حديث فتنة الأحلاس
شرح الشيخ عبد الرحمان بن ناصر البراك
ولأبي داود - عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: كنا قعودا عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فذكرالفتن فأكثر فيها، حتى ذكر فتنة الأحلاس، فقال قائل: يارسول الله، وما فتنة الأحلاسِ؟ فقالَ: هي هرب وحرب، ثم فتنة السراء دخنها من تحت قدمي رجل من أهل بيتي يزعم أنه مني وليس مني، إنما أوليائي المتقون، ثم يصطلح الناس على رجل كوَرْك على ضلع، ثم فتنة الدهيماء لا تدع أحدا من هذه الأمة إلا لطمته لطمة، فإذا انقضت تمادت، يصبح الرجل فيها مؤمنا ويمسِي كافرا حتى يصير الناس إلى فسطاطين: فسطاط إيمانٍ لا نفاق فيه، وفسطاط نفاق لا إيمان فيه، فإذا كان ذالكم فانتظروا الدجال من يومه أو من غد -
********************************
في هذا الحديث ابن عمر -رضي الله عنه- يذكر أن النبي -عليه الصلاة السلام- ذكرذات يوم الفتن، فأكثر من ذكرها، فأكثر من ذكرالفتن، حتى ذكر فتنة الأحلاس، قيل: وما فتنة الأحلاس؟ قال: إنهافتنة هرب وحرب، قيل: إن أصل الأحلاس جمع حلس، وهو ما يوضع فوق ظهر البعير ليقيه أثرالقتب، أو الشداد الذي يوضع ليقعد عليه الراكب. قيل في التفسير: إنها سميت فتنةالأحلاس، لأنها تلزم الناس وتلصق بهم وتؤثر فيهم كلصوق الأحلاس في ظهور الإبل، فتنة الأحلاس.
قالوا: وما فتنة الأحلاس؟ قال: هرب وحرب، الهرب: الخوف، الهارب: هو الشارد،والهروب: الشرود، فهي فتنة تجعل الناس يهيمون على وجوههم ويفرون من الذعر والخوف. وحرب، أيضا كذلك الحرب تفسر بأنها ذهاب الأموال وتلف الأموال، فهي فتنة تؤدي إلى أن يفر الناس، ويهيمون على وجوههم، وتتلف بسببها أموالهم، هذا نعت فتنة الأحلاس.
وهذه الحالة تحدث وتتكرر، تحدث وتجري على الناس،الفتن التي تؤدي بهم إلى أن يفروا، واقرءوا التاريخ تجدوا أمورا كثيرة تنطبق عليهاهذه الصفات.
يقول: ثم بعد هذه الفتنة -فتنة الأحلاس- فتنة السراء، السراء ضد الضراء، فهي فتنة بسبب النعمة، فتنة نعمة وابتلاء، وهذه سنة الله في خلقه، يبتليهم بالسراءوالضراء، بالخير والشر، وذكر أن هذه الفتنة يكون فيها شر عبر عنه بالدخان، يقول: )يخرج من تحت قدمي رجل من أهل بيتي يزعم أنه مني وليس مني، إنما أوليائي المتقون ( أو كماقال عليه الصلاة والسلام.
هذه الفتنة فتنة نعمة، ويكون زعيمها رجل من أهل بيت الرسول عليه الصلاة والسلام،ولكنه غير صالح، ليس بصالح، يدَّعي أنه من الرسول، وأنه من أهل بيته، ويتصرف ويتذرعبذلك ويزعم ذلك، والرسول يبرأ منه، ليس مني، إذًا فلا منافاة بين كونه من أهل بيتالرسول، وقوله: هو ليس مني، فهو وإن كان من بيت الرسول فلا ينفعه، لا ينفعه ذلك،ولا يجعل له منزلة عند الرسول -عليه الصلاة والسلام- على حد قوله عليه الصلاةوالسلام: )ومن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه .(
نعم يقول: ثم يصطلح الناس، بعد ذلك يصطلح الناس على رجل كورك على ضلع، ثم فتنةالدهيماء، يصطلح الناس على رجل كوَرْك على ضِلَع، يصطلح الناس على رجل يكون زعيمالهم، وقوله: "كورك على ضلع" هذا ينبئ بعدم الاستقرار، أنه من غير استقرار، يصطلح الناس على رجل كورك على ضلع، الضلع معروف واحد الأضلاع، وهي العظام التي في جنبالإنسان، والوَرْك معروفة أيضا، واللفظ في الحقيقة غير متناسب، لأن الورك علىالضلع، أم الضلع على الورك؟ المتبادر العكس، كأنه: كورك عليه ضلع، أما الورك لايكون على ضلع، الورك هو الأدنى، اللهم إلا أن يكون كورك، كما لو جلس الإنسان علىضلع بوركه فلا يكون مستقرا، فالله أعلم.
