إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِىَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ الَّذِى تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا.
أما بعد: فهذه دراسة استقرائية حديثية لبيان حكم المستحاضة في الوضوء لكل صلاة أو الاغتسال أو الجمع الصوري فقد اختلف أهل العلم من الفقهاء والمحدثين في حكم الوضوء والاغتسال للمستحاضة على أربعة أقوال وذلك تبعا للأدلة الواردة في المسألة والاختلاف في ظواهر الأدلة وفي ثبوتها وعدمه.
وقد ذكر هذه الأقوال أبو الوليد محمد بن أحمد القرطبي الشهير بابن رشد في كتابه بداية المجتهد ونهاية المقتصد ج1/ص43 فقال: " اختلف العلماء في المستحاضة فقوم أوجبوا عليها طهرا واحدا فقط وذلك عندما ترى أنه قد انقضت حيضتها بإحدى تلك العلامات التي تقدمت على حسب مذهب هؤلاء في تلك العلامات وهؤلاء الذين أوجبوا عليها طهرا واحدا انقسموا قسمين فقوم أوجبوا عليها أن تتوضأ لكل صلاة وقوم استحبوا ذلك لها ولم يوجبوه عليها والذين أوجبوا عليها طهرا واحدا فقط هم مالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابهم { قلت (أبو الحسين) : الذين استحبوا الوضوء: مالك وربيعة والليث وأحمد واسحاق؛ قال في تحفة الأحوذي1/ 322:"قال أحمد وإسحاق إن اغتسلت لكل فرض فهو أحوط قاله الحافظ في الفتح وقال ابن عبد البر ليس في حديث مالك ذكر الوضوء لكل صلاة على المستحاضة وذكر في حديث غيره فلذا كان مالك يستحبه لها ولا يوجبه كما لا يوجبه على صاحب السلس"؛ وأما الشافعي فقد أوجبه قياسا وسيأتي كلامه؛ ولا قياس في العبادات؛ وأما أبو حنيفة فقد قال بالجمع الصوري }. ثم قال ابن رشد: وأكثر فقهاء الأمصار وأكثر هؤلاء أوجبوا عليها أن تتوضأ لكل صلاة وبعضهم لم يوجب عليها إلا استحبابا وهو مذهب مالك؛ وقوم آخرون غير هؤلاء رأوا أن على المستحاضة أن تتطهر لكل صلاة وقوم رأوا أن الواجب أن تؤخر الظهر إلى أول العصر ثم تتطهر وتجمع بين الصلاتين وكذلك تؤخر المغرب إلى آخر وقتها وأول وقت العشاء وتتطهر طهرا ثانيا وتجمع بينهما ثم تتطهر طهرا ثالثا لصلاة الصبح فأوجبوا عليها ثلاثة أطهار في اليوم والليلة وقوم رأوا أن عليها طهرا واحدا في اليوم والليلة ومن هؤلاء من لم يحد له وقتا وهو مروي عن علي ومنهم من رأى أن تتطهر من طهر إلى طهر فيتحصل في المسألة بالجملة أربعة أقوال:
1- قول إنه ليس عليها إلا طهر واحد فقط عند انقطاع دم الحيض. 2- وقول إن عليها الطهر لكل صلاة. 3- وقول إن عليها ثلاثة أطهار في اليوم والليلة. 4- وقول إن عليها طهرا واحدا في اليوم والليلة.
والسبب في اختلافهم في هذه المسألة هو اختلاف ظواهر الأحاديث الواردة في ذلك؛ وذلك أن الوارد في ذلك من الأحاديث المشهورة أربعة أحاديث واحد منها متفق على صحته وثلاثة مختلف فيها أما المتفق على صحته فحديث عائشة قالت جاءت فاطمة ابنة أبي حبيش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله إني امرأة أستحاض فلا أطهر أفأدع الصلاة فقال لها عليه الصلاة والسلام لا إنما ذلك عرق وليس بالحيضة فإذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة وإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم وصلي وفي بعض روايات هذا الحديث وتوضئي لكل صلاة وهذه الزيادة لم يخرجها البخاري ولا مسلم وخرجها أبو داود وصححها قوم من أهل الحديث" .
قلت ( أبو الحسين ) : بل الزيادة أخرجها البخاري وربما أشار إلى أنها موقوفة على عروة؛ وأما مسلم فلم يخرجها وقد صرح بتركها عمدا وسيأتي ذكره .
والحديث الثاني حديث عائشة عن أم حبيبة بنت جحش امرأة عبد الرحمن بن عوف أنها استحاضت فأمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تغتسل لكل صلاة .
أسنده إسحاق عن الزهري وأما سائر أصحاب الزهري فإنما رووا عنه أنها استحيضت فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لها إنما هو عرق وليست بالحيضة وأمرها أن تغتسل وتصلي فكانت تغتسل لكل صلاة على أن ذلك هو الذي فهمت منه لا أن ذلك منقول عن لفظه عليه الصلاة والسلام ومن هذا الطريق خرجه البخاري .
وأما الثالث فحديث أسماء بنت عميس أنها قالت يا رسول الله إن فاطمة ابنة أبي حبيش استحيضت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لتغسل للظهر والعصر غسلا واحدا وللمغرب والغشاء غسلا واحدا وتغتسل للفجر وتتوضأ فيما بين ذلك خرجه أبو داود وصححه أبو محمد بن حزم .
وأما الرابع فحديث حمنة ابنة جحش وفيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خيرها بين أن تصلي الصلوات بطهر واحد عندما ترى أنه قد انقطع دم الحيض وبين أن تغتسل في اليوم والليلة ثلاث مرات على حديث أسماء بنت عميس إلا أن هنالك ظاهره على الوجوب وهنا على التخيير فلما اختلفت ظواهر هذه الأحاديث ذهب الفقهاء في تأويلها أربعة مذاهب مذهب النسخ ومذهب الترجيح ومذهب الجمع ومذهب البناء والفرق بين الجمع والبناء أن الباني ليس يرى أن هنالك تعارضا فيجمع بين الحديثين وأما الجامع فهو يرى أن هنالك تعارضا في الظاهر فتأمل هذا فإنه فرق بيّن .
أما من ذهب مذهب الترجيح فمن أخذ بحديث فاطمة ابنة أبي حبيش لمكان الاتفاق على صحته عمل على ظاهره أعني من أنه لم يأمرها صلى الله عليه وسلم أن تغتسل لكل صلاة ولا أن تجمع بين الصلوات بغسل واحد ولا بشيء من تلك المذاهب وإلى هذا ذهب مالك وأبو حنيفة والشافعي وأصحاب هؤلاء وهم الجمهور ومن صحت عنه من هؤلاء الزيادة الواردة فيه وهو الأمر بالوضوء لكل صلاة أوجب ذلك عليها ومن لم تصح عنده لم يوجب ذلك عليها وأما من ذهب مذهب البناء فقال إنه ليس بين حديث فاطمة وحديث أم حبيبة الذي من رواته ابن إسحاق تعارض أصلا وأن الذي في حديث أم حبيبة من ذلك زيادة على ما في حديث فاطمة فإن حديث فاطمة إنما وقع الجواب فيه عن السؤال هل ذلك الدم حيض يمنع الصلاة أم لا فأخبرها عليه الصلاة والسلام أنها ليست بحيضة تمنع الصلاة ولم يخبرها بوجوب الطهر أصلا لكل صلاة إلا عند انقطاع دم الحيض وفي حديث أم حبيبة أمرها بشيء واحد وهو التطهر لكل صلاة لكن للجمهور أن يقولوا إن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز فلو كان واجبا عليها الطهر لكل صلاة لأخبرها بذلك ويبعد أن يدعي مدع أنها كانت تعرف ذلك مع أنها كانت تجهل الفرق بين الاستحاضة والحيض .
وأما تركه عليه الصلاة والسلام إعلامها بالطهر الواجب عليها عند انقطاع دم الحيض فمضمن في قوله إنها ليست بالحيضة لأنه كان معلوما من سنته عليه الصلاة والسلام أن انقطاع الحيض يوجب الغسل فإذا إنما لم يخبرها بذلك لأنها كانت عالمة به وليس الأمر كذلك في وجوب الطهر لكل صلاة إلا أن يدعي مدع أن هذه الزيادة لم تكن قبل ثابتة وتثبت بعد فيتطرق إلى ذلك المسألة المشهورة هل الزيادة نسخ أم لا وقد روي في بعض طرق حديث فاطمة أمره عليه الصلاة والسلام لها بالغسل فهذا هو حال من ذهب مذهب الترجيح ومذهب البناء .
