طالب العلم والاعتناء بالسنة والحديث
للشيخ
صالح بن عبد العزيز آل الشيخ
[(02) شريط مفرّغ]@
بسم الله الرحمن الرحيم
أما بعد:
فأسأل الله جل وعلا أن يجعلني وإياكم ممن استعملهم فيما يحب ويرضى، وبارك لهم في أقوالهم وأعمالهم، ومنحهم التوفيق في حركاتهم وسكناتهم، إنه سبحانه جواد كريم وغفور رحيم وهو على كل شيء قدير جل جلاله وتقدست أسماؤه وعلت صفاته.
ثم إننا في هذا الدرس الذي نستقبل به دروس هذا الفصل الثاني من عام 1420 لهجرة المصطفى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ونسأل الله جل وعلا أن يجعلنا فيه ممن طلب العلم له وبذلوه له وجلسوا متعلمين عالمين أنّ الأجر والفضل ورفعة المنزلة إنما هي في تعلم ما قال الله وقال رسوله وما قرّره أئمة أهل العلم من أهل السنة والجماعة.
وكما اعتدنا في مقدّمة الدروس أن يكون هناك درس منهجي أو في توجيه طلاب العلم وما يحتاجون إليه في العلم بعامة أو في بعض العلوم بخاصة.
وقد ذكرنا في هذه الدروس المنهجية كثيرا مما يحتاجه طلاب العلم في العلوم المختلفة العقيدة والتفسير وعلوم الآلة والعلوم الصناعية وأشياء كثيرة وكتب الفقه وكتب الحديث وما يتصل بالمقدمات اللغوية والمقدمات في فهم التفسير وبالاستدلال بالقرآن وبمنهجية الطلب بشكل عام، وذكرنا أشياء في ذلك نرجو أن تكون مفيدة لقائلها ولسامعها إن شاء الله تعالى.
ومما يجدر التنبيه عليه والاهتمام به من كل طالب علم الاعتناء بالسنة والحديث؛ لأن السنة والحديث هي أصل العلوم؛ لأنها هي قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والنبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ بين للناس الدين في حياته بأقواله وأفعاله.
فحقيقة رسالة النبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ هي اتّباع سنته في الناس وبيان ما أمره الله جل وعلا بإبلاغه قولا وعملا.
ولهذا كان أعظم ما يعتني به طالب العلم بعد العناية بالقرآن أن يعلم سنة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ العلمية والعملية بما فيها العقائد والأحكام وعلوم القرآن والتفسير والآداب والأخلاق والسلوك إلى آخر ذلك من أنواع وموضوعات السنة.
فالاهتمام بالحديث وبالسنة مما يكون معه طالب العلم قويًّا في ملكته متصلا على الحقيقة بميراث الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لأن النبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ إنما ورَّث أمته العلم، والله جل وعلا أمرنا في كتابه في أكثر من ثلاثين موضعا بطاعة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الطاعة هنا:
· في الأخبار باعتقادها واعتقاد ما دلّت عليه.
· وفي الأحكام والأوامر بامتثالها بحسب الاستطاعة والانتهاء عما نهى الله جل وعلا عنه والاستغفار عن التقصير.
وهذا مع غيره إنما يعلم بالسنة وبالحديث.
ولهذا كان العلم في زمن السلف زمن الصحابة رضوان الله عليهم وفي زمن التابعين وتبع التابعين كان العلم إما أن يكون آية محكمة أو سنة ماضية، هذا هو العلم، والصحابة اجتهدوا؛ ثم بعد ذلك صار إضافة إلى الكتاب والسنة هناك هدي الصحابة واجتهاد الصحابة وما قاله الصحابة في النبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ.
ولهذا قال الحافظ الذهبي رحمه الله تعالى:
العلم قال الله قال رسولــه قال الصحابة ليس خلف فيه
ما العلم نصبك للخلاف سفاهة بين الرسول وبين رأي فقيه
العلم قال الله قال رسولـــه قال الصحابة هم أولوا العرفان
ما العلم نصبك للخلاف سفاهة بين الرسـول وبين رأي فلان
ثم بعد ذلك يأتي الخلاف الذي حصل بين الصحابة في المسائل العلمية والفقهية وفي تفسير القرآن إلى آخر ما هنالك من خلاف في ذلك.
فصار المُتميِّز عند السلف هو الذي يعلم الكتاب والسنة أكثر، فمن زاد علمه يكتاب الله جل وعلا وبالسنة سنة النبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ كان هو الأعلم وهو الأفقه.
ولهذا ذكروا في الموازنة ما بين مثلا بين إبراهيم النخعي وبين عامر بن شراحيل الشعبي وهما فقيهان معروفان أحدهما كان في الكوفة والآخر كان في البصرة، كانوا يقدمون الشعبي لما كان عليه من السنة والعلم بما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقلَّت مخالفته للصواب لأجل كثرة اتباعه للدليل وسماعه له، وكثرة معرفته بالأخبار وبالسنن وكثرة ما روى منها ذهب طائفة من أهل العلم يقدمون ما يقول أو ما يفتي به على غيره.
