منهج الإمام الذهبي في كتابه ميزان الاعتدال في نقد الرجال
بسم الله الرحمن الرحيم
اسم الكتاب:
اسم الكتاب كما سمَّاه مؤلفه في كتبه الأخرى: "ميزان الاعتدال في نقد الرجال"، وهو الاسم الذي طُبع به الكتاب، واشتهر بين أهل العلم في القديم والحديث بهذا الاسم، ويُطلق عليه اختصارًا اسم "الميزان"، وبناءً على ذلك سمَّى الحافظ ابن حجر كتابه باسم "لسان الميزان".
توثيق نسبة الكتاب للمؤلف:
قد دلَّ على ثبوت نسبة هذا الكتاب للإمام الذهبي أمورٌ كثيرة من أهمها:
الاستفاضة والشهرة، فقد اشتهر هذا الكتاب بنسبته للإمام الذهبي، من لدن تصنيفه له إلى يومنا هذا.
أنَّ المؤلف قد عزا لهذا الكتاب في كتبه الأخرى، كقوله في ترجمة (الحارث الأعور) من "سير أعلام النبلاء" (4/155): وقد استوفيت ترجمة الحارث في "ميزان الاعتدال"، وعزا له أيضًا في (9/35) من الكتاب نفسه، وفي مواضع أخرى أيضًا.
نسبه له العلماء الذين ترجموا له ووصفوه بأنه من أفضل مؤلفاته، وبأنه أجاد فيه؛ كابن العماد في "شذرات الذهب" (6/154)، والحافظ ابن حجر في "الدرر الكامنة" (3/337)
نسبه له أصحاب كتب الفهارس والأثبات؛ كالكتاني في "الرسالة المستطرفة" (ص 146)، وحاجي خليفة في "كشف الظنون" (2/1917), والبغدادي في "هدية العارفين"، وصديق حسن خان في "أبجد العلوم" (3/9 وقال: ثلاث مجلدات.
موضوع الكتاب:
أراد الذهبي - رحمه الله - أن يذكر في هذا الكتاب كل من تُكُلِمَ فيه، ولو كان هذا الجرح غير مؤثر وقادح، أو كان الجرح تعنُّتًا؛ فإنه أحيانًا يذكر المجروح ليذبّ عنه. كما أنه ترجم لبعض الأئمة، فترجم لعلي بن المديني، وذلك ليذبّ عنه ويردّ على العقيلي الذي أورده في "الضعفاء"
فكتابه رحمه الله كتاب فذٌ لأنَّ مؤلفه كان بارعًا في الرجال شهد له بذلك الحافظ ابن حجر كما في آخر كتابه "نزهة النظر"، فوصفه بأنه من أهل الاستقراء التام في الرجال, والذهبي رحمه الله لم يلتزم في الترجمة بزمن معين وإنما يترجم للرواة إلى زمنه.
وقد اشتمل "الميزان" على (11061) كما هو في النسخة المطبوعة.
وقد بيَّن المؤلف أنواع الرواة الذين اشتمل عليهم كتابه هذا فقال في المقدمة: أما بعد - هدانا الله وسددنا، ووفقنا لطاعته - فهذا كتاب جليل مبسوط، في إيضاح نقلة العلم النبوي، وحملة الآثار، ألَّفته بعد كتابي المنعوت بالمغني، وطوَّلتُ العبارة، وفيه أسماء عدة من الرواة زائدًا على من في "المغني"، زدتُ معظمهم من الكتاب "الحافل المذيل على الكامل" لابن عدي... وفيه من تُكلِّم فيه مع ثقته وجلالته بأدنى لين، وبأقل تجريح، فلولا أن ابن عدي أو غيره من مؤلفي كتب الجرح ذكروا ذلك الشخص لما ذكرتُه لثقته، ولم أرَ من الرأي أن أحذف اسمَ أحدٍ ممن له ذكر بتليين ما في كتب الأئمة المذكورين، خوفًا من أن يُتعقَّب عليَّ، لا أني ذكرته لضعفٍ فيه عندي، إلا ما كان في كتاب البخاري وابن عدي وغيرهما من الصحابة، فإني أسقطهم لجلالة الصحابة، ولا أذكرهم في هذا المصنف، فإن الضعف إنما جاء من جهة الرواة إليهم.
وكذا لا أذكر في كتابي من الأئمة المتبوعين في الفروع أحدًا لجلالتهم في الإسلام وعِظمتهم في النفوس، مثل أبي حنيفة، والشافعي، والبخاري، فإن ذكرتُ أحدًا منهم فأذكره على الإنصاف، وما يضره ذلك عند الله ولا عند الناس، إذ إنما يضر الإنسان الكذب، والإصرار على كثرة الخطأ، والتجرِّي على تدليس الباطل، فإنه خيانة وجناية، والمرء المسلم يُطبع على كل شيءٍ إلا الخيانة والكذب.
وقد احتوى كتابي هذا على ذكر الكذابين الوضَّاعين المتعمِّدين قاتلهم الله، وعلى الكاذبين في أنهم سمعوا ولم يكونوا سمعوا، ثم على المتهمين بالوضع أو بالتزوير، ثم على الكذابين في لهجتهم لا في الحديث النبوي، ثم على المتروكين الهلكى الذين كثر خطؤهم وتُرِك حديثهم ولم يُعتمد على روايتهم، ثم على الحفاظ الذين في دينهم رِقَّة، وفي عدالتهم وهن، ثم على المحدثين الضعفاء من قبل حِفظهم، فلهم غلط وأوهام، ولم يترك حديثهم، بل يقبل ما رووه في الشواهد والاعتبار بهم لا في الأصول والحلال والحرام، ثم على المحدثين الصادقين أو الشيوخ المستورين الذين فيهم لين، ولم يبلغوا رتبة الأثبات المتقنين، ثم على خلق كثير من المجهولين ممن ينصُّ أبو حاتم الرازي على أنه مجهول، أو يقول غيره: لا يُعرف أو فيه جهالة أو يجهل، أو نحو ذلك من العبارات التي تدل على عدم شهرة الشيخ بالصدق، إذ المجهول غير محتجٍّ به، ثم على الثقات الأثبات الذين فيهم بدعة، أو الثقات الذين تكلَّم فيهم من لا يُلتفت إلى كلامه في ذلك الثقة، لكونه تعنَّت فيه، وخالف الجمهور من أولي النقد والتحرير، فإنا لا ندعي العصمة من السهو والخطأ في الاجتهاد في غير الأنبياء... ولم أتعرَّض لذكر من قيل فيه: محله الصدق، ولا من قيل فيه: لا بأس به، ولا من قيل: هو صالح الحديث، أو يُكتب حديثه، أو هو شيخ، فإن هذا وشبهه يدلُّ على عدم الضعف المطلق...
