بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه
أما بعد:
(لفظ الحديث)
عنْ عَائِشَةَ-رضي الله عنها- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: (أَمَرَ بِكَبْشٍ أَقْرَنَ يَطَأُ فِي سَوَادٍ وَيَبْرُكُ فِي سَوَادٍ وَيَنْظُرُ فِي سَوَادٍ فَأُتِىَ بِهِ لِيُضَحِّىَ بِهِ فَقَالَ لَهَا :( يَا عَائِشَةُ هَلُمِّى الْمُدْيَةَ ).
ثُمَّ قَالَ ( اشْحَذِيهَا بِحَجَرٍ ). فَفَعَلَتْ ثُمَّ أَخَذَهَا وَأَخَذَ الْكَبْشَ فَأَضْجَعَهُ ثُمَّ ذَبَحَهُ ثُمَّ قَالَ ( بِاسْمِ اللَّهِ اللَّهُمَّ تَقَبَّلْ مِنْ مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ وَمِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ ). ثُمَّ ضَحَّى بِهِ).
( تخريج الحديث)
أخرجه الإمام مسلم-رحمه الله-[6/78] باب:(اسْتِحْبَابِ الضَّحِيَّةِ وَذَبْحِهَا مُبَاشَرَةً بِلاَ تَوْكِيلٍ وَالتَّسْمِيَةِ وَالتَّكْبِيرِ)، والأمام أحمد-رحمه الله- في"مسنده"[ج6 ص78]، والإمام أبو داود-رحمه الله- في "سننه" [3/51] كتايب الضحايا، باب:(باب ما يستحب من الضحايا).
وجاء عند أبي داود-رحمه الله-[3/52]، والترمذي في"جامعه":[4/85]، وابن ماجه في"سننه":[4/306] والنسائي في "الكبرى":[4/346]باب:(الكبش)، والطبراني في"الأوسط":[5/232]، والبيهقي:[6/118] من طريق أخرى :حَدَّثَنَا حَفْصٌ عَنْ جَعْفَرٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِى سَعِيدٍ، كلهم بلفظ: (يُضَحِّى بِكَبْشٍ أَقْرَنَ فَحِيلٍ يَنْظُرُ فِي سَوَادٍ وَيَأْكُلُ فِي سَوَادٍ وَيَمْشِى فِي سَوَادٍ).
( الحكم على الحديث)
الطريق الأولى
الطريق الأولى: فهي في "صحيح "الإمام مسلم-رحمه الله-:(حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ قَالَ قَالَ حَيْوَةُ أَخْبَرَنِى أَبُو صَخْرٍ عَنْ يَزِيدَ بْنِ قُسَيْطٍ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عَائِشَةَ). وهي صحيحة ويكفيك أيها القارئ الحصيف أنها في "صحيح الإمام مسلم"-رحمه الله- فقد تلقت الأمة أحاديث الصحيحين بالقبول.
قال الحافظ ابن حجر: والجواب عنه على سبيل الإجمال أن نقول لا ريب في تقديم البخاري ثم مسلم على أهل عصرهما ومن بعده من أئمة هذا الفن في معرفة الصحيح والمعلل، فإنهم لا يختلفون في أن علي بن المديني كان أعلم أقرانه بعلل الحديث، وعنه أخذ البخاري ذلك، حتى كان يقول: "ما استصغرت نفسي عند أحد إلا عند علي بن المديني". ومع ذلك فكان علي بن المديني إذا بلغه ذلك عن البخاري يقول: دعوا قوله فإنه ما رأى مثل نفسه.
وكان محمد بن يحيى الذهلي أعلم أهل عصره بعلل حديث الزهري، وقد استفاد منه ذلك الشيخان جميعا.