وأما من ذهب مذهب النسخ فقال إن حديث أسماء بنت عميس ناسخ لحديث أم حبيبة واستدل على ذلك بما روي عن عائشة أن سهلة بنت سهيل استحيضت وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمرها بالغسل عند كل صلاة فلما جهدها ذلك أمرها أن تجمع بين الظهر والعصر في غسل واحد والمغرب والعشاء في غسل واحد وتغتسل ثالثا للصبح .
قلت ( أبو الحسين ): بيّن البيهقي أن الحديث الوارد غير مرفوع وما جاء مرفوعا فهو مرسل فقال في السنن الكبرى ج1/ص352 :" قال أبو بكر بن إسحاق قال بعض مشائخنا لم يسند هذا الخبر غير محمد بن إسحاق وشعبة لم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم وأنكر أن يكون الخبر مرفوعا وأخطأ أيضا في تسمية المستحاضة قال أبو بكر وقد اختلف الرواة في إسناد هذا الخبر قال الشيخ رحمه الله تعالى فرواه شعبة ومحمد بن إسحاق كما مضى ورواه بن عيينة فأرسله إلا أنه وافق محمدا في رفعه".
قال ابن رشد:" وأما الذين ذهبوا مذهب الجمع فقالوا إن حديث فاطمة ابنة أبي حبيش محمول على التي تعرف أيام الحيض من أيام الاستحاضة وحديث أم حبيبة محمول على التي لا تعرف ذلك فأمرت بالطهر في كل وقت احتياطا للصلاة وذلك أن هذه إذا قامت إلى الصلاة يحتمل أن تكون طهرت فيجب عليها أن تغتسل لكل صلاة.
وأما حديث أسماء فمحمول على التي لا يتميز لها أيام الحيض من أيام الاستحاضة إلا أنه قد ينقطع عنها في أوقات فهذه إذا انقطع عنها الدم وجب عليها أن تغتسل وتصلي بذلك الغسل صلاتين وهنا قوم ذهبوا مذهب التخيير بين حديثي أم حبيبة وأسماء واحتجوا لذلك بحديث حمنة بنت جحش وفيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خيرها وهؤلاء منهم من قال إن المخيرة هي التي لا تعرف أيام حيضتها .
ومنهم من قال بل هي المستحاضة على الإطلاق عارفة كانت أو غير عارفة وهذا هو قول خامس في المسألة إلا أن الذي في حديث حمنة ابنة جحش إنما هو التخيير بين أن تصلي الصلوات كلها بطهر واحد وبين أن تتطهر في اليوم والليلة ثلاث مرات .
وأما من ذهب إلى أن الواجب أن تطهر في كل يوم مرة واحدة فلعله إنما أوجب ذلك عليها لمكان الشك ولست أعلم في ذلك أثرا ". انتهى كلام ابن رشد .
وسأذكر الروايات الواردة في هذا الباب ما استطعت مع أقوال أهل العلم فيها.
فقد قال البخاري ج1/ص91 في بَاب غَسْلِ الدَّمِ:" حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ جَاءَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ أَبِي حُبَيْشٍ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي امْرَأَةٌ أُسْتَحَاضُ فَلَا أَطْهُرُ أَفَأَدَعُ الصَّلَاةَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا إِنَّمَا ذَلِكِ عِرْقٌ وَلَيْسَ بِحَيْضٍ فَإِذَا أَقْبَلَتْ حَيْضَتُكِ فَدَعِي الصَّلَاةَ وَإِذَا أَدْبَرَتْ فَاغْسِلِي عَنْكِ الدَّمَ ثُمَّ صَلِّي قَالَ وَقَالَ أَبِي ثُمَّ تَوَضَّئِي لِكُلِّ صَلَاةٍ حَتَّى يَجِيءَ ذَلِكَ الْوَقْتُ".
وقال البخاري في باب الاستحاضة ج1/ص117:" حدثنا عبد اللَّهِ بن يُوسُفَ قال أخبرنا مَالِكٌ عن هِشَامِ بن عُرْوَةَ عن أبيه عن عَائِشَةَ أنها قالت قالت فَاطِمَةُ بِنْتُ أبي حُبَيْشٍ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يا رَسُولَ اللَّهِ إني لَا أَطْهُرُ أَفَأَدَعُ الصَّلَاةَ فقال رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إنما ذَلِكِ عِرْقٌ وَلَيْسَ بِالْحَيْضَةِ فإذا أَقْبَلَتْ الْحَيْضَةُ فَاتْرُكِي الصَّلَاةَ فإذا ذَهَبَ قَدْرُهَا فَاغْسِلِي عَنْكِ الدَّمَ وَصَلِّي.
وأخرج البخاري ج1/ص125 في باب إذا رَأَتْ الْمُسْتَحَاضَةُ الطُّهْرَ قال ابن عَبَّاسٍ تَغْتَسِلُ وَتُصَلِّي وَلَوْ سَاعَةً وَيَأْتِيهَا زَوْجُهَا إذا صَلَّتْ الصَّلَاةُ أَعْظَمُ: " حدثنا أَحْمَدُ بن يُونُسَ عن زُهَيْرٍ قال حدثنا هِشَامُ عن عُرْوَةَ عن عَائِشَةَ قالت قال النبي صلى الله عليه وسلم إذا أَقْبَلَتْ الْحَيْضَةُ فَدَعِي الصَّلَاةَ وإذا أَدْبَرَتْ فَاغْسِلِي عَنْكِ الدَّمَ وَصَلِّي".
وقد أوضح القرطبي في تفسيره ج3/ص85 حديث مالك عن هشام فقال:" روى مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضى الله عنها أنها قالت قالت فاطمة بنت أبى حبيش يا رسول الله إنى لا أطهر أفأدع الصلاة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما ذلك عرق وليس بالحيضة إذا أقبلت الحيضة فدعى الصلاة فإذا ذهب قدرها فاغسلي عنك الدم وصلي وفي هذا الحديث مع صحته وقلة ألفاظه ما يفسر لك أحكام الحائض والمستحاضة وهو أصح ما روي في هذا الباب وهو يرد ما روى عن عقبة بن عامر ومكحول أن الحائض تغتسل وتتوضأ عند كل وقت صلاة وتستقبل القبلة ذاكرة الله عز وجل جالسة وفيه أن الحائض لا تصلي وهو إجماع من كافة العلماء إلا طوائف من الخوارج يرون على الحائض الصلاة وفيه ما يدل على أن المستحاضة لا يلزمها غير ذلك الغسل الذي تغتسل من حيضها ولو لزمها غيره لأمرها به وفيه رد لقول من رأى ذلك عليها لكل صلاة ولقول من رأى عليها أن تجمع بين صلاتي النهار بغسل واحد وصلاتي الليل بغسل واحد وتغتسل للصبح ولقول من قال تغتسل من طهر إلى طهر ولقول سعيد بن المسيب من طهر إلى طهر لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يأمرها بشيء من ذلك".
وأخرج الترمذي الزيادة في سننه ج1/ص217:" حدثنا هَنَّادٌ حدثنا وَكِيعٌ وَعَبْدَةُ وأبو مُعَاوِيَةَ عن هِشَامِ بن عُرْوَةَ عن أبيه عن عَائِشَةَ قالت جَاءَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ أبي حُبَيْشٍ إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت يا رَسُولَ اللَّهِ إني امْرَأَةٌ استحاض فلا أَطْهُرُ أَفَأَدَعُ الصَّلَاةَ قال لَا إنما ذلك عِرْقٌ وَلَيْسَتْ بِالْحَيْضَةِ فإذا أَقْبَلَتْ الْحَيْضَةُ فَدَعِي الصَّلَاةَ وإذا أَدْبَرَتْ فَاغْسِلِي عَنْكِ الدَّمَ وَصَلِّي؛ قال أبو مُعَاوِيَةَ في حَدِيثِهِ وقال تَوَضَّئِي لِكُلِّ صَلَاةٍ حتى يجئ ذلك الْوَقْتُ".