يقول: "ثم تكون فتنة الدهيماء" تصغير دهماء، وهي العامة، فتنة عامة فظيعة،والتصغير يكون للتهويل والتعظيم، فتنة الدهيماء لا تترك أحدا إلا لطمته، لا تتركأحدا إلا ناله من أثرها وشرها، ثم تكون فتنة الدهيماء لا تترك أحدا إلا لطمته.
فإذا قيل انقضت تمادت، هذه الفتنة كلما انقضت تمادت، معناه: أنها تطول، وتكونعلى أحوال، كلما انتظر أن تنقضي عادت، وهكذا تكون الفتن، سواءفتن الحرب أوفتن الدعوات،يكون هذا التقلب بالمد والجزر، والزيادة والنقص، فبينما ينتظر الناس أن تنحسر وتذهبويستريح الناس من شرها إذ تعود مرة أخرى، وتتمادى، فهذا هو المحسوس والمعروف منواقعالفتن بنوعيها: فتن الحرب وفتن الدعوات المضلة، الدعوات المضلة، "كلما انقضت" يعني: كلما أوشك انقضاؤها أو ظن الناس انقضاءها تمادت وعادت للنشاط، تعود لنشاطها.
"يصبح الرجل فيها مؤمنا ويمسي كافرا" هذا ينبئ عن عظم خطرها وعظم تأثيرها: )يصبح الرجل مؤمناويمسي كافرا(يمسي مؤمنا ويصبح كافرا، وهذا مطابق لأول حديث قرئ في هذا الكتاب: )بادروا بالأعمال الصالحة فتنا كقطع الليل المظلم) (يصبح الرجل مؤمناويمسي كافرا(ويمسي مؤمنا ويصبح كافرا، يبيع دينه بعرض من الدنيا.
إذًا هذا ينبئنا أن من تلك الفتن التي كقطع الليل المظلم فتنة الدهيماء، يعني: هذا تفسير تماما للحديث، من تلك الفتن التي كقطع الليل المظلم فتنة الدهيماء، حَتّى يَصِيرَ النّاسُ بعد ذلكيصيرون وينقسمون إلَى فسطاطين: يعني طائفتين، عُبِّر عنهما بالفسطاط، والفسطاط أصلهالخيمة، وهذا فيه نوع من المجاز، يعني عُبِّر بالمحل عن الحالّ، حتى يصير الناس فسطاطين: فسطاط إيمان لا نفاق فيه، وفسْطاط كفر لا إيْمان فِيهِ، يعنى: حتى يتمايزالناس ويتميز المؤمنون من الكافرين، ثم يخرج، فانتظروا الدجال، قوله: "فإذا كان ذالكم فانتظروا الدجال" هذا يبين لنا أن هذا التمايز عندما تخرج الدابة، وكما جاءفي الآثار: وتطلع الشمس من مغربها، إذا طلعت الشمس من مغربها تميز المؤمن منالكافر، وكذلك إذا خرجت الدابة على ما جاء في أحاديث الدابة، ولعل ذلك أيضا يكون عندما ينزل المسيح ابن مريم.
كأن هذا الوصف قبل.. بل بعد خروج الدابة وطلوع الشمس من مغربها، لأن الدجال يظهرثم ينزل المسيح فيقتله، فخروج المسيح الدجال قبل نزول المسيح، وقبل يأجوج ومأجوج،فإن المسيح ينزل فيقتل الدجال، فالمقصود أنه تحصل أسباب يتمايز بها الناس، فيتميزالمؤمنون من الكافرين، يصير الناس إلى طائفتين، طائفة أهل إيمان لا نفاق فيه،وطائفة أهل كفر لا إيمان فيه، فهذه من جملة الأحوال التي تكون في آخر الزمان.