وروى الفربري عن البخاري قال: "ما أدخلت في الصحيح حديثا إلا بعد أن استخرت الله تعالى وتيقنت صحته اهـ1
وقال مكي بن عبدان: سمعت مسلم بن الحجاج يقول: "عرضت كتابي هذا على أبي زرعة الرازي فكل ما أشار أن له علة تركته اهـ2
وقال رحمه الله-: أول من صنف في الصحيح ، البخاري أبو عبد الله محمد بن إسماعيل وتلاه أبو الحسين مسلم بن الحجاج القشيري ومسلم مع أنه أخذ عن البخاري واستفاد منه فإنه يشارك البخاري في كثير من شيوخه وكتاباهما أصح الكتب بعد كتاب الله العزيز اهـ3
وقال النووي-رحمه الله-: الصحيح أقسام أعلاها ما اتفق عليه البخاري ومسلم ثم ما انفرد به البخاري ثم مسلم ثم على شرطهما ثم على شرط البخاري ثم مسلم ثم صحيح عند غيرهم اهـ4
وقال السيوطي في ألفيته:
وانتقدوا عليهما يسيـــــــــــرا...فكم ترى نحوهما نصيــــــرا
و ليس في الكتب أصحّ منهما...بعد القرآن و لهذا قُدِّمــــــا
وقال القاسمي-رحمه الله-: صحة الحديث توجب القطع به كما اختاره ابن الصلاح في الصحيحين و جزم بأنه هو القول الصحيح اهـ5
وقال ولي الله الدهلوي-رحمه الله-: أما الصحيحان فقد اتفق المحدثون على أن جميع ما فيهما من المتصل المرفوع صحيح بالقطع وأنهما متواتران إلى مصنفيهما وأن كل من يهون أمرهما فهو مبتدع متبع غير سبيل المؤمنين اهـ6
وقال الشوكاني-رحمه الله-: واعلم أن ما كان من الأحاديث في الصحيحين أو أحدهما جاز الاحتجاج به من دون بحث لأنهما التزما الصحة وتلقت ما فيهما الأمة بالقبول اهـ7
وقال العلامة المحدث أحمد شاكر-رحمه الله-: الحق الذي لا مرية فيه عند أهل العلم بالحديث من المحققين وممن اهتدى بهديهم وتبعهم على بصيرة من الأمر : أن أحاديث الصحيحين صحيحة كلها .
ليس في واحد منها مطعن أو ضعف . وإنما انتقد الدارقطني وغيره من الحفاظ بعض الأحاديث . على معنى أن ما انتقدوه لم يبلغ في الصحة الدرجة العليا التي التزمها كل واحد منهما في كتابه . وأما صحة الحديث في نفسه فلم يخالف أحد فيها . فلا يهولنك إرجاف المرجفين . وزعم الزاعمين أن في الصحيحين أحاديث غير صحيحة وتتبع الأحاديث التي تكلموا فيها وانقدها على القواعد الدقيقة التي سار عليها أئمة أهل العلم واحكم عن بينة والله الهادي إلى سواء السبيل اهـ8
وقال العلامة المحدث الألباني-رحمه الله-: كيف والصحيحان هما أصح الكتب بعد كتاب الله تعالى باتفاق علماء المسلمين من المحدثين وغيرهم فقد امتازا على غيرهما من كتب السنة بتفردهما بجمع أصح الأحاديث الصحيحة وطرح الأحاديث الضعيفة والمتون المنكرة على قواعد متينة وشروط دقيقة وقد وفقوا في ذلك توفيقاً بالغاً لم يوفق إليه من بعدهم ممن نحا نحوهم في جمع الصحيح كابن خزيمة وابن حبان والحاكم وغيرهم حتى صار عرفاً عاماً أن الحديث إذا أخرجه الشيخان أو أحدهما فقد جاوز القنطرة ودخل في طريق الصحة والسلامة . ولا ريب في ذلك وأنه هو الأصل عندنا اهـ9
وسئل العلامة المحدث مقبل الوادعي-رحمه الله-: قول ابن الصلاح: إن الأمة تلقت "الصحيحين" بالقبول، هل هذا عليه العمل؟ وإذا كان هذا عليه العمل، فهل لي أنا أو لغيري من طلبة العلم إذا اتضح له حديث فيه علة ولم يتكلم عليه الأئمة الأولون هل لي أن أتكلم فيه، لأني سمعت أن بعض الإخوة يضعف حديثًا في البخاري ما ذكره الدارقطني، ولا غيره من الأئمة، فهل هذا الأخ أو الذي يقول هذه المقالة يدفع بأن الأمة تلقت هذين "الصحيحين" بالقبول إلا الأحرف اليسيرة؟ أم يقول الأمر أمر اجتهاد، وأسير كما سار الدارقطني، وأنا صاحب شوكة وصاحب أهلية...الخ؟