وقال ابن حجر فتح الباري ج1/ص409:" وهذا الاختلاف واقع بين أصحاب هشام منهم من ذكر غسل الدم ولم يذكر الاغتسال ومنهم من ذكر الاغتسال ولم يذكر غسل الدم وكلهم ثقات وأحاديثهم في الصحيحين فيحمل على إن كل فريق اختصر أحد الأمرين لوضوحه عنده وفيه اختلاف ثالث أشرنا إليه في باب غسل الدم من رواية أبي معاوية فذكر مثل حديث الباب وزاد ثم توضئي لكل صلاة ورددنا هناك قول من قال أنه مدرج وقول من جزم بأنه موقوف على عروة ولم ينفرد أبو معاوية بذلك فقد رواه النسائي من طريق حماد بن زيد عن هشام وادعى إن حمادا تفرد بهذه الزيادة وأومأ مسلم أيضا إلى ذلك وليس كذلك فقد رواه الدارمي من طريق حماد بن سلمة والسراج من طريق يحيى بن سليم كلاهما عن هشام ".
قلت ( أبو الحسين ): بل أوضح هشام أن هذه الزيادة من قول عروة ولم يصرح بالوضوء لكل صلاة فقد أخرج الدارمي الحديث من طريق حماد بن سلمة عن هشام؛ فقال في سننه ج1/ص220 :" أخبرنا حَجَّاجُ بن مِنْهَالٍ ثنا حَمَّادُ بن سَلَمَةَ عن هِشَامِ بن عُرْوَةَ عن أبيه عن عَائِشَةَ ان فَاطِمَةَ بِنْتَ أبي حُبَيْشٍ قالت يا رَسُولَ اللَّهِ إني امْرَأَةٌ استحاض أَفَأَتْرُكُ الصَّلَاةَ قال لَا إنما ذَلِكِ عِرْقٌ وَلَيْسَتْ بِالْحِيضَةِ فإذا أَقْبَلَتْ الْحَيْضَةُ فَاتْرُكِي الصَّلَاةَ فإذا ذَهَبَ قَدْرُهَا فَاغْسِلِي عَنْكِ الدَّمَ وَتَوَضَّئِي وَصَلِّي قال هِشَامٌ فَكَانَ أبي يقول تَغْتَسِلُ غُسْلَ الْأَوَّلِ ثُمَّ ما يَكُونُ بَعْدَ ذلك فَإِنَّهَا تَطَّهَّرُ وَتُصَلِّي".
وهذا طريق آخر للدارمي وليس فيه " لكل صلاة ". قال الدارمي في سننه ج1/ص219:" أخبرنا جَعْفَرُ بن عَوْنٍ ثنا هِشَامُ بن عُرْوَةَ عن أبيه عن عَائِشَةَ قالت جَاءَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ أبي حُبَيْشٍ إلى رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فقالت يا رَسُولَ اللَّهِ اني امْرَأَةٌ استحاض فلا أَطْهُرُ فادع الصَّلَاةَ قال لَا إنما ذَلِكِ عِرْقٌ فإذا أَقْبَلَتْ الْحَيْضَةُ فَدَعِي الصَّلَاةَ وإذا أَدْبَرَتْ فَاغْسِلِي عَنْكِ الدَّمَ وَصَلِّي".
وليس عند الدارمي حديث مرفوع بالوضوء لكل صلاة إلا من طريق عدي بن ثابت ج1/ص223 هو: ( أخبرنا محمد بن عِيسَى ثنا شَرِيكٌ عن أبي الْيَقْظَانِ عن عَدِيِّ بن ثَابِتٍ عن أبيه عن جَدِّهِ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال الْمُسْتَحَاضَةُ تَدَعُ الصَّلَاةَ أَيَّامَ حَيْضِهَا في كل شَهْرٍ فإذا كان عِنْدَ انْقِضَائِهَا اغْتَسَلَتْ وَصَلَّتْ وَصَامَتْ وَتَوَضَّأَتْ عِنْدَ كل صَلَاةٍ) وقد قال عنه الترمذي في العلل 1/57 :" في المستحاضة تتوضأ كل صلاة: حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا شريك عن أبي اليقظان عن عدي بن ثابت عن أبيه عن جَدِّه عن النبي ( في المستحاضة تدع الصلاة أيام أقرائها التي كانت تحيض فيها ثم تغتسل وتتوضأ لكل صلاة وتصوم وتصلي؛ سألت مُحمدًا عن هذا الحديث فقال لا أعرفه إلا من هذا الوجه ولا اعرف اسم جد عدي بن ثابت قلت له ذكروا أن يحيى بن معين قال هو عدي بن ثابت بن دينار فلم يعرفه ولم يعده شيئا في المستحاضة".
ورد الشوكاني في السيل الجرار على صاحب حدائق الأزهار ج1/ص99 القول بوجوب الوضوء للمستحاضة لكل وقت صلاة فقال:" قوله ودخول الوقت في حق المستحاضة ونحوها؛ أقول ليس على هذا أثارة من علم ولا عقل فلا حاجة إلى التطويل في رده وبيان بطلانه".
قلت ( أبو الحسين ): الزيادة الواردة في الحديث "وتوضئي لكل صلاة" من قول الراوي لا من كلام النبي صلى الله عليه وسلم. والأدراج في الحديث يحصل كثيرا كما في قول أبي هريرة بعد أن ذكر حديث النبي صلى الله عليه وسلم: عَنْ نُعَيْمٍ الْمُجْمِرِ قَالَ رَقِيتُ مَعَ أَبِي هُرَيْرَةَ عَلَى ظَهْرِ الْمَسْجِدِ فَتَوَضَّأَ فَقَالَ إِنِّي سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ إِنَّ أُمَّتِي يُدْعَوْنَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِنْ آثَارِ الْوُضُوءِ فَمَنْ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يُطِيلَ غُرَّتَهُ فَلْيَفْعَلْ". فزيادة "فَمَنْ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يُطِيلَ غُرَّتَهُ فَلْيَفْعَلْ". من كلام أبي هريرة.
وأيضا من المدرج من كلام أبي هريرة كما في البخاري في بَاب الْعَبْدِ إِذَا أَحْسَنَ عِبَادَةَ رَبِّهِ وَنَصَحَ سَيِّدَهُ:" عَنْ الزُّهْرِيِّ سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ يَقُولُ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْعَبْدِ الْمَمْلُوكِ الصَّالِحِ أَجْرَانِ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْحَجُّ وَبِرُّ أُمِّي لَأَحْبَبْتُ أَنْ أَمُوتَ وَأَنَا مَمْلُوكٌ". في حين فصل الإمام مسلم هذه الزيادة فقال في باب ثَوَابِ الْعَبْدِ وَأَجْرِهِ إِذَا نَصَحَ لِسَيِّدِهِ وَأَحْسَنَ عِبَادَةَ اللَّهِ :" عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ يَقُولُ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « لِلْعَبْدِ الْمَمْلُوكِ الْمُصْلِحِ أَجْرَانِ ». وَالَّذِى نَفْسُ أَبِى هُرَيْرَةَ بِيَدِهِ لَوْلاَ الْجِهَادُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَالْحَجُّ وَبِرُّ أُمِّى لأَحْبَبْتُ أَنْ أَمُوتَ وَأَنَا مَمْلُوكٌ. قَالَ وَبَلَغَنَا أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ لَمْ يَكُنْ يَحُجُّ حَتَّى مَاتَتْ أُمُّهُ لِصُحْبَتِهَا".
ويذكر شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى ج1/ص279 عن بعض الصحابة أنهم اجتهدوا في مسائل لم يكن الدليل حليفهم فقال:" كان ابن عمر يدخل الماء في عينيه في الوضوء ويأخذ لأذنيه ماء جديدا وكان أبو هريرة يغسل يديه إلى العضدين في الوضوء ويقول من استطاع أن يطيل غرته فليفعل وروى عنه أنه كان يمسح عنقه ويقول هو موضع الغل فإن هذا وإن إستحبه طائفة من العلماء إتباعا لهما فقد خالفهم في ذلك آخرون وقالوا سائر الصحابة لم يكونوا يتوضؤون هكذا والوضوء الثابت عنه الذى في الصحيحين وغيرهما من غير وجه ليس فيه أخذ ماء جديد للأذنين ولا غسل ما زاد على المرفقين والكعبين ولا مسح العنق ولا قال النبى من إستطاع أن يطيل غرته فليفعل بل هذا من كلام أبى هريرة جاء مدرجا في بعض الأحاديث وإنما قال النبى إنكم تأتون يوم القيامة غرا محجلين من آثار الوضوء وكان يتوضأ حتى يشرع في العضد والساق قال أبو هريرة من إستطاع أن يطيل غرته فليفعل وظن من ظن أن غسل العضد من إطالة الغرة وهذا لا معنى له فإن الغرة في الوجه لا في اليد والرجل وإنما في اليد والرجل الحجلة والغرة لا يمكن إطالتها فإن الوجه يغسل كله لا يغسل الرأس ولا غرة في الرأس والحجلة لا يستحب إطالتها وإطالتها مثلة ".
