الحديث الوارد في بول الأعرابي في المسجد رواية ودراية
بقلم :
الشَّيخ الدكتور
أبي عبد الباري رضا بن خالد بوشامة الجزائري حفظه الله
أستاذ بكلية العلُّوم الإسلامية بجامعة الجزائر .
بقلم :
الشَّيخ الدكتور
أبي عبد الباري رضا بن خالد بوشامة الجزائري حفظه الله
أستاذ بكلية العلُّوم الإسلامية بجامعة الجزائر .
بسم الله الرحمن الرحيم
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : " بينما نحن في المسجد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاء أعرابيٌّ فقام يبول في المسجد ، فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : مَهْ مَهْ ؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لاَ تُزْرِمُوهُ ، دَعُوهُ " .
فتركوه حتَّى بال ، ثمَّ إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاه فقال له : " إنَّ هَذه الـمَساجد لاَ تَصْلُحُ لِشيءٍ مِنْ هَذَا البَوْلِ وَلا القَذَرِ ، إنَّـمَّا هِيَ لِذِكْرِ اللهِ عَزَّوَجَلَّ ، والصَّلاةِ ، وقرَاءَةِ القُرآنِ أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال : فأمر رجلاً من القوم ، فجاء يدلو من ماء فشنَّه عليه " لفظ مسلم .
وفي رواية أبي هريرة قال : " دخل أعرابيُّ المسجد والنَّبيُّ صلى الله عليه وسلم جالس ، فصلَّى فلمَّا فرغ قال : اللَّهمَّ ارحمنى ومحمَّدًا ، ولا ترحم معنا أحدًا ، فالتفت إليه النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم فقال : " لَقَدْ تَحَجَّرْتَ وَاسِعًا ، فلم يلبث أن بال في المسجد فأسرع إليه النَّاس ، فقال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم : " أَهْرِيقُوا عَلَيْهِ سَجْلاً مِنْ مَاء أَوْ مِنْ مَاءٍ " ثمَّ قال : " إنَّما بُعِثْتُمْ مُيَسْرينَ وَلَمْ تُبْعَثُوا مُعَسِّرِينَ ".
تخريج الحديث :
أولاً - حديث أنس بن مالك :
روي عنه من طرق :
1- طريق ثابت ، عن أنس .
أخرجه البخاريُّ في الصَّحيح (6025) عن عبد الله ابن عبد الوهَّاب.
ومسلم في الصَّحيح (284) والنَّسائي في السُّنن (53) عن قتيبة بن سعيد
وابن ماجه في السُّنن (52 ، وابن خزيمة في الصَّحيح (296) عن أحمد بن عبدة
وأحمد في المسند (1336 عن يونس بن محمَّد .
أبو عوانة في المسند (1/214) عن محمَّد بن سفيان ، عن سليمان بن بلال
وفي (570) عن الزَّعفراني ، عن أبي عباد .
خمستهم عن حمَّاد بن زيد ، عن ثابت به .
2- طريق يحي بن سعيد الأنصاري ، عن أنس :
أخرجه البخاريُّ (211) عن خالد بن مخلد ، عن سليمان ابن بلال .
وأخرجه أيضًا (221) عن عبدان ، والنَّسائي (55) عن سويد ، كلاهما عن عبد الله بن المبارك .
ومسلم (284) عن أبي موسى محمَّد بن المثنَّى ، عن يحي القطَّان .
وعن قتيبة ويحيي بن يحيي ، كلاهما عن عبد العزيز ابن محمَّد .
والتَّرمذي في الجامع (14 عن سعيد بن عبد الرَّحمن المخزومي ، عن سفيان .
والنَّسائي (54) عن قتيبة ، عن عبيدة بن حميد .
وأحمد في المسند (12082) عن سفيان بن عيينة ، وفي (19/181) عن يحيي بن سعيد القطَّان ، وفي (12709) عن عبد الله بن نمير .
والدَّارمي في السُّنن (767) عن جعفر بن عون .
وأبو عوانة في المسند (1/213،214) من طريق يزيد ابن هارون وسفيان .
تسعتهم عن يحيي بن سعيد الأنصاري به .
