عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: كنت رديف النبي - صلى الله عليه وسلم - على حمار، فقال لي: "يا معاذُ! أتدري ما حق الله على العباد، وما حق العباد على الله؟". قلت: الله ورسوله أعلم. قال: "حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً وحق العباد على الله أن لا يعذب من لايشرك به شيئا، قلت يا رسولَ الله، أفأبشرُ الناس؟ قال: لا تبشرهم فيتكلوا. أخرجاه في الصحيحين
فيه مسائل:
فيه مسائل:
الاولى:الحكمة من خلق الجن والإنس، أخذها رحمه الله من قوله تعالى: { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا ليعبدون} [الذاريات: 56]؛ فالحكمة هي عبادة الله، لا أن يتمتعوا بالمآكل والمشارب والمناكح.
الثانية:أن العبادة هي التوحيد، أي: أن العبادة مبنية على التوحيد؛ فكل عبادة لا توحيد فيها ليست بعبادة، لاسيما أن بعض السلف فسروا قوله تعالى: {إلا ليعبدون}: إلا ليوحدون.
وهذا مطابق تماماً لما استنبطه المؤلف رحمه الله من أن العبادة هي التوحيد؛ فكل عبادة لا تبنى على التوحيد فهي باطلة، قال - صلى الله عليه وسلم -: "قال الله تعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري؛ تركته وشركه"
وقوله: "لأن الخصومة فيه"، أي: في التوحيد بين الرسول -صلى الله عليه وسلم - وقريش؛ فقريش يعبدون الله يطوفون له ويصلون، ولكن على غير الإخلاص والوجه الشرعي؛ فهي كالعدم لعدم الإتيان بالتوحيد، قال تعالى: { وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ} [التوبة: 54].
الثالثة: أن من لم يأت به، لم يعبد الله، ففيه معنى قوله: (ولا أنتم عابدون ما أعبد) [الكافرون: ]. لستم عابدين عبادتي؛ لأن عبادتكم مبنية على الشرك، فليست بعبادة لله تعالى.
الرابعة: الحكمة في إرسال الرسل، أخذها رحمه الله تعالى من قوله تعالى: (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) [النحل: 36]. فالحكمة هي: الدعوة إلى عبادة الله وحده، واجتناب عبادة الطاغوت.
السابعة: المسالة الكبيرة أن عبادة الله لا تحصل إلا بالكفر بالطاغوت .ودليله قوله تعالى: (واجتنبوا الطاغوت)، فمن عبَدَ الله ولم يكفر بالطاغوت؛ فليس بموحد، ولهذا جعل المؤلف رحمه الله هذه المسألة كبيرة؛ لأن كثيراً من المسلمين جهلها في زمانه وفي زماننا الآن.
تنبيه:
لا يجوز إطلاق الشرك أو الكفر أو اللعن على من فعل شيئاً من ذلك؛ لأن الحكم بذلك في هذه وغيرها له أسباب وله موانع؛ فلا نقول لمن أكل الربا: ملعون؛ لأنه قد يوجد مانع يمنع من حلول اللعنة عليه؛ كالجهل مثلاً، أو الشبهة، وما أشبه ذلك، وكذا الشرك لا نطلقه على من فعل شركاً؛ فقد تكون الحجة ما قامت عليه بسبب تفريط علمائهم، وكذا نقول: من صام رمضان إيماناً واحتساباً؛ غفر له ما تقدم من ذنبه، ولكن لا نحكم بهذا لشخص معين، إذ إن الحكم المعلق على الأوصاف لا ينطبق على الأشخاص إلا بتحقق شروط انطباقه وانتفاء موانعه. فإذا رأينا شخصاً يتبرز في الطريق؛ فهل نقول له: لعنك الله؟ الجواب: لا، إلا إذا أريد باللعن في قوله: "اتقوا الملاعن" أن الناس أنفسهم يلعنون هذا الشخص ويكرهونه، ويرونه مخلاً بالأدب مؤذياً للمسلمين؛ فهذا شيء أخر. فدعاء القبر شرك، لكن لا يمكن أن نقول لشخص معين فعله: هذا مشرك؛ حتى نعرف قيام الحجة عليه، أو نقول: هذا مشرك باعتبار ظاهر حاله.