وقال الشيخ الألباني رحمه الله في الصحيحة مبينا الإدراج في حديث الغر المحجلين :" وهو متفق عليه بين الشيخين، لكن قوله:" فمن استطاع..." مدرج من قول أبي هريرة ليس من حديثه صلى الله عليه وسلم كما شهد بذلك جماعة من الحفاظ كالمنذري وابن تيمية وابن القيم والعسقلاني وغيرهم وقد بينت ذلك بيانا شافيا في" الأحاديث الضعيفة " فأغنى عن الإعادة، ولو صحت هذه الجملة لكانت نصا على استحباب إطالة الغرة و التحجيل لا على إطالة العضد. والله ولى التوفيق".
وكذلك زيادة ( أسبغوا الوضوء ) زادها أبو هريرة وقد فصلها البخاري كما في صحيحه ج1/ص73 :" حدثنا آدَمُ بن أبي إِيَاسٍ قال حدثنا شُعْبَةُ قال حدثنا محمد بن زِيَادٍ قال سمعت أَبَا هُرَيْرَةَ وكان يَمُرُّ بِنَا وَالنَّاسُ يتوضؤون من الْمِطْهَرَةِ قال أَسْبِغُوا الْوُضُوءَ فإن أَبَا الْقَاسِمِ صلى الله عليه وسلم قال وَيْلٌ لِلْأَعْقَابِ من النَّارِ".
وعند النظر في الروايات التي أخرجها البخاري نرى أنه ذكر زيادة الوضوء لكل صلاة وقد فصلها عن الحديث مما يدل على أن البخاري يشير إلى أنها من قول الراوي فهي مدرجة؛ بدليل أنه ذكر باقي الروايات من طرق أخرى ولم يذكر هذه الزيادة.
ومن قال بزيادة هذه اللفظة وأنها مدرجة " وتوضئي لكل صلاة" من قبل الراوي ابن رجب في فتح الباري1/448 قال:" والصواب: أن هَذا مِن قول عروة، كذلك خرجه البخاري في ( كِتابِ: الوضوء) عَن محمد بنِ سلام ، عَن أبي معاوية ، عَن هشام فذكر الحديث . قالَ مالك : والأمر عندنا على حديث هشام ، عَن أبيه ، وَهوَ أحب ما سمعت إلي قالَ ابن عبد البر: والوضوء عليها عند مالك على الاستحباب دونَ الوجوب . قالَ وقد احتج بعض أصحابنا على سقوط الوضوء بقول رسول الله ( فإذا ذهب قدرها فاغتسلي وصلي)، ولم يذكر وضوءاً . قالَ : وممن قالَ بأن الوضوء على المستحاضة غير واجب: ربيعة، وعكرمة، ومالك، وأيوب، وطائفة .
قالَ: وأما الأحاديث المرفوعة في الغسل لكل صلاة ، فكلها مضطربة ، لا تجب بمثلها حجة. انتهى.
وأحاديث الأمر بالغسل لكل صلاة كلها معلولة وإنما المراد هنا: أحاديث الوضوء لكل صلاة ، وقد رويت مِن وجوه متعددة ، وهي مضطربة - أيضا - ومعللة، تقدم بعضها ومن أشهرها: رواية الأعمش، عَن حبيب بنِ أبي ثابت، عَن عروة، عَن عائشة، قالت: جاءت فاطمة بنت أبي حبيش، فقالت: يا رسول الله، إني امرأة استحاض فلا أطهر، أفأدع الصلاة؟ قالَ:( لا ، اجتنبي الصلاة أيام محيضك، ثُمَّ اغتسلي وتوضئي لكل صلاة، ثُمَّ صلي، وإن قطر الدم على الحصير ) خرجه الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه" انتهى كلام ابن رجب.
وقد ترك الإمام مسلم ذكر الزيادة عمدا فقال في صحيحه ج1/ص262 :" حدثنا يحيى بن يحيى أخبرنا عبد الْعَزِيزِ بن مُحَمَّدٍ وأبو مُعَاوِيَةَ ح وحدثنا قُتَيْبَةُ بن سَعِيدٍ حدثنا جَرِيرٌ ح وحدثنا بن نُمَيْرٍ حدثنا أبي ح وحدثنا خَلَفُ بن هِشَامٍ حدثنا حَمَّادُ بن زَيْدٍ كلهم عن هِشَامِ بن عُرْوَةَ بِمِثْلِ حديث وَكِيعٍ وَإِسْنَادِهِ وفي حديث قُتَيْبَةَ عن جَرِيرٍ جَاءَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ أبي حُبَيْشِ بن عبد الْمُطَّلِبِ بن أَسَدٍ وَهِيَ امْرَأَةٌ مِنَّا قال وفي حديث حَمَّادِ بن زَيْدٍ زِيَادَةُ حَرْفٍ تَرَكْنَا ذِكْرَهُ".
ويذهب الشوكاني إلى عدم وجوب الوضوء على المستحاضة لكل صلاة فيقول في السيل الجرار ج1/ص149:" وكما أنه ليس في إيجاب الغسل عليها لكل صلاة وللصلاتين ما تقوم به الحجة كذلك لا دليل تقوم به الحجة في إيجاب الوضوء عليها لكل صلاة وأما الحكم عليها بأنه ينتقض وضوءها بدخول كل وقت اختيار أو مشاركة فمن التساهل في إثبات الأحكام الشرعية لمجرد الخيالات المختلة والآراء المعتلة ".
وقد بيّن البيهقي أن الوضوء لكل صلاة من كلام الراوي فقال في معرفة السنن والآثار ج1/ص368:" رواه البخاري في الصحيح من حديث عبد الله بن يوسف عن مالك ورواه سفيان بن عيينة وزهير بن معاوية وحماد بن زيد وعبد العزيز بن محمد ووكيع بن الجراح وأبو معاوية الضرير وجرير بن عبد الحميد وعبد الله بن نمير وجماعة كثيرة عن هشام بن عروة قالوا في الحديث فإذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة وإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم وصلي إلا أن حماد بن زيد زاد فيه الوضوء وهو غلط إنما الوضوء من قبل عروة وزاد فيه سفيان بن عيينة الاغتسال بالشك واختلف فيه على أبي أسامة فقيل عنه كما قالت الجماعة وقيل عنه لا إن ذلك عرق ولكن دعي الصلاة قدر الأيام التي كنت تحيضين فيها ثم اغسلي وصلي وروي عنه أنه قال في آخره أو كما قال وفي ذلك دلالة على أنه كان يشك فيه والصحيح رواية الجماعة وروى محمد بن عمرو عن الزهري عن عروة أن فاطمة بنت أبي حبيش كانت تستحاض فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان دم الحيض فإنه دم أسود يعرف فإذا كان ذلك فأمسكي عن الصلاة وإذا كان الآخر فتوضئي وصلي فإنما هو عرق".
ومع أن الشافعي يوجب عليها الوضوء لكل صلاة لكن قياسا{ قلت ( أبو الحسين): لا قياس في العبادات} لأن الزيادة عنده لم تثبت فقال في الأم ج1/ص61:" وَعَلَيْهَا الْوُضُوءُ لِكُلِّ صَلَاةٍ قِيَاسًا على السُّنَّةِ في الْوُضُوءِ بِمَا خَرَجَ من دُبُرٍ أو فَرْجٍ مِمَّا له أَثَرٌ أو لَا أَثَرَ له".
ولهذا قال البيهقي في معرفة السنن والآثار ج1/ص379:" قال الشافعي في كتاب الحيض: قال بعض العراقيين أما إنا روينا أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر المستحاضة تتوضأ لكل صلاة؛ قال الشافعي قلت نعم قد رويتم ذلك وبه نقول قياسا على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الوضوء مما خرج من دبر أو ذكر أو فرج ولو كان هذا محفوظا عندنا كان أحب إلينا من القياس فأشار الشافعي إلى أن الحديث الذي روي فيه غير محفوظ وهو كما قال ".