وهذا هو المعروف في هدي السلف فإنه إذا زاد العلم بسنة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التي: منها تفسير القرآن، ومنها تقرير التوحيد والعقائد، ومنها الفقه، ومنها الآداب، ومنها الهدي هدي النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في تعامله مع المشركين ومع المخالفين ومع صحابته، إذا زاد علمه في هذا كان أعلم وأفقه وكان أحرى بالصواب.
وهذا يعني أن هدي السلف الصالح في العلم والتعلم هو الاهتمام بالسنة -سنة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والأحاديث-.
ثم يسر الله الأمر بأن صُنفت كتب الحديث كان من أوائل ما صنف في ذلك الموطأ للإمام دار الهجرة مالك بن أنس رحمه الله تعالى، فصنف الموطأ وهو على اختصاره فيه من العلم الشيء الكثير جدا، حتى قال طائفة من أهل العلم: ليس بعد كتاب الله أصح من موطأ مالك بن أنس، وذلك لأجل أنه كان قبل كتاب البخاري ومسلم.
ثم لما تتباع أهل العلم في التأليف في الحديث وفي كتابة السنن تنوعت ما بين صحاح ومسانيد ومعاجم وأجزاء حديثية وأنواع كثيرة من التآليف معروفة عند المتتبعين.
وكان من أجلّ ما كتب أهل العلم الكتب الستة المشهورة: كتاب البخاري أبي عبد الله، وكتاب مسلم بن الحجاج، وكتاب أبي داوود السخستاني السنن، وجامع أبي عيسى الترمذي، وسنن المجتنى والمجتبى للنسائي، والسنن للحافظ ابن ماجه رحمهم الله تعالى.
وهذه المصنفة على الأبواب وعلى الموضوعات.
وأما المسانيد فأعظمها مما هو بين أيدينا مسند إمام أهل السنة والجماعة الإمام أحمد بن عبد الله بن محمد بن حنبل أبو عبد الله الذي كتب وصنف مسنده على مسند العشرة ثم مسند المهاجرين ثم مسند الأنصار ومسند المكيين والمدنيين والشاميين إلى آخر ذلك ثم مسند النساء في آخره.
وهذه الكتب لم يزل أهل العلم يعتنون بها جدا الكتب الستة مع مسند الإمام أحمد ومع الموطأ.
والعلم بالسنة هذا من أهم ما يعتني به طالب العلم، والاهتمام بالعلم بحديث النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقوى في الإنسان في طالب العلم يقوى فيه الملكة في العلم ويقوى فيه الحفظ وتقوى فيه الدراية في الفقه والفهم، ويحصل له خير كثير في السلوك وفي معرفة الهدي والسنن، في أموره كلها، ليس في أمر اللباس فقط أو في بعض السنن؛ بل في جميع أموره في بيته وفي لفظه وفي حواره وفي تعامله وفيما يأتي وفيما يذر وفي حسن خلقه، فسنة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أبوابها واسعة.
وإذا كان كذلك فإن العناية في علم الحديث لم يزل أهل العلم يوصون بها ويهتمون بها، فطلاب العلم بحاجة كبيرة جدا إلى العناية بهذا العلم، فالعناية به هو موضوع هذه الكلمة وهذا الدرس، ويمكن أن نجعله في عدة نقاط أو موضوعات.
الموضوع الأول
أما الأول فهو: أن علم الحديث قسمه العلماء إلى علم رواية وإلى علم دراية:
@وعلم الرواية قصدوا به نقل الحديث بالإسناد، فقد كان الصحابة وكان التابعون في غالب أحوالهم يذكرون سندهم في السنة والحديث منهم إلى النبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ، وربما لم يذكروا السند وإنما قالوا قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكانوا إذا نشطوا أسندوا وإذا تقاصروا لم يسندوا وأرسلوا.
والرواية يعنى بها نقل الحديث بالإسناد؛ بالسماع، فيسمع يتحرى أن يسمع من المشايخ علم الحديث يتحرى أن يسمع من المشايخ الأحاديث فينقلها ويرويها ويكتب عنده ما سمع، أو يكون عند الشيخ الذي سمع منه يكون عنده أجزاء أو كتب فيأخذه إجازة ويقرأ عليه، فيكون عنده سماع في ذلك ثم يرويه كما سمعه.
ولأجل هذه الرواية التي جاء فيها من الفضل لقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «نضَّر الله امرَءا سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها فرب مبلَّغ أوعى من سامع»، وهذا الدعاء العظيم منه عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ قوله (نضر الله امرءا) يعني جعل وجهه في نضرة وهي نضرة النعيم دعاء له بالجنة.
وأعظم من جاهد في العلم في الحقيقة هم أهل الحديث بروايتها، وكانوا يرحلون في الأمصار ويطلبون حديثا واحدا في رحلة طويلة، قد رحل بعض الصحابة رضوان الله عليهم لأجل حديث، رحل بعضهم من مصر إلى المدينة ومن بغداد إلى الكوفة، وبعضهم من الشام إلى مصر من أجل حديث واحد؛ كما رحل أحد الصحابة في سماع حديث «من ستر مسلما ستره الله في الدنيا والآخرة» جاء يطلب هذا الحديث حتى يرويه ويبقى، فحرِص الصحابة على السماع ومن بعدهم على السماع حتى تكونت الرواية.