الثامنة: أن الطاغوت عام في كل ما عبد من دون الله. فكل ما عبد من دون الله، فهو طاغوت، وقد عرّفه ابن القيم: بأنه كل ما تجاوز به العبد حده من معبود أو متبوع أو مطاع، فالمعبود كالصنم، والمتبوع كالعالم، والمطاع كالأمير.
التاسعة: عظم شأن الثلاث آيات المحكمات في سورة الأنعام، عند السلف، وفيها عشر مسائل، أولها النهي عن الشرك.
المحكمات: التي ليس فيها نسخ، أخذ ذلك من قول ابن مسعود رضي الله عنه.
العاشرة: الآيات المحكمات في سورة الإسراء. وهي قوله تعالى: (وَقَضَى رَبُّك أَلَّا تَعْبُدُوا إلَّا إيَّاهُ) [الإسراء: 23]، وفيها ثماني عشرة مسألة بدأها بقوله تعالى: (لَا تَجْعَل مَعَ اللَّه إِلَهًا آخَر فَتَقْعُد مَذْمُومًا مَخْذُولًا) [الإسراء: 22]، وختمها بقوله تعالى: (وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَّدْحُورًا) [الإسراء: 39]. وقد نبهنا الله - سبحانه - على عظم شأن هذه المسائل بقوله تعالى: (ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ). فبدأها الله بالنهي عن الشرك بقوله تعالى: (لَا تَجْعَل مَعَ اللَّه إِلَهًا آخَر فَتَقْعُد مَذْمُومًا مَخْذُولًا)، والقاعد ليس قائماً؛ لأنه لا خير لمن أشرك بالله، مذموماً عند الله وعند أوليائه، مخذولاً لا ينتصر في الدنيا ولا في الآخرة. وختمها بقوله: (وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَّدْحُورًا) [الإسراء: 39]، فهذه عقوبته عندما يلقى في النار كلٌّ يلومه ويدحره فيندحر والعياذ بالله.
الحادية عشرة: آية سورة النساء التي تسمى آية الحقوق العشرة، بدأها بقوله تعالى: (وَاعْبُدُوااللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا) [النساء: 36]، فأحق الحقوق حق الله، ولا تنفع الحقوق إلا به، فبدئت هذه الحقوق به، ولهذا لما سأل النبي صلى الله عليه وسلم حكيم بن حزام عمن كان يتصدق ويعتق ويصل رحمه في الجاهلية هل له من أجر؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أسلمت على ما أسلفت من الخير"(البخاري: كتاب الأدب/ باب شراء من وصل رحمه في الشرك ثم أسلم، ومسلم: كتاب الإيمان/ باب بيان حكم عمل الكافر إذا أسلم بعده.)؛ فدل على أنه إذا لم يسلم لم يكن له أجر ، فصارت الحقوق كلها لا تنفع إلا بتحقيق حق الله .
الثانية عشرة :التنبيه على وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم عند موته . وذلك من حديث ابن مسعود رضى الله عنه ، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم لم يوص بها حقيقةً، بل أشار إلى أننا إذا تمسكنا بكتاب الله؛ فلن نضلّ بعده، ومن أعظم ما جاء به كتاب الله قوله تعالى: (قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ) [الأنعام: 151].
الثالثة عشرة: معرفة حق الله علينا. وذلك بأن نعبده ولا نشرك به شيئاً.
الرابعة عشرة: معرفة حق العباد عليه إذا أدوا حقّه. وذلك بأن لا يعذّب من لا يشرك به شيئاً، أما من أشرك؛ فإنه حقيقٌ أن يعذّب.
الخامسة عشرة: أن هذه المسألة لا يعرفها أكثر الصحابة. وذلك أن معاذاً أخبر بها تأثماً، أي خروجاً من إثم الكتمان عند موته بعد أن مات كثيرٌ من الصحابة؛ وكأنه رضي الله عنه علم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخشى أن يفتتن الناس بها ويتكلوا، ولم يرد صلى الله عليه وسلم كتمها مطلقاً؛ لأنه لو أراد ذلك لم يخبر بها معاذاً ولا غيره.