أما اليوم وما قبل اليوم وما شاء الله، فالأمور مختلطة ومتداخلة، فالمنافقون بين المسلمين، يعني: من الناس من يظهر الإيمان ويبطن الكفر، وهم بين الناس، فليس هناك التمايز، التمايز الحقيقي، بل الأصناف الثلاثة متداخلة، يعني: موجودة على وجهالأرض، لكن المنافقين موجودون بين الناس، بين المؤمنين، وهذا التمايز يكون بعد تلك الفتن، يصير الناس إلى فسطاطين: فسطاط إيمان لا نفاق فيه،وفسطاط كفر لا إيمان فيه، والله المستعان.
الحمد لله، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله وعلى آله وصحبه، ومن اهتدىبهداه.
يعني معلوم أن اليوم هو آخر أيام الدورة، وهو آخر لقاء معكم في هذا الدرس، نسألالله -سبحانه وتعالى- أن يزيدنا وإياكم علما وهدى وتوفيقا، وهذا الكتاب الذي اختيرلهذه الدورة إنما غاية ما أخذنا منه يمكن من حيث عدد الأحاديث يمكن الربع، وعلى كلحال الأحاديث كثيرة، والعلم ليس له حد، إنما على الإنسان دائما أن يواصل هذه المسيرة، مسيرة العلم، سواء كان بالارتباط بدورة أو بجهد فردي أو بحضور دروس أخرى مستمرة، بحسب ما يتهيأ، فالعلم مطلب للمسلم، فلا يزال المسلم طالبا للمزيد من العلم، والذين بلغوا ما شاء الله لهم من التحصيل لا يقفون عند حد، المهم أن تسير،ومن سلك طريقا يلتمس فيه علما، طريق، هذا الطريق ما له حد، إلا الغاية التي هي لابد منها وهي الموت.
فأوصيكم ونفسي بالمواصلة دائما، كثير من الدارسين في الدراسات المنهجية إذا تخرج انقطعت صلته بالعلم، إلا أن يكون العمل الذي يرتبط به يتصل بالتعليم، فارتباطه بالعلم بموجب العمل أو الوظيفة، لا، العلم الشرعي يطلب لذاته ولغايته، وقد رأيت في هذا اليوم أن نكمل حديثين فقط لنقف عند موقف مناسب، وفيه بعض التصويبات ربما أني أشرت إلى بعضها الذي استحضرت، تصويبات وردت في نسخة الجامعة، جامعة الإمام التي قامت على جمع مؤلفات شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب.
وفي هذا السبيل حُقِّقت هذه المؤلفات تحقيقا لا بأس به، وهذا الكتاب -كتاب) الفتن( للشيخ محمد- ألاحظ أنه قد حظي بتحقيق لا بأس به،تعليقات ومقابلات روجعت على الأصول، فهناك تصويبات طيبة لإثباتها، ولهذا نقلتها فيهذه النسخة التي في أيديكم، ليمليها الشيخ فهد عليكم لتثبتوها، لأنهم رجعوا إلى الأصول: البخاري ومسلم وأبي داود، مصادر هذه الأحاديث، فهذه ناحية.
الناحية الثانية: أحب أن أقول: إن أحاديث الفتن التي قرأناها، يعني: فيها تنوع، منها أحاديث عامة في الفتن دون تعرض لنوعها ولا لوقتها ولا لاسمها، منها الحديث الأول) :بادروا بالأعمالالصالحات فتنا(هذا إجمال، ما فيها تعيين لنوع الفتن ولا تعيين لكذا ولا كذا، عامة، ومنها ما يتضمن الإشارة إلى نوع الفتنة وتأريخ الفتنة، نوعها وتأريخها على سبيل الإجمال، مثل: الفتنة التي تموج موج البحر، التي سأل عنها عمر -رضي الله عنه- هذه الفتنة واضح أنها فتنة قَتْل وقتال، وأنها متقدمة في الزمان، لأنها تكون بعد كسر الباب الذي كان دونها، هذه فتنةمتقدمة تاريخيا.
ومثل الحديث الذي فيه "تقتتل طائفتان عظيمتان من المسلمين، تكون بينهما مقتلة عظيمة" هذا صريح بأنها فتنة حرب وقتال، وسبق التنبيه على أنها أقرب ما تحمل عليه ماكان في القرن الأول، من الفتنة التي جرت بين المسلمين على إثر قتل عثمان رضي الله عنه.
