السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
إن الحمد لله, نحمده, ونستعينه, ونستغفره, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا, ومن سيئات أعمالنا.
من يهده الله فلا مضل له, ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
أما بعد:
من يهده الله فلا مضل له, ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
أما بعد:
فهذا باب: (كلام الأقران بعضهم في بعض), وهو نقل نفيس نقلته من كتاب ((ضوابط التبديع)), لفضيلة الشيخ/ محمد سعيد رسلان -حفظه الله-, فإليكم النقل:
كَلامُ الأَقْرَانِ بَعضِهِم فِي بَعضٍ
عَن خُطُورَةِ هَذَا البَابِ, وَضَابِطِهِ, قَالَ أَبُو عُمَر بنُ عَبدِ البَرِّ فِي بَابِ: ((حُكمِ قَولِ العُلَمَاءِ بَعضِهِم فِي بَعضٍ)), مِن كِتَابِ ((جَامِع بَيَانِ العِلمِ وفَضلِهِ)):
((هَذّا بابٌ قَد غَلِطَ فِيهِ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ, وضَلَّت بِهِ نَابِتَةٌ جَاهِلَةٌ لا تَدرِي مَا عَلَيهَا فِي ذَلِكَ, وَالصَّحِيحُ فِي هَذَا البَابِ أَنَّ مَنْ صَحَّتْ عَدَالَتُهُ, وَثَبَتَت فِي العِلمِ أَمَانَتُهُ, وَبَانَت ثِقَتُهُ وَعِنَايَتُهُ بِالعِلمِ لَم يُلتَفَت فِيهِ إِلَى قَولِ أَحدٍ إِلا أَن يَأتِيَ فِي جُرْحَتِهِ بِبَيِّنَةٍ عَادِلَةٍ تَصِحُّ بِهَا جُرْحَتُهُ عَلَى طَرِيقِ الشَّهَادَاتِ وَالعَمَلِ فِيهَا مِنَ المُشَاهَدَةِ والمُعَايَنَةِ لِذَلِكَ بِمَا يُوجِبُ قَولهُ مِن جِهَةِ الفِقهِ والنَّظَرِ, وَأَمَّا مَنْ لَم تَثْبُت إِمَامَتُهُ, وَلا عُرِفَت عَدَالَتُهُ, وَلا صَحَّت لِعَدَمِ الحِفظِ والإتقَانِ رِوَايَتُهُ, فَإِنَّهُ يُنظَرُ فِيهِ إِلَى مَا اتَّفَقَ أَهلُ العِلمِ عَلَيهِ, وَيجتَهدُ فِي قَبُولِ مَا جَاءَ بِهِ عَلَى حَسَبِ مَا يُؤَدِّي النَّظَرُ إِلَيهِ... فَمَن صَحَّتْ عَدَالَتُهُ, وعُلِمَت بِالعِلمِ عِنَايَتُهُ, وَسَلِمَ مِنَ الكَبَائِرِ, وَلَزِمَ المُرُوءَةَ والتَّعَاوُنَ, وَكَانَ خَيرُه غَالِباً وَشَرُّهُ أَقَلَّ عَمَلِه, فَهَذَا لا يُقبَلُ فِيهِ قَولُ قَائِلٍ لا بُرهَانَ لَهُ بِهِ, فَهَذَا هُوَ الحَقُّ الَّذِي لا يَصِحُّ غَيرُهُ إِن شَاءَ اللهُ)) (1).
وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ ابنُ عَبدِ البَرِّ هُوَ قَانُونُ العُلَمَاءِ فِي قَبُولِ كَلامِ الأَقرَانِ بَعضِهِم فِي بَعضٍ, وَرَدِّهِ.