السادسة عشرة: جواز كتمان العلم للمصلحة. هذه ليست على إطلاقها؛ إذ إن كتمان العلم على سبيل الإطلاق لا يجوز لأنه ليس بمصلحة، ولهذا أخبر النبي صلى الله عليه وسلم معاذاً ولم يكتم ذلك مطلقاً، وأما كتمان العلم في بعض الأحوال، أو عن بعض الأشخاص لا على سبيل الإطلاق؛ فجائزٌ للمصلحة؛ كما كتم النبي صلى الله عليه وسلم ذلك عن بقية الصحابة خشية أن يتّكلوا عليه، وقال لمعاذ: "لا تبشّرهم فيتّكلوا". ونظير هذا الحديث قوله صلى الله عليه وسلم لأبي هريرة: "بشّر الناس أن من قال: لا إله إلا الله خالصاً من قلبه دخل الجنّة(مسلم: كتاب الإيمان/باب الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجن)" بل قد تقتضي المصلحة ترك العمل؛ وإن كان فيه مصلحة لرجحان مصلحة الترك، كما هم النبي صلى الله عليه وسلم أن يهدم الكعبة ويبنيها على قواعد إبراهيم، ولكن ترك ذلك خشية افتتان الناس، لأنهم حديثو عهد بكفرٍ(البخاري: كتاب العلم/ باب ترك بعض الاختيار مخافة أن يقصر فهم بعض الناس عنه، ومسلم: كتاب الحج/باب نقض الكعبة).
* *
السابعة عشرة: استحباب بشارة المسلم بما يسره. لقوله: "أفلا أبشّر الناس؟"، وهذه من أحسن الفوائد.
الثامنة عشرة: الخوف من الاتّكال على سعة رحمة الله. وذلك لقوله: "لا تبشّرهم فيتكلوا"، لأن الاتّكال على رحمة الله يسبب مفسدة عظيمة هي الأمن من مكر الله. وكذلك القنوط من رحمة الله يبعد الإنسان من التوبة ويسبب اليأس من رحمة الله، ولهذا قال الإمام أحمد: "ينبغي أن يكون سائراً إلى الله بين الخوف والرجاء؛ فأيهما غلب هلك صاحبه" فإذا غلب الرجاء أدى ذلك إلى الأمن من مكر الله، وإذا غلب الخوف أدى ذلك إلى القنوط من رحمة الله. وقال بعض العلماء: إن كان مريضاً غلّب جانب الرجاء، وإن كان صحيحاً غلّب جانب الخوف. وقال بعض العلماء: إذا نظر إلى رحمة الله وفضله غلّب جانب الرّجاء، وإذا نظر إلى فعله وعمله غلب جانب الخوف لتحصل التوبة. ويستدلون بقوله تعالى: (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ) [المؤمنون: 60]؛ أي: خائفة أن لا يكون تقبّل منهم لتقصير أو قصور، وهذا القول جيد، وقيل: يغلب الرجاء عند فعل الطاعة ليحسن الظن بالله، ويغلب جانب الخوف إذا هم بالمعصية لئلا ينتهك حرمات الله. وفي قوله: "أفلا أبشّر الناس؟"دليل على أن التبشير مطلوب فيما يسرّ من أمر الدين والدنيا ، ولذلك بشّرت الملائكة إبراهيم ، قال تعالى : (وبَشَّرُوهُ بِغُلاَمٍ عَلِيم) [الذريات: 28] ، وهو إسحاق، والحليم إسماعيل، وبشّر النبي صلى الله عليه وسلم أهله بابنه إبراهيم، فقال: "ولد لي الليلة ولد سميته باسم أبي إبراهيم"(مسلم: كتاب الفضائل/باب رحمته - صلى الله عليه وسلم - الصبيان والعيال)؛ فيؤخذ منه أنه ينبغي للإنسان إدخال السرور على إخوانه المسلمين ما أمكن بالقول أو بالفعل؛ ليحصل له بذلك خيرٌ كثيرٌ وراحة وطمأنينة قلب وانشراح صدر. وعليه، فلا ينبغي أن يدخل السوء على المسلم، ولهذا يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يحدثني أحدٌ عن أحد بشيء، فإني أحبّ أن أخرج إليكم وأنا سليم الصّدر"(مسند الإمام أحمد 1/396، وقال أحمد شاكر: إسناده حسن على الأقل. وسنن أبي داود: كتاب الأدب/باب في رفع الحديث من المجلس، - وسكت عنه -) وهذا الحديث فيه ضعفٌ، لكن معناه صحيح؛ لأنه إذا ذكر عندك رجلٌ بسوءٍ؛ فسيكون في قلبك عليه شيءٌ ولو أحسن معاملتك، لكن إذا كنت تعامله وأنت لا تعلم عن سيئاته، ولا محذور في أن تتعامل معه؛ كان هذا طيباً، وربما يقبل منك النصيحة أكثر، والنفوس ينفر بعضها من بعضٍ قبل الأجسام، وهذه مسائل دقيقةٌ تظهر للعاقل بالتأمّل.
