هل صح عن أبي بكر -رضي الله عنه- تغطيته لرأسه حال دخول الخلاء ؟ وهل يستحب ذلك؟
[نظرة حديثية وفقهية]
[نظرة حديثية وفقهية]
الحمدلله رب العالمين والصلاة والسلام على رسوله الأمين، أما بعد
فهذا جمع مختصر في تخريج وتحقيق أثر أبي بكر -رضي الله عنه- في تغطية الرأس حال دخول الخلاء، وتتبع ما سواه من الآثار ثم الإشارة لما ورد من المرفوع في الباب، ثم تتبع ما ورد في كتب المذاهب الأربعة في هذا، ثم بعد ذلك بيان أقرب الأقوال بحسب نظري والله تعالى أعلى وأعلم وأبدأ بتخريج أثر أبي بكر-رضي الله عنه-.
قال ابْنُ الْمُبَارَكِ في "الزهد" : أخبرنا عَنْ يُونُسَ بن يزيد، عَنِ الزُّهْرِيِّ ، قَالَ : أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بن الزبير، عَنْ أَبِيهِ ؛ قال أَبو بَكْرٍ الصِّدِّيقَ ،وَهُوَ يَخْطُبُ النَّاسَ : يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ ، اسْتَحْيُوا مِنَ اللهِ ، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إنِّي لاَظَلُّ حِين أَذْهَبُ إلَى الْغَائِطِ فِي الْفَضَاءِ ،متقنعا بثوبي اسْتِحْيَاءً مِنْ رَبِّي عز وجل.[(316)]
وأخرجه ابن أبي الدنيا في "مكارم الأخلاق "(92) عن أحمد بن جميل عنه ، والبيهقي في شعب الإيمان (رقم7732 ) بسنده عنه وبلفظه.
وأخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه [(1133) باب من كره أَنْ تُرَى عَوْرَتُهُ] بلفظ " مُغَطّيًا رأسي" عن ابن المبارك، وأخرجه من طريق ابن أبي شيبة عبدالله بن أحمد في زوائده على الزهد [1177]
وأخرجه بهذا الفظ المروزي في "تعظيم قدر الصلاة" عن محمد بن يحيى ثنا أبو داود الطيالسي عن ابن المبارك.
وفي كنز العمال أحال على [رسته والخرائطي في "مكارم الأخلاق"]
وعند المروزي التصريح بسماع الزبير -رضي الله عنه- من أبي بكر-رضي الله عنه-.
وسند ابن المبارك رجاله ثقات أثبات وفي رواية يونس بن يزيد عن الزهري كلام كما أشار الإمام أحمد وهكذا يُفهم من صنيع يحي بن سعيد وغيره، ولكن وإن كان فيها شيء من المناكير فهي قليلة بجانب ما رواه ، فهو أحد المكثرين الأثبات عن الزهري، قال أحمد:هؤلاء الذين رووا عن الزهري الكثير يونس، وعقيل، ومعمر " ثم قدَّم أحمد رواية مالك عليهم من حيث الضبط.، و قال ابن البرقي سمعت ابن المديني يقول أثبت الناس في الزهري مالك وابن عيينة ومعمر وزياد بن سعد ويونس، ولذا قال الحافظ: وثقه الجمهور مطلقا وإنما ضعفوا إذا خولف من أقرانه ا.هـ [مقدمة الفتح 1-455] ولا مخالفة هنا فالرواية صحيحة.
- وقد أخرج الأثر هناد في "الزهد" من طريق أخرى فقال:
حدثنا ابن عيينة عن عمرو أنَّ أبا بكر قال استحيوا من الله فإني لأدخل الكنف فأغطي رأسي حياء من الله (رقم 1356)
وعمرو هو ابن دينار المكي وابن عيينه أثبت الناس فيه، والسند مع صحته فهو مرسل فعمرو لم يدرك أبا بكر الصديق رضي الله عنه.
- وقد أورده الحكيم الترمذي في "نوادر الأصول" فقال:
وقال أبو بكر رضي الله عنه استحيوا من الله فإني لأدخل الكنيف فأقنع رأسي حياء من الله." [تحت حديث 1432]
وأورده بنحو هذا اللفظ صاحب "كنز العمال" من رواية عائشة وأحال على "جامع عبدالرزاق".
وأورده كذلك بلفظ مقارب من روايتها عن أبيها وأحال على "سفيان" ولعله أراد في جامعه.