وَقَد صَاغَهُ اللَّكنَوِيُّ صِيَاغَةً مُوجَزَةً, فَقَالَ: ((قَد صَرَّحُوا بِأَنَّ كَلِمَاتِ المُعَاصِرِ فِي حَقِّ المُعَاصِرِ غَيرُ مَقبُولَةٍ, وَهُوَ مُقَيَّدٌ بِمَا إِذَا كَانَت بِغَيرِ بُرهَانٍ وَحُجَّةٍ, وَكَانَت مَبنِيَّةً عَلَى التَّعَصُّبِ والمُنَافَرَةِ, فَإِن لَم يَكُن هَذَا وَلا هَذَا فَهِيَ مَقبُولَةٌ بِلا شُبهَةٍ)) (2).
وَلِذَلِكَ لَم يُقبَل قَولُ الإِمَامِ مَالِكٍ فِي مُحَمَّدِ بنِ إَسْحَاق صَاحِبِ ((المَغَازِي)), وَلَم يُقبَلْ قَدحُ النَّسَائيِّ فِي أَحْمَد بنِ صالِحٍ المِصرِيِّ, وَقَدحُ الثَّورِيِّ فِي أَبِي حَنِيفَةَ, وَقَدحُ ابن مَعِينٍ فِي الشَّافِعِيِّ, وقَدحُ ابن مَندَهْ فِي أَبِي نُعَيمٍ, وَغَيرِهِم فِي غَيرِهِم (3).
قَالَ أَبُو عُمَرَ: ((مَنْ أَرَادَ قَبُولَ قَولِ العُلَمَاءِ الثِّقَاتِ بَعضِهِم فِي بَعضٍ فَلْيَقبَلْ قَولَ الصَّحَابَةِ بَعضِهِم فِي بَعضٍ, فَإِن فَعَلَ ذَلِكَ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً, وَخَسِرَ خُسرَاناً مُبِيناً, وَإِن لَم يَفعَلْ -إِن هَدَاهُ اللهُ وَأَلهَمَهُ رُشدَهُ- فَلْيَقِفْ عِندَ مَا شَرَطْنَا فِي أَلا يُقبلَ فِيمَن صَحَّت عَدَالَتُهُ, وَعُلِمَت بِالعِلمِ عِنَايَتُهُ, وَسَلِمَ مِنَ الكَبَائِرِ, وَلَزِمَ المُرُوءَةَ والتَّعَاوُنَ, وَكَانَ خَيرُهُ غَالِباً, وَشَرُّهُ أَقَلَّ عَمَلِهِ, فَهَذَا لا يُقبَلُ فِيهِ قَولُ قَائِل لا بُرهَانَ لَهُ بِهِ)) (4).
وَقَد نَقَلَ التَّاجُ السُّبكِيُّ فِي ((الطَّبَقاتِ)) كَلامَ ابنِ عَبدِ البَرِّ, مُحتَرِزاً وَمُعَلِّقاً فَقَالَ: ((هَذَا كَلامُ ابنِ عَبدِ البَرِّ, وَهُوَ عَلَى حُسنِهِ غَيرُ صَافٍ عَنِ القَذَى وَالكَدَرِ؛ فَإِنَّهُ لَم يَزِدْ فِيهِ عَلَى قَولِهِ: إَنَّ مَنْ ثَبَتَت عَدَالَتُهُ وَمَعرِفَتُهُ لا يُقبَلُ قَولُ جَارِحِهِ إلا بِبُرهَانٍ, وَهَذَا قَد أَشَارَ إِلَيهِ العُلَمَاءُ جَمِيعاً, حَيثُ قَالُوا: لا يُقبَلُ الجَرحُ إِلا مُفَسَّراً, فَمَا الَّذِي زَادَهُ ابنُ عَبدِ البَرِّ عَلَيهِم؟ وَإِنْ أَوْمَأ إِلَى أَنَّ كَلامَ النَّظِيرِ فِي النَّظِيرِ, وَالعُلَمَاءِ بَعضِهِم فِي بَعضٍ مَردُودٌ مُطلَقاً فَلْيُفْصِحْ بِهِ, ثُمَّ هُوَ مِمَّا لا يَنبَغِي أَن يُؤخَذَ هَذَا عَلَى إِطلاقِهِ, بَل لابُدَّ مِن زِيَادَةٍ عَلَى قَولِهِم: إِنَّ الجَرحَ مُقَدَّمٌ عَلَى التَّعدِيلِ, ونُقصَانٍ مِن قَولِهِم: كَلامُ النَّظِيرِ فِي النَّظِيرِ مَردُودٌ.