فأجاب: الذي يظهر أن "الصحيحين" قد تلقتهما الأمة بالقبول-كما يقول ابن الصلاح- إلا أحاديث يسيرة انتقدها الحفاظ كالدارقطني وغيره، وأنه لا ينبغي أن يفتح الباب لزعزعة الثقة بما في "الصحيحين"، وربّ حديث يكون قد تحقق للعلماء أنه صحيح مثل البخاري، أقصد أن مثل الإمام البخاري، وأحمد بن حنبل، وابن معين، وعلي بن المديني، ومن جرى مجراهم، يعرفون الراوي وما روى عن ذلك الشيخ، وإذا روى حديثًا ليس من حديثه يقولون: هذا ليس من حديث فلان، دليل على أنّهم يحفظون حديث كل محدث، وربما يروون له عن أناس مخصوصين، فهم قد اطلعوا على مالم نطلع عليه، ونحن ما بلغْنا منْزلتهم، والصحيح أنّ مثلنا مثل الذي يعشي-وأنا أتحدث عن نفسي أولاً- فالذي يعشي يمشي في الليل وعنده نور قليل فهو يتخبط، فنحن نفتش الورق ونقرأ ونبحث، فينبغي أن يعلم أنّهم حفاظ، ونحن لسنا بحفاظ، وربما نغترّ بظاهر السند هو كالشمس في نظرنا، وهو معلّ عندهم، وربما يكون في السند ابن لهيعة، وهم يعلمون أنّ هذا الحديث من صحيح حديث ابن لهيعة، فإذا صححه الحافظ الكبير ولم يقدح فيه حافظ معتبر مثله فهو مقبول لأنّهم قد نخلوا سنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم نخلاً، ولو كان ضعيفًا لصاحوا به اهـ10
الطريق الثانية
أما الطريق الثانية: فقد صححها الترمذي وابن حبان.
قال الحافظ ابن حجر-رحمه الله-: حديث عائشة: "أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بكبش أقرن، يطأ في سواد، وينظر في سواد، ويبرك في سواد، فأتي به ليضحى به: فقال: يا عائشة، هلمي المدية، ثم قال: "اشحذيها بحجر، ففعلت، ثم أخذها، وأخذ الكبش فأضجعه، ثم ذبحه"، ثم قال: "بسم الله، اللهم تقبل من محمد، ومن أمة محمد، ثم ضحى" ، مسلم بهذا، وزاد النسائي: "ويأكل في سواد" ، ورواه أصحاب السنن من حديث أبي سعيد،وصححه الترمذي وابن حبان، وهو على شرط مسلم، قاله صاحب "الاقتراح" اهـ 11
وقال صاحب "الاقتراح": هو على شرط مسلم.
وقال العلامة المحدث الألباني-رحمه الله-: (صحيح) أنظر:
"صحيح أبي داود" [2492] و"صحيح المشكاة" [1766]و"صحيح ابن ماجة" [3128]
( فقه الحديث-وغريبه)
المدية : السكين.
شحذتها : شحذت السكين ونحوها : إذا حددتها بالمسن وغيره مما يستخرج به حدها ، وكذلك شحثتها بالثاء - لأن الثاء والذال متقاربان.
قال الخطابي: قولها يطأ في سواد الخ تريد أن أظلافه ومواضع البروك منه وما أحاط بملاحظ عينيه من وجهه أسود وسائر بدنه أبيض اهـ12
وقال القرطبيُّ -رحمه الله-: قوله : ( أمر بكبش أقرن ، يطأ في سواد ، وينظر في سواد، ويبرك في سواد ) ؛ أي : أمر بأن ينتخب له كبش على هذه الشِّيَة، ففيه ما يدل على أن المضحي ينبغي له أن يختار الأفضل نوعًا، وأكمل خلقًا ، والأحسن شِيَة . فالأقرن : الطويل القرن ، وهو أفضل . ولا خلاف في جواز الأجم .
واختلف في المكسورة القرن . فالجمهور على الجواز ، وقد روى أبو داود عن علي : أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ نهى أن يُضحَّى بعضباء الأذن والقرن .
وكرهه مالك إن كان يدمى ؛ لأنَّه مرض ، وأجازه إن لم يَدْم .
ومعى:( يطأ في سواد) ؛ أي : أسود القوائم .
(ويبرك في سواد) ؛ أي : في بطنه سواد .
