نقد كتاب ( التاج ) في الحديث
للشيخ محمد ناصر الدين الألباني
منذ بضع سنين جمعني مجلس مع أحد الطلاب للعلم الشرعي فجرى البحث فيه حول بعض السنن النبوية التي هجرها الناس جهلاً بها أو غفلة عنها ، ومنها وضع اليدين على الصدر في الصلاة ، فذكر الطالب المشار إليه أن من السنة وضعهما تحت السرة .فقلت له : إنها لا تثبت عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
فقال : بلى إنها ثابتة !
ثم جاءني بكتاب " التاج الجامع للأصول في أحاديث الرسول " تأليف الشيخ منصور علي ناصف من علماء الأزهر ، وأراني فيه (ص 188 ج 1) الحديث المعروف عن علي رضي الله عنه قال : " السنة وضع الكف على الكف في الصلاة تحت السرة " وقال في تخريجه : " رواه أبو داود وأحمد " وعلق عليه بقوله : " فالسنة وضعهما تحت السرة . . . ".
فقلت له : إن هذا الحديث ضعيف باتفاق علماء الحديث ، فلم يقبل ذلك مني بحجة أن أبا داود سكت عليه ، بناء على سكوت المؤلف عليه !
فقلت : لو سكت أبو داود عليه فلا حجة فيه بعد تبين علة الحديث واتفاق العلماء على تضعيفه ، وفي سنن أبي داود كثير من الأحاديث الضعيفة وقد سكت عنها أبو داود ، وهو إنما تعهد أن يبين ما فيه وهن شديد ، وأما الضعيف فقط الذي لم يشتد ضعفه فلم يتعهد بيانه كما هو مشروح في " مصطلح الحديث " ، ومع ذلك فإن أبا داود لم يسكت على هذا الحديث بالذات ، بل عقبه ببان ضعفه وعلته فقال : " سمعت أحمد بن حنبل يضعف عبد الرحمن بن إسحاق الكوفي " يعني أحد رواة الحديث ، ثم أحلته في الاطلاع على تفصيل القول في تضعيف الحديث على كتاب " المجموع " للنووي و " نصب الراية " للزيلعي ، وذكرت له أن الأحاديث الصحيحة تصرح بخلاف هذا الحديث ، وأن السنة وضع اليدين على الصدر لا تحت السرة .
وكنت من قبل لا علم لي بهذا الكتاب ( التاج ) ، فلما أطلعني ذلك الطالب على الحديث المذكور فيه راعني منه سكوت المؤلف عن تضعيف أبي داود للحديث حتى توهم الطالب أنه صالح ! فكان ذلك حافزاً لي على تتبع أحاديث أخرى منه ، فتبينت لي أخطاء أخرى كثيرة فيه ، فاندفعت أدرس الكتاب من أوله حديثاً حديثاً دراسة فحص وتدقيق إلى آخر الجزء الأول منه ، فهالني ما فيه من الأخطاء الفاحشة التي توحي بأن المؤلف -مع احترامنا لشخصه- لا علم عنده بالحديث وعلومه ورواته .
ثم حالت ظروف علمية بيني وبين الاستمرار في نقد ( التاج ) وبيان أخطائه المتكاثرة المختلفة ، ولكني تيقنت من دراستي المشار إليها أن الكتاب لا يصلح أن يعتبر من المصادر الحديثية التي ينبغي الرجوع إليها والاعتماد عليها ، وان كان المؤلف قد زينه بتقاريظ كثيرة " لحضرات أصحاب الفضيلة علماء الإسلام " جاء في بعضها : " إني وجدت الكتاب إلى الخير هادياً وإلى صحيح السنة مرشداً " وفي بعضها : " إني أعد ظهور هذا الكتاب في هذا الزمن . . . معجزة من معجزاته -صلى الله عليه وسلم- . . . " إلى غير ذلك مما جاء في تقاريظهم التي تدل على الأقل أن فضيلتهم لم يدرسوا الكتاب دراسة إمعان وتدبر بل مروا عليه مر السحاب.
ولذلك فقد ظللت أنصح كل من يسألني عن الكتاب أن لا يقتنيه ، وأن يستعيض عنه بغيره من الكتب الجامعة المؤلفة قبله ، فإنها أقل بكثير خطأ منه لا سيما كتاب " بلوغ المرام " للحافظ ابن حجر ، فإنه على اختصاره منقح مصحح ، إلى أن كان يوم الأحد السابع والعشرين من شهر محرم الحرام سنة 1379 فجاءني أحد الشباب المؤمن المثقف فسألني عن الكتاب ورأيي فيه فأخبرته به وضربت له بعض الأمثلة فهاله ذلك ، وحضني على نشر ما كتبته عن الجزء الأول منه ، أو نشر فكرة عامة عن الكتاب حتى يكون الناس على علم بحقيقته لا سيما وقد طبح الكتاب طبعة ثانية ! فوعدته خيراً .
