إمعان النظر فيما نُسب لعمر وعثمان ومعاوية وابن الزبير-رضي الله عنهم- من تقديم خطبة العيد على الصلاة
[الحلقة الأولى: تحرير ما نُسب إلى عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-]
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسوله الأمين أما بعد
فمن المعلوم لدى الخاص والعام ما كان من هدي النبي -صلى الله عليه وسلم- في تقديم صلاة العيد على الخطبة، وسار على هذا الدرب الخلفاء الراشدون في المشهور عنهم، لكنّ بعض العلماء قد نسب تقديم الخطبة على صلاة العيد لعمر بن الخطاب وعثمان –رضي الله عنهما- بل ولمعاوية وابن الزبير –رضي الله عنهما- ، فأردت التفتيش عن حال هذه الروايات والتثبت من مدى صحتها عن هذين الخليفتين الراشدين ثم النظر فيما يمكن قوله إن صح هذا عنهما ، فدونك ملخص الكلام:
فأقول أولا:
المشهور عن عمر وعثمان –رضي الله عنهما – تأخير خطبة العيد على الصلاة فقد روى البخاري في صحيحه:
* 962 - حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي الحَسَنُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنْ طَاوُسٍ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: «شَهِدْتُ العِيدَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَعُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، فَكُلُّهُمْ كَانُوا يُصَلُّونَ قَبْلَ الخُطْبَةِ»
قلت: وهو عند ابن أبي شيبة من طريق ابن جريج بغير ذكر عثمان-رضي الله عنه-:
5725- حَدَّثَنَا وَكِيعٌ ، عَنْ سُفْيَانَ ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ مُسْلِمٍ ، عَنْ طَاوُوسٍ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، قَالَ : شَهِدْتُ الْعِيدَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَمَعَ أَبِي بَكْرٍ ، وَعُمَرَ فَبَدَؤُوا بِالصَّلاَة قَبْلَ الْخُطْبَةِ
وفي هذه الطريق عنعنة ابن جريج!.
وأخرجه عبد الرزاق (ر 5632) بروايته عن ابن جريج موافقا لرواية البخاري في التصريح بالإخبار وزيادة ذكر عثمان –رضي الله عنهما-
* وجاء في البخاري أيضا من رواية ابن عمر –رضي الله عنهما-:
963 - حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّه ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، يُصَلُّونَ العِيدَيْنِ قَبْلَ الخُطْبَةِ»
وبنحوه عند ابن أبي شيبة من طريق عبدة بن سليمان عن أبي أسامة به.
* وروى ابن أبي شيبة أيضا:
5727- حَدَّثَنَا ابْنُ إِدْرِيسَ ، عَنْ حُصَيْنٍ ، عَنْ مَيْسَرَةَ أَبِي جَمِيلَةَ ، قَالَ : شَهِدْتُ الْعِيدَ مَعَ عَلِيٍّ ، فَلَمَّا صَلَّى خَطَبَ . قَالَ : وَكَانَ عُثْمَانَ يَفْعَلُهُ.
*وعنده أيضا:
5726- حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ ، عَنِ الزُّهْرِيِّ ، عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ مَوْلَى ابْنِ أَزْهَرَ ، قَالَ : شَهِدْتُ الْعِيدَ مَعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَبَدَأَ بِالصَّلاَة قَبْلَ الْخُطْبَةِ ، قَالَ : ثُمَّ شَهِدْتُ الْعِيدَ مَعَ عُثْمَانَ فَبَدَأَ بِالصَّلاَة قَبْلَ الْخُطْبَةِ ، قَالَ : وَشَهِدْتُهُ مَعَ عَلِيٍّ فَبَدَأَ بِالصَّلاَة قَبْلَ الْخُطْبَةِ.
وهو عند عبد الرزاق بسياق أتم منه عن معمر عن الزهري به، إلا أنّ فيه " عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ، مَوْلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ " اختلف الزهري في ضبطه وكذا غيره [انظر ترجمته في الطبقات الكبرى وغيرها] ، وبنحوه عند مالك في الموطأ [ت : الأعظمي]
* وأخرج عبد الرزاق في مصنفه:
5639 - عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ وَهْبِ بْنِ كَيْسَانَ، عَنْ رَجُلٍ قَالَ: شَهِدْتُ مَعَ أَبِي بَكْرٍ يَوْمَ عِيدٍ «فَبَدَأَ بِالصَّلَاةِ قَبْلَ الْخُطْبَةِ بِلَا أَذَانٍ وَلَا إِقَامَةٍ»، ثُمَّ شَهِدْتُهُ مَعَ عُمَرَ «فَبَدَأَ بِالصَّلَاةِ قَبْلَ الْخُطْبَةِ بِلَا أَذَانٍ وَلَا إِقَامَةٍ»، ثُمَّ شَهِدْتُهُ مَعَ عُثْمَانَ «فَبَدَأَ بِالصَّلَاةِ قَبْلَ الْخُطْبَةِ بِلَا أَذَانٍ وَلَا إِقَامَةٍ»
وأخرجه ابن المنذر في الأوسط بسنده عن هشام به.