أما بعد: فهذه دراسة استقرائية حديثية لبيان حكم المستحاضة في الوضوء لكل صلاة أو الاغتسال أو الجمع الصوري فقد اختلف أهل العلم من الفقهاء والمحدثين في حكم الوضوء والاغتسال للمستحاضة على أربعة أقوال وذلك تبعا للأدلة الواردة في المسألة والاختلاف في ظواهر الأدلة وفي ثبوتها وعدمه.
وقد ذكر هذه الأقوال أبو الوليد محمد بن أحمد القرطبي الشهير بابن رشد في كتابه بداية المجتهد ونهاية المقتصد ج1/ص43 فقال: " اختلف العلماء في المستحاضة فقوم أوجبوا عليها طهرا واحدا فقط وذلك عندما ترى أنه قد انقضت حيضتها بإحدى تلك العلامات التي تقدمت على حسب مذهب هؤلاء في تلك العلامات وهؤلاء الذين أوجبوا عليها طهرا واحدا انقسموا قسمين فقوم أوجبوا عليها أن تتوضأ لكل صلاة وقوم استحبوا ذلك لها ولم يوجبوه عليها والذين أوجبوا عليها طهرا واحدا فقط هم مالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابهم { قلت (أبو الحسين) : الذين استحبوا الوضوء: مالك وربيعة والليث وأحمد واسحاق؛ قال في تحفة الأحوذي1/ 322:"قال أحمد وإسحاق إن اغتسلت لكل فرض فهو أحوط قاله الحافظ في الفتح وقال ابن عبد البر ليس في حديث مالك ذكر الوضوء لكل صلاة على المستحاضة وذكر في حديث غيره فلذا كان مالك يستحبه لها ولا يوجبه كما لا يوجبه على صاحب السلس"؛ وأما الشافعي فقد أوجبه قياسا وسيأتي كلامه؛ ولا قياس في العبادات؛ وأما أبو حنيفة فقد قال بالجمع الصوري }. ثم قال ابن رشد: وأكثر فقهاء الأمصار وأكثر هؤلاء أوجبوا عليها أن تتوضأ لكل صلاة وبعضهم لم يوجب عليها إلا استحبابا وهو مذهب مالك؛ وقوم آخرون غير هؤلاء رأوا أن على المستحاضة أن تتطهر لكل صلاة وقوم رأوا أن الواجب أن تؤخر الظهر إلى أول العصر ثم تتطهر وتجمع بين الصلاتين وكذلك تؤخر المغرب إلى آخر وقتها وأول وقت العشاء وتتطهر طهرا ثانيا وتجمع بينهما ثم تتطهر طهرا ثالثا لصلاة الصبح فأوجبوا عليها ثلاثة أطهار في اليوم والليلة وقوم رأوا أن عليها طهرا واحدا في اليوم والليلة ومن هؤلاء من لم يحد له وقتا وهو مروي عن علي ومنهم من رأى أن تتطهر من طهر إلى طهر فيتحصل في المسألة بالجملة أربعة أقوال:
1- قول إنه ليس عليها إلا طهر واحد فقط عند انقطاع دم الحيض. 2- وقول إن عليها الطهر لكل صلاة. 3- وقول إن عليها ثلاثة أطهار في اليوم والليلة. 4- وقول إن عليها طهرا واحدا في اليوم والليلة.
والسبب في اختلافهم في هذه المسألة هو اختلاف ظواهر الأحاديث الواردة في ذلك؛ وذلك أن الوارد في ذلك من الأحاديث المشهورة أربعة أحاديث واحد منها متفق على صحته وثلاثة مختلف فيها أما المتفق على صحته فحديث عائشة قالت جاءت فاطمة ابنة أبي حبيش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله إني امرأة أستحاض فلا أطهر أفأدع الصلاة فقال لها عليه الصلاة والسلام لا إنما ذلك عرق وليس بالحيضة فإذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة وإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم وصلي وفي بعض روايات هذا الحديث وتوضئي لكل صلاة وهذه الزيادة لم يخرجها البخاري ولا مسلم وخرجها أبو داود وصححها قوم من أهل الحديث" .
قلت ( أبو الحسين ) : بل الزيادة أخرجها البخاري وربما أشار إلى أنها موقوفة على عروة؛ وأما مسلم فلم يخرجها وقد صرح بتركها عمدا وسيأتي ذكره .
والحديث الثاني حديث عائشة عن أم حبيبة بنت جحش امرأة عبد الرحمن بن عوف أنها استحاضت فأمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تغتسل لكل صلاة .
أسنده إسحاق عن الزهري وأما سائر أصحاب الزهري فإنما رووا عنه أنها استحيضت فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لها إنما هو عرق وليست بالحيضة وأمرها أن تغتسل وتصلي فكانت تغتسل لكل صلاة على أن ذلك هو الذي فهمت منه لا أن ذلك منقول عن لفظه عليه الصلاة والسلام ومن هذا الطريق خرجه البخاري .
وأما الثالث فحديث أسماء بنت عميس أنها قالت يا رسول الله إن فاطمة ابنة أبي حبيش استحيضت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لتغسل للظهر والعصر غسلا واحدا وللمغرب والغشاء غسلا واحدا وتغتسل للفجر وتتوضأ فيما بين ذلك خرجه أبو داود وصححه أبو محمد بن حزم .
وأما الرابع فحديث حمنة ابنة جحش وفيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خيرها بين أن تصلي الصلوات بطهر واحد عندما ترى أنه قد انقطع دم الحيض وبين أن تغتسل في اليوم والليلة ثلاث مرات على حديث أسماء بنت عميس إلا أن هنالك ظاهره على الوجوب وهنا على التخيير فلما اختلفت ظواهر هذه الأحاديث ذهب الفقهاء في تأويلها أربعة مذاهب مذهب النسخ ومذهب الترجيح ومذهب الجمع ومذهب البناء والفرق بين الجمع والبناء أن الباني ليس يرى أن هنالك تعارضا فيجمع بين الحديثين وأما الجامع فهو يرى أن هنالك تعارضا في الظاهر فتأمل هذا فإنه فرق بيّن .
أما من ذهب مذهب الترجيح فمن أخذ بحديث فاطمة ابنة أبي حبيش لمكان الاتفاق على صحته عمل على ظاهره أعني من أنه لم يأمرها صلى الله عليه وسلم أن تغتسل لكل صلاة ولا أن تجمع بين الصلوات بغسل واحد ولا بشيء من تلك المذاهب وإلى هذا ذهب مالك وأبو حنيفة والشافعي وأصحاب هؤلاء وهم الجمهور ومن صحت عنه من هؤلاء الزيادة الواردة فيه وهو الأمر بالوضوء لكل صلاة أوجب ذلك عليها ومن لم تصح عنده لم يوجب ذلك عليها وأما من ذهب مذهب البناء فقال إنه ليس بين حديث فاطمة وحديث أم حبيبة الذي من رواته ابن إسحاق تعارض أصلا وأن الذي في حديث أم حبيبة من ذلك زيادة على ما في حديث فاطمة فإن حديث فاطمة إنما وقع الجواب فيه عن السؤال هل ذلك الدم حيض يمنع الصلاة أم لا فأخبرها عليه الصلاة والسلام أنها ليست بحيضة تمنع الصلاة ولم يخبرها بوجوب الطهر أصلا لكل صلاة إلا عند انقطاع دم الحيض وفي حديث أم حبيبة أمرها بشيء واحد وهو التطهر لكل صلاة لكن للجمهور أن يقولوا إن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز فلو كان واجبا عليها الطهر لكل صلاة لأخبرها بذلك ويبعد أن يدعي مدع أنها كانت تعرف ذلك مع أنها كانت تجهل الفرق بين الاستحاضة والحيض .
وأما تركه عليه الصلاة والسلام إعلامها بالطهر الواجب عليها عند انقطاع دم الحيض فمضمن في قوله إنها ليست بالحيضة لأنه كان معلوما من سنته عليه الصلاة والسلام أن انقطاع الحيض يوجب الغسل فإذا إنما لم يخبرها بذلك لأنها كانت عالمة به وليس الأمر كذلك في وجوب الطهر لكل صلاة إلا أن يدعي مدع أن هذه الزيادة لم تكن قبل ثابتة وتثبت بعد فيتطرق إلى ذلك المسألة المشهورة هل الزيادة نسخ أم لا وقد روي في بعض طرق حديث فاطمة أمره عليه الصلاة والسلام لها بالغسل فهذا هو حال من ذهب مذهب الترجيح ومذهب البناء .