نعم، وكذلك من قد تُكلِّم فيه من المتأخرين لا أورد منهم إلا من قد تبيَّن ضعفه، واتضح أمره من الرواة، إذ العمدة في زماننا ليس على الرواة، بل على المحدثين والمقيدين والذين عرفت عدالتهم وصدقهم في ضبط أسماء السامعين. ا هـ
وبيَّن المؤلف في المقدمة أنه لا بدَّ من صَون الراوي وستره، وبيَّن الحد الفاصل بين المتقدم والمتأخر وأنه رأس سنة ثلثمائة.
مراتب الجرح والتعديل عند الذهبي في "الميزان":
بيَّن المصنف مراتب الجرح والتعديل عنده في هذا الكتاب فقال في المقدمة: فأعلى العبارات في الرواة المقبولين: ثبت حجة، وثبت حافظ، وثقة متقن، وثقة ثقة، ثم ثقة صدوق، ولا بأس به، وليس به بأس، ثم محله الصدق، وجيد الحديث، وصالح الحديث، وشيخ وسط، وشيخ حسن الحديث، وصدوق إن شاء الله، وصُويلح، ونحو ذلك.
وأردى عبارات الجرح: دجَّال كذَّاب، أو وضَّاع يضع الحديث.
ثم متهم بالكذب، ومتفق على تركه، ثم متروك ليس بثقة، وسكتوا عنه، وذاهب الحديث، وفيه نظر، وهالك، وساقط، ثم واهٍ بمرة، وليس بشيء، وضعيف جدًا، وضعفوه، ضعيف، وواه، ومنكر الحديث، ونحو ذلك، ثم يُضعَّف، وفيه ضعف، وقد ضُعِّف، ليس بالقوي، ليس بحجة.. ليس بذاك. يعرف وينكر، فيه مقال، تُكلِّم فيه، لين، سيئ الحفظ، لا يُحتجُّ به، اختلف فيه، صدوق لكنه مبتدع، ونحو ذلك من العبارات التي تدل بوضعها على اطراح الراوي بالأصالة، أو على ضعفه، أو على التوقُّف فيه، أو على جواز أن يُحتجَّ به مع لين ما فيه.
الرموز والاصطلاحات التي استخدمها المؤلف في هذا الكتاب:
رمز المؤلف على اسم الرجل برمز من أخرج له في كتابه من الأئمة الستة، فقال في المقدمة: ورمزت على اسم الرجل من أخرج له في كتابه من الأئمة الستة: البخاري، ومسلم، وأبي داود، والنسائي، والترمذي، وابن ماجه برموزهم السائرة، فإن اجتمعوا على إخراج رجل فالرمز (ع) وإن اتفق عليه أرباب السنن الأربعة فالرمز (عو).
ومثال ذلك: (بِشر بن آدم) [ د، ت، ق]. "الميزان" (1/313) يعني أن الراوي أخرج حديثه: أبو داود والترمذي وابن ماجه.
ورمز أيضًا بـ [ صح ] أول اسم الراوي إشارة إلى أن العمل على توثيقه، ومثال ذلك: في ترجمة (بشر ابن الوليد الكندي الفقيه) وضع في أول الترجمة كلمة [ صح ]. "ميزان الاعتدال" (1/326 رقم 1229)
منهج المؤلف:
يمكن الكلام عن منهج المؤلف بما يلي:
قدَّم المؤلف لكتابه بمقدمة بيَّن فيها موضوع كتابه وأنواع الرواة الذين اشتمل عليهم الكتاب، وأشار فيها إلى شيءٍ من منهجه في الكتاب، وذكر المصنفات في الرواة الضعفاء.
رتَّب المؤلف الرواة في هذا الكتاب على حروف المعجم في أسمائهم وأسماء آبائهم، فقال في المقدمة: والساعة فقد استخرتُ الله عز وجل في عمل هذا المصنف، ورتبته على حروف المعجم حتى في الآباء، ليقرب تناوله.
يذكر المؤلف اسم الراوي واسم أبيه وجده وكنيته ونسبه، ولا يُطيل في ذلك، ويذكر بعض شيوخه وتلاميذه على سبيل الاختصار، ويذكر ما قيل فيه من جرحٍ أو تعديل، من غير أن يسوق أي شيءٍ من ذلك بالإسناد، ثم يسوق من حديث هذا الراوي ما يُدلِّل به على ضعف حديثه، ومثال ذلك: قوله: (عبدالرحمن بن رافع التنوخي) عن عبدالله بن عمرو. حديثه منكر، وكان على قضاء إفريقية، ولكن لعلَّ تلك النكارة جاءت من قبل صاحبه عبدالرحمن بن زياد بن أنعم الإفريقي، وقال البخاري: في حديثه مناكير، وقال ابن المبارك: حدثنا ابن أنعم، عن عبدالرحمن بن رافع، عن عبدالله بن عمرو: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: $إذا رفع أحدكم رأسه من آخر السجود ثم أحدث فقد تمت صلاته#. رواه أبو داود والترمذي. وهذا من مناكيره.
ربما ساق المؤلف ما وقع له من حديث الراوي بإسناده هو، ومثال ذلك: في ترجمة (بشر بن الوليد الكندي الفقيه) قال المؤلف: أخبرنا أحمد بن إسحاق، أخبرنا الفتح بن عبدالله الكاتب، أخبرنا هبة الله ابن الحسين الكاتب، أخبرنا أحمد بن محمد بن النقور، حدثنا عيسى ابن على إملاء، أخبرنا أبو القاسم عبدالله بن محمد، حدثنا بشر بن الوليد الكندي، حدثنا إبراهيم بن سعد، عن الزهري، عن أنس أنه أبصر على النبي صلى الله عليه وسلم خاتم ورق يومًا واحدًا، فصنع الناس خواتيمهم من ورقٍ فلبسوها، فطرح النبي صلى الله عليه وسلم خاتمه، فطرح الناس خواتيمهم، ورأى في يد رجلٍ خاتمًا فضرب أصبعه حتى رمى به. "ميزان الاعتدال" (1/326 رقم 1229)
كثيرًا ما يحكم المؤلف على الأسانيد التي يسوقها صحةً وضعفًا، كما في المثال السابق حيث قال المؤلف بعد أن ساق حديث أنس الآنف الذكر: هذا حديث صالح الإسناد غريب، وكما في ترجمة (بشير بن زاذان) قال: له عن رِشدين بن سعد، عن الحسن بن ثوبان، عن نافع، عن ابن عمر مرفوعًا: $لأن يُوسِّع أحدكم لأخيه المسلم خيرٌ له من أن يعتق رقبة#. رواه عنه قاسم بن عبدالله السراج، وهذا سند مظلم. "ميزان الاعتدال" (1/328 رقم 1235)
غالبًا ما يذكر المؤلف سنة وفاة الراوي.