* وعند عبد الرزاق أيضا:
4895 - عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: " كَانَ عَلِيٌّ يُكَبِّرُ فِي الْفِطْرِ وَالْأَضْحَى وَالِاسْتِسْقَاءِ سَبْعًا فِي الْأُولَى، وَخَمْسًا فِي الْأُخْرَى، وَيُصَلِّي قَبْلَ الْخُطْبَةِ، وَيَجْهَرُ بِالْقِرَاءَةِ قَالَ: وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ
قلت: هذا والذي قبله يدخل فيما سبق وإلا فإسناد الأول فيه مبهم والثاني إسناده تالف، شيخ عبد الرزاق هو ابن أبي يحيى الأسلمي جهمي قدري كذاب.
وجملة هذه الآثار تدل على عمل الخلفاء بهذه السنة ، قال ابن المنذر –رحمه الله-:
فَقَدْ ثَبَتَ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ بَدَأَ بِالصَّلَاةِ قَبْلَ الْخُطْبَةِ فِي يَوْمِ الْعِيدِ، وَكَذَلِكَ فَعَلَ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ الْمَهْدِيُّونَ، وَعَلَيْهِ عَوَّامُ عُلَمَاءِ أَهْلِ الْأَمْصَارِ.
فَمِمَّنْ كَانَ يَبْدَأُ بِالصَّلَاةِ قَبْلَ الْخُطْبَةِ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ، وَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَعُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ، وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَالْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ، وَاْبْنُ مَسْعُودٍ وَهَذا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَإِسْحَاقُ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ ا.هــ
لكن يأتي البحث فيما يلي : هل طرأ عليهم خلاف هذا، سواء في بعض السنين أو في آخر عهدهم.. فأقول:
أما عن عمر –رضي الله عنه- فأخرج ابن أبي شيبة تحت فصل:
مَنْ رَخَّصَ أَنْ يُخْطَبَ قَبْلَ الصَّلاَةِ.
5734- حَدَّثَنَا عَبْدَةُ بْنَ سُلَيْمَانَ ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ ، عَنْ يُوسُفَ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ سَلاَمٍ ، قَالَ : كَانَ النَّاسُ يَبْدَؤُونَ بِالصَّلاَة ، ثُمَّ يُثَنَّوْنَ بِالْخُطْبَةِ ، حَتَّى إِذَا كَانَ عُمَرُ وَكَثُرَ النَّاسُ فِي زَمَانِهِ ، فَكَانَ إِذَا ذَهَبَ لِيَخْطُبُ ذَهَبَ جُفَاةُ النَّاسِ ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ عُمَرُ بَدَأَ بِالْخُطْبَةِ حَتَّى خَتَمَ بِالصَّلاَة.
وبنحوه عند عبد الرزاق قال:
5644 - عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي يُوسُفُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ قَالَ: «أَوَّلُ مَنْ بَدَأَ بِالْخُطْبَةِ قَبْلَ الصَّلَاةِ يَوْمَ الْفِطْرِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، لَمَّا رَأَى النَّاسَ يَنْقُصُونَ فَلَمَّا صَلَّى حَبَسَهُمْ فِي الْخُطْبَةِ».
قلت: لكن قد ذكر عبد الرزاق اختلافا على يحيى بن سعيد فقال:
عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ يُوسُفَ مِثْلَهُ، إِلَّا أَنَّهُ قَالَ: عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ ا.هـ
وابن عيينة رفيع القدر ، وقد أخرج أثر ابن عيينة ابن أبي معشر في كتابه الأوائل[1] عن عبد الله بن محمد الزهري عنه به .
وذكر الذهبي في السير متابعة لابن جريج وعبدة فقال:
خَلَفُ بنُ هِشَامٍ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بنُ زَيْدٍ، عَنْ يَحْيَى بنِ سَعِيْدٍ، قَالَ:
غَدَوْتُ مَعَ يُوْسُفَ بنِ عَبْدِ اللهِ بنِ سَلاَمٍ فِي يَوْمِ عِيدٍ، فَقُلْتُ لَهُ: كَيْفَ كَانَتِ الصَّلاَةُ عَلَى عَهْدِ عُمَرَ؟
قَالَ: كَانَ يَبْدَأُ بِالخُطْبَةِ قَبْلَ الصَّلاَةِ. ا.هــــ
وقد وجدته مسندا عند أبي زرعة الدمشقي في تاريخه فقال:
حدثنا خلف بن هشام المقرئ قال: حدثنا حماد بن زيد عن يحيى بن سعيد قال: غدوت مع يوسف بن عبد الله بن سلام في يوم عيد، فقلت له: كيف كانت الصلاة على عهد عمر ؟ قال: كان يبدأ بالخطبة، قبل الصلاة ا.هـــ
وهو في مختصر تاريخ دمشق لابن منظور.