ولم أقف على شيء من أسانيد هذه الروايات عن عائشة-رضي الله عنها-، وسواء صحت أم لم تصح! فرواية عروة بن الزبير عن أبيه عن أبي بكر كافية في ثبوت الرواية ، ويعضدها المرسل الصحيح من طريق عمرو بن دينار.
- وقد ورد عن الإمام طاووس بن كيسان اليماني بنحو ما ثبت عن الخليفة الراشد أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- فقد قال ابن أبي شيبة في المصنف:
حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ ، عَنِ ابْنِ طَاوُوس ، قَالَ : أَمَرَنِي أَبِي إذَا دَخَلْتُ الْخَلاَءَ أَنْ أُقَنِّعَ رَأْسِي ، قُلْتُ : لِمَ أَمَرَك بِذَلِكَ ؟ قَالَ : لاَ أَدْرِي. [(1141)]
وهذا سند عالٍ غاية في الصحة.
وقد ورد في هذا الباب حديثان مرفوعان أخرجهما البيهقي في سننه باب "باب تَغْطِيَةِ الرَّأْسِ عِنْدَ دُخُولِ الْخَلاَءِ وَالاِعْتِمَادِ عَلَى الرِّجْلِ الْيُسْرَى إِذَا قَعَدَ إِنْ صَحَّ الْخَبَرُ فِيهِ." قال:
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْخَالِقِ بْنُ عَلِىٍّ الْمُؤَذِّنُ أَخْبَرَنَا أَبُو أَحْمَدَ بْنُ حَمْدَانَ الصَّيْرَفِىُّ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُونُسَ الْقُرَشِىُّ حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِىِّ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ كَانَ النَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم- إِذَا دَخَلَ الْخَلاَءَ غَطَّى رَأْسَهُ وَإِذَا أَتَى أَهْلَهُ غَطَّى رَأْسَهُ.
قَالَ الشَّيْخُ : وَهَذَا الْحَدِيثُ أَحَدُ مَا أُنْكِرَ عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ يُونُسَ الْكُدَيْمِىِّ.
{ج} أَخْبَرَنَا أَبُو سَعْدٍ الْمَالِينِىُّ أَخْبَرَنَا أَبُو أَحْمَدَ بْنُ عَدِىٍّ الْحَافِظُ فِى هَذَا الْحَدِيثِ لاَ أَعْلَمُهُ رَوَاهُ غَيْرُ الْكُدَيْمِىِّ بِهَذَا الإِسْنَادِ وَالْكُدَيْمِىُّ أَظْهَرُ أَمْرًا مِنْ أَنْ يُحْتَاجَ إِلَى أَنْ يُبَيَّنَ ضَعْفُهُ. [بنحوه في ذخيرة الحفاظ للمقدسي]
قلت: وقد ضعف الحديث جماعة وأورده الشيخ الألباني في الضعيفة رقم (4192)، والصحيح أنَّ الحمل فيه على خالد بن عبدالرحمن شيخ الكديمي فقد أورده أبو نعيم والنعالي من غير طريق الكديمي عنه.
ثم قال ابن أبي شيبة:
أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ إِجَازَةً أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ : أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ الصِّبْغِىُّ أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ قُتَيْبَةَ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ عَنْ أَبِى بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ حَبِيبِ بْنِ صَالِحٍ قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- إِذَا دَخَلَ الْخَلاَءَ لَبِسَ حِذَاءَهُ وَغَطَّى رَأْسَهُ.
وهذا فيه تغطية الرأس عند دخول الخلاء دون الجماع، وهذا مرسل بل معضل فهو من السابعة مات في سبع وأربعين ومائة (147هـ)، ومع إعضاله فأبو بكر بن عبدالله بن أبي مريم ضعيف يأتي بمناكير، وقد ضعف الحديث النووي في "خلاصة الأحكام" وهكذا جماعة من الحفاظ وأورده الشيخ الألباني في الضعيفة (4191)
فلا يصح في المرفوع شيء في ستر الرأس حال قضاء الحاجة، ويبقى ما ورد عن أبي بكر-رضي الله عنه- وطاووس وابنه.
فما حكم ستر الرأس حال دخول الخلاء؟
أما المختار في المذاهب الأربعة فهو الاستحباب مطلقًا.