كل من يقول فيه المؤلف: (مجهول)، ولا يسند هذه الكلمة إلى قائل، فهي من قول أبي حاتم، وإن قال: فيه جهالة، أو نكرة، أو يجهل، أو لا يعرف، وأمثال ذلك، ولم يعزُ ذلك إلى قائل، فهو من قول الذهبي نفسه، وكذا إن قال: ثقة، وصدوق، وصالح ، ولين ، ونحو ذلك ، ولم يضفه إلى أحد.
نهج المؤلف في هذا الكتاب منهج الدفاع والذب عن الرواة الذين ضُعِفُوا بغير حقٍّ كالرواة الذين ضُعِّفوا بأسبابٍ جارحةٍ في ظاهرها، وغير جارحة في حقيقة الأمر، كمن ضُعِّف بأنه يشرب الخمر، فيأتي الذهبي ويقول:لم يكن يشرب الخمر، بل كان يشرب النبيذ، وهو من أهل الكوفة، حيث كان يشربه بناءً على مذهب أهل الكوفة في جواز شرب النبيذ، فالراوي ثقةٌ وعدلٌ وليس فيه شيء. وكذلك قام بالدفاع والذب عن الرواة الثقات الذين ضُعِّفوا أو ذُكروا في كتب الضعفاء بغير بيِّنةٍ صحيحة، كما حصل في ترجمة (علي بن المديني)، فقد قال الذهبي: ذكره العقيلي في كتاب "الضعفاء" فبئس ما صنع، فقال: جنح إلى ابن أبي دواد والجهمية. وحديثه مستقيم إن شاء الله.. بل بلغ بالمؤلف أن شدَّد النكير على العقيلي بسبب ذلك فقال: أفما لكَ عقلٌ يا عُقيلي، أتدري فيمن تتكلَّم، وإنما تبعناك في ذكر هذا النمط لنذبَّ عنهم ولنزيفَ ما قيل فيهم، كأنك لا تدري أن كل واحدٍ من هؤلاء أوثق منك بطبقات، بل وأوثق من ثقات كثيرين لم توردهم في كتابك، فهذا مما لا يرتاب فيه محدث، وأنا أشتهي أن تعرِّفني من هو الثقة الثبت الذي ما غلط ولا انفرد بما لا يتابع عليه ؟ !! "ميزان الاعتدال" (3/13، وقال الذهبي أيضًا في ترجمة (سويد بن عمرو الكلبي): وثقه ابن معين، وغيره. وأما ابن حبان فأسرف واجترأ فقال: كان يقلب الأسانيد، ويضع على الأسانيد الصحاح المتون الواهية. "ميزان الاعتدال" (2/253)
جعل المؤلف كتابه مشتملاً على تراجم الرجال ممن يُعرفون بأسمائهم، ثم من يُعرفون بكناهم، ثم من يُعرف بابن فلان، ثم من يُعرفون بأنسابهم، ثم مجاهيل الاسم، وأفرد فصلاً في آخر الكتاب لتراجم النساء، ثم المجهولات، ثم من يُعرفن بكناهن، ثم من لم تُسمَّ ويبدأها بكلمة "والدة".
أهمية الكتاب وفوائده:
بلغ هذا الكتاب مبلغًا عظيمًا واحتلَّ منزلةً رفيعةً عند المشتغلين بهذا الفن، فاعتنوا به واشتغلوا به كما سيأتي في المبحث التالي، ومن المزايا التي تحلى بها هذا الكتاب:
مكانة مؤلفه العلمية، فمؤلفه الحافظ المعروف والإمام المشهور الذي لا يكاد يخفى اسمه على أحدٍ، حتى أنه صار من أراد أن يمدحَ أحد العلماء وصفه بأنه ذهبيُّ عصره، كما وُصِفَ بذلك الشيخ المعلمي رحمه الله.
أنَّ هذا الكتاب يُعدُّ من الكتب الجامعة في هذا الموضوع، فمن أراد البحث عن ترجمة راوٍ من الضعفاء، واقتصر في ذلك على "الميزان" أو "الميزان" و"اللسان" فلا يكاد يفوته شيءٌ، والله أعلم.
سهولة الوصول إلى الترجمة بسبب حسن ترتيب الكتاب، فالترتيب على حروف المعجم يُيسِّر للباحثين الوقوف على ترجمة أي راوٍ بسهولة ويُسر.
للمؤلف في هذا الكتاب إضافات وتحريرات قلَّ أن توجد في كتب الجرح والتعديل، ومن ذلك تعقُّبه لبعض المصنفين في إيرادهم بعض الرواة الثقاة في كتب الضعفاء، كما سبق مثاله في إيراد العقيلي لابن المديني في كتابه "الضعفاء" وتعقُّب الذهبي له.
إعجاب العلماء بهذا الكتاب وثناؤهم عليه، ومن أوَّل من أثنى عليه المؤلف نفسه، فقال في المقدمة: أما بعد - هدانا الله وسددنا، ووفقنا لطاعته - فهذا كتاب جليل مبسوط، في إيضاح نقلة العلم النبوي، وحملة الآثار. وقال الحافظ ابن حجر: أجاد فيه. "الدرر الكامنة" (3/337)، وقال أيضًا: ومن أجمع ما وقفتُ عليه في ذلك كتاب "الميزان" الذي ألَّفه الحافظ أبو عبدالله الذهبي. "لسان الميزان" (1/191)، وقال برهان الدين الحلبي في مقدمة كتابه: وبعد فلما وقفتُ على كتاب "ميزان الاعتدال في نقد الرجال" للإمام ابن الذهبي، فوجدته أجمع كتاب وقفت عليه في الضعفاء، مع الاختصار الحسن.
بعض المآخذ على الكتاب:
أخذ على المؤلف في هذا الكتاب بعض المآخذ - التي لا يسلم منها كتاب حاشا كتاب الله تعالى -، وهي لا تحطُّ من قدر الكتاب ولا من قدر مؤلفه، ومنها:
وقع للمؤلف بعض الأوهام والتصحيفات فتعقَّبه من جاء بعده، ومن ذلك قوله في ترجمة (أسود ابن خلف الحراني)، فتعقَّبه ابن حجر: وهذا تصحيفٌ من الذهبي في قوله: الحراني، وإنما هو الخزاعي، وقد ذكره ابن حبان في طبقة الصحابة.. "لسان الميزان" (2/189)
يقع للمؤلف أنه ينقل كلام بعض أهل العلم من غير عزو ولا بيان، كما أنه لا ينقل بتمامه مما يسبب اللبس، ومن ذلك في ترجمة (عبدالرحمن بن حريز الليثي) قال الذهبي: لا يُعرف وعنه محمد بن بشر الزاهد مثله. "ميزان الاعتدال" (2/556) فتعقَّبه الحافظ ابن حجر بقوله: وهذا أخذه الذهبي من "ضعفاء العقيلي"، ولم يعزه له، كعدة تراجم غيره يأخذها من كلامه ويتصرَّف فيها، ولا يفي غالبًا بما يفيده العقيلي، قال العقيلي: عبدالرحمن بن حريز بن عبيد ابن حبيب بن يسار الليثي، ويقال: الفزاري، مجهول بالنقل لا يُتابع على حديثه. "لسان الميزان" (5/94)
أهمل المؤلف بعض الرواة فلم يذكرهم في هذا الكتاب، مع أنه ذكرهم في كتبه الأخرى أو ذكرهم غيره، قال برهان الدين الحلبي في مقدمة كتابه: .. لكن قد أهمل الذهبي في "الميزان" جماعة ضعفاء ومجهولين قد ذكرهم نفسه في تراجم آخرين، ولم يذكرهم في أماكنهم من هذا المؤلَّف، فذكرتهم في أماكنهم مرتبين على ترتيب المؤلف...ورأيته قد أهمل آخرين ضعفاء أو مجهولين... فألحقتُ من وقفتُ عليه من هذا القبيل...