وخالف هؤلاء الرُّواة مالك بن أنس ، فرواه في الموطَّـأ (166) عن يحيي بن سعيد أنَّه قال : " دخل أعرابيٌّ المسجد ... " ولم يذكر أنسًا ، وذكرُه صحيح لاتِّفاق هؤلاء الرُّواة الثِّقات على إسناد ووصله .
3- طريق إسحاق بن عبد الله بن إبي طلحة ، عن أنس :
أخرجه البخاري في الصَّحيح (219) عن زهير بن حرب ، عن عمر ابن يونس ، عن طريق عكرمة بن عمَّار كلاهما عن اسحاق به .
ثانيًا- حديث أبي هريرة :
روي عنه ثلاث طرق :
1 – طريق عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود :
أخرجه البخاريُّ في الصَّحيح (220،612 من طريق شعيب بن أبي حمزة .
والنَّسائي في السُّنن (56) من طريق محمد بن الوليد.
وأخرجه أحمد في المسند (13/209،210) من طريق معمر ويونس .
وابن حبَّان في الصَّحيح (1399 ، 1400 ) من طريق محمَّد ابن الوليد الزَّبيدي ، ويونس .
وابن خزيمة في الصَّحيح (297) من طريق يونس .
خمستهم عن الزُّهري ، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة ابن مسعود ، عن أبي هريرة
2- طريق سعيد بن المسيَّب ، عن أبي هريرة :
أخرجه أبو داود في السُّنن (380) ، والتَّرمذي في الجامع (147) ، وأحمد في المسند (7255) ، وابن الجارود في المنتقى (141) ، وغيرهم من طرق عن سفيان بن عيينة عن الزُّهري عن سعيد بن المسيَّب عن أبي هريرة .
3 – طريق أبي سلمة بن عبد الرَّحمن ، عن أبي هريرة :
أخرجه البخاريُّ في الصَّحيح (6010) ، وأبو داود في السُّنن (882) ، وأحمد في المسند (13/211) ، وابن خزيمة في الصَّحيح (864) ، وابن حبَّان في الصَّحيح (987) من طرق عن الزُّهري .
وأخرجه ابن ماجه في السُّنن (529) ، وأحمد في المسند (10533) ، وابن حبَّان (985) وغيرهم من طرق عن محمَّد ابن عمرو بن علقمة ، كلاهما عن أبي سلمة بن عبد الرَّحمن ، عن أبي هريرة .
ثالثًا - حديث واثلة بن الأسقع :
أخرجه ابن ماجه في السُّنن (530) والطَّبراني في المعجم الكبير (22/77) من طريق عبيد الله بن أبي حميد الهذلي عن أبي المليح الهذلي ، عن واثلة
وسنده ضعيف جدًّا ، فيه عبيد الله بن أبي حميد أبو الخطَّاب الهذلي أجمع الأئمَّة على تضعيفه ، ولخصَّ عبارتهم الحافظ ابن حجر في التَّقريب فقال : " متروك الحديث " .
الأحاديث الَّتي ورد فيها ذكر الحفر :
لم تذكر الطُّرق الصَّحيحة لهذا الحديث زيادة حفر المكان الَّذي بال فيه أو نقل ترابه إلى خارج المسجد ، وقد روي الأمر من طرق لكنَّها متكلَّم فيها :
الطَّريق الأوَّل - من حديث عبد الله بن مسعود :
أخرجه الدَّارقطني في السُّنن (477) ، وأبو يعلى في المسند (3626) من طريق أبي هشام الرِّفاعي محمَّد ابن يزيد ، عن أبي بكر بن عيَّاش ، عن سمعان بن مالك ، عن أبي وائل ، عن مسعود ، وفيه : " جاء أعرابي فبال في المسجد فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكانه فاحتفر ... " .
وأخرجه الطَّحاوي في شرح المعاني (1/14) من طريق يحيي بن عبد الحميد الحمَّاني ، عن أبي بكر بن عيَّاش به .