التاسعة عشرة: قول المسؤول عما لا يعلم: الله ورسوله أعلم، وذلك لإقرار النبي صلى الله عليه وسلممعاذاً لما قالها، ولم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم على معاذٍ، حيث عطف رسول الله صلى الله عليه وسلم على الله بالواو، وأنكر على من قال: "ما شاء الله وشئت"، وقال: "أجعلتني لله نداً؟! بل ما شاء الله وحده"(مسند الإمام أحمد (1/214)، وابن ماجة: كتاب الكفارات/باب النهي أن يقال: ما شاء الله وشئت، وقال أحمد شاكر، إسناده صحيح (1839)) فيُقال: إن الرسول صلى الله عليه وسلم عنده من العلوم الشرعية ما ليس عند القائل، ولهذا لم ينكر الرسول صلى الله عليه وسلم على معاذ. بخلاف العلوم الكونية القدرية؛ فالرسول صلى الله عليه وسلم ليس عنده علم منها. فلو قيل: هل يحرم صوم العيدين؟ جاز أن نقول: الله ورسوله أعلم، ولهذا كان الصحابة إذا أشكلت عليهم المسائل ذهبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيبينها لهم، ولو قيل: هل يتوقع نزول مطر في هذا الشهر؟ لم يجز أن نقول: الله ورسوله أعلم، لأنه من العلوم الكونية.
العشرون: جواز تخصيص بعض الناس بالعلم دون بعض. وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم خص هذا العلم بمعاذ دون أبي بكر وعمر وعثمان وعلي. فيجوز أن نخصص بعض الناس بالعلم دون بعض، حيث أن بعض الناس لو أخبرته بشيء من العلم افتتن، قال ابن مسعود: "إنك لن تحدث قوماً بحدث لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة"، وقال علي: "حدثوا الناس بما يعرفون"،فيحدث كل أحد حسب مقدرته وفهمه وعقله.
الحادية والعشرون: تواضعه صلى الله عليه وسلم لركوب الحمار مع الإرداف عليه. النبي صلى الله عليه وسلم أشرف الخلق جاهاً، ومع ذلك هو أشد الناس تواضعاً. حيث ركب الحمار وأردف عليه، وهذا في غاية التواضع؛ إذ إن عادة الكبراء عدم الإرداف، وركب صلى الله عليه وسلم الحمار، ولو شاء لركب ما أراد، ولا منقصة في ذلك؛ إذ إن من تواضع لله - عز وجل - رفعه.
الثانية والعشرون: جواز الإرداف على الدابة. وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم أردف معاذاً، لكن يشترط للإرداف أن لا يشق على الدابة، فإن شق؛ لم يجز ذلك.
الثالثة والعشرون: عظم شأن هذه المسألة. حيث أخبر النبي صلى الله عليه وسلم معاذاً، وجعلها من الأمور التي يبشر بها.
الرابعة والعشرون: فضيلة معاذ رضي الله عنه. وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم خصه بهذا العلم، وأردفه معه على الحمار.