وقال البرهان أيضًا: ورأيتُ المؤلف قد اقتصر على تضعيف أشخاص أو تجهيلهم، وقد ذكرهم بعض الحفاظ بتوثيق، أو هو في مكان آخر، وهذا على نوعين: نوع وقف المؤلف على كلام الموثق له، ولم يذكره...، ونوع لا أعلم: هل وقف المؤلف على الكلام فيه أم لا، فذكرت هذين النوعين، وغالبهم في " ثقات " ابن حبان. ورأيت المؤلف قد ذكر جماعة كل ترجمه في مكانين.. وأيضًا قد ذكر في بعض الأشخاص فيقول: تقدم، ولم يكن تقدم..، وكذا يقول في ترجمة: تأتي، ولا يذكرها.. فأُنبِّه على ما وقع من ذلك. وقد رأيت المؤلف قد ذكر غير واحد من الثقات، ولم يذكر فيه جرحًا بالكلية ولا ذكره تمييزًا، وما أدري لم صنع ذلك ؟ !.
عناية العلماء والباحثين بالكتاب:
لقد اعتنى العلماء والباحثون بهذا الكتاب وتناوله عدد كبير من الحفاظ والعلماء والمعنيين بالنقد استدراكًا وتعقيبًا وتلخيصًا؛ حتى قال الحافظ شمس الدين السخاوي: وعوَّل عليه من جاء بعده. "الإعلان بالتوبيخ" (ص 587)
ومن الكتب والمؤلفات التي اعتنت بهذا الكتاب ما يلي:
للحافظ قاسم بن قطلوبغا المتوفى سنة (879 هـ) كتاب "تقويم اللسان في الضعفاء" في مجلدين, و"فضول اللسان", ذكرهما السخاوي في "الضوء اللامع" (6/187)
وللحسيني كتاب "التعليق على ميزان الاعتدال" استدرك فيه على الذهبي عدة أسماء، وتعقبه في بعض الأوهام، قال الحافظ ابن حجر: بيَّن فيه كثيرًا من الأوهام، واستدرك عليه عدة أسماء، وقفتُ على قدرٍ يسيرٍ منه، قد احترقت أطرافه لما دخلتُ دمشق سنة ست وثلاثين. "الدرر الكامنة" (4/62).
ذيَّل عليه الحافظ العراقي، وذيله مطبوع بتحقيق: د.عبد القيوم عبد رب النبي، جامعة أم القرى بمكة المكرمة - مركز البحوث، الطبعة الأولى (1406هـ)، وطبع أيضًا بتحقيق: السيد صبحي السامرائي، ونشر في عالم الكتب سنة (1407هـ)، وطبع أيضًا بتحقيق: علي محمد معوض وعادل أحمد عبدالموجود، ونشرته دار الكتب العلمية – بيروت، الطبعة: الأولى 1416 هـ
وقام برهان الدين الحلبي (سبط ابن العجمي) بعمل ذيل واستدراك على "ميزان الاعتدال" سمَّاه: "نثل الهميان في معيار الميزان"
وجرَّد تاج الدين أبو الحسن علي بن عبدالله الأردبيلي التبريزي الأحاديث التي في "الميزان" ورتَّبها على الأبواب, ذكره الحافظ ابن حجر في "الدرر الكامنة" (4/86)
ثم جاء الحافظ ابن حجر وجمع بين "ميزان الاعتدال" للذهبي و"ذيله" للعراقي، واستخرج منهما التراجم التي لم تذكر في تهذيب الكمال في كتابٍ حافلٍ عظيم الفائدة سماه "لسان الميزان"، وكتابه مطبوع أكثر من طبعة.
وللشيخ زين الدين عبدالرؤوف المناوي المتوفى سنة (1031هـ) كتاب "الأحاديث المنتقاة من الميزان واللسان", جمعها وبيَّن الموضوع والضعيف والمتروك, ذكره في "خلاصة الأثر" (2/414)
وقد صنع عبدالعزيز بن الصديق الغماري مثل صنيع المناوي في كتابٍ سمَّاه "الجامع المصنف لما في الميزان من حديث الراوي المضعَّف" وقد طبع منه جزء واحد.
وقد بدأ الشيخ الألباني بكتاب "الجمعُ بين "ميزان الاعتدال"، و"لسان الميزان" لكنه لم يكمله.
كتاب "بلوغ الآمال في ترتيب أحاديث ميزان الاعتدال" لأبي عبدالرحمن محمود الجزائري، نشره المكتب الإسلامي، الطبعة الأولى (1412هـ).
ألَّف محمد إبراهيم شحاذة الموصلي كتاب "الرواة الذين وثقهم الذهبي في ميزان الاعتدال وقد تكلم فيهم بعض النقاد من حيث البدعة"، وطبع الكتاب في دار القبلة- جدة.
رسالة ماجستير بعنوان "منهج الذهبي في كتابه "ميزان الاعتدال" في نقد الرجال" تقديم: قاسم علي سعد - جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية - أصول الدين - السنة وعلومها سنة (1405ه).
وللباحث نفسه (قاسم علي سعد) كتاب "موارد الحافظ الذهبي في ميزان الإعتدال", طبع في دار البشائر- بيروت.
وقام علي بن محمد العمران بجمع تعقُّبات الحافظ ابن حجر على الإمام الذهبي في "ميزان الاعتدال"، وذلك من كتابه "تهذيب التهذيب" لا من "لسان الميزان"، وطبع كتابه في دار عالم الفوائد سنة 1418هـ.
طبعات الكتاب:
طبع الكتاب في الهند سنة (1301هـ)- (1884م)
ثم طبع بتحقيق: علي محمد البجاوي، طبع بمطبعة عيسى البابي الحلبي سنة (1382هـ)، وصوَّرته دار المعرفة- بيروت، ودار الفكر، ودار إحياء التراث، وغيرها.
ثم طبع في دار الكتب العلمية سنة (1416هـ)، بتحقيق: علي معوض وعادل أحمد عبد الموجود.
وطبع مؤخرًا بتحقيق: مكتب التحقيق في مؤسسة الرسالة، بإشراف: الشيخ شعيب الأرنؤوط.