(وينظر في سواد) ؛ أي : ما حول عينيه أسود اهـ13
وقال النووي-رحمه الله-: قوله : (يطأ في سواد ويبرك في سواد وينظر في سواد)، فمعناه أن قوائمه وبطنه وما حول عينيه أسود والله أعلم اهـ14
وقال العظيم آبادي-رحمه الله-: ( يَطَأ فِي سَوَاد وَيَنْظُر فِي سَوَاد وَيَبْرُك فِي سَوَاد): أَيْ يَطَأ الْأَرْض وَيَمْشِي فِي سَوَاد . وَالْمَعْنَى أَنَّ قَوَائِمه وَبَطْنه وَمَا حَوْل عَيْنَيْهِ أَسْوَد اهـ15
وقال الإمام السندي-رحمه الله-: (يمشي في سواد) أي: في رجليه سواد (ويأكل في سواد) أي: في بطنه سواد (وينظر في سواد) أي حول عينيه سواد وباقيه أبيض وهو أجمل اهـ16
وقال الشوكاني-رحمه الله-: (يأكل في سواد) الخ معناه: أن فمه أسود وقوائمه وحول عينيه وفيه دليل على أنها تستحب التضحية بما كان على هذه الصفة اهـ17
وقال العلامة المحدّث عبد المحسن العبّاد-حفظه الله-: أورد أبو داود هذه الترجمة: [باب ما يستحب من الضحايا]، يعني صفة الشيء الذي يضحى به، ينبغي أن يكون عليه، أو يستحب أن يكون عليه، وذلك فيما يتعلق باللّون أو كذلك السمن.
وأورد أبو داود حديث عائشة وهو يتعلق باللّون يعني لون الأضحية. قوله: (إن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بكبش أقرن) أي: يعني له قرنان، وذلك يدل على كمال خلقته، وكما هو معلوم غير الأقرن سائغ، ولكن هنا الإشارة إلى الأفضل وإلى الأولى وذلك يعني يكون في تمام الخلقة.
قولها:(يطأ في سواد) أي: أن رجليه ويديه سوداء، ومعناه أنه ليس كله أسود، وليس كله أبيض، ولكنه فيه سواد وبياض، والسواد في رجليه ويديه.
قولها: (وينظر في سواد) أي أن عينيه وما حول عينيه أسود.
قولها: (ويبرك في سواد) معناه أن أسفل بطنه والجهة التي تكون على الأرض يعني تكون سوداء، يعني أنه مختلط فيه سواد وفيه بياض، والسواد يكون في رأسه وفي رجليه وفي بطنه الذي يبرك عليه.
قوله: (هلمي المدية) أي: هاتي السكين.
قوله: (اشحذيها)معناه: تسنها أو تحدها كما جاء في الحديث: (إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته)، فالشحذ هنا هو الإحداد، ومعناه أن السكين تمر وتجرى على حجر أو على حديدة حتى يكون ما يقطع به حاداً، وذلك ليحصل مقصوده وهو الراحة للذبيحة وعدم المضرة والتعذيب للذبيحة، إذا كانت كالة تتألم الذبيحة وتتأذى. الحديث يدل على أن من صفات الذبيحة المستحبة أن يكون فيها بياض وسواد، وأن المضحي يستحب له أن يباشر الذبح بنفسه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم باشر الذبح بنفسه ولم يوكل أحداً، ويجوز للإنسان أن يوكل لكن المباشرة أولى؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك.
وكذلك أيضاً يدل الحديث على إراحة الذبيحة وشحذ الآلة التي يذبح بها حتى تكون حادة فلا تتأذى الذبيحة ولا يحصل لها تعذيب...ألخ 18
والله أعلى وأعلم
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه
أبو المقداد ربيع بن علي الليبي
السابع من ذي الحجة 1432 هجري
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه
أما بعد:
(لفظ الحديث)
عنْ عَائِشَةَ-رضي الله عنها- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: (أَمَرَ بِكَبْشٍ أَقْرَنَ يَطَأُ فِي سَوَادٍ وَيَبْرُكُ فِي سَوَادٍ وَيَنْظُرُ فِي سَوَادٍ فَأُتِىَ بِهِ لِيُضَحِّىَ بِهِ فَقَالَ لَهَا :( يَا عَائِشَةُ هَلُمِّى الْمُدْيَةَ ).
ثُمَّ قَالَ ( اشْحَذِيهَا بِحَجَرٍ ). فَفَعَلَتْ ثُمَّ أَخَذَهَا وَأَخَذَ الْكَبْشَ فَأَضْجَعَهُ ثُمَّ ذَبَحَهُ ثُمَّ قَالَ ( بِاسْمِ اللَّهِ اللَّهُمَّ تَقَبَّلْ مِنْ مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ وَمِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ ). ثُمَّ ضَحَّى بِهِ).