وسنده ضعيف جدًّا ، سمعان ضعَّفه أبو زرعة وقال : " ليس بقوي " وفيه أيضًا : أبو هشام الرِّفاعي محمَّد بن يزيد ليس بالقويِّ أيضًا ، وله أحاديث منكرة عن أبي بكر بن عيَّاش .
وأمَّا السَّند الثَّاني من طريق يحيي بن عبد الحميد الحمَّاني فهو ضعيف أيضًا ، لأنَّ الحمَّاني معروف بسرقة الحديث ، فيكون سرقة من أبي هشام الرِّفاعي .
ونقل ابن الملقِّن عن أبي زرعة أنَّه قال : " حديث منكر " ، وعن ابن أبي حاتم أنَّه قال : " ليس لهذا الحديث أصل "
وقال الدَّراقطني في العلل (5/81) بعد أن ذكر زيادة الحفر في السَّند : " ليست بمحفوط عن أبي بكر بن عيَّاش " ، لأنَّه روي الحديث من غير طريق أبي هشام الرِّفاعي ولم يذكر الحفر .
ثانيًا – حديث أنس بن مالك :
ذكر ابن الجوزي في العلل المتناهية (1/334) أنَّ أبا محمَّد ابن صاعد روى عن عبد الجبَّار بن العلاء ، عن ابن عيينة ، عن يحيي بن سعيد ، عن أنس بن مال : " أنَّ أعرابيًّا بال في المسجد ، فقال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم : " احْفِرُوا مَكَانَهُ ثُمَّ صُبُّوا عَلَيْهِ ذَنُوبًا مِنْ مَاءٍ " ، ونقل عن الدَّارقطني أنَّه قال : " وهم عبد الجبَّار على ابن عيينة ، لأنَّ أصحاب ابن عيينة الحفاظ رووه ابن عيينة عن عمرو ابن دينار ، عن طاوس : أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال :" " احْفِرُوا مَكَانَهُ " مرسلاً ، فاختلط على عبد الجبَّار المتنان .
قلت : تقدَّم أنَّ الحديث رواه عن سفيان بن عيينة ، أحمد في المسند والشَّافعي عند أبي عوانة ، وسعيد بن عبد الرَّحمن المخزومي عند التَّرمذي ولم يذكروا الحفر عن ابن عيينة عن يحيي بن سعيد .
وانفرد بذكره عبد الجبَّار بن العلاء ، قال عنه ابن حجر في التَّقريب لابأس به ، فمثله إذا خالف أمثال أحمد والشَّافعي وغيرهما تكون روايته شاذَّةً .
وقد بيَّن الدَّارقطني سبب الشُّذوذ ، وذلك أنَّ ابن عيينة روى هذا الحديث من طريق آخر عن عمرو بن دينار ، عن طاووس قال : " بال أعرابي ... " فذكره وذكر الحفر
أخرجه عبد الرَّزَّاق في المصنَّف (1659) عن ابن عيينة ورواه أيضًا الطَّحاوي في شرح معاني الآثار (1/13) من طريق ابن عيينة .
فاختلط على عبد الجبَّار هذا الطَّريق بالطَّريق الآخر الموصول فحمله عليه ، والصَّواب أنَّ ابن عيينة روى الحفر عن عمرو بن دينار ، عن طاووس مرسلاً .
ثالثًا – من حديث عبد الله بن معقل بن مقرن مرسلاَ :
أخرجه أبو داود في السُّنن (381) ، ومن طريقه الدَّارقطني في السُّنن (479) عن موسى بن إسماعيل ، عن جرير بن حازم ، عن عبد الملك بن عمير ، عن عبد الله بن معقل بن مقرن قال : قام أعرابيٌّ إلى زاوية ....، وفيه قول النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم : " خُذُوا مَا بَالَ عَلَيْهِ مِنَ التُّرَابِ فَألْقُوهُ .. "
وسنده مرسل ، قال أبو داود : " وهو مرسل ابن معقل لم يدرك النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم " .
رابعًا – من حديث طاووس مرسلاَ :
وقد مرَّ أنَّ ابن عيينة رواه عن عمرو بن دينار ، عن طاووس ، وأخرجه أيضًا عبد الرَّزَّاق في المصنَّف (1662) عن معمر ، عن ابن طاووس ، عن أبيه قال : " بال أعرابيٌّ في المسجد ... " وفيه : " احْفِرُوا مَكَانَهُ " .