نقله أبو أسامة سمير الجزائري
بسم الله الرحمن الرحيم
اسم الكتاب:
اسم الكتاب كما سمَّاه مؤلفه في كتبه الأخرى: "ميزان الاعتدال في نقد الرجال"، وهو الاسم الذي طُبع به الكتاب، واشتهر بين أهل العلم في القديم والحديث بهذا الاسم، ويُطلق عليه اختصارًا اسم "الميزان"، وبناءً على ذلك سمَّى الحافظ ابن حجر كتابه باسم "لسان الميزان".
توثيق نسبة الكتاب للمؤلف:
قد دلَّ على ثبوت نسبة هذا الكتاب للإمام الذهبي أمورٌ كثيرة من أهمها:
الاستفاضة والشهرة، فقد اشتهر هذا الكتاب بنسبته للإمام الذهبي، من لدن تصنيفه له إلى يومنا هذا.
أنَّ المؤلف قد عزا لهذا الكتاب في كتبه الأخرى، كقوله في ترجمة (الحارث الأعور) من "سير أعلام النبلاء" (4/155): وقد استوفيت ترجمة الحارث في "ميزان الاعتدال"، وعزا له أيضًا في (9/35) من الكتاب نفسه، وفي مواضع أخرى أيضًا.
نسبه له العلماء الذين ترجموا له ووصفوه بأنه من أفضل مؤلفاته، وبأنه أجاد فيه؛ كابن العماد في "شذرات الذهب" (6/154)، والحافظ ابن حجر في "الدرر الكامنة" (3/337)
نسبه له أصحاب كتب الفهارس والأثبات؛ كالكتاني في "الرسالة المستطرفة" (ص 146)، وحاجي خليفة في "كشف الظنون" (2/1917), والبغدادي في "هدية العارفين"، وصديق حسن خان في "أبجد العلوم" (3/9 وقال: ثلاث مجلدات.
موضوع الكتاب:
أراد الذهبي - رحمه الله - أن يذكر في هذا الكتاب كل من تُكُلِمَ فيه، ولو كان هذا الجرح غير مؤثر وقادح، أو كان الجرح تعنُّتًا؛ فإنه أحيانًا يذكر المجروح ليذبّ عنه. كما أنه ترجم لبعض الأئمة، فترجم لعلي بن المديني، وذلك ليذبّ عنه ويردّ على العقيلي الذي أورده في "الضعفاء"
فكتابه رحمه الله كتاب فذٌ لأنَّ مؤلفه كان بارعًا في الرجال شهد له بذلك الحافظ ابن حجر كما في آخر كتابه "نزهة النظر"، فوصفه بأنه من أهل الاستقراء التام في الرجال, والذهبي رحمه الله لم يلتزم في الترجمة بزمن معين وإنما يترجم للرواة إلى زمنه.
وقد اشتمل "الميزان" على (11061) كما هو في النسخة المطبوعة.
وقد بيَّن المؤلف أنواع الرواة الذين اشتمل عليهم كتابه هذا فقال في المقدمة: أما بعد - هدانا الله وسددنا، ووفقنا لطاعته - فهذا كتاب جليل مبسوط، في إيضاح نقلة العلم النبوي، وحملة الآثار، ألَّفته بعد كتابي المنعوت بالمغني، وطوَّلتُ العبارة، وفيه أسماء عدة من الرواة زائدًا على من في "المغني"، زدتُ معظمهم من الكتاب "الحافل المذيل على الكامل" لابن عدي... وفيه من تُكلِّم فيه مع ثقته وجلالته بأدنى لين، وبأقل تجريح، فلولا أن ابن عدي أو غيره من مؤلفي كتب الجرح ذكروا ذلك الشخص لما ذكرتُه لثقته، ولم أرَ من الرأي أن أحذف اسمَ أحدٍ ممن له ذكر بتليين ما في كتب الأئمة المذكورين، خوفًا من أن يُتعقَّب عليَّ، لا أني ذكرته لضعفٍ فيه عندي، إلا ما كان في كتاب البخاري وابن عدي وغيرهما من الصحابة، فإني أسقطهم لجلالة الصحابة، ولا أذكرهم في هذا المصنف، فإن الضعف إنما جاء من جهة الرواة إليهم.
وكذا لا أذكر في كتابي من الأئمة المتبوعين في الفروع أحدًا لجلالتهم في الإسلام وعِظمتهم في النفوس، مثل أبي حنيفة، والشافعي، والبخاري، فإن ذكرتُ أحدًا منهم فأذكره على الإنصاف، وما يضره ذلك عند الله ولا عند الناس، إذ إنما يضر الإنسان الكذب، والإصرار على كثرة الخطأ، والتجرِّي على تدليس الباطل، فإنه خيانة وجناية، والمرء المسلم يُطبع على كل شيءٍ إلا الخيانة والكذب.
وقد احتوى كتابي هذا على ذكر الكذابين الوضَّاعين المتعمِّدين قاتلهم الله، وعلى الكاذبين في أنهم سمعوا ولم يكونوا سمعوا، ثم على المتهمين بالوضع أو بالتزوير، ثم على الكذابين في لهجتهم لا في الحديث النبوي، ثم على المتروكين الهلكى الذين كثر خطؤهم وتُرِك حديثهم ولم يُعتمد على روايتهم، ثم على الحفاظ الذين في دينهم رِقَّة، وفي عدالتهم وهن، ثم على المحدثين الضعفاء من قبل حِفظهم، فلهم غلط وأوهام، ولم يترك حديثهم، بل يقبل ما رووه في الشواهد والاعتبار بهم لا في الأصول والحلال والحرام، ثم على المحدثين الصادقين أو الشيوخ المستورين الذين فيهم لين، ولم يبلغوا رتبة الأثبات المتقنين، ثم على خلق كثير من المجهولين ممن ينصُّ أبو حاتم الرازي على أنه مجهول، أو يقول غيره: لا يُعرف أو فيه جهالة أو يجهل، أو نحو ذلك من العبارات التي تدل على عدم شهرة الشيخ بالصدق، إذ المجهول غير محتجٍّ به، ثم على الثقات الأثبات الذين فيهم بدعة، أو الثقات الذين تكلَّم فيهم من لا يُلتفت إلى كلامه في ذلك الثقة، لكونه تعنَّت فيه، وخالف الجمهور من أولي النقد والتحرير، فإنا لا ندعي العصمة من السهو والخطأ في الاجتهاد في غير الأنبياء... ولم أتعرَّض لذكر من قيل فيه: محله الصدق، ولا من قيل فيه: لا بأس به، ولا من قيل: هو صالح الحديث، أو يُكتب حديثه، أو هو شيخ، فإن هذا وشبهه يدلُّ على عدم الضعف المطلق...