ثم نظرت في الأمر فرأيت أن نشر نقد الجزء الأول كله يقتضي أن أتوجه إلى نقد بقية أجزاء الكتاب الخمسة وهذا يتطلب مني سعة من الوقت والفراغ ، وهذا مما لا سبيل إليه ولا يمكن الحصول عليه ، ولذلك فقد بدا لي أن اكتب كلمة جامعة عن الكتاب ألخص فيها رأيي فيه ، وأحصر فيها أنوع الأخطاء التي وردت فيه مع ضرب أمثلة لكل نوع منها حتى يكون القاريء الكريم على بينة مما أقول فيه .
والله تعالى يشهد أنه ليس لي غرض من وراء ذلك إلا نصح الأمة وخدمة السنة وتطهيرها من الأخطاء التي قد تلصق بها باجتهاد خاطيء أو رأي غير ناضج .
أسأل الله عز وجل أن يلهمني الصواب في القول والعمل ، وأن يجعله خالصاً لوجهه الكريم .
إن الأخطاء الواردة في ( التاج ) من الكثرة بحيث لا يمكن إحصاؤها في هذه الكلمة ، ولذلك فإني أقتصر فيها على ذكر رؤوس هذه الأخطاء وأهمها ، فأقول ، وبالله أستعين:
أخطاء ( التاج ) بالجملة
يمكن حصر الأخطاء المشار إليها على الوجه الآتي:
1- تقويته للأحاديث الضعيفة والموضوعة .
2- تضعيفه للأحاديث القوية ، وهذا النوع والذي قبله أخطر شيء في ( التاج ).
3- نقله الأحاديث من كتب أخرى غير الأصول الخمسة التي ألف كتابه منها وخاصة في التعليق عليه ، فإنه ينقل فيه ما هب ودب من الحديث ، مما لا أصل له البتة في كتب السنة ، أو له أصل لكنه منكر ، أو موضوع دون أن ينبه عليها ، أو يشير أدنى إشارة إليها !
4- سكوته عن تضعيف الحديث ، مع أن من عزاه إليه قد صرح بضعفه أو أشار إليه ! وليس هذا من الأمانة العلمية في شيء !
5- عزوه الحديث إلى أحد أصحاب الأصول الخمسة وهو لم يخرجه !
6- تقصيره في تخريج الحديث ، فإنه يعزوه لأحد أصحاب الأصول وهو عند سائرهم أو بعضهم وقد يكون من أصحاب الصحيح ، وهذا عيب كبير عند أهل الحديث كما هو واضح .
7- إطلاقه العزو إلى البخاري ، وهو يفيد عند أهل العلم أنه عنده في صحيحه ، وليس الحديث فيه ، بل في غيره من كتبه كخلق أفعال العباد وغيره التي لا يتقيد فيها البخاري بالحديث الصحيح بخلاف كتابه " الجامع الصحيح " الذي اشترط أن يورد فيه أصح ما عنده ، فيوهم المؤلف أن الحديث في " الصحيح " وقد يكون غير صحيح !
8- إطلاقه العزو للصحيحين وهو يفيد عندهم أنه عندهما متصل الإسناد منهما إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، والواقع أنه عندهما معلق بدون سند فيوهم المؤلف بذلك أنه صحيح مسند ، وقد يكون صاحب الصحيح قد أشار لضعفه ، فتأمل كم في هذا الإطلاق من البعد عن الصواب ! وقد يطلق العزو إلى غير الصحيحين أيضاً ، وهذا أيسر ، إلا إذا أشار لضعفه وسكت عليه المؤلف !
9- قوله في الحديث الذي رواه أبو داود ساكتاً عليه " إسناده صالح " فيوهم بذلك القراء الذين لا علم عندهم باصطلاحات العلماء أنه صالح حجة أي أنه حسن أو صحيح ، كما هو الاصطلاح الغالب عند العلماء ، وهو المتبادر من هذه اللفظة ( صالح ) ، مع أن فيما سكت عليه أبو داود كثيراً من الضعاف ، ذلك لأن له فيها اصطلاحاً خاصاً ، فهو يعني بها ما هو أعم من ذلك بحيث يشمل الضعيف الصالح للاستشهاد به لا للاحتجاج كما يشمل ما فوقه ، على ما قرره الحافظ ابن حجر ، فما جرى عليه بعض المتأخرين من أن ما سكت عليه أبو داود فهو حسن ، خطأ محض ، يدل عليه قول أبي داود نفسه " وما فيه وهن شديد بينته، وما لم أذكر فيه شيئاً فهو صالح ، وبعضها أصح من بعض " فهذا نص على أنه إنما يبين ما فيه ضعف شديد ، وما كان فيه ضعف غير شديد سكت عليه وسماه صالحاً ، من أجل ذلك نجد العلماء المحققين يتتبعون ما سكت عليه أبو داود ببيان حاله من صحة أو ضعف ، حتى قال النووي في بعض هذه الأحاديث الضعيفة عنده: " وإنما لم يصرح أبو داود بضعفه لأنه ظاهر " ذكره المناوي ، وعليه كان ينبغي على المصنف أن يعقب كل حديث رواه أبو داود ساكتاً عن ضعفه ببيان حاله تبعاً للعلماء المحققين ، لا بأن يتبعه بقوله " صالح " وإن كان ضعيفاً بين الضعف دفعاً للوهم الذي ذكرنا ، ولأنه لا يفهم منه على الضبط درجة الحديث التي تعهد المؤلف بيانها بقوله المذكور في مقدمة كتابه " كل حديث سكت عنه أبو داود فهو صالح " وسأتبع ذلك في بيان درجة ما رواه بقولي : بسند صالح " وليس في قوله البيان المذكور ، لما حققته آنفاً أن قول أبي داود يشمل الضعيف والحسن والصحيح ، فأين البيان ؟!