انتهى -شرح كتاب التوحيد للشيخ بن عثيمين رحمه الله-
الثانية:أن العبادة هي التوحيد، أي: أن العبادة مبنية على التوحيد؛ فكل عبادة لا توحيد فيها ليست بعبادة، لاسيما أن بعض السلف فسروا قوله تعالى: {إلا ليعبدون}: إلا ليوحدون.
وهذا مطابق تماماً لما استنبطه المؤلف رحمه الله من أن العبادة هي التوحيد؛ فكل عبادة لا تبنى على التوحيد فهي باطلة، قال - صلى الله عليه وسلم -: "قال الله تعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري؛ تركته وشركه"
وقوله: "لأن الخصومة فيه"، أي: في التوحيد بين الرسول -صلى الله عليه وسلم - وقريش؛ فقريش يعبدون الله يطوفون له ويصلون، ولكن على غير الإخلاص والوجه الشرعي؛ فهي كالعدم لعدم الإتيان بالتوحيد، قال تعالى: { وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ} [التوبة: 54].
الثالثة: أن من لم يأت به، لم يعبد الله، ففيه معنى قوله: (ولا أنتم عابدون ما أعبد) [الكافرون: ]. لستم عابدين عبادتي؛ لأن عبادتكم مبنية على الشرك، فليست بعبادة لله تعالى.
الرابعة: الحكمة في إرسال الرسل، أخذها رحمه الله تعالى من قوله تعالى: (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) [النحل: 36]. فالحكمة هي: الدعوة إلى عبادة الله وحده، واجتناب عبادة الطاغوت.
الخامسة: أن الرسالة عمت كل أمة، أخذها من قوله تعال: (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا)[النحل:36].
السادسة: أن دين الأنبياء واحد، أخذها من قوله تعالى: (ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت)، ومثله قوله تعالى: (وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون) [الأنبياء: 25]، وهذا لا ينافى قوله تعالى : (لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً) [المائدة: 48]؛ لأن الشرعة العملية تختلف باختلاف الأمم والأماكن والأزمنة، وأما أصل الدين؛ فواحد، قال تعالى: (شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرّقُوا فِيهِ) [الشورى: 13]. السابعة: المسالة الكبيرة أن عبادة الله لا تحصل إلا بالكفر بالطاغوت .ودليله قوله تعالى: (واجتنبوا الطاغوت)، فمن عبَدَ الله ولم يكفر بالطاغوت؛ فليس بموحد، ولهذا جعل المؤلف رحمه الله هذه المسألة كبيرة؛ لأن كثيراً من المسلمين جهلها في زمانه وفي زماننا الآن.
تنبيه:
لا يجوز إطلاق الشرك أو الكفر أو اللعن على من فعل شيئاً من ذلك؛ لأن الحكم بذلك في هذه وغيرها له أسباب وله موانع؛ فلا نقول لمن أكل الربا: ملعون؛ لأنه قد يوجد مانع يمنع من حلول اللعنة عليه؛ كالجهل مثلاً، أو الشبهة، وما أشبه ذلك، وكذا الشرك لا نطلقه على من فعل شركاً؛ فقد تكون الحجة ما قامت عليه بسبب تفريط علمائهم، وكذا نقول: من صام رمضان إيماناً واحتساباً؛ غفر له ما تقدم من ذنبه، ولكن لا نحكم بهذا لشخص معين، إذ إن الحكم المعلق على الأوصاف لا ينطبق على الأشخاص إلا بتحقق شروط انطباقه وانتفاء موانعه. فإذا رأينا شخصاً يتبرز في الطريق؛ فهل نقول له: لعنك الله؟ الجواب: لا، إلا إذا أريد باللعن في قوله: "اتقوا الملاعن" أن الناس أنفسهم يلعنون هذا الشخص ويكرهونه، ويرونه مخلاً بالأدب مؤذياً للمسلمين؛ فهذا شيء أخر. فدعاء القبر شرك، لكن لا يمكن أن نقول لشخص معين فعله: هذا مشرك؛ حتى نعرف قيام الحجة عليه، أو نقول: هذا مشرك باعتبار ظاهر حاله.