وَالقَاعِدَةُ مَعقُودَةٌ لِهَذِهِ الجُملَةِ, وَلَم يَنْحُ ابنُ عبدِ البَرِّ فِيمَا يَظهَرُ سِوَاهَا, وَإِلا لَصَرَّحَ بَأنَّ كَلامَ العُلَمَاءِ بَعضِهِم فِي بَعضٍ مَردُودٌ, أَو لَكَانَ كَلامُهُ غَيرَ مُفِيدٍ فَائِدَةً زَائِدةً عَلَى مَا ذَكَرَهُ النَّاسُ, وَلَكِنَّ عِبَارَتَهُ -كَمَا تَرى- قَاصِرَةٌ عَنِ المُرَادِ.
فَإِنْ قُلْتَ: فَمَا العِبَارَةُ الوَافِيَةُ مِمَّا تَرَونَ؟
قُلْتُ: مَا عَرَّفنَاكَ مِن أَنَّ الجَارِحَ لا يُقبَلُ مِنهُ الجَرحُ, وَإِن فَسَّرَهُ فِي حَقِّ مَنْ غَلَبَت طَاعَاتُهُ عَلَى مَعَاصِيهِ وَمادِحُوهُ عَلَى ذَامِّيهِ, وَمُزَكُّوهُ عَلَى جَارِحِيهِ, إِذَا كَانَت هُنَاكَ قَرِينَةٌ يَشهَدُ العَقلُ بِأَنَّ مِثلَهَا حَامِلٌ عَلَى الوَقِيعَةِ فِي الَّذِي جَرَحَهُ؛ مِن تَعَصُّبٍ مَذهَبِيٍّ, أَو مُنَافَسَةٍ دُنيَوِيَّةٍ, كَمَا يَكُونُ مِنَ النُّظَرَاءِ, أَو غَيرِ ذَلِكَ فَنَقُولُ مَثَلاً: لا يُلْتَفَتُ إِلَى كَلام ابنِ أَبِي ذِئبٍ فِي مَالِكٍ, وَابنِ مَعِينٍ فِي الشَّافِعِيِّ, والنَّسَائِيِّ فِي أَحْمَد بنِ صالِحٍ؛ لأَنَّ هَؤُلاءِ أَئِمَّةٌ مَشهُورُونَ, صَارَ الجَارِحُ لَهُم كَالآتِي بِخَبَرٍ غَرِيبٍ, لَو صَحَّ لَتَوَفَّرَتِ الدَّوَاعِي عَلَى نَقلِهِ, وَكَانَ القَاطَعُ قَائِماً عَلَى كَذِبِهِ)) (5).
قَالَ الذَّهَبِيُّ: ((كَلامُ الأَقرَانِ إِذَا تَبَرهَنَ لَنَا أَنَّه بِهَوًى وَعَصَبِيَّةٍ, لا يُلْتَفَتُ إِلَيهِ, بَل يُطْوَى وَلا يُرْوَى)) (6).
وَقَالَ أَيضاً: ((كَلامُ الأَقرَانِ يُطوَى وَلا يُروَى, فَإِن ذُكِرَ تَأَمَّلَهُ المُحَدِّثُ فَإِن وَجَدَ لَهُ مُتَابِعاً, وَإِلا أَعرَضَ عَنْهُ)) (7).