10- تناقضه في تقليده لأبي داود في كلمته المذكورة آنفاً ، وفي تعهد المؤلف في اتباع ما سكت عليه أبو داود بقوله " صالح " ، فتراه تارة قد وفى بهذا التعهد ، وإن كان فيه ما سبق بيانه في الفصل الذي قبله ، وتارة يسكت عن كثير مما سكت عليه أبو داود خلافاً للتعهد ، وفيه الضعيف والحسن والصحيح ، وأحياناً يعقبه بقوله : " لم يبينوا درجته " ، ورأيته مرة تعقبه في حديث بأن في سنده ضعيفاً ، والحديث صحيح -كما سيأتي بيانه-.
11- تقليده للترمذي في التضعيف ، مع أن سنده عند التحقيق حسن أو صحيح نظيف ، وفي التحسين وهو يستحق التصحيح.
12- مخالفته للترمذي وغيره في التضعيف ، فيقوي ما ضعفوه وهو مخطئ في ذلك !
13- يورد الحديث عن صحابي برواية بعض أصحاب الأصول ، ثم يعطف على ذلك فيقول : " ولأبي داود " ( مثلاً ) فيذكر الحديث بلفظ آخر يوهم أنه عنده عن ذلك الصحابي أيضاً ، والواقع أنه حديث آخر عن صحابي آخر ! وتارة يقول : " رواه فلان وفلان " وتارة يزيد عليه بقوله : " بسند حسن " ، والواقع أنهما إسنادان وقد يكون أحدها صحيحاً ، ولا يخفى ما في ذلك من بخس في الرواية لأن الحديث إما أن يكون ضعيفاً بسنده الأول فيقوى بسنده الآخر ، وإما أن يكون حسناً فيرتقي إلى الصحة بالسند الآخر أو صحيحاً فيزداد صحة.
14- يعزو الحديث لجماعة من المخرجين ثم يقول : " فلان سنده كذا وفلان سنده كذا " يغاير بين السندين والسند واحد ، وقد يكون الأول رواه من طريق الآخر ، وهذا من الطرائف !!
15- يعزو الحديث لأحدهم من رواية صحابي وهو عنده عن غيره أو لا إسناد له به !
16- يزيد في الحديث من عنده ما ليس عند أحد ممن عزاه إليهم بل ولا عند غيرهم ، وتارة يحذف منه ما هو ثابت فيه !!
17- يطلق العزو للنسائي ، وهو يعني به سننه الصغرى المعروفة بالمجتبى كما نص عليه في المقدمة ، وكثيراً ما لا يكون الحديث فيه ، بل في غيره من كتبه الأخرى مثل " عمل اليوم والليلة " و" السنن الكبرى " !!
18- تحسينه أو تصحيحه لأسانيد الأحاديث التي يقول الترمذي فيها " حديث حسن " أو " حديث صحيح " متوهماً أن الترمذي لا يقول ذلك إلا فيما كان سنده حسناً أو صحيحاً ! وذلك غفلة منه عما ذكره الترمذي نفسه في آخر كتابه ! قال (2 / 340) : " كل حدث يروى لا يكون في إسناده من يتهم بالكذب ، ولا يكون الحديث شاذاً ، ويروى من غير وجه نحو ذاك فهو عندنا حديث حسن ".
فهذا نص منه على أنه يحسن الحديث الذي فيه ضعيف غير متهم وله طريق آخر ، فتحسين إسناد الحديث حينئذ لقول الترمذي فيه " حديث حسن " خطأ واضح ، بل لابد من النظر في سنده وأن يعطى له ما يستحق من ضعف أو حسن أو صحة ، شأنه في ذلك شأن الأحاديث التي سكت عليها أبو داود ، وقد عرفت الحق فيها -كما تقدم-.
19 – اعتماده على التوثيق الواهي دون التضعيف الراجح . المصدر: مجلة المسلمون (6 / 1007 – 1012).