وأما من ذهب مذهب النسخ فقال إن حديث أسماء بنت عميس ناسخ لحديث أم حبيبة واستدل على ذلك بما روي عن عائشة أن سهلة بنت سهيل استحيضت وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمرها بالغسل عند كل صلاة فلما جهدها ذلك أمرها أن تجمع بين الظهر والعصر في غسل واحد والمغرب والعشاء في غسل واحد وتغتسل ثالثا للصبح .
قلت ( أبو الحسين ): بيّن البيهقي أن الحديث الوارد غير مرفوع وما جاء مرفوعا فهو مرسل فقال في السنن الكبرى ج1/ص352 :" قال أبو بكر بن إسحاق قال بعض مشائخنا لم يسند هذا الخبر غير محمد بن إسحاق وشعبة لم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم وأنكر أن يكون الخبر مرفوعا وأخطأ أيضا في تسمية المستحاضة قال أبو بكر وقد اختلف الرواة في إسناد هذا الخبر قال الشيخ رحمه الله تعالى فرواه شعبة ومحمد بن إسحاق كما مضى ورواه بن عيينة فأرسله إلا أنه وافق محمدا في رفعه".
قال ابن رشد:" وأما الذين ذهبوا مذهب الجمع فقالوا إن حديث فاطمة ابنة أبي حبيش محمول على التي تعرف أيام الحيض من أيام الاستحاضة وحديث أم حبيبة محمول على التي لا تعرف ذلك فأمرت بالطهر في كل وقت احتياطا للصلاة وذلك أن هذه إذا قامت إلى الصلاة يحتمل أن تكون طهرت فيجب عليها أن تغتسل لكل صلاة.
وأما حديث أسماء فمحمول على التي لا يتميز لها أيام الحيض من أيام الاستحاضة إلا أنه قد ينقطع عنها في أوقات فهذه إذا انقطع عنها الدم وجب عليها أن تغتسل وتصلي بذلك الغسل صلاتين وهنا قوم ذهبوا مذهب التخيير بين حديثي أم حبيبة وأسماء واحتجوا لذلك بحديث حمنة بنت جحش وفيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خيرها وهؤلاء منهم من قال إن المخيرة هي التي لا تعرف أيام حيضتها .
ومنهم من قال بل هي المستحاضة على الإطلاق عارفة كانت أو غير عارفة وهذا هو قول خامس في المسألة إلا أن الذي في حديث حمنة ابنة جحش إنما هو التخيير بين أن تصلي الصلوات كلها بطهر واحد وبين أن تتطهر في اليوم والليلة ثلاث مرات .
وأما من ذهب إلى أن الواجب أن تطهر في كل يوم مرة واحدة فلعله إنما أوجب ذلك عليها لمكان الشك ولست أعلم في ذلك أثرا ". انتهى كلام ابن رشد .
وسأذكر الروايات الواردة في هذا الباب ما استطعت مع أقوال أهل العلم فيها.
فقد قال البخاري ج1/ص91 في بَاب غَسْلِ الدَّمِ:" حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ جَاءَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ أَبِي حُبَيْشٍ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي امْرَأَةٌ أُسْتَحَاضُ فَلَا أَطْهُرُ أَفَأَدَعُ الصَّلَاةَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا إِنَّمَا ذَلِكِ عِرْقٌ وَلَيْسَ بِحَيْضٍ فَإِذَا أَقْبَلَتْ حَيْضَتُكِ فَدَعِي الصَّلَاةَ وَإِذَا أَدْبَرَتْ فَاغْسِلِي عَنْكِ الدَّمَ ثُمَّ صَلِّي قَالَ وَقَالَ أَبِي ثُمَّ تَوَضَّئِي لِكُلِّ صَلَاةٍ حَتَّى يَجِيءَ ذَلِكَ الْوَقْتُ".
وقال البخاري في باب الاستحاضة ج1/ص117:" حدثنا عبد اللَّهِ بن يُوسُفَ قال أخبرنا مَالِكٌ عن هِشَامِ بن عُرْوَةَ عن أبيه عن عَائِشَةَ أنها قالت قالت فَاطِمَةُ بِنْتُ أبي حُبَيْشٍ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يا رَسُولَ اللَّهِ إني لَا أَطْهُرُ أَفَأَدَعُ الصَّلَاةَ فقال رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إنما ذَلِكِ عِرْقٌ وَلَيْسَ بِالْحَيْضَةِ فإذا أَقْبَلَتْ الْحَيْضَةُ فَاتْرُكِي الصَّلَاةَ فإذا ذَهَبَ قَدْرُهَا فَاغْسِلِي عَنْكِ الدَّمَ وَصَلِّي.
وأخرج البخاري ج1/ص125 في باب إذا رَأَتْ الْمُسْتَحَاضَةُ الطُّهْرَ قال ابن عَبَّاسٍ تَغْتَسِلُ وَتُصَلِّي وَلَوْ سَاعَةً وَيَأْتِيهَا زَوْجُهَا إذا صَلَّتْ الصَّلَاةُ أَعْظَمُ: " حدثنا أَحْمَدُ بن يُونُسَ عن زُهَيْرٍ قال حدثنا هِشَامُ عن عُرْوَةَ عن عَائِشَةَ قالت قال النبي صلى الله عليه وسلم إذا أَقْبَلَتْ الْحَيْضَةُ فَدَعِي الصَّلَاةَ وإذا أَدْبَرَتْ فَاغْسِلِي عَنْكِ الدَّمَ وَصَلِّي".
وقد أوضح القرطبي في تفسيره ج3/ص85 حديث مالك عن هشام فقال:" روى مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضى الله عنها أنها قالت قالت فاطمة بنت أبى حبيش يا رسول الله إنى لا أطهر أفأدع الصلاة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما ذلك عرق وليس بالحيضة إذا أقبلت الحيضة فدعى الصلاة فإذا ذهب قدرها فاغسلي عنك الدم وصلي وفي هذا الحديث مع صحته وقلة ألفاظه ما يفسر لك أحكام الحائض والمستحاضة وهو أصح ما روي في هذا الباب وهو يرد ما روى عن عقبة بن عامر ومكحول أن الحائض تغتسل وتتوضأ عند كل وقت صلاة وتستقبل القبلة ذاكرة الله عز وجل جالسة وفيه أن الحائض لا تصلي وهو إجماع من كافة العلماء إلا طوائف من الخوارج يرون على الحائض الصلاة وفيه ما يدل على أن المستحاضة لا يلزمها غير ذلك الغسل الذي تغتسل من حيضها ولو لزمها غيره لأمرها به وفيه رد لقول من رأى ذلك عليها لكل صلاة ولقول من رأى عليها أن تجمع بين صلاتي النهار بغسل واحد وصلاتي الليل بغسل واحد وتغتسل للصبح ولقول من قال تغتسل من طهر إلى طهر ولقول سعيد بن المسيب من طهر إلى طهر لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يأمرها بشيء من ذلك".
وأخرج الترمذي الزيادة في سننه ج1/ص217:" حدثنا هَنَّادٌ حدثنا وَكِيعٌ وَعَبْدَةُ وأبو مُعَاوِيَةَ عن هِشَامِ بن عُرْوَةَ عن أبيه عن عَائِشَةَ قالت جَاءَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ أبي حُبَيْشٍ إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت يا رَسُولَ اللَّهِ إني امْرَأَةٌ استحاض فلا أَطْهُرُ أَفَأَدَعُ الصَّلَاةَ قال لَا إنما ذلك عِرْقٌ وَلَيْسَتْ بِالْحَيْضَةِ فإذا أَقْبَلَتْ الْحَيْضَةُ فَدَعِي الصَّلَاةَ وإذا أَدْبَرَتْ فَاغْسِلِي عَنْكِ الدَّمَ وَصَلِّي؛ قال أبو مُعَاوِيَةَ في حَدِيثِهِ وقال تَوَضَّئِي لِكُلِّ صَلَاةٍ حتى يجئ ذلك الْوَقْتُ".