الثامنة: أن الطاغوت عام في كل ما عبد من دون الله. فكل ما عبد من دون الله، فهو طاغوت، وقد عرّفه ابن القيم: بأنه كل ما تجاوز به العبد حده من معبود أو متبوع أو مطاع، فالمعبود كالصنم، والمتبوع كالعالم، والمطاع كالأمير.
التاسعة: عظم شأن الثلاث آيات المحكمات في سورة الأنعام، عند السلف، وفيها عشر مسائل، أولها النهي عن الشرك.
المحكمات: التي ليس فيها نسخ، أخذ ذلك من قول ابن مسعود رضي الله عنه.
العاشرة: الآيات المحكمات في سورة الإسراء. وهي قوله تعالى: (وَقَضَى رَبُّك أَلَّا تَعْبُدُوا إلَّا إيَّاهُ) [الإسراء: 23]، وفيها ثماني عشرة مسألة بدأها بقوله تعالى: (لَا تَجْعَل مَعَ اللَّه إِلَهًا آخَر فَتَقْعُد مَذْمُومًا مَخْذُولًا) [الإسراء: 22]، وختمها بقوله تعالى: (وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَّدْحُورًا) [الإسراء: 39]. وقد نبهنا الله - سبحانه - على عظم شأن هذه المسائل بقوله تعالى: (ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ). فبدأها الله بالنهي عن الشرك بقوله تعالى: (لَا تَجْعَل مَعَ اللَّه إِلَهًا آخَر فَتَقْعُد مَذْمُومًا مَخْذُولًا)، والقاعد ليس قائماً؛ لأنه لا خير لمن أشرك بالله، مذموماً عند الله وعند أوليائه، مخذولاً لا ينتصر في الدنيا ولا في الآخرة. وختمها بقوله: (وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَّدْحُورًا) [الإسراء: 39]، فهذه عقوبته عندما يلقى في النار كلٌّ يلومه ويدحره فيندحر والعياذ بالله.
الحادية عشرة: آية سورة النساء التي تسمى آية الحقوق العشرة، بدأها بقوله تعالى: (وَاعْبُدُوااللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا) [النساء: 36]، فأحق الحقوق حق الله، ولا تنفع الحقوق إلا به، فبدئت هذه الحقوق به، ولهذا لما سأل النبي صلى الله عليه وسلم حكيم بن حزام عمن كان يتصدق ويعتق ويصل رحمه في الجاهلية هل له من أجر؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أسلمت على ما أسلفت من الخير"(البخاري: كتاب الأدب/ باب شراء من وصل رحمه في الشرك ثم أسلم، ومسلم: كتاب الإيمان/ باب بيان حكم عمل الكافر إذا أسلم بعده.)؛ فدل على أنه إذا لم يسلم لم يكن له أجر ، فصارت الحقوق كلها لا تنفع إلا بتحقيق حق الله .
الثانية عشرة :التنبيه على وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم عند موته . وذلك من حديث ابن مسعود رضى الله عنه ، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم لم يوص بها حقيقةً، بل أشار إلى أننا إذا تمسكنا بكتاب الله؛ فلن نضلّ بعده، ومن أعظم ما جاء به كتاب الله قوله تعالى: (قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ) [الأنعام: 151].
الثالثة عشرة: معرفة حق الله علينا. وذلك بأن نعبده ولا نشرك به شيئاً.
الرابعة عشرة: معرفة حق العباد عليه إذا أدوا حقّه. وذلك بأن لا يعذّب من لا يشرك به شيئاً، أما من أشرك؛ فإنه حقيقٌ أن يعذّب.
الخامسة عشرة: أن هذه المسألة لا يعرفها أكثر الصحابة. وذلك أن معاذاً أخبر بها تأثماً، أي خروجاً من إثم الكتمان عند موته بعد أن مات كثيرٌ من الصحابة؛ وكأنه رضي الله عنه علم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخشى أن يفتتن الناس بها ويتكلوا، ولم يرد صلى الله عليه وسلم كتمها مطلقاً؛ لأنه لو أراد ذلك لم يخبر بها معاذاً ولا غيره.