نعم، وكذلك من قد تُكلِّم فيه من المتأخرين لا أورد منهم إلا من قد تبيَّن ضعفه، واتضح أمره من الرواة، إذ العمدة في زماننا ليس على الرواة، بل على المحدثين والمقيدين والذين عرفت عدالتهم وصدقهم في ضبط أسماء السامعين. ا هـ
وبيَّن المؤلف في المقدمة أنه لا بدَّ من صَون الراوي وستره، وبيَّن الحد الفاصل بين المتقدم والمتأخر وأنه رأس سنة ثلثمائة.
مراتب الجرح والتعديل عند الذهبي في "الميزان":
بيَّن المصنف مراتب الجرح والتعديل عنده في هذا الكتاب فقال في المقدمة: فأعلى العبارات في الرواة المقبولين: ثبت حجة، وثبت حافظ، وثقة متقن، وثقة ثقة، ثم ثقة صدوق، ولا بأس به، وليس به بأس، ثم محله الصدق، وجيد الحديث، وصالح الحديث، وشيخ وسط، وشيخ حسن الحديث، وصدوق إن شاء الله، وصُويلح، ونحو ذلك.
وأردى عبارات الجرح: دجَّال كذَّاب، أو وضَّاع يضع الحديث.
ثم متهم بالكذب، ومتفق على تركه، ثم متروك ليس بثقة، وسكتوا عنه، وذاهب الحديث، وفيه نظر، وهالك، وساقط، ثم واهٍ بمرة، وليس بشيء، وضعيف جدًا، وضعفوه، ضعيف، وواه، ومنكر الحديث، ونحو ذلك، ثم يُضعَّف، وفيه ضعف، وقد ضُعِّف، ليس بالقوي، ليس بحجة.. ليس بذاك. يعرف وينكر، فيه مقال، تُكلِّم فيه، لين، سيئ الحفظ، لا يُحتجُّ به، اختلف فيه، صدوق لكنه مبتدع، ونحو ذلك من العبارات التي تدل بوضعها على اطراح الراوي بالأصالة، أو على ضعفه، أو على التوقُّف فيه، أو على جواز أن يُحتجَّ به مع لين ما فيه.
الرموز والاصطلاحات التي استخدمها المؤلف في هذا الكتاب:
رمز المؤلف على اسم الرجل برمز من أخرج له في كتابه من الأئمة الستة، فقال في المقدمة: ورمزت على اسم الرجل من أخرج له في كتابه من الأئمة الستة: البخاري، ومسلم، وأبي داود، والنسائي، والترمذي، وابن ماجه برموزهم السائرة، فإن اجتمعوا على إخراج رجل فالرمز (ع) وإن اتفق عليه أرباب السنن الأربعة فالرمز (عو).
ومثال ذلك: (بِشر بن آدم) [ د، ت، ق]. "الميزان" (1/313) يعني أن الراوي أخرج حديثه: أبو داود والترمذي وابن ماجه.
ورمز أيضًا بـ [ صح ] أول اسم الراوي إشارة إلى أن العمل على توثيقه، ومثال ذلك: في ترجمة (بشر ابن الوليد الكندي الفقيه) وضع في أول الترجمة كلمة [ صح ]. "ميزان الاعتدال" (1/326 رقم 1229)
منهج المؤلف:
يمكن الكلام عن منهج المؤلف بما يلي:
قدَّم المؤلف لكتابه بمقدمة بيَّن فيها موضوع كتابه وأنواع الرواة الذين اشتمل عليهم الكتاب، وأشار فيها إلى شيءٍ من منهجه في الكتاب، وذكر المصنفات في الرواة الضعفاء.
رتَّب المؤلف الرواة في هذا الكتاب على حروف المعجم في أسمائهم وأسماء آبائهم، فقال في المقدمة: والساعة فقد استخرتُ الله عز وجل في عمل هذا المصنف، ورتبته على حروف المعجم حتى في الآباء، ليقرب تناوله.
يذكر المؤلف اسم الراوي واسم أبيه وجده وكنيته ونسبه، ولا يُطيل في ذلك، ويذكر بعض شيوخه وتلاميذه على سبيل الاختصار، ويذكر ما قيل فيه من جرحٍ أو تعديل، من غير أن يسوق أي شيءٍ من ذلك بالإسناد، ثم يسوق من حديث هذا الراوي ما يُدلِّل به على ضعف حديثه، ومثال ذلك: قوله: (عبدالرحمن بن رافع التنوخي) عن عبدالله بن عمرو. حديثه منكر، وكان على قضاء إفريقية، ولكن لعلَّ تلك النكارة جاءت من قبل صاحبه عبدالرحمن بن زياد بن أنعم الإفريقي، وقال البخاري: في حديثه مناكير، وقال ابن المبارك: حدثنا ابن أنعم، عن عبدالرحمن بن رافع، عن عبدالله بن عمرو: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: $إذا رفع أحدكم رأسه من آخر السجود ثم أحدث فقد تمت صلاته#. رواه أبو داود والترمذي. وهذا من مناكيره.
ربما ساق المؤلف ما وقع له من حديث الراوي بإسناده هو، ومثال ذلك: في ترجمة (بشر بن الوليد الكندي الفقيه) قال المؤلف: أخبرنا أحمد بن إسحاق، أخبرنا الفتح بن عبدالله الكاتب، أخبرنا هبة الله ابن الحسين الكاتب، أخبرنا أحمد بن محمد بن النقور، حدثنا عيسى ابن على إملاء، أخبرنا أبو القاسم عبدالله بن محمد، حدثنا بشر بن الوليد الكندي، حدثنا إبراهيم بن سعد، عن الزهري، عن أنس أنه أبصر على النبي صلى الله عليه وسلم خاتم ورق يومًا واحدًا، فصنع الناس خواتيمهم من ورقٍ فلبسوها، فطرح النبي صلى الله عليه وسلم خاتمه، فطرح الناس خواتيمهم، ورأى في يد رجلٍ خاتمًا فضرب أصبعه حتى رمى به. "ميزان الاعتدال" (1/326 رقم 1229)
كثيرًا ما يحكم المؤلف على الأسانيد التي يسوقها صحةً وضعفًا، كما في المثال السابق حيث قال المؤلف بعد أن ساق حديث أنس الآنف الذكر: هذا حديث صالح الإسناد غريب، وكما في ترجمة (بشير بن زاذان) قال: له عن رِشدين بن سعد، عن الحسن بن ثوبان، عن نافع، عن ابن عمر مرفوعًا: $لأن يُوسِّع أحدكم لأخيه المسلم خيرٌ له من أن يعتق رقبة#. رواه عنه قاسم بن عبدالله السراج، وهذا سند مظلم. "ميزان الاعتدال" (1/328 رقم 1235)
غالبًا ما يذكر المؤلف سنة وفاة الراوي.
كل من يقول فيه المؤلف: (مجهول)، ولا يسند هذه الكلمة إلى قائل، فهي من قول أبي حاتم، وإن قال: فيه جهالة، أو نكرة، أو يجهل، أو لا يعرف، وأمثال ذلك، ولم يعزُ ذلك إلى قائل، فهو من قول الذهبي نفسه، وكذا إن قال: ثقة، وصدوق، وصالح ، ولين ، ونحو ذلك ، ولم يضفه إلى أحد.