وبالنَّظر في هذه الطُّرق نجد أنَّ الأحاديث الصَّحيحة الموصولة لم يذكر فيها الحفر ، ولم يأت إلاَّ من جهات ضعيفة أو مرسلة .
أ – فائدة إسنادية :
جاء في الحديث قول أنس أو غيره من الرُّواة : أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وفي هذا دليل على جواز نقل الحديث بالمعنى دون اللَّفظ ، فلم يقطع بلفظه لكنَّه عوَّل على المعنى فيه ، فلذا نرى أنَّ بعض الرِّوايات جاءت بلفظ آخر ، وفي بعضها زيادة على الرِّوايات الأخرى ، وكلَّها مؤدِّية لمعنى واحد في الحديث .
شرح متن الحديث وفوائده :
المسألة الأولى في غريب ألفاظه :الأعرابي : بالألف : إذا كان بدويًّا صاحب نجعة وانتواء وارتياد للكلاء وتتبُّع لمساقط الغيث ، سواء كان من العرب أو من مواليهم ويجمع الأعرابي على الأعراب والأعاريب .
ويقال : إنَّ الأعرابي إذا قيل له : يا عربي فرح بذلك وهشَّ له ، والعربيُّ إذا قيل له : يا أعرابي غضب له .
فمن نزل البادية أو جاور البادين وظعن بظعنهم وانتوى بانتوائهم فهم أعراب ومن نزل بلاد الرِّيف استوطن المدن والقرى العربيَّة وغيرها ممَّن ينتمي إلى العرب فهم عرب وإن لم يكونوا فصحاء .
وهذا الأعرابيُّ قيل : إنَّه ذو الخويصرة اليماني ، وقد جاء ذلك من طريق ضعيفة مرسلة عند أبي موسى المديني في كتاب " الصَّحابة " ، وقد صار من رؤوس الخوارج
وقيل : هو عيينة بن حصين ، وقيل هو الأقرع بن حابس.
وهذا التَّعيين في علوم الحديث يسمى تعيين المبهم وقد صنَّف فيه الأئمة كتبًا باسم" الغوامض والمبهمات " وصنَّف فيه عبد الغنيِّ بن سعيد الأزدي ، وأبو القاسم خلف بن بشكوال الأندلسي ، والخطيب البغدادي واسم كتابه : " الأسماء المبهمة في الأنباء المحكمة " وكذا النَّووي وولي الدِّين العراقي وغيرهم ، وكلُّ هذه الكتب مطبوعة ، وفوائد تعيين المبهم كثيرة ، منها :
- تحقيق الشَّيء على ما هو عليه ، فإنَّ النَّفس متشوِّقة ومتشوِّقة إليه .
- أن يكون في الحديث منقبة وفضيلة لذلك المبهم ، فتستفاد بمعرفته وتعيينه فضيلته فينزَّل منزلته .
- أن يشمل على فعل لا يصلح أن ينسب إلى مقام الصحابة ، فيحصل بتعيينه السَّلامة من جولاَن الظَّنِّ في هؤلاء الأخيار ، كما جاء في الحديث .
- أن يكون ذلك المبهم سائلاً عن حكم عارضه حديث آخر فتستفاد بمعرفته هل هو ناسخ أو منسوخ إن عُرف إسلام ذاك الصَّحابي ، إلى غير ذلك من الفوائد الَّتي لا تخفى .
طائفة المسجد : جاء في الرواية عند البخاري : " جاء أعرابيٌّ فبال في طائفة المسجد " وطائفة المسجد يعني جزءًا منه ، وطائفة من النَّاس جزء منهم ، ووقع في طرق أخرى ، " ناحية المسجد " و المعنى واحد.
" تحجَّرت " : يقال تَحَجَّرَ ما وسَّعه الله أي : حرَّمه وضَيَّقَهُ أي : ضيَّقت ما وسَّعه الله وخَصَصْتَ به نفسك دون غيرك .