الحنفية:
قال في "البحر الرائق": يُسْتَحَبُّ له أَنْ يَدْخُلَ... مَسْتُورَ الرَّأْسِ" [1-256]
و في "الفتاوى الهندية" : إذَا أَرَادَ دُخُولَ الْخَلَاءِ يُسْتَحَبُّ له أَنْ... يَدْخُلُ مَسْتُورَ الرَّأْسِ ا.هـ [1-50]
وفي "حاشية ابن عابدين": [ تَتِمَّةٌ ] إذَا أَرَادَ أَنْ يَدْخُلَ الْخَلَاءَ يَنْبَغِي أَنْ يَقُومَ قَبْلَ أَنْ يَغْلِبَهُ الْخَارِجُ وَلَا يَصْحَبَهُ شَيْءٌ عَلَيْهِ اسْمٌ مُعَظَّمٌ وَلَا حَاسِرَ الرَّأْسِ" [1-345]
وفي "مراقي الفلاح" : "( ويدخل الخلاء ) .. مستور الرأس"
المالكية:
ورد في شرح العدوي : وَأَنْ يُغَطِّيَ رَأْسَهُ بِرِدَاءٍ وَنَحْوِهِ ، قَالُوا : وَيَكْفِي وَلَوْ بِطَاقِيَّةٍ ، فَالْمُرَادُ أَنْ لَا يَكُونَ رَأْسُهُ مَكْشُوفًا حَالَ قَضَاءِ الْحَاجَةِ .
ثم قال الصاوي معلقًا: قِيلَ : حَيَاءً مِنْ اللَّهِ وَمِنْ الْمَلَائِكَةِ ، وَقِيلَ : لِأَنَّهُ أَحْفَظُ لِمَسَامِّ الشَّعْرِ مِنْ عُلُوقِ الرَّائِحَةِ بِهَا . [الشرح الصغير مع حاشية الصاوي (1/141-144)]
الشافعية:
قال النووي في "المجموع..": (الثامنة) قال امام الحرمين والغزالي والبغوى وآخرون يستحب أن لايدخل الخلاء مكشوف الرأس قال بعض أصحابنا فان لم يجد شيئا وضع كمه علي رأسه ا.هـ [2/93-94]
الحنابلة:
كما في "كشاف القناع" [1-59] و "مطالب أولي النهى" [1-65] ، وشرح "منتهى الإرادات"[1-33] وعلى هذه الكتب الاعتماد عند المتأخرين، وجاء في "منار السبيل" قوله: "وأن يغطي رأسه" عند الجماع، وعند الخلاء. قال في الفروع: ذكره جماعة. ا.هـ وهكذا هو المذهب عند متوسطي المذهب كما في "المغني"و "الشرح الكبير".
قلت: وهؤلاء الأئمة ممن ذهب لاستحباب تغطية الرأس منهم من اعتمد على المرفوع، ثم منهم مَن سكت عنه، ومنهم مَن بيَّن ضعفه ولكن اعتذر بكونه في فضائل الأعمال، وهذا كحال الإمام النووي فقد سبق أنَّه ضعف الحديثين في "خلاصة الأحكام" وهكذا ضعفهما في "المجموع .." في الموضع السابق وقال بعدها:
(قلت) وقد اتفق العلماء على أن الحديث المرسل والضعيف والموقوف يتسامح به في فضائل الاعمال ويعمل بمقتضاه " ا.هـ
وإن كان قد أورد قبله أثر أبي بكر –رضي الله عنه- وصححه.
وذهب بعض المحققين إلى الاعتماد على الموقوف فقد قال ابن قدامة الحنبلي في "المغني..":
ويستحب أن يغطي رأسه لأنَّ ذلك يروى عن أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- ولأنَّه حال كشف العورة ا.هـ [فصل : استحباب جلوسه على رجله اليسرى]
- وقال الحطَّاب الرعيني المالكي في "مواهب الجليل شرح مختصر خليل":
وقد كان الصديق رضي الله عنه يغطي رأسه إذ ذاك حياء من الله تعالى " [1-406]
وهذا الثاني هو الذي ينبغي أن يكون لو قال قائلٌ بالاستحباب، فإنَّ الاعتماد على الأحاديث الضعيفة في إثبات الحكم الشرعي لا يُعرف عند محققي العلماء على خلاف ما أشار النووي-رحمه الله-، فقد قال ابن تيمية –رحمه الله-:
وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُعْتَمَدَ فِي الشَّرِيعَةِ عَلَى الْأَحَادِيثِ الضَّعِيفَةِ الَّتِي لَيْسَتْ صَحِيحَةً وَلَا حَسَنَةً لَكِنَّ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ وَغَيْرَهُ مِنْ الْعُلَمَاءِ جَوَّزُوا أَنْ يُرْوَى فِي فَضَائِلِ الْأَعْمَال مَا لَمْ يُعْلَمْ أَنَّهُ ثَابِتٌ إذَا لَمْ يُعْلَمْ أَنَّهُ كَذِبٌ.