( تخريج الحديث)
أخرجه الإمام مسلم-رحمه الله-[6/78] باب:(اسْتِحْبَابِ الضَّحِيَّةِ وَذَبْحِهَا مُبَاشَرَةً بِلاَ تَوْكِيلٍ وَالتَّسْمِيَةِ وَالتَّكْبِيرِ)، والأمام أحمد-رحمه الله- في"مسنده"[ج6 ص78]، والإمام أبو داود-رحمه الله- في "سننه" [3/51] كتايب الضحايا، باب:(باب ما يستحب من الضحايا).
وجاء عند أبي داود-رحمه الله-[3/52]، والترمذي في"جامعه":[4/85]، وابن ماجه في"سننه":[4/306] والنسائي في "الكبرى":[4/346]باب:(الكبش)، والطبراني في"الأوسط":[5/232]، والبيهقي:[6/118] من طريق أخرى :حَدَّثَنَا حَفْصٌ عَنْ جَعْفَرٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِى سَعِيدٍ، كلهم بلفظ: (يُضَحِّى بِكَبْشٍ أَقْرَنَ فَحِيلٍ يَنْظُرُ فِي سَوَادٍ وَيَأْكُلُ فِي سَوَادٍ وَيَمْشِى فِي سَوَادٍ).
( الحكم على الحديث)
الطريق الأولى
الطريق الأولى: فهي في "صحيح "الإمام مسلم-رحمه الله-:(حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ قَالَ قَالَ حَيْوَةُ أَخْبَرَنِى أَبُو صَخْرٍ عَنْ يَزِيدَ بْنِ قُسَيْطٍ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عَائِشَةَ). وهي صحيحة ويكفيك أيها القارئ الحصيف أنها في "صحيح الإمام مسلم"-رحمه الله- فقد تلقت الأمة أحاديث الصحيحين بالقبول.
قال الحافظ ابن حجر: والجواب عنه على سبيل الإجمال أن نقول لا ريب في تقديم البخاري ثم مسلم على أهل عصرهما ومن بعده من أئمة هذا الفن في معرفة الصحيح والمعلل، فإنهم لا يختلفون في أن علي بن المديني كان أعلم أقرانه بعلل الحديث، وعنه أخذ البخاري ذلك، حتى كان يقول: "ما استصغرت نفسي عند أحد إلا عند علي بن المديني". ومع ذلك فكان علي بن المديني إذا بلغه ذلك عن البخاري يقول: دعوا قوله فإنه ما رأى مثل نفسه.
وكان محمد بن يحيى الذهلي أعلم أهل عصره بعلل حديث الزهري، وقد استفاد منه ذلك الشيخان جميعا.
وروى الفربري عن البخاري قال: "ما أدخلت في الصحيح حديثا إلا بعد أن استخرت الله تعالى وتيقنت صحته اهـ1
وقال مكي بن عبدان: سمعت مسلم بن الحجاج يقول: "عرضت كتابي هذا على أبي زرعة الرازي فكل ما أشار أن له علة تركته اهـ2
وقال رحمه الله-: أول من صنف في الصحيح ، البخاري أبو عبد الله محمد بن إسماعيل وتلاه أبو الحسين مسلم بن الحجاج القشيري ومسلم مع أنه أخذ عن البخاري واستفاد منه فإنه يشارك البخاري في كثير من شيوخه وكتاباهما أصح الكتب بعد كتاب الله العزيز اهـ3
وقال النووي-رحمه الله-: الصحيح أقسام أعلاها ما اتفق عليه البخاري ومسلم ثم ما انفرد به البخاري ثم مسلم ثم على شرطهما ثم على شرط البخاري ثم مسلم ثم صحيح عند غيرهم اهـ4
وقال السيوطي في ألفيته:
وانتقدوا عليهما يسيـــــــــــرا...فكم ترى نحوهما نصيــــــرا
و ليس في الكتب أصحّ منهما...بعد القرآن و لهذا قُدِّمــــــا
وقال القاسمي-رحمه الله-: صحة الحديث توجب القطع به كما اختاره ابن الصلاح في الصحيحين و جزم بأنه هو القول الصحيح اهـ5
وقال ولي الله الدهلوي-رحمه الله-: أما الصحيحان فقد اتفق المحدثون على أن جميع ما فيهما من المتصل المرفوع صحيح بالقطع وأنهما متواتران إلى مصنفيهما وأن كل من يهون أمرهما فهو مبتدع متبع غير سبيل المؤمنين اهـ6
وقال الشوكاني-رحمه الله-: واعلم أن ما كان من الأحاديث في الصحيحين أو أحدهما جاز الاحتجاج به من دون بحث لأنهما التزما الصحة وتلقت ما فيهما الأمة بالقبول اهـ7
وقال العلامة المحدث أحمد شاكر-رحمه الله-: الحق الذي لا مرية فيه عند أهل العلم بالحديث من المحققين وممن اهتدى بهديهم وتبعهم على بصيرة من الأمر : أن أحاديث الصحيحين صحيحة كلها .