وقيل : هو على بابه في معنى الحَجْر وهو المنع ، ومنه حَجْرُ القاضي على الصَّغير والسَّفيه إذا منعهما من التَّصرف في مالهما ، فيكون المعنى : لقد اعتقدت المنع فيما لا منع فيه .
ويظهر من سياق الحديث أنَّ الأعرابي لـمَّا دخل المسجد صلَّى ركعتين ، ثمَّ دعا بدعاء فيه تضييق لرحمة الله ، فقال له النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم : " لًقَدْ تَحَجَّرتَ وَاسِعًا "
ثمَّ قام إلى زاوية في المسجد فبال ، ويهم الكثير بذكر أن سبب هذا الدعاء من الأعرابي هو ما وقع له من إنكار الناس عليه ، ونهي النبي صلى الله عليه وسلم له ورحمته به ، وألفاظ الحديث خلاف هذا الفهم .
قول أنس ، قال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مَهْ مَهْ "
"مَهْ" : اسم فعل مبني على السُّكون معناه اكفف ، وهي كلمة زجر قيل أصلها : ماهذا ! ، ثمَّ حذف منه تخفيفًا ، وتقال مكَّررة ومفردة ، وقيل : هي تعظيم الأمر ، مثل قول النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم : " بخ بخ ذَاكَ مَال رَابح " .
ومثل : صه بمعنى اسكت ، كقول ابن مالك :
والأمر إن لم يك للنُّون محل /// فيه هو اسم نحوُ صهْ وحيَّهل .
قوله : " أنَّ أعرابيًّا بال في المسجد فثار النَّاس إليه ليمنعوه "" ثار النَّاس " : أي قام النَّاس ، ومنه ثوران البعير ، وجاء في رواية " فصاح النَّاس به حتَّى علا الصَّوت " ، وفي رواية : " فقام إليه النَّاس ليقعوا به " وفي رواية :" فتناوله النَّاس " .
تُزرموه : يضمِّ التَّاء الفوقيَّة وإسكان الزَّاي ، أي : لا تقطعوه والإزرام : القطع .
يقال : زَرِمَ البيعُ إذا انقطع وزَرَمَ الشَّيء يزْرِمُهُ زَرْمًا وأزْرَمهُ وزَرَّمَه قطعه وزرِمَ دمعُهُ وبولُهُ ، وازْرَأمَّ انقطع وكلُّ ما انقطع فقد زَرِمَ ، وجاء حديث عند الطَّبراني في الأوسط (6/204) عن أمِّ سلمة : " أنَّ الحسن أو الحسين بال على بطِن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فذهبوا ليأخذوه فقال النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم : " لاَ تُزْرِمُوا ابْنِى أَو لاَ تَسْتَعْجِلُوهُ فتركوه حتَّى قضى بوله فدعا بماء فصبَّه عليه " .
قوله صلى الله عليه وسلم : " إنَّ هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول ولا القذَر " .
القذَر : ضدُّ النَّظافة ، وشيء قَذِرٌ بَيِّنُ القَذارِة.
قوله : " فجاء يدلو من ماء "
الدَّلْوُ معروفة واحدة الدِّلاء الَّتي يُسْتَقَى بها تذكَّر وتؤنَّث يقال : دَلَوْتُها أَدْلُوها دَلْوَا إذا أَخرجها وجَذَبْتَها من البئر مَلأى .
وجاء في رواية : " سَجلاً من ماء أو ذنوبًا من ماء "
السِّجل بفتح المهملة وسكون الجيم ، هو الدَّلو ملأى ، ولا يقال لها ذلك وهي فارغة ، وقيل السِّجل : الدَّلو الواسعة ، وقيل الدَّلو الضَّخمة .
" أو ذنوبًا من ماء "
" أو" : قيل هي للشَّك ، أي الرَّاوي شكَّ في أي اللَّفظين سمع ، وقيل هي للتَّخيير ، ورجَّح الحافظ ابن حجر الأوَّل وأنَّه شكٌ من الرَّاوي : لأنَّ روايات أنس بن مالك لم يختلف أنَّها ذَنوب .