نهج المؤلف في هذا الكتاب منهج الدفاع والذب عن الرواة الذين ضُعِفُوا بغير حقٍّ كالرواة الذين ضُعِّفوا بأسبابٍ جارحةٍ في ظاهرها، وغير جارحة في حقيقة الأمر، كمن ضُعِّف بأنه يشرب الخمر، فيأتي الذهبي ويقول:لم يكن يشرب الخمر، بل كان يشرب النبيذ، وهو من أهل الكوفة، حيث كان يشربه بناءً على مذهب أهل الكوفة في جواز شرب النبيذ، فالراوي ثقةٌ وعدلٌ وليس فيه شيء. وكذلك قام بالدفاع والذب عن الرواة الثقات الذين ضُعِّفوا أو ذُكروا في كتب الضعفاء بغير بيِّنةٍ صحيحة، كما حصل في ترجمة (علي بن المديني)، فقد قال الذهبي: ذكره العقيلي في كتاب "الضعفاء" فبئس ما صنع، فقال: جنح إلى ابن أبي دواد والجهمية. وحديثه مستقيم إن شاء الله.. بل بلغ بالمؤلف أن شدَّد النكير على العقيلي بسبب ذلك فقال: أفما لكَ عقلٌ يا عُقيلي، أتدري فيمن تتكلَّم، وإنما تبعناك في ذكر هذا النمط لنذبَّ عنهم ولنزيفَ ما قيل فيهم، كأنك لا تدري أن كل واحدٍ من هؤلاء أوثق منك بطبقات، بل وأوثق من ثقات كثيرين لم توردهم في كتابك، فهذا مما لا يرتاب فيه محدث، وأنا أشتهي أن تعرِّفني من هو الثقة الثبت الذي ما غلط ولا انفرد بما لا يتابع عليه ؟ !! "ميزان الاعتدال" (3/13، وقال الذهبي أيضًا في ترجمة (سويد بن عمرو الكلبي): وثقه ابن معين، وغيره. وأما ابن حبان فأسرف واجترأ فقال: كان يقلب الأسانيد، ويضع على الأسانيد الصحاح المتون الواهية. "ميزان الاعتدال" (2/253)
جعل المؤلف كتابه مشتملاً على تراجم الرجال ممن يُعرفون بأسمائهم، ثم من يُعرفون بكناهم، ثم من يُعرف بابن فلان، ثم من يُعرفون بأنسابهم، ثم مجاهيل الاسم، وأفرد فصلاً في آخر الكتاب لتراجم النساء، ثم المجهولات، ثم من يُعرفن بكناهن، ثم من لم تُسمَّ ويبدأها بكلمة "والدة".
أهمية الكتاب وفوائده:
بلغ هذا الكتاب مبلغًا عظيمًا واحتلَّ منزلةً رفيعةً عند المشتغلين بهذا الفن، فاعتنوا به واشتغلوا به كما سيأتي في المبحث التالي، ومن المزايا التي تحلى بها هذا الكتاب:
مكانة مؤلفه العلمية، فمؤلفه الحافظ المعروف والإمام المشهور الذي لا يكاد يخفى اسمه على أحدٍ، حتى أنه صار من أراد أن يمدحَ أحد العلماء وصفه بأنه ذهبيُّ عصره، كما وُصِفَ بذلك الشيخ المعلمي رحمه الله.
أنَّ هذا الكتاب يُعدُّ من الكتب الجامعة في هذا الموضوع، فمن أراد البحث عن ترجمة راوٍ من الضعفاء، واقتصر في ذلك على "الميزان" أو "الميزان" و"اللسان" فلا يكاد يفوته شيءٌ، والله أعلم.
سهولة الوصول إلى الترجمة بسبب حسن ترتيب الكتاب، فالترتيب على حروف المعجم يُيسِّر للباحثين الوقوف على ترجمة أي راوٍ بسهولة ويُسر.
للمؤلف في هذا الكتاب إضافات وتحريرات قلَّ أن توجد في كتب الجرح والتعديل، ومن ذلك تعقُّبه لبعض المصنفين في إيرادهم بعض الرواة الثقاة في كتب الضعفاء، كما سبق مثاله في إيراد العقيلي لابن المديني في كتابه "الضعفاء" وتعقُّب الذهبي له.
إعجاب العلماء بهذا الكتاب وثناؤهم عليه، ومن أوَّل من أثنى عليه المؤلف نفسه، فقال في المقدمة: أما بعد - هدانا الله وسددنا، ووفقنا لطاعته - فهذا كتاب جليل مبسوط، في إيضاح نقلة العلم النبوي، وحملة الآثار. وقال الحافظ ابن حجر: أجاد فيه. "الدرر الكامنة" (3/337)، وقال أيضًا: ومن أجمع ما وقفتُ عليه في ذلك كتاب "الميزان" الذي ألَّفه الحافظ أبو عبدالله الذهبي. "لسان الميزان" (1/191)، وقال برهان الدين الحلبي في مقدمة كتابه: وبعد فلما وقفتُ على كتاب "ميزان الاعتدال في نقد الرجال" للإمام ابن الذهبي، فوجدته أجمع كتاب وقفت عليه في الضعفاء، مع الاختصار الحسن.
بعض المآخذ على الكتاب:
أخذ على المؤلف في هذا الكتاب بعض المآخذ - التي لا يسلم منها كتاب حاشا كتاب الله تعالى -، وهي لا تحطُّ من قدر الكتاب ولا من قدر مؤلفه، ومنها:
وقع للمؤلف بعض الأوهام والتصحيفات فتعقَّبه من جاء بعده، ومن ذلك قوله في ترجمة (أسود ابن خلف الحراني)، فتعقَّبه ابن حجر: وهذا تصحيفٌ من الذهبي في قوله: الحراني، وإنما هو الخزاعي، وقد ذكره ابن حبان في طبقة الصحابة.. "لسان الميزان" (2/189)
يقع للمؤلف أنه ينقل كلام بعض أهل العلم من غير عزو ولا بيان، كما أنه لا ينقل بتمامه مما يسبب اللبس، ومن ذلك في ترجمة (عبدالرحمن بن حريز الليثي) قال الذهبي: لا يُعرف وعنه محمد بن بشر الزاهد مثله. "ميزان الاعتدال" (2/556) فتعقَّبه الحافظ ابن حجر بقوله: وهذا أخذه الذهبي من "ضعفاء العقيلي"، ولم يعزه له، كعدة تراجم غيره يأخذها من كلامه ويتصرَّف فيها، ولا يفي غالبًا بما يفيده العقيلي، قال العقيلي: عبدالرحمن بن حريز بن عبيد ابن حبيب بن يسار الليثي، ويقال: الفزاري، مجهول بالنقل لا يُتابع على حديثه. "لسان الميزان" (5/94)
أهمل المؤلف بعض الرواة فلم يذكرهم في هذا الكتاب، مع أنه ذكرهم في كتبه الأخرى أو ذكرهم غيره، قال برهان الدين الحلبي في مقدمة كتابه: .. لكن قد أهمل الذهبي في "الميزان" جماعة ضعفاء ومجهولين قد ذكرهم نفسه في تراجم آخرين، ولم يذكرهم في أماكنهم من هذا المؤلَّف، فذكرتهم في أماكنهم مرتبين على ترتيب المؤلف...ورأيته قد أهمل آخرين ضعفاء أو مجهولين... فألحقتُ من وقفتُ عليه من هذا القبيل...