وقال ابن حجر فتح الباري ج1/ص409:" وهذا الاختلاف واقع بين أصحاب هشام منهم من ذكر غسل الدم ولم يذكر الاغتسال ومنهم من ذكر الاغتسال ولم يذكر غسل الدم وكلهم ثقات وأحاديثهم في الصحيحين فيحمل على إن كل فريق اختصر أحد الأمرين لوضوحه عنده وفيه اختلاف ثالث أشرنا إليه في باب غسل الدم من رواية أبي معاوية فذكر مثل حديث الباب وزاد ثم توضئي لكل صلاة ورددنا هناك قول من قال أنه مدرج وقول من جزم بأنه موقوف على عروة ولم ينفرد أبو معاوية بذلك فقد رواه النسائي من طريق حماد بن زيد عن هشام وادعى إن حمادا تفرد بهذه الزيادة وأومأ مسلم أيضا إلى ذلك وليس كذلك فقد رواه الدارمي من طريق حماد بن سلمة والسراج من طريق يحيى بن سليم كلاهما عن هشام ".
قلت ( أبو الحسين ): بل أوضح هشام أن هذه الزيادة من قول عروة ولم يصرح بالوضوء لكل صلاة فقد أخرج الدارمي الحديث من طريق حماد بن سلمة عن هشام؛ فقال في سننه ج1/ص220 :" أخبرنا حَجَّاجُ بن مِنْهَالٍ ثنا حَمَّادُ بن سَلَمَةَ عن هِشَامِ بن عُرْوَةَ عن أبيه عن عَائِشَةَ ان فَاطِمَةَ بِنْتَ أبي حُبَيْشٍ قالت يا رَسُولَ اللَّهِ إني امْرَأَةٌ استحاض أَفَأَتْرُكُ الصَّلَاةَ قال لَا إنما ذَلِكِ عِرْقٌ وَلَيْسَتْ بِالْحِيضَةِ فإذا أَقْبَلَتْ الْحَيْضَةُ فَاتْرُكِي الصَّلَاةَ فإذا ذَهَبَ قَدْرُهَا فَاغْسِلِي عَنْكِ الدَّمَ وَتَوَضَّئِي وَصَلِّي قال هِشَامٌ فَكَانَ أبي يقول تَغْتَسِلُ غُسْلَ الْأَوَّلِ ثُمَّ ما يَكُونُ بَعْدَ ذلك فَإِنَّهَا تَطَّهَّرُ وَتُصَلِّي".
وهذا طريق آخر للدارمي وليس فيه " لكل صلاة ". قال الدارمي في سننه ج1/ص219:" أخبرنا جَعْفَرُ بن عَوْنٍ ثنا هِشَامُ بن عُرْوَةَ عن أبيه عن عَائِشَةَ قالت جَاءَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ أبي حُبَيْشٍ إلى رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فقالت يا رَسُولَ اللَّهِ اني امْرَأَةٌ استحاض فلا أَطْهُرُ فادع الصَّلَاةَ قال لَا إنما ذَلِكِ عِرْقٌ فإذا أَقْبَلَتْ الْحَيْضَةُ فَدَعِي الصَّلَاةَ وإذا أَدْبَرَتْ فَاغْسِلِي عَنْكِ الدَّمَ وَصَلِّي".
وليس عند الدارمي حديث مرفوع بالوضوء لكل صلاة إلا من طريق عدي بن ثابت ج1/ص223 هو: ( أخبرنا محمد بن عِيسَى ثنا شَرِيكٌ عن أبي الْيَقْظَانِ عن عَدِيِّ بن ثَابِتٍ عن أبيه عن جَدِّهِ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال الْمُسْتَحَاضَةُ تَدَعُ الصَّلَاةَ أَيَّامَ حَيْضِهَا في كل شَهْرٍ فإذا كان عِنْدَ انْقِضَائِهَا اغْتَسَلَتْ وَصَلَّتْ وَصَامَتْ وَتَوَضَّأَتْ عِنْدَ كل صَلَاةٍ) وقد قال عنه الترمذي في العلل 1/57 :" في المستحاضة تتوضأ كل صلاة: حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا شريك عن أبي اليقظان عن عدي بن ثابت عن أبيه عن جَدِّه عن النبي ( في المستحاضة تدع الصلاة أيام أقرائها التي كانت تحيض فيها ثم تغتسل وتتوضأ لكل صلاة وتصوم وتصلي؛ سألت مُحمدًا عن هذا الحديث فقال لا أعرفه إلا من هذا الوجه ولا اعرف اسم جد عدي بن ثابت قلت له ذكروا أن يحيى بن معين قال هو عدي بن ثابت بن دينار فلم يعرفه ولم يعده شيئا في المستحاضة".
ورد الشوكاني في السيل الجرار على صاحب حدائق الأزهار ج1/ص99 القول بوجوب الوضوء للمستحاضة لكل وقت صلاة فقال:" قوله ودخول الوقت في حق المستحاضة ونحوها؛ أقول ليس على هذا أثارة من علم ولا عقل فلا حاجة إلى التطويل في رده وبيان بطلانه".
قلت ( أبو الحسين ): الزيادة الواردة في الحديث "وتوضئي لكل صلاة" من قول الراوي لا من كلام النبي صلى الله عليه وسلم. والأدراج في الحديث يحصل كثيرا كما في قول أبي هريرة بعد أن ذكر حديث النبي صلى الله عليه وسلم: عَنْ نُعَيْمٍ الْمُجْمِرِ قَالَ رَقِيتُ مَعَ أَبِي هُرَيْرَةَ عَلَى ظَهْرِ الْمَسْجِدِ فَتَوَضَّأَ فَقَالَ إِنِّي سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ إِنَّ أُمَّتِي يُدْعَوْنَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِنْ آثَارِ الْوُضُوءِ فَمَنْ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يُطِيلَ غُرَّتَهُ فَلْيَفْعَلْ". فزيادة "فَمَنْ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يُطِيلَ غُرَّتَهُ فَلْيَفْعَلْ". من كلام أبي هريرة.
وأيضا من المدرج من كلام أبي هريرة كما في البخاري في بَاب الْعَبْدِ إِذَا أَحْسَنَ عِبَادَةَ رَبِّهِ وَنَصَحَ سَيِّدَهُ:" عَنْ الزُّهْرِيِّ سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ يَقُولُ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْعَبْدِ الْمَمْلُوكِ الصَّالِحِ أَجْرَانِ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْحَجُّ وَبِرُّ أُمِّي لَأَحْبَبْتُ أَنْ أَمُوتَ وَأَنَا مَمْلُوكٌ". في حين فصل الإمام مسلم هذه الزيادة فقال في باب ثَوَابِ الْعَبْدِ وَأَجْرِهِ إِذَا نَصَحَ لِسَيِّدِهِ وَأَحْسَنَ عِبَادَةَ اللَّهِ :" عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ يَقُولُ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « لِلْعَبْدِ الْمَمْلُوكِ الْمُصْلِحِ أَجْرَانِ ». وَالَّذِى نَفْسُ أَبِى هُرَيْرَةَ بِيَدِهِ لَوْلاَ الْجِهَادُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَالْحَجُّ وَبِرُّ أُمِّى لأَحْبَبْتُ أَنْ أَمُوتَ وَأَنَا مَمْلُوكٌ. قَالَ وَبَلَغَنَا أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ لَمْ يَكُنْ يَحُجُّ حَتَّى مَاتَتْ أُمُّهُ لِصُحْبَتِهَا".
ويذكر شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى ج1/ص279 عن بعض الصحابة أنهم اجتهدوا في مسائل لم يكن الدليل حليفهم فقال:" كان ابن عمر يدخل الماء في عينيه في الوضوء ويأخذ لأذنيه ماء جديدا وكان أبو هريرة يغسل يديه إلى العضدين في الوضوء ويقول من استطاع أن يطيل غرته فليفعل وروى عنه أنه كان يمسح عنقه ويقول هو موضع الغل فإن هذا وإن إستحبه طائفة من العلماء إتباعا لهما فقد خالفهم في ذلك آخرون وقالوا سائر الصحابة لم يكونوا يتوضؤون هكذا والوضوء الثابت عنه الذى في الصحيحين وغيرهما من غير وجه ليس فيه أخذ ماء جديد للأذنين ولا غسل ما زاد على المرفقين والكعبين ولا مسح العنق ولا قال النبى من إستطاع أن يطيل غرته فليفعل بل هذا من كلام أبى هريرة جاء مدرجا في بعض الأحاديث وإنما قال النبى إنكم تأتون يوم القيامة غرا محجلين من آثار الوضوء وكان يتوضأ حتى يشرع في العضد والساق قال أبو هريرة من إستطاع أن يطيل غرته فليفعل وظن من ظن أن غسل العضد من إطالة الغرة وهذا لا معنى له فإن الغرة في الوجه لا في اليد والرجل وإنما في اليد والرجل الحجلة والغرة لا يمكن إطالتها فإن الوجه يغسل كله لا يغسل الرأس ولا غرة في الرأس والحجلة لا يستحب إطالتها وإطالتها مثلة ".