والذَّنوب لا يطلق إلاَّ على الدَّلو ملأى ، فلماذا أكَّد من الألفاظ المشتركة
قوله " فشنَّه عليه " :
شنَّ : صبَّها وبثَّها وفَرَّقها من كلِّ وجه ، ومنه الغارَات وأصل الشَّنَّ والشَّنَّةِ الخَلقُ من كلِّ آنية صُنعت من جلد وجمعها شِنَانٌ .
وقيل فيه : سنَّه عليه ، لكنَّ الأكثر ورودا شنَّه بالشِّين المعجمة ، وفرَّق بينهما بعض العلماء فقال : بالسِّين المهملة الصَّب بسهولة وبالمعجمة التَّفريق في صبه
وجاء في رواية : " فَصَبَّهُ عَلَيْه " ، وفي رواية أخرى : " هَريقُوا عَلَى بَوْلِهِ " وفي أخرى : " فَأُهْرِيقَ عَلَيْهِ "
الهاء في هَرَاقَ بَدلٌ من هَمْزة أرَاقَ يقال : أَرَاقَ المَاءُ يُريقُهُ وَهَرَاقَهُ هِرَاقَهُ هِرَاقَةً ، ويُقالُ فيه : المَاءَ أُهْرِقُه إهْرَاقًا فيُجمَع بيْن البَدَلِ والمُبِدَل .
المسألة الثَّانية : فقه الحديث
هذا الحديث استدَّل به على عدَّة مسائل فقهيَّة منها :
1- النَّجاسة الحكميَّة هي الواردة على شيء طاهر ، والنجاسة العينيَّة لا يمكن طهارتها إلاَّ إذا استحالت على رأي بعض العلماء.
2- إزالة النَّجاسة هل يشترط لها الماء :
القول الأوَّل : يشترط ، واستدلُّوا بعدَّة أدلَّة ، منها قوله تعالى : " وَأنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا " [ سورة الفرقان ] ، وحديث بول الأعرابي في المسجد .
القول الثَّاني : لا يشترط ، لو نزلت عين النَّجاسة بأيِّ مزيل كان فإنَّها تطهر ، كالشَّمس والرِّيح .
والصَّواب أنَّه لا يشترط فقد ورد في السُّنَّة إزالة النَّجاسة بغير الماء ، كالاستجمار بالأحجار .
ثمَّ إنَّ إزالة النَّجاسة ليست من باب المأمور ، بل من باب اجتناب المحظور ، فإذا حصل بأيِّ سبب كان ثَبَتَ الحُكم ولهذا لا يُشترط لإزالة النَّجاسة نيَّة ، فلو نزل المطر على الأرض المتنجِّسة وزالت طَهُرت ، ولو توضَّأ إنسان وقد أصابت ذراعَه نجاسةٌ ثمَّ بعد أن فرغ من الوُضوء ذكرها فوجدها قد زالت بماءِ الوُضُوء فإنَّ يده تطهر .
والجواب عمَّا استدَّل به من قال بتعيُّن الماء :
أنَّه لا ينكر أنَّ الماء مطهَّر ، وأنَّه أيسر تطهَّر به الأشياء ، لكن إثبات كونه مطهِّرًا ، لا يمنع أن يكون غيره مطهِّرًا ، لأنَّ لدينا قاعدة وهي : انتفاء الدَّليل المعيَّن لا يَستلزِم انتفاء المدلول ، لأنَّه قد يَثْبُتُ بدليل آخر .
وأمَّا بالنَّسبة لحديث أنس ، وأَمْرُ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم بأن يُصَبَّ عليه الماء فإنَّ ذلك لأجل المبادرة بتطهيره ، لأنَّ الشَّمس لا تأتي عليه مباشرة حتَّى تُطهره بل تحتاج ذلك إلى أيام ، والماء يُطهِّره في الحال ، والمسجد يحتاج إلى المبادرة بتطهيره ، لأنَّه مُصلَّى النَّاس ، فلا يدلُّ تعيينُه على تعيُّنِهِ ، لأنَّ تعيينَه لكونه أسرَع في الإزالة ، وأيسرَ على المكلَّف .