ليس في واحد منها مطعن أو ضعف . وإنما انتقد الدارقطني وغيره من الحفاظ بعض الأحاديث . على معنى أن ما انتقدوه لم يبلغ في الصحة الدرجة العليا التي التزمها كل واحد منهما في كتابه . وأما صحة الحديث في نفسه فلم يخالف أحد فيها . فلا يهولنك إرجاف المرجفين . وزعم الزاعمين أن في الصحيحين أحاديث غير صحيحة وتتبع الأحاديث التي تكلموا فيها وانقدها على القواعد الدقيقة التي سار عليها أئمة أهل العلم واحكم عن بينة والله الهادي إلى سواء السبيل اهـ8
وقال العلامة المحدث الألباني-رحمه الله-: كيف والصحيحان هما أصح الكتب بعد كتاب الله تعالى باتفاق علماء المسلمين من المحدثين وغيرهم فقد امتازا على غيرهما من كتب السنة بتفردهما بجمع أصح الأحاديث الصحيحة وطرح الأحاديث الضعيفة والمتون المنكرة على قواعد متينة وشروط دقيقة وقد وفقوا في ذلك توفيقاً بالغاً لم يوفق إليه من بعدهم ممن نحا نحوهم في جمع الصحيح كابن خزيمة وابن حبان والحاكم وغيرهم حتى صار عرفاً عاماً أن الحديث إذا أخرجه الشيخان أو أحدهما فقد جاوز القنطرة ودخل في طريق الصحة والسلامة . ولا ريب في ذلك وأنه هو الأصل عندنا اهـ9
وسئل العلامة المحدث مقبل الوادعي-رحمه الله-: قول ابن الصلاح: إن الأمة تلقت "الصحيحين" بالقبول، هل هذا عليه العمل؟ وإذا كان هذا عليه العمل، فهل لي أنا أو لغيري من طلبة العلم إذا اتضح له حديث فيه علة ولم يتكلم عليه الأئمة الأولون هل لي أن أتكلم فيه، لأني سمعت أن بعض الإخوة يضعف حديثًا في البخاري ما ذكره الدارقطني، ولا غيره من الأئمة، فهل هذا الأخ أو الذي يقول هذه المقالة يدفع بأن الأمة تلقت هذين "الصحيحين" بالقبول إلا الأحرف اليسيرة؟ أم يقول الأمر أمر اجتهاد، وأسير كما سار الدارقطني، وأنا صاحب شوكة وصاحب أهلية...الخ؟
فأجاب: الذي يظهر أن "الصحيحين" قد تلقتهما الأمة بالقبول-كما يقول ابن الصلاح- إلا أحاديث يسيرة انتقدها الحفاظ كالدارقطني وغيره، وأنه لا ينبغي أن يفتح الباب لزعزعة الثقة بما في "الصحيحين"، وربّ حديث يكون قد تحقق للعلماء أنه صحيح مثل البخاري، أقصد أن مثل الإمام البخاري، وأحمد بن حنبل، وابن معين، وعلي بن المديني، ومن جرى مجراهم، يعرفون الراوي وما روى عن ذلك الشيخ، وإذا روى حديثًا ليس من حديثه يقولون: هذا ليس من حديث فلان، دليل على أنّهم يحفظون حديث كل محدث، وربما يروون له عن أناس مخصوصين، فهم قد اطلعوا على مالم نطلع عليه، ونحن ما بلغْنا منْزلتهم، والصحيح أنّ مثلنا مثل الذي يعشي-وأنا أتحدث عن نفسي أولاً- فالذي يعشي يمشي في الليل وعنده نور قليل فهو يتخبط، فنحن نفتش الورق ونقرأ ونبحث، فينبغي أن يعلم أنّهم حفاظ، ونحن لسنا بحفاظ، وربما نغترّ بظاهر السند هو كالشمس في نظرنا، وهو معلّ عندهم، وربما يكون في السند ابن لهيعة، وهم يعلمون أنّ هذا الحديث من صحيح حديث ابن لهيعة، فإذا صححه الحافظ الكبير ولم يقدح فيه حافظ معتبر مثله فهو مقبول لأنّهم قد نخلوا سنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم نخلاً، ولو كان ضعيفًا لصاحوا به اهـ10
الطريق الثانية
أما الطريق الثانية: فقد صححها الترمذي وابن حبان.