وهناك من أحاديث الفتن ما يدل على تسمية لبعض الفتن ، مثل ما مر، فتنة كذا وفتنة كذا، فتنة الأحلاس، فتنةالدهيماء، فيها تسمية، لكن ليس فيها إشارة إلى الزمن وإلى الوقت.
أما أشراط الساعة، وأهل العلم يدرجون ويذكرون أشراط الساعة ضمن أحاديث الفتن، لأنها تشترك معها في أنها مما يكون في آخر الزمان قبل قيام الساعة.
ثم الفتن كما تقدم الإشارة إلى أنها أنواع: فتن قتال وحرب،وفتن دعوات مضلة، وكلهافيها خطر على الأديان وعلى الدين والدنيا جميعا، فيها أخطار، فالرسول -صلى الله عليه وسلم- يخبر عن هذه الفتن ليحذرها الناس، ليتقوها، وهذامن كمال نصحه عليه الصلاة والسلام، وقد بلغ البلاغ المبين، فكما أخبر أنه لم يكننبي قبله إلا كان حقا عليه أن يدل أمته على خير يعملونه، ويحذرهم من شر ما يعلمونه،فالرسول -عليه الصلاة والسلام- هو أكمل الأنبياء في هذا، فما من خير إلا دل أمته عليه، وأرشدهم إليه، وما من شر إلا حذرهم منه، حذرهم من الشرور التي هي المنهيات،وحذرهم من الشرور التي فيها أخطار تجر إلى المنهيات، الأحداث، حوادث الزمان التيتجر إلى المعاصي،ففتن الحروب العمياء هذه تجر إلى الوقوع في سفك الدماء بغير حق.
فيجب اعتزال هذه الفتن، عدم الدخول فيها، أما القتالالمشروع، قتال الجهاد في سبيل الله أو قتال البغاة كما نص الله على ذلك فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي، إذا تبين شرعية القتال لم يكن هذا القتالفتنة، القتال المشروع ليس بفتنة، هذا القتال المشروع جهاد في سبيل الله، وأفضله وأعظمه جهاد أعداء الله.
وكما أفادت عمومات أحاديث الفتن على أن هذه الأمة مبتلاة، وهذا الابتلاء لله فيه حكم، هذه الأحداث وهذه الفتن التي تجري وجرت في هذه الأمة لها حِكمٌ، لله فيها حكم بالغة، فيه تمحيصللمؤمنين وفيه عقوبة للعصاة بما ينزل عليهم من آثار هذه الفتن، فتن الحروب، وفي الفتن الفكرية فيها ابتلاء للخلق ليتبين من يستجيب لها ومن لا يستجيب، فيضل بهذه الفتن أقوام، ويسعد بها آخرون من الذي اتقوها وتجنبوهاوعرفوا ما تنطوي عليه من الفساد والشر. فالحياة معركة وهدى الله هو المعتصَم، من اعتصم بكتاب الله وسنة رسوله نجا من شرورالفتن كلها،فالمعتصَم هو الكتاب والسنة.
كما يلاحظ أن أحاديث الفتن قل فيها التعيين، فيهاالإجمال، كما يروي حذيفة أن الرسول -عليه الصلاة والسلام- أخبرهم بكل ما يكون، بكل فتنة تكون بعده إلى قيام الساعة، حفظ ذلك من حفظه، ونسيه من نسيه، ومع ذلك فيمايظهر أنه لم ينقل من هذا البيان إلا القليل.
هذه بعض الجوانب التي أحببت أن نلاحظها ونتأملها في أحاديث الفتن، فهي أنواع، ومن أحاديث الفتن ماهو صحيح في غاية الصحة، ومنها أحاديث فيها نظر أو ضعيفة، والمعول على ما صح عن النبي عليه الصلاة والسلام، وقد يشهد للضعيف شواهد تدل على صحة الخبر، ثم أيضا من الجوانب التي سبق التنبيه عليها أن هذه الأحداث منها ما علم وقوعه أنه قد وقع بالفعل، ومنها ما يعلم أنه لم يقع قطعا، ومنها ما لا يجزم فيه بشيء من ذلك لعدم مايدل على التأريخ، ولعدم العلم بالواقع، بقي حديثان نقرأهما الآن، يقرأهما الشيخ فهد. تفضل.