فإذا زالت النَّجاسة بأيِّ مزيل كان طَهُر محلُّها ، لأنَّ النَّجاسة عينٌ خبيثة ، فإذا زالت زال حكمها وصفًا كالحدث لا يُزال إلاَّ بما جاء به الشَّرع .
ولهذا ينبغي للإنسان أن يُبادر بـإزالة النَّجاسة عن مسجده وثوبه وبَدَنهِ .
3- أنَّ النَّجاسة لا يشترط فيها عدد إلاَّ ما جاء به النَّصُّ كغسل لعاب الكلب سبع مرَّات إحدها بالتُّراب ، وذلك أنَّ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أمر بذنوب من ماء ، ولم يكرِّر الغسل ، فلا يعتبر العدد إذا قام في غالب الطَّنِّ أنَّ المكان زالت منه النَّجاسة وطهر .
4- أنَّ بول الآدمي نجس بالإجماع .
5- طهارة الأرض النَّجسة بصبِّ الماء عليها ، ولا يُشترط حفرها وهو قول جمهور العلماء ، وذُكر عن الحنفيَّة أنَّه يُشترط حفرها لكنَّ الصَّواب أنَّ الحنفيَّة يفرِّقون بين الأرض الرِّخوة والأرض الصَّلبة قال الكاساني في بدائع الصَّنائع (1/89) : " ولو أنَّ الأرض أصابتها نجاسةٌ رطبة ، فإن كانت الأرض رِخْوَة يُصَبُّ عليها الماء ، حتَّى يتسَّفَّلَ فيها فإذا لم يبق على وجهها شيءٌ منَ النَّجاسة ، وتسفَّلَت المياه يحكم بطهارتها ، ولا يُعتبرُ فيها العددُ وإنَّما هو على اجتهاده ، وما في غالب ظنِّه أنَّها طهُرت ، ويقوم التَّسفُّلُ في الأرض مقام العصر فيما يحتمل العصرَ ، وعلى قياس ظاهر الرِّواية يُصَبُّ الماءُ عليها ثلاث مرَّات ، ويتسفَّلُ في كلِّ مرَّةٍ ، وإن كانت الأرض صلبة فإن كانت صَعُودًا يُحفرُ في أسفلها حفيرةٌ ، ويُصبُّ الماء عليها ثلاث مراتٍ ، ويزال عنها إلى الحفيرة ، ثمَّ تكبرُ الحفيرةُ ، وإن كانت مستويةً بحيث لا يزول الماء عنها لا تغسل ، لعدم الفائدة في الغسل .
وقال الشَّافعيُّ : إذَا كُوثِرَت بالماء طهُرت ، وهذا فاسدٌ ، لأنَّ الماء النَّجس باقٍ حقيقةً ، ولكن ينبغي أن نقلب فيُجعَلُ أعلاها أسفلها ، وأسفلها أعلاها ليصير التُّراب الطَّاهر وجه الأرض ، هكذا روي أنَّ أعرابيًّا بال في المسجد ، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُحفَرَ موضعُ بوله ، فدلَّ أنَّ الطَّريق ما قلنا ، والله أعلم " إ.هـــــــ
ولا شكَّ أنَّ الحديث الوارد في ذلك ضعيف لا تقوم بمثله الحجَّة ، وما جاء في الطُّرق الصَّحيحة المتقدِّمة ظاهر أنَّه لا يشترط الحفر ولا نقل التُّراب .
6- في الحديث دليل على الفرق بين ورود الماء على النَّجاسة وورود النَّجاسة على الماء ، فإنَّ ما صُبَّ عليه الماء من البول طهَّره ، وما وقع من البول في الماء أفسده ، إلاَّ إذا كان الماء كثيرًا بحيث لا تؤثِّره فيه النَّجاسة فيبقى على طهارته .
7- أنَّ إزالة النَّجاسة لا تفتقد إلى الدَّلك ، إلاَّ أن يكون لها عين لا ترتفع إلاَّ بذلك .
8- لا يجوز إدخال الثَّوب النَّجس إلى المساجد ، لأنَّها لا تصلح لشيء من هذا القذر .
إلى غير ذلك من مسائل هذا الحديث الفقهيَّة ...
تعليق