قال الحافظ ابن حجر-رحمه الله-: حديث عائشة: "أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بكبش أقرن، يطأ في سواد، وينظر في سواد، ويبرك في سواد، فأتي به ليضحى به: فقال: يا عائشة، هلمي المدية، ثم قال: "اشحذيها بحجر، ففعلت، ثم أخذها، وأخذ الكبش فأضجعه، ثم ذبحه"، ثم قال: "بسم الله، اللهم تقبل من محمد، ومن أمة محمد، ثم ضحى" ، مسلم بهذا، وزاد النسائي: "ويأكل في سواد" ، ورواه أصحاب السنن من حديث أبي سعيد،وصححه الترمذي وابن حبان، وهو على شرط مسلم، قاله صاحب "الاقتراح" اهـ 11
وقال صاحب "الاقتراح": هو على شرط مسلم.
وقال العلامة المحدث الألباني-رحمه الله-: (صحيح) أنظر:
"صحيح أبي داود" [2492] و"صحيح المشكاة" [1766]و"صحيح ابن ماجة" [3128]
( فقه الحديث-وغريبه)
المدية : السكين.
شحذتها : شحذت السكين ونحوها : إذا حددتها بالمسن وغيره مما يستخرج به حدها ، وكذلك شحثتها بالثاء - لأن الثاء والذال متقاربان.
قال الخطابي: قولها يطأ في سواد الخ تريد أن أظلافه ومواضع البروك منه وما أحاط بملاحظ عينيه من وجهه أسود وسائر بدنه أبيض اهـ12
وقال القرطبيُّ -رحمه الله-: قوله : ( أمر بكبش أقرن ، يطأ في سواد ، وينظر في سواد، ويبرك في سواد ) ؛ أي : أمر بأن ينتخب له كبش على هذه الشِّيَة، ففيه ما يدل على أن المضحي ينبغي له أن يختار الأفضل نوعًا، وأكمل خلقًا ، والأحسن شِيَة . فالأقرن : الطويل القرن ، وهو أفضل . ولا خلاف في جواز الأجم .
واختلف في المكسورة القرن . فالجمهور على الجواز ، وقد روى أبو داود عن علي : أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ نهى أن يُضحَّى بعضباء الأذن والقرن .
وكرهه مالك إن كان يدمى ؛ لأنَّه مرض ، وأجازه إن لم يَدْم .
ومعى:( يطأ في سواد) ؛ أي : أسود القوائم .
(ويبرك في سواد) ؛ أي : في بطنه سواد .
(وينظر في سواد) ؛ أي : ما حول عينيه أسود اهـ13
وقال النووي-رحمه الله-: قوله : (يطأ في سواد ويبرك في سواد وينظر في سواد)، فمعناه أن قوائمه وبطنه وما حول عينيه أسود والله أعلم اهـ14
وقال العظيم آبادي-رحمه الله-: ( يَطَأ فِي سَوَاد وَيَنْظُر فِي سَوَاد وَيَبْرُك فِي سَوَاد): أَيْ يَطَأ الْأَرْض وَيَمْشِي فِي سَوَاد . وَالْمَعْنَى أَنَّ قَوَائِمه وَبَطْنه وَمَا حَوْل عَيْنَيْهِ أَسْوَد اهـ15
وقال الإمام السندي-رحمه الله-: (يمشي في سواد) أي: في رجليه سواد (ويأكل في سواد) أي: في بطنه سواد (وينظر في سواد) أي حول عينيه سواد وباقيه أبيض وهو أجمل اهـ16
وقال الشوكاني-رحمه الله-: (يأكل في سواد) الخ معناه: أن فمه أسود وقوائمه وحول عينيه وفيه دليل على أنها تستحب التضحية بما كان على هذه الصفة اهـ17
وقال العلامة المحدّث عبد المحسن العبّاد-حفظه الله-: أورد أبو داود هذه الترجمة: [باب ما يستحب من الضحايا]، يعني صفة الشيء الذي يضحى به، ينبغي أن يكون عليه، أو يستحب أن يكون عليه، وذلك فيما يتعلق باللّون أو كذلك السمن.