وَذَلِكَ أَنَّ الْعَمَلَ إذَا عُلِمَ أَنَّهُ مَشْرُوعٌ بِدَلِيلِ شَرْعِيٍّ وَرُوِيَ فِي فَضْلِهِ حَدِيثٌ لَا يُعْلَمُ أَنَّهُ كَذِبٌ جَازَ أَنْ يَكُونَ الثَّوَابُ حَقًّا وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ إنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ الشَّيْءُ وَاجِبًا أَوْ مُسْتَحَبًّا بِحَدِيثِ ضَعِيفٍ وَمَنْ قَالَ هَذَا فَقَدَ خَالَفَ الْإِجْمَاعَ... [مج1/251-252] وفي هذا تفصيل ونقاش ليس هذا محله.
قلت: فإذا كان كذلك فهل نقول بالاستحباب اعتمادًا على أثر أبي بكر رضي الله عنه، واستئناسًا بعمل طاووس وابنه؟!
الجواب: الذي يظهر أنَّ إطلاق الاستحباب ولو قلنا بحجية قول الصحابي -خاصة مع ما ورد في أمر الخلفاء الراشدين وأعلاهم في ذلك العمرين، وأشرفهم أبو بكر –رضي الله عنه- ولكن مع هذا ففي الإطلاق نظرٌ.
بل الصواب أن يقال: من كان يقع له مثلما وقع لأبي بكر –رضي الله عنه- من الحياء وما يجده في نفسه، فله أن يفعل كما فعل ويغطي رأسه، فإنَّما تكون الموافقة بالباطن والظاهر، أما تغطية الرأس دون نزول تلك الحالة من الشعور بالحياء فما محلُّها، ويُقوِّي هذا عدم ورود تغطية الرأس عن بقية الصحابة ولا اشتهر بين السلف من أهل القرون المفضلة، وإنَّما هو شيءٌ ثبت عن طاووس دون غيره، بل لم يدرِ ابن طاووس لما أمره أبوه.
ثم لا يقال: ربما ورد عن النبي -صلى الله عليه وسلم- ولم يُنقل إلينا! لأنّ هذا لو كان ملازمًا للحياء لا ينفك عنه لكان النبي -صلى الله عليه وسلم- لا يتركه وسيشتهر بين أصحابة فضلا عن أزواجه -رضوان الله على الجميع- فلمَّا لم ينقله أزواجه ولا أصحابه مع نقلهم آداب متكاثرة كان يفعلها النبي -صلى الله عليه وسلم- حال قضائه حاجته وحال غسله دل على عدم وقوعه أصلًا.
وهذا هو الأصل وقد نخرج عن هذا فيما إذا وردت آثار الصحابة والتابعين واشتهرت بحيث يغلب على ظننا بأنَّهم إنما أخذوا هذا عن نبينا -عليه الصلاة والسلام-، وقد يُكتفى في الأمور غير الظاهرة المشهورة بأثر واحد أو أثرين، وهذه أمور نسبية يدخل فيها النظر وغلبة الظن، ومثل هذه الصور يسميها الشيخ محمد بازمول: السنن الباطنة وهي التي لم تُنقل عن النبي-صلى الله عليه وسلم- صراحة وإن كنا نثبتها له حكمًا.
بل ربما قلنا هذا بورود إجماع واتفاق على أنَّ هذا الفعل من المستحبات كدخول الخلاء باليسرى! فهنا نثبت استحباب الحكم بالإجماع ثم الأدلة الفرعية التي دلت على القاعدة الشرعية العامة بتكريم اليمنى على اليسرى، ثم نقول: عدم نقله عن النبي-صلى الله عليه وسلم- لا يدل على عدم وقوعه، ولا يصح قول بعض الفضلاء المعاصرين، بأنه مستحب لكن لا يصح القول: بأنَّه سنة!، أو يظن المرء بأن النبي -صلى الله عليه وسلم- فعله! فيقال: أولا: التفريق بين السنة والمستحب خلاف المشهور في علم الأصول والفروع ، ولا أظن الشيخ يريد هذا بل هو يريد أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يفعله، سواء سميناه سنة أم مستحبًا.