فتحصل لنا ثلاثة : ابن جريج ، وعبدة بن سليمان، وحماد بن زيد يروونه من فعل عمر –رضي الله عنه-.
وسفيان بن عيينة خالفهم فرواه عن عثمان –رضي الله عنه-.
والعجيب أن الحافظ ابن حجر ذكر في الفتح رواية ابن عيينة موافقة لرواية الثلاثة ونسبها لمصنف عبد الرزاق وابن ابي شيبة فقال:
وقد روي عن عمر مثل فعل عثمان قال عياض ومن تبعه: لا يصح عنه " وفيما قالوه نظر ؛ لأنّ عبد الرزاق وابن أبي شيبة روياه جميعا عن ابن عيينة عن يحيى بن سعيد الأنصاري عن يوسف بن عبد الله بن سلام وهذا إسناد صحيح ا.هــــ
وسبق أن ابن عيينة إنما رواه من فعل عثمان لا عمر –رضي الله عنهما-، ثم إن ابن أبي شيبة لم يخرجه من طريق ابن عيينة بأي من الوجهين والله أعلم.
ومما يؤكد أنّ ابن عيينة إنما رواه من فعل عثمان لا عمر ما سبق في كتاب الأوائل لابن أبي معشر فهو موافق لرواية عبد الرزاق عنه، ثم كذلك ما أسنده ابن عبد البر في "التمهيد" فقال:
حدثناه عبد الوارث حدثنا قاسم حدثنا الخشني حدثنا ابن أبي عمر حدثنا سفيان عن يحيى بن سعيد عن يوسف بن عبد الله بن سلام قال كانت الصلاة يوم العيد قبل الخطبة، فلما كان عثمان بن عفان كثر الناس قدم الخطبة قبل الصلاة أراد بذلك أن لا يفترق الناس وأن يجتمعوا. ا.هـ
وعلى كلٍ فهذا الأثر مداره على يحيى بن سعيد الأنصاري وفيه غرابة شديدة ومخالفة للمشهور من فعل عمر-رضي الله عنه- قال أبو زرعة الدمشقي بعد إخراجه للأثر:
قال أبو زرعة: فعرضته على يحيى بن معين، فلم يعرفه.
قال أبو زرعة: وهو من حسان ما حدث به يحيى بن سعيد. ا.هـــ
ولعل مراده بالـ (حسن) هنا الغرابة وهو اصطلاح قديم ومشهور بين علماء الحديث، وعلى هذ الاستغراب سار الذهبي فقال في السير بعد سوقه للأثر:
غَرِيْبٌ جِدّاً. ا.هــ
وقد سبق في كلام الحافظ ابن حجر نقله تضعيفه عن القاضي عياض، وكلامه في إكمال المعلم.
وقال قبله ابن عبد البر في "التمهيد":
قال أبو عمر وهم ابن جريج في هذا الحديث فرواه عن يحيى بن سعيد قال أخبرني يوسف بن عبد الله بن سلام قال أول من بدأ بالخطبة قبل الصلاة يوم الفطر عمر بن الخطاب وهذا خطأ بين لم تختلف الآثار عن أبي بكر وعمر أنهما صليا في العيدين قبل الخطبة على ما كان يصنع رسول الله صلى الله عليه وسلم ا.هــــ
وهنا جزم ابن عبد البر بتوهيم ابن جريج ، وقد سبق أنّ ابن جريج لم يتفرد بل تابعه اثنان، وعليه فأقصى ما يمكنّا هو استغراب هذه الرواية لمخالفتها الآثار والأخبار المشهورة في صنيع عمر –رضي الله عنه- بتأخير الخطبة بعد صلاة العيد، ولذا ربما تجد من ينسب تقديم الخطبة لعثمان أو معاوية أو ابن الزبير -رضي الله عنهم- لكن لا تجد بين السلف من ينسب ذلك لعمر إلا في هذا الخبر الفرد..فمن رأى رواية ابن عيينة هي المقدمة على روية الثلاثة فالخبر عنده شاذ بالنظر إلى هذا الإسناد، وإن زاد بعد ذلك النظر إلى الآثار المتكاثرة في تأخير عمر-رضي الله عنه- للخطبة فربما عبر بالنكارة.
وبإذن الله نكمل الحديث عما نسب لعثمان ومعاوية وابن الزبير-رضي الله عنهم- في الحلقة الثانية والله أعلم
[1] أما العسكري في "الأوائل" فاعتمد على رواية الصحيح فذكر أنّ أول من بدأ بالخطبة قبل الصلاة هو مروان. رحم الله الجميع !
تعليق