وَقَالَ فِي مَوضِعٍ ثَالِثٍ: ((كَلامُ الأَقرَانِ بَعضِهِم فِي بَعضٍ أَمرٌ عَجِيبٌ, وَقَعَ فِيهِ سَادَةٌ فَرَحِم اللهُ الجَمِيعَ)) (.
وَالحَافِظُ الذَّهبِيُّ -رَحِمهُ اللهُ- مِن أَبرَزِ مَنِ اتَّضَحَ هَذَا المَنهَجُ فِي كُتُبِهِم, حَيثُ أَوْرَدَ كَثِيراً مِن كَلامِ الأَقْرَانِ بَعضِهِم فِي بَعضٍ, ثُمَّ تَعَقَّبَهُ بِتَعلِيقَاتٍ جِيَادٍ, وَمِن أَمثِلَةِ ذَلِكَ:
1- قَالَ: ((أَمَّا كَلامُ النَّسَائِيِّ فِيهِ -يَعنِي: أَحْمَدَ بنَ صَالِح- فَكَلامُ مَوتُورٍ؛ لأَنَّه آذَى النَّسَائِيِّ, وَطَرَدَهُ مِن مَجلِسِهِ, فَقَالَ فِيهِ: لَيسَ بِثِقَةٍ)) (9).
وَقَالَ فِي مَوضِعٍ آخَرَ: ((وَكَانَ سَبَبُ تَضعِيفِ النَّسَائِيِّ لَهُ, أَنَّ أَحْمَدَ بنَ صَاِلحٍ كَانَ لا يُحَدِّثُ أَحَداً حَتَّى يَشهَدَ عِندَهُ رَجُلانِ مِنَ المُسلِمِينَ أَنَّهُ مِن أَهل الخَيرِ وَالعَدَالَةِ فَكَانَ يُحَدِّثُهُ, وَيَبذُلُ لَهُ عِلمَهُ, فَأَتَى النَّسَائِيُّ لِيَسمَعَ مِنهُ, فَدَخَل بِلا إِذنٍ وَلَم يَأتِهِ بِرَجُلَينِ يَشْهَدَانِ لَهُ بِالعَدَالَةِ, فَلَمَّا رَآهُ فِي مَجلِسِهِ أَنكَرَهُ, وَأَمَرَ بِإخرَاجِهِ, فَضَعَّفَهُ النَّسَائِيُّ لِهَذَا)) (10).
2- قَالَ فِي تَرجَمَة ابنِ مَنْدَهْ: ((قُلتُ: لا نَعبَأُ بِقَولِكَ -يَعنِي: أَبَا نُعَيمٍ- فِي خَصمِك لِلعَدَاوَةِ السَّائِرَةِ كَمَا لا نَسمَعُ أَيضاً قَولَهُ فيكَ, فَلَقَد رَأَيتُ لابنِ مَندَهْ حَطّاً مُقذِعاً عَلَى أَبِي نُعَيمٍ وَتَبدِيعاً, وَكُلٌّ مِنهُمَا فَصَدُوقٌ فِي نَفسِهِ, غَيرُ مُتَّهَمٍ فِي نَقلِهِ بِحَمدِ اللهِ)) (11).
وَقَالَ -رَحِمهُ اللهَ-: ((قَد كَانَ أَبُو عَبدِ اللهِ بنُ مَندَهْ يُقذِعُ فِي أَبي نُعَيمٍ لِمَكَانِ الاعتِقَادِ المُتَنَازَعِ فِيهِ بَينَ الحَنَابِلَةِ وَأَصحَابِ أَبِي الحَسَنِ (12), وَنَالَ أَبُو نُعَيمٍ مِن أبِي عَبدِ اللهِ فِي ((تَارِيخِهِ)), وَقَد عُرِفَ وَهَنُ كَلامِ الأَقرَانِ المُتَنافِسِينَ بَعضِهِم فِي بَعضٍ)) (13).