وثانيًا: كيف يظن المرء بأننا قد أدركنا مستحبًا وفضلًا لم يفعله النبي -صلى الله عليه وسلم- فهذا بعيد، بل هذه هي البدعة، شيء كان سببه في زمن النبي ولا مانع ثم لم يفعله، ونأتي نحن ونقول مستحب؟! فإما يقال: يستحب، أو لا! أما الجمع بين نفي وقوع الفعل وإثبات الاستحباب فبعيد ولا يُتصور!، ويكفي أن يقال لم يصح مثلا هذا الأمر من فعل النبي -صلى الله عليه وسلم- صراحة ولكن دلت عليه الأدلة الأخرى، وعدم النقل ليس دليلٌ على عدم الفعل، أما نفي فعل النبي من حيث وقوعه أصلًا لا (الورود) فقط فهذا حكمٌ عليه بالبدعة، وهذا كأن يقال : دلت قواعد الشريعة والأحاديث المتواتر معنىً على رفع اليدين في الدعاء. ثم يأت آتٍ ويقول: ويرفع بعد الصلاة وإن لم يفعله النبي-صلى الله عليه وسلم - لكن تدل عليه القواعد العامة! فيقال: إذا جزمنا بعدم فعله فلا استحباب بل بالمداومة عليه بدعة. فهكذا هنا إما هذا وإما هذا!
أعود لمسألتنا فأقول: فأما في صورتنا هذه فليس عندنا ما يخرجنا عن الأصل وهو عدم الورود نصًا ولا حكمًا، وهذا ما يقوي عدم إطلاق الاستحباب بل التفصيل.
فخلاصة الكلام: أنَّ مَن كان يصيبه الحياء مثلما وقع لأبي بكر الصديق-رضي الله عنه- فله فعل ذلك، وقد وردت آثار مختلفة في حياء الصحابة حال قضاء الحاجة، وحال الاغتسال، مما يدل على أنَّ الداعي لفعلهم ليس سنة مرفوعة ولكن أمرا كان يجدونه في نفوسهم فكلٌ يفعل ما يدرء به عن نفسه الحياء ومن الأمثلة ما أورده ابن أبي شيبة في نفس الفصل فقال:
حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ ، قَالَ : أَخْبَرَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ ، عَنْ ثَابِتٍ ، عَنْ أَنَسٍ ، عَنْ أَبِي مُوسَى ، قَالَ : إنِّي لاَغْتَسِلُ فِي الْبَيْتِ الْمُظْلِمِ ، فَأَحْنِي ظَهْرِي إذَا أَخَذْتُ ثَوْبِي حَيَاءً مِنْ رَبِّي.[(1134)]
فهذا وأمثاله لا يقال فيه: يستحب الاغتسال في البيت المظلم أو إحناء الظهر عند أخذ الثوب، ولكن من كان حاله مثل حال هؤلاء فله أن يدفع حياءه بما كان ومما يزيدك اطمئنانًا لهذا القول إذا علمتَ أنَّ العلماء إنَّما ذهبوا لحجية قول الصحابي لفضل الصحابة وفهمهم للقرآن ومشاهدتهم التنزيل، وليس كل ما أخذوه عن النبي-صلى الله عليه وسلم- نقلوه عنه نصًا ، وذكر ابن القيم-رحمه الله- في "إعلام الموقعين" أوجه حجية قول الصحابة والاحتمالات الواردة عليه، فإذا عرفت كلامه ثم رأيت قول أبي بكر -رضي الله عنه- "متقنعا بثوبي اسْتِحْيَاءً مِنْ رَبِّي عز وجل" علمت حينها بحجته والدافع الذي ألجأه لهذا الأمر، فليس هي سنة سمعها من النبي-صلى الله عليه وسلم- أو شيئا رآه من فعله-صلى الله عليه وسلم-، أو فهمًا لآية أو لحديث سمعه من النبي-صلى الله عليه وسلم-، ولا ولا..ولكن دفعه حياؤه من ربه.
فإذا تدبرت هذا الوجه والتعليل ظهر لك صحة ما ذكرت لك من الراجح في هذه المسألة،والله تعالى أعلى وأعلم والحمدلله رب العالمين.
تنبيه:
هناك تعليلات بعيدة أوردها الفقهاء في سبب تغطية الرأس حال دخول الخلاء، منها ما سبق من نقل الصاوي، ويرجع لبقيتها في "موسوعة أحكام الطهارة" ج2ص 109-110.
تعليق