السادسة عشرة: جواز كتمان العلم للمصلحة. هذه ليست على إطلاقها؛ إذ إن كتمان العلم على سبيل الإطلاق لا يجوز لأنه ليس بمصلحة، ولهذا أخبر النبي صلى الله عليه وسلم معاذاً ولم يكتم ذلك مطلقاً، وأما كتمان العلم في بعض الأحوال، أو عن بعض الأشخاص لا على سبيل الإطلاق؛ فجائزٌ للمصلحة؛ كما كتم النبي صلى الله عليه وسلم ذلك عن بقية الصحابة خشية أن يتّكلوا عليه، وقال لمعاذ: "لا تبشّرهم فيتّكلوا". ونظير هذا الحديث قوله صلى الله عليه وسلم لأبي هريرة: "بشّر الناس أن من قال: لا إله إلا الله خالصاً من قلبه دخل الجنّة(مسلم: كتاب الإيمان/باب الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجن)" بل قد تقتضي المصلحة ترك العمل؛ وإن كان فيه مصلحة لرجحان مصلحة الترك، كما هم النبي صلى الله عليه وسلم أن يهدم الكعبة ويبنيها على قواعد إبراهيم، ولكن ترك ذلك خشية افتتان الناس، لأنهم حديثو عهد بكفرٍ(البخاري: كتاب العلم/ باب ترك بعض الاختيار مخافة أن يقصر فهم بعض الناس عنه، ومسلم: كتاب الحج/باب نقض الكعبة).
* *
السابعة عشرة: استحباب بشارة المسلم بما يسره. لقوله: "أفلا أبشّر الناس؟"، وهذه من أحسن الفوائد.
الثامنة عشرة: الخوف من الاتّكال على سعة رحمة الله. وذلك لقوله: "لا تبشّرهم فيتكلوا"، لأن الاتّكال على رحمة الله يسبب مفسدة عظيمة هي الأمن من مكر الله. وكذلك القنوط من رحمة الله يبعد الإنسان من التوبة ويسبب اليأس من رحمة الله، ولهذا قال الإمام أحمد: "ينبغي أن يكون سائراً إلى الله بين الخوف والرجاء؛ فأيهما غلب هلك صاحبه" فإذا غلب الرجاء أدى ذلك إلى الأمن من مكر الله، وإذا غلب الخوف أدى ذلك إلى القنوط من رحمة الله. وقال بعض العلماء: إن كان مريضاً غلّب جانب الرجاء، وإن كان صحيحاً غلّب جانب الخوف. وقال بعض العلماء: إذا نظر إلى رحمة الله وفضله غلّب جانب الرّجاء، وإذا نظر إلى فعله وعمله غلب جانب الخوف لتحصل التوبة. ويستدلون بقوله تعالى: (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ) [المؤمنون: 60]؛ أي: خائفة أن لا يكون تقبّل منهم لتقصير أو قصور، وهذا القول جيد، وقيل: يغلب الرجاء عند فعل الطاعة ليحسن الظن بالله، ويغلب جانب الخوف إذا هم بالمعصية لئلا ينتهك حرمات الله. وفي قوله: "أفلا أبشّر الناس؟"دليل على أن التبشير مطلوب فيما يسرّ من أمر الدين والدنيا ، ولذلك بشّرت الملائكة إبراهيم ، قال تعالى : (وبَشَّرُوهُ بِغُلاَمٍ عَلِيم) [الذريات: 28] ، وهو إسحاق، والحليم إسماعيل، وبشّر النبي صلى الله عليه وسلم أهله بابنه إبراهيم، فقال: "ولد لي الليلة ولد سميته باسم أبي إبراهيم"(مسلم: كتاب الفضائل/باب رحمته - صلى الله عليه وسلم - الصبيان والعيال)؛ فيؤخذ منه أنه ينبغي للإنسان إدخال السرور على إخوانه المسلمين ما أمكن بالقول أو بالفعل؛ ليحصل له بذلك خيرٌ كثيرٌ وراحة وطمأنينة قلب وانشراح صدر. وعليه، فلا ينبغي أن يدخل السوء على المسلم، ولهذا يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يحدثني أحدٌ عن أحد بشيء، فإني أحبّ أن أخرج إليكم وأنا سليم الصّدر"(مسند الإمام أحمد 1/396، وقال أحمد شاكر: إسناده حسن على الأقل. وسنن أبي داود: كتاب الأدب/باب في رفع الحديث من المجلس، - وسكت عنه -) وهذا الحديث فيه ضعفٌ، لكن معناه صحيح؛ لأنه إذا ذكر عندك رجلٌ بسوءٍ؛ فسيكون في قلبك عليه شيءٌ ولو أحسن معاملتك، لكن إذا كنت تعامله وأنت لا تعلم عن سيئاته، ولا محذور في أن تتعامل معه؛ كان هذا طيباً، وربما يقبل منك النصيحة أكثر، والنفوس ينفر بعضها من بعضٍ قبل الأجسام، وهذه مسائل دقيقةٌ تظهر للعاقل بالتأمّل.