وهذه الرواية بقيت منقولة بـ(حدّثنا) و(أخبرنا) و(أنبأنا) و(عن) حتى زمن التصنيف، ثم انتقلت الرواية من هذا الزمن إلى زمن التصنيف فصار لا يُنقل بالسماع المفصل لأحاديث مجموعة وإنما ينقل سماع الكتب، فنقل مثلا مصنفات ابن أبي أعروبة نقلت سماعا، ونقل موطأ مالك سماعا ونقل مثلا جامع ابن وهب سماعا ونقل جامع فلان سماعا ومصنف عبد الرزاق ومصنف ابن أبي شيبة وهكذا الكتب الستة وهكذا المعاجم والمسانيد والأجزاء نقلت بالسماع، فصارت بدل أن تكون مجموعة كما كانت في القرن الأول والثاني يذهب العالم وطالب علم الحديث يذهب يجمع من هذا البلد وهذا البلد ومن هذا البلد ثم ينسقها، صار الأمر مدونا في الكتب وصارت أسهل، فنُقلت بالسماع.
ظلت الرواية بعد ذلك للكتب سواء منها كتب الحديث أو كتب التفسير، وهناك أيضا رواية للكتب جميعا حتى كتب اللغة وأي كتاب إنما ينقل بالرواية ظلت هكذا عدة قرون، ثم تُرك قراءة الكتب وقراءة الكتب بالقراءة والمطالعة؛ يعني بأن يقرأ الكتاب على شيخه ثم يجيزه به بقراءته له من أوله إلى آخره، صار الأمر في أواخر القرن السادس ثم السابع إلى إجازة وما قبلها؛ لكن كثرت في القرن السادس والسابع إلى إجازة مجملة للحافظ لأن يُقرأ؛ ثم يحضر من يحضر للختم ويجيز الحاضرين في كل ما رواه.
فكثرت الإجازات، وهذه تسمى الرواية، والإجازات باقية في الأمة إلى وقتنا هذا ويعتني بها طائفة من الناس وهم طلبة العلم يعتنون بهذه الإجازات بقاءً لهذه السنة والمحافظة على الرواية سواء أكانت رواية للكتب أم كانت رواية للأحاديث وهي نادرة يعني الأحاديث بدون كتب وهي نادرة، وغالبا ما يسمع المجيب يُسمع المجاب أول حديث وهو الحديث الذي لقب بالحديث المسلسل بالأولية وهو حديث «الراحمون يرحمهم الرحمن ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء» وهذا يسمى المسلسل بالأولية لأنه كان أول حديث يسمعه الطالب من شيخه من أواخر القرن الثاني ثم الثالث إلى زماننا الحاضر.
هذا الصنف الأول يسمى بالرواية.
والرواية طالب العلم معها له أحوال:
الحال الأولى لطالب علم الحديث اهتمامه بالرواية: أن يكون عارفا بكيفية الرواية، كيفية الرواية بالتلقي، كيف يُنقل الحديث وصيغ التحديث؟ وكيف يبتدئ المحدث بالحديث سابقا؟ وكيف كتبت الكتب وروايات الكتب واختلاف هذه الروايات المنقولة؟ والأحاديث كيف نقلت بالرواية بالزيادة وبالنقصان؟ وما يتعلق بالرواية التي هي نقلا وليس بحثا بالاتصال وعدمه لأن هذا القسم الثاني، كيف تكون الإجازات وأنواع الإجازات؟ من المهتم؟ من هو مثلا البخاري؟ من رواة مسلم؟ من رواة سنن أبي داوود؟ من الذي روى المسند؟ ما حال المسند من جهة الرواية؟ وأشباه ذلك، ليعرف كيف رويت هذه؛ لأن هذا طالب العلم لابد له من هذه المعرفة إذا أراد التمكن؛ لأنه يحصل له بذلك فهم لكلام العلماء في مسائل كثيرة في الترجيح وفي النظر وفيما يُجيبون به عن الشبهات والأقوال المختلفة.
كان طائفة من أهل العلم لا يهتمون كثيرا بالرواية في العصور المتأخرة؛ لأنها أصبحت للنقل لا للحفظ، وإنما يحرص الطالب على الإجازات وعلى كثرة السماع يرحل من بلد إلى بلد لتحصيل كثرة المشايخ وكثرة من سمع منهم وأجازوه، وهذا صار فيه قُصور في المقصود من الرواية وهو حفظ السنة إلى أن يكون المقصود من الرواية هو التكاثر كما حصل في الأعصر المتأخرة، ولهذا امتنع كثير من العلماء عن الإملاء وامتنعوا عن تلاوة الأحاديث بإسنادها منهم إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأنه يكون بينهم عشرة خمسة عشر نفس وقل ذلك في الأعصر المتأخرة لأجل كثرة الإجازات.
يتبع
تعليق