولا يقبَلُهم صرَّحوا بالسَّماع أو لم يصرِّحوا ، المهم ما دام أنَّهم ضعفاء فهُم في حيِّز المردودين ، ولم يجْر على سَنن المحدِّثين في هذه المسألة إلاَّ مع راو واحدٍ ، وهو أبو الزُّبير المكِّي ، لأنَّه صرَّح هو بذلك ، بل ولاضطرابه في هذه المسألة نُسبَ إلى التَّناقض (7).
ومثله زيادةُ الثِّقة فهي مقبولةٌ عنده مطلقًا ، بناءً على مذهبه في الثِّقة ، فخَبره مقبولٌ ولو خالفَ غيره من الحفَّاظ بزيادة تُنافي رواياتهم ، كما أنَّه يحاول قَدر المستَطاع أن يجمَع بينَها وبين الرِّواية الأخري ، دونَ أن يطرح الرِّواية الشَّاذة إلاَّ نادرًا ، لأنَّ الشُّذوذ غير واردٍ عنده .
خامسًا : وكان من نتائج النَّظرة الظَّاهريَّة عند ابن حزم في علوم الحديث والرِّجال أنَّه لا يعتبر قول الصَّحابي : " أُمرنا أو نُهينا من قَبيل المرفوع ، فهُو لا يعدُّ القَول منسوبًا إلى النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم إلاَّ إذا قال الصَّحابي : قال النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم أو نحو ذلك ، فلابدَّ من التَّصريح ، لأنَّه يَرى أنَّ قول الصَّحابي هذَا قَد يكونُ اجتهادًا منه هو ، احتمالٌ وإذا دخَل الاحتمال بَطل أن يكونَ هذا مسندًا إلى النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم ، كما أنَّ قول الصَّحابي عند ابن حَزم أصلاً لا يحتَجُّ به ( ، ولازم هذَا المذهَب هو عدم قَبول كثير من أحاديث النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم الَّتي جاءت على هذا النَّحو ، وتَعطيل كثير من الأدلَّة الشَّرعيَّة الَّتي تعدُّ أدلَّة مستقلَّة في حدِّ ذاتِها .
هذَا إذن مجمَل ما أثرت فيه الظَّاهريَّة أو القَول بالظَّاهر في منهج ابن حزم الحَديثي ، وفي حكمِه على الرِّجال في مسائل الجَرح والتَّعديل .
والملحَظ المهم في هذَا هُو أنَّ ابنَ حزم له منهجُه الخاصُّ في علوم الحَديث وله مدرسةٌ مستقلَّةٌ في النَّقد ، بسبب القَول بالظَّاهر مع الاستقلاليَّة في الفَهم .
ويجدُر التَّنبيه إلى أنَّ ابنَ حزم تنظيره أحيانًا لا يكون متوافقًا مع تطبيقاته ممَّا سبَّب الخَلل في فَهم منهجِه الحَديثي مِن قبَل الباحثين، بل ناقَضَ ابنُ حزم نفسَه في بعض المسائل والنَّظرة الظَّاهريَّة من أسباب ذلكَ ، ولكنَّه من حيثُ الجملة يحمل فكر المحدِّثين ، بل وله معرفة بالحَديث الصَّحيح ، وصدَقَ الذَّهبــي لــمَّا قال : " ولي أنا ميلٌ إلى أبي محمَّد لمحبَّته في الحَديث الصَّحيح ، ومعرفته به ، وإن كنتُ لا أوافقُه في كثير ممَّا يقولُه في الرِّجال والعِلل والمسائل البشعة في الأصول والفُروع ، وأقطَعُ بخطئِه في غير ما مسألةٍ ، ولكن لا أكفِّره ولا أضَلِّله ، وأرجو له العَفو والمسامَحة وللمُسلمين ، وأخضَع لفَرط ذكائه وسَعَة علومه " (9) ا.هـــــــ .
وأخيرًا لابدَّ أن نقول : إنَّ ظاهريَّة ابن حَزم لم تكُن شرًّا محضًا ، بقَدر ما كانت لها آثارٌ حميدةٌ شَهد بها الــمُنصِفون من أصحاب الفِكر الثَّاقب ، والنَّظرة السَّويَّة ، وأرباب الحِجا والعَدل والإنصاف ، والمجال مفتوحٌ لكلِّ باحثٍ منصفٍ للتَّدقيق أكثر حول علوم الحَديث عند ابن حَزم فهو تُراث كبير يحتَاج إلى خِدمة .
الحواشي:
(1): ابن حزم " الإحكام " (1/71) – أحمد شاكر
(2) : الإحكام (1/137) .
(3) : المحلَّى (3/242) – أحمد شاكر
(4): المحلَّى (9/165)
(5): المحلَّى (9/249)
(6): المحلَّى (9/227)
(7) : السِّلسلة الضَّعيفة للألباني (1/91) .
(: انظر الإحكام لابن جزم (2/72) و ابن حزم لأبي زهرة (ص432 ،433) ، منهج ابن حزم في الاحتجاج بالسُّنَّة لإسماعيل رفعت فوزي (ص200) .
(9): السير (18/201) .
المصدر: العدد الثَّلاثون من مجلَّة الإصلاح السَّلفية – الجزائر