وقال الشيخ الألباني رحمه الله في الصحيحة مبينا الإدراج في حديث الغر المحجلين :" وهو متفق عليه بين الشيخين، لكن قوله:" فمن استطاع..." مدرج من قول أبي هريرة ليس من حديثه صلى الله عليه وسلم كما شهد بذلك جماعة من الحفاظ كالمنذري وابن تيمية وابن القيم والعسقلاني وغيرهم وقد بينت ذلك بيانا شافيا في" الأحاديث الضعيفة " فأغنى عن الإعادة، ولو صحت هذه الجملة لكانت نصا على استحباب إطالة الغرة و التحجيل لا على إطالة العضد. والله ولى التوفيق".
وكذلك زيادة ( أسبغوا الوضوء ) زادها أبو هريرة وقد فصلها البخاري كما في صحيحه ج1/ص73 :" حدثنا آدَمُ بن أبي إِيَاسٍ قال حدثنا شُعْبَةُ قال حدثنا محمد بن زِيَادٍ قال سمعت أَبَا هُرَيْرَةَ وكان يَمُرُّ بِنَا وَالنَّاسُ يتوضؤون من الْمِطْهَرَةِ قال أَسْبِغُوا الْوُضُوءَ فإن أَبَا الْقَاسِمِ صلى الله عليه وسلم قال وَيْلٌ لِلْأَعْقَابِ من النَّارِ".
وعند النظر في الروايات التي أخرجها البخاري نرى أنه ذكر زيادة الوضوء لكل صلاة وقد فصلها عن الحديث مما يدل على أن البخاري يشير إلى أنها من قول الراوي فهي مدرجة؛ بدليل أنه ذكر باقي الروايات من طرق أخرى ولم يذكر هذه الزيادة.
ومن قال بزيادة هذه اللفظة وأنها مدرجة " وتوضئي لكل صلاة" من قبل الراوي ابن رجب في فتح الباري1/448 قال:" والصواب: أن هَذا مِن قول عروة، كذلك خرجه البخاري في ( كِتابِ: الوضوء) عَن محمد بنِ سلام ، عَن أبي معاوية ، عَن هشام فذكر الحديث . قالَ مالك : والأمر عندنا على حديث هشام ، عَن أبيه ، وَهوَ أحب ما سمعت إلي قالَ ابن عبد البر: والوضوء عليها عند مالك على الاستحباب دونَ الوجوب . قالَ وقد احتج بعض أصحابنا على سقوط الوضوء بقول رسول الله ( فإذا ذهب قدرها فاغتسلي وصلي)، ولم يذكر وضوءاً . قالَ : وممن قالَ بأن الوضوء على المستحاضة غير واجب: ربيعة، وعكرمة، ومالك، وأيوب، وطائفة .
قالَ: وأما الأحاديث المرفوعة في الغسل لكل صلاة ، فكلها مضطربة ، لا تجب بمثلها حجة. انتهى.
وأحاديث الأمر بالغسل لكل صلاة كلها معلولة وإنما المراد هنا: أحاديث الوضوء لكل صلاة ، وقد رويت مِن وجوه متعددة ، وهي مضطربة - أيضا - ومعللة، تقدم بعضها ومن أشهرها: رواية الأعمش، عَن حبيب بنِ أبي ثابت، عَن عروة، عَن عائشة، قالت: جاءت فاطمة بنت أبي حبيش، فقالت: يا رسول الله، إني امرأة استحاض فلا أطهر، أفأدع الصلاة؟ قالَ:( لا ، اجتنبي الصلاة أيام محيضك، ثُمَّ اغتسلي وتوضئي لكل صلاة، ثُمَّ صلي، وإن قطر الدم على الحصير ) خرجه الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه" انتهى كلام ابن رجب.
وقد ترك الإمام مسلم ذكر الزيادة عمدا فقال في صحيحه ج1/ص262 :" حدثنا يحيى بن يحيى أخبرنا عبد الْعَزِيزِ بن مُحَمَّدٍ وأبو مُعَاوِيَةَ ح وحدثنا قُتَيْبَةُ بن سَعِيدٍ حدثنا جَرِيرٌ ح وحدثنا بن نُمَيْرٍ حدثنا أبي ح وحدثنا خَلَفُ بن هِشَامٍ حدثنا حَمَّادُ بن زَيْدٍ كلهم عن هِشَامِ بن عُرْوَةَ بِمِثْلِ حديث وَكِيعٍ وَإِسْنَادِهِ وفي حديث قُتَيْبَةَ عن جَرِيرٍ جَاءَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ أبي حُبَيْشِ بن عبد الْمُطَّلِبِ بن أَسَدٍ وَهِيَ امْرَأَةٌ مِنَّا قال وفي حديث حَمَّادِ بن زَيْدٍ زِيَادَةُ حَرْفٍ تَرَكْنَا ذِكْرَهُ".
ويذهب الشوكاني إلى عدم وجوب الوضوء على المستحاضة لكل صلاة فيقول في السيل الجرار ج1/ص149:" وكما أنه ليس في إيجاب الغسل عليها لكل صلاة وللصلاتين ما تقوم به الحجة كذلك لا دليل تقوم به الحجة في إيجاب الوضوء عليها لكل صلاة وأما الحكم عليها بأنه ينتقض وضوءها بدخول كل وقت اختيار أو مشاركة فمن التساهل في إثبات الأحكام الشرعية لمجرد الخيالات المختلة والآراء المعتلة ".
وقد بيّن البيهقي أن الوضوء لكل صلاة من كلام الراوي فقال في معرفة السنن والآثار ج1/ص368:" رواه البخاري في الصحيح من حديث عبد الله بن يوسف عن مالك ورواه سفيان بن عيينة وزهير بن معاوية وحماد بن زيد وعبد العزيز بن محمد ووكيع بن الجراح وأبو معاوية الضرير وجرير بن عبد الحميد وعبد الله بن نمير وجماعة كثيرة عن هشام بن عروة قالوا في الحديث فإذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة وإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم وصلي إلا أن حماد بن زيد زاد فيه الوضوء وهو غلط إنما الوضوء من قبل عروة وزاد فيه سفيان بن عيينة الاغتسال بالشك واختلف فيه على أبي أسامة فقيل عنه كما قالت الجماعة وقيل عنه لا إن ذلك عرق ولكن دعي الصلاة قدر الأيام التي كنت تحيضين فيها ثم اغسلي وصلي وروي عنه أنه قال في آخره أو كما قال وفي ذلك دلالة على أنه كان يشك فيه والصحيح رواية الجماعة وروى محمد بن عمرو عن الزهري عن عروة أن فاطمة بنت أبي حبيش كانت تستحاض فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان دم الحيض فإنه دم أسود يعرف فإذا كان ذلك فأمسكي عن الصلاة وإذا كان الآخر فتوضئي وصلي فإنما هو عرق".
ومع أن الشافعي يوجب عليها الوضوء لكل صلاة لكن قياسا{ قلت ( أبو الحسين): لا قياس في العبادات} لأن الزيادة عنده لم تثبت فقال في الأم ج1/ص61:" وَعَلَيْهَا الْوُضُوءُ لِكُلِّ صَلَاةٍ قِيَاسًا على السُّنَّةِ في الْوُضُوءِ بِمَا خَرَجَ من دُبُرٍ أو فَرْجٍ مِمَّا له أَثَرٌ أو لَا أَثَرَ له".
ولهذا قال البيهقي في معرفة السنن والآثار ج1/ص379:" قال الشافعي في كتاب الحيض: قال بعض العراقيين أما إنا روينا أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر المستحاضة تتوضأ لكل صلاة؛ قال الشافعي قلت نعم قد رويتم ذلك وبه نقول قياسا على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الوضوء مما خرج من دبر أو ذكر أو فرج ولو كان هذا محفوظا عندنا كان أحب إلينا من القياس فأشار الشافعي إلى أن الحديث الذي روي فيه غير محفوظ وهو كما قال ".
تعليق