3- وَمِنهُ ما عَلَّلَ بِهِ كَلامَ مَالِكٍ فِي مُحَمَّدِ بنِ إسحَاقَ بنِ يَسَارٍ, وَقَولَهُ عَنهُ: ((دَجَّالٌ مِنَ الدَّجَاجِلَةِ)).
حَيثُ صَدَرَ مِنهُ ذَلِكَ عِنْدَمَا قَالَ ابنُ إِسحَاقَ: اعْرِضُوا عَلَيَّ عِلمَ مَالِكٍ, فَإِنَّي أَنا بَيْطَارُهُ, وَقِيلَ: إِنَّه كَذَّبَهُ لَمَّا طَعَنَ فِي نَسَبِهِ, قَالَ الذَّهَبِيُّ: ((رُوِيَ عَنِ ابنِ إِسحَاقَ أَنَّه زَعَمَ أَنَّ مَالِكاً وَآلَهُ مَوَالِي بَنِي تَيْم, فَأَخْطَأَ, وَكَانَ ذَلِكَ أَقوَى سَبَبٍ فِي تكذِيبِ الإِمَامِ مَالِكٍ لَهُ, وَطَعنِهِ عَلَيهِ)) (14).
قَالَ الذَّهَبِيُّ -رَحِمهُ اللهُ-: ((كَلامُ الأَقرَانِ بَعضِهِم فِي بَعضٍ لا يُعْبَأُ بِهِ, لا سِيَّمَا إِذَا لاحَ لَكَ أَنَّهُ لِعَدَاوَةٍ أَو لِمَذهَبٍ أَو لِحَسَدٍ, مَا يَنجُو مِنهُ إِلا مَنْ عَصَم اللهُ, وَمَا عَلِمتُ أَنَّ عَصراً مِنَ الأَعصَارِ سَلِمَ أَهلُهُ مِن ذَلِكَ, سِوَى الأَنبِيَاء وَالصِّدِّيقِينَ, وَلَو شِئتُ لَسَرَدتُ مِن ذَاكَ كَرَارِيسَ, اللَّهُمَّ فَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ)) (15).
4- ذَكَرَ الذَّهَبِيُّ كَلامَ سُلَيمَان بنِ حَربٍ فِي عَفَّان بن مُسلِمٍ فَقَالَ: ((تَرَى عَفَّانَ كَانَ يَضبِطُ عَن شُعبَةَ؟ وَالله لَو جَهِدَ جَهدَهُ أَن يَضبِطَ فِي شُعبَةَ حَدِيثاً وَاحِداً ما قَدَر, كانَ بَطِيئاً, رَدِيءَ الحِفظِ, بَطِيءَ الفَهمِ)). ثُمَّ قَالَ الذَّهَبِيُّ مُعَقِّباً: ((عَفَّانُ أَجَلُّ وأَحفَظُ مِن سُلَيمَانَ أَو هُوَ نَظِيرُهُ وَكَلامُ النَّظِيرِ وَالأَقرَانِ يَنبَغِي أَن يُتَأَمَّلَ وَيُتَأَنَّى فِيهِ)) (16).
5- وَذَكَرَ الذَّهَبِيُّ أَنَّ مُحَمَّدَ بنَ يَحيَى الذُّهلِيَّ لَمَّا وَرَدَ البُخَارِيُّ نَيْسَابُورَ قَالَ -أَي: الذُّهلِيُّ-: ((اذهَبُوا إِلَى هَذَا الرَّجُلِ الصَّالِح فَاسمَعُوا مِنهُ, فَذَهَبَ النَّاسُ إِلَيهِ, وَأَقبَلُوا عَلَى السَّمَاعِ مِنهُ, حَتَّى ظَهَرَ الخَلَلُ فِي مَجلِسِ مُحَمَّدِ بنِ يَحيَى فَحَسَدَهُ بَعدَ ذَلِكَ, وَتَكَلمَ فِيهِ)) (17).