وقال البرهان أيضًا: ورأيتُ المؤلف قد اقتصر على تضعيف أشخاص أو تجهيلهم، وقد ذكرهم بعض الحفاظ بتوثيق، أو هو في مكان آخر، وهذا على نوعين: نوع وقف المؤلف على كلام الموثق له، ولم يذكره...، ونوع لا أعلم: هل وقف المؤلف على الكلام فيه أم لا، فذكرت هذين النوعين، وغالبهم في " ثقات " ابن حبان. ورأيت المؤلف قد ذكر جماعة كل ترجمه في مكانين.. وأيضًا قد ذكر في بعض الأشخاص فيقول: تقدم، ولم يكن تقدم..، وكذا يقول في ترجمة: تأتي، ولا يذكرها.. فأُنبِّه على ما وقع من ذلك. وقد رأيت المؤلف قد ذكر غير واحد من الثقات، ولم يذكر فيه جرحًا بالكلية ولا ذكره تمييزًا، وما أدري لم صنع ذلك ؟ !.
عناية العلماء والباحثين بالكتاب:
لقد اعتنى العلماء والباحثون بهذا الكتاب وتناوله عدد كبير من الحفاظ والعلماء والمعنيين بالنقد استدراكًا وتعقيبًا وتلخيصًا؛ حتى قال الحافظ شمس الدين السخاوي: وعوَّل عليه من جاء بعده. "الإعلان بالتوبيخ" (ص 587)
ومن الكتب والمؤلفات التي اعتنت بهذا الكتاب ما يلي:
للحافظ قاسم بن قطلوبغا المتوفى سنة (879 هـ) كتاب "تقويم اللسان في الضعفاء" في مجلدين, و"فضول اللسان", ذكرهما السخاوي في "الضوء اللامع" (6/187)
وللحسيني كتاب "التعليق على ميزان الاعتدال" استدرك فيه على الذهبي عدة أسماء، وتعقبه في بعض الأوهام، قال الحافظ ابن حجر: بيَّن فيه كثيرًا من الأوهام، واستدرك عليه عدة أسماء، وقفتُ على قدرٍ يسيرٍ منه، قد احترقت أطرافه لما دخلتُ دمشق سنة ست وثلاثين. "الدرر الكامنة" (4/62).
ذيَّل عليه الحافظ العراقي، وذيله مطبوع بتحقيق: د.عبد القيوم عبد رب النبي، جامعة أم القرى بمكة المكرمة - مركز البحوث، الطبعة الأولى (1406هـ)، وطبع أيضًا بتحقيق: السيد صبحي السامرائي، ونشر في عالم الكتب سنة (1407هـ)، وطبع أيضًا بتحقيق: علي محمد معوض وعادل أحمد عبدالموجود، ونشرته دار الكتب العلمية – بيروت، الطبعة: الأولى 1416 هـ
وقام برهان الدين الحلبي (سبط ابن العجمي) بعمل ذيل واستدراك على "ميزان الاعتدال" سمَّاه: "نثل الهميان في معيار الميزان"
وجرَّد تاج الدين أبو الحسن علي بن عبدالله الأردبيلي التبريزي الأحاديث التي في "الميزان" ورتَّبها على الأبواب, ذكره الحافظ ابن حجر في "الدرر الكامنة" (4/86)
ثم جاء الحافظ ابن حجر وجمع بين "ميزان الاعتدال" للذهبي و"ذيله" للعراقي، واستخرج منهما التراجم التي لم تذكر في تهذيب الكمال في كتابٍ حافلٍ عظيم الفائدة سماه "لسان الميزان"، وكتابه مطبوع أكثر من طبعة.
وللشيخ زين الدين عبدالرؤوف المناوي المتوفى سنة (1031هـ) كتاب "الأحاديث المنتقاة من الميزان واللسان", جمعها وبيَّن الموضوع والضعيف والمتروك, ذكره في "خلاصة الأثر" (2/414)
وقد صنع عبدالعزيز بن الصديق الغماري مثل صنيع المناوي في كتابٍ سمَّاه "الجامع المصنف لما في الميزان من حديث الراوي المضعَّف" وقد طبع منه جزء واحد.
وقد بدأ الشيخ الألباني بكتاب "الجمعُ بين "ميزان الاعتدال"، و"لسان الميزان" لكنه لم يكمله.
كتاب "بلوغ الآمال في ترتيب أحاديث ميزان الاعتدال" لأبي عبدالرحمن محمود الجزائري، نشره المكتب الإسلامي، الطبعة الأولى (1412هـ).
ألَّف محمد إبراهيم شحاذة الموصلي كتاب "الرواة الذين وثقهم الذهبي في ميزان الاعتدال وقد تكلم فيهم بعض النقاد من حيث البدعة"، وطبع الكتاب في دار القبلة- جدة.
رسالة ماجستير بعنوان "منهج الذهبي في كتابه "ميزان الاعتدال" في نقد الرجال" تقديم: قاسم علي سعد - جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية - أصول الدين - السنة وعلومها سنة (1405ه).
وللباحث نفسه (قاسم علي سعد) كتاب "موارد الحافظ الذهبي في ميزان الإعتدال", طبع في دار البشائر- بيروت.
وقام علي بن محمد العمران بجمع تعقُّبات الحافظ ابن حجر على الإمام الذهبي في "ميزان الاعتدال"، وذلك من كتابه "تهذيب التهذيب" لا من "لسان الميزان"، وطبع كتابه في دار عالم الفوائد سنة 1418هـ.
طبعات الكتاب:
طبع الكتاب في الهند سنة (1301هـ)- (1884م)
ثم طبع بتحقيق: علي محمد البجاوي، طبع بمطبعة عيسى البابي الحلبي سنة (1382هـ)، وصوَّرته دار المعرفة- بيروت، ودار الفكر، ودار إحياء التراث، وغيرها.
ثم طبع في دار الكتب العلمية سنة (1416هـ)، بتحقيق: علي معوض وعادل أحمد عبد الموجود.
وطبع مؤخرًا بتحقيق: مكتب التحقيق في مؤسسة الرسالة، بإشراف: الشيخ شعيب الأرنؤوط.
نقله أبو أسامة سمير الجزائري
تعليق