التاسعة عشرة: قول المسؤول عما لا يعلم: الله ورسوله أعلم، وذلك لإقرار النبي صلى الله عليه وسلممعاذاً لما قالها، ولم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم على معاذٍ، حيث عطف رسول الله صلى الله عليه وسلم على الله بالواو، وأنكر على من قال: "ما شاء الله وشئت"، وقال: "أجعلتني لله نداً؟! بل ما شاء الله وحده"(مسند الإمام أحمد (1/214)، وابن ماجة: كتاب الكفارات/باب النهي أن يقال: ما شاء الله وشئت، وقال أحمد شاكر، إسناده صحيح (1839)) فيُقال: إن الرسول صلى الله عليه وسلم عنده من العلوم الشرعية ما ليس عند القائل، ولهذا لم ينكر الرسول صلى الله عليه وسلم على معاذ. بخلاف العلوم الكونية القدرية؛ فالرسول صلى الله عليه وسلم ليس عنده علم منها. فلو قيل: هل يحرم صوم العيدين؟ جاز أن نقول: الله ورسوله أعلم، ولهذا كان الصحابة إذا أشكلت عليهم المسائل ذهبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيبينها لهم، ولو قيل: هل يتوقع نزول مطر في هذا الشهر؟ لم يجز أن نقول: الله ورسوله أعلم، لأنه من العلوم الكونية.
العشرون: جواز تخصيص بعض الناس بالعلم دون بعض. وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم خص هذا العلم بمعاذ دون أبي بكر وعمر وعثمان وعلي. فيجوز أن نخصص بعض الناس بالعلم دون بعض، حيث أن بعض الناس لو أخبرته بشيء من العلم افتتن، قال ابن مسعود: "إنك لن تحدث قوماً بحدث لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة"، وقال علي: "حدثوا الناس بما يعرفون"،فيحدث كل أحد حسب مقدرته وفهمه وعقله.
الحادية والعشرون: تواضعه صلى الله عليه وسلم لركوب الحمار مع الإرداف عليه. النبي صلى الله عليه وسلم أشرف الخلق جاهاً، ومع ذلك هو أشد الناس تواضعاً. حيث ركب الحمار وأردف عليه، وهذا في غاية التواضع؛ إذ إن عادة الكبراء عدم الإرداف، وركب صلى الله عليه وسلم الحمار، ولو شاء لركب ما أراد، ولا منقصة في ذلك؛ إذ إن من تواضع لله - عز وجل - رفعه.
الثانية والعشرون: جواز الإرداف على الدابة. وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم أردف معاذاً، لكن يشترط للإرداف أن لا يشق على الدابة، فإن شق؛ لم يجز ذلك.
الثالثة والعشرون: عظم شأن هذه المسألة. حيث أخبر النبي صلى الله عليه وسلم معاذاً، وجعلها من الأمور التي يبشر بها.
الرابعة والعشرون: فضيلة معاذ رضي الله عنه. وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم خصه بهذا العلم، وأردفه معه على الحمار.
انتهى -شرح كتاب التوحيد للشيخ بن عثيمين رحمه الله-