وأورد أبو داود حديث عائشة وهو يتعلق باللّون يعني لون الأضحية. قوله: (إن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بكبش أقرن) أي: يعني له قرنان، وذلك يدل على كمال خلقته، وكما هو معلوم غير الأقرن سائغ، ولكن هنا الإشارة إلى الأفضل وإلى الأولى وذلك يعني يكون في تمام الخلقة.
قولها:(يطأ في سواد) أي: أن رجليه ويديه سوداء، ومعناه أنه ليس كله أسود، وليس كله أبيض، ولكنه فيه سواد وبياض، والسواد في رجليه ويديه.
قولها: (وينظر في سواد) أي أن عينيه وما حول عينيه أسود.
قولها: (ويبرك في سواد) معناه أن أسفل بطنه والجهة التي تكون على الأرض يعني تكون سوداء، يعني أنه مختلط فيه سواد وفيه بياض، والسواد يكون في رأسه وفي رجليه وفي بطنه الذي يبرك عليه.
قوله: (هلمي المدية) أي: هاتي السكين.
قوله: (اشحذيها)معناه: تسنها أو تحدها كما جاء في الحديث: (إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته)، فالشحذ هنا هو الإحداد، ومعناه أن السكين تمر وتجرى على حجر أو على حديدة حتى يكون ما يقطع به حاداً، وذلك ليحصل مقصوده وهو الراحة للذبيحة وعدم المضرة والتعذيب للذبيحة، إذا كانت كالة تتألم الذبيحة وتتأذى. الحديث يدل على أن من صفات الذبيحة المستحبة أن يكون فيها بياض وسواد، وأن المضحي يستحب له أن يباشر الذبح بنفسه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم باشر الذبح بنفسه ولم يوكل أحداً، ويجوز للإنسان أن يوكل لكن المباشرة أولى؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك.
وكذلك أيضاً يدل الحديث على إراحة الذبيحة وشحذ الآلة التي يذبح بها حتى تكون حادة فلا تتأذى الذبيحة ولا يحصل لها تعذيب...ألخ 18
والله أعلى وأعلم
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه
أبو المقداد ربيع بن علي الليبي
السابع من ذي الحجة 1432 هجري
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
1-"هدي الساري"[1/506].
2-"المصدر السابق"[1/506].
3-"التلخيص الحبير"[4/340].
4-"تدريب الراوي شرح التقريب"[1 /123-122].
5-"قواعد التحديث"[ ص: 87].
6-"حجة الله البالغة"[1/249] .
7-"نيل الأوطار" [1/22] .
8-"الباعث الحثيث شرح اختصار علوم الحديث"[ ص:35] .
9-مقدمة"شرح العقيدة الطحاوية" [ص:14-15].
10-راجع "المقترح في أجوبة أسئلة المصطلح"[ص:18].
11-"فتح الباري"[10/12].
12-"المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم".
13-"شرح النووي على صحيح مسلم "[13/120].
14-"عون المعبود "[7/498].
15-"حاشية السندي على النسائي"[7/221].
16-"نيل الأوطار "[9/247].
17-"شرح سنن أبي داود" شريط رقم:[205].
2-"المصدر السابق"[1/506].
3-"التلخيص الحبير"[4/340].
4-"تدريب الراوي شرح التقريب"[1 /123-122].
5-"قواعد التحديث"[ ص: 87].
6-"حجة الله البالغة"[1/249] .
7-"نيل الأوطار" [1/22] .
8-"الباعث الحثيث شرح اختصار علوم الحديث"[ ص:35] .
9-مقدمة"شرح العقيدة الطحاوية" [ص:14-15].
10-راجع "المقترح في أجوبة أسئلة المصطلح"[ص:18].
11-"فتح الباري"[10/12].
12-"المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم".
13-"شرح النووي على صحيح مسلم "[13/120].
14-"عون المعبود "[7/498].
15-"حاشية السندي على النسائي"[7/221].
16-"نيل الأوطار "[9/247].
17-"شرح سنن أبي داود" شريط رقم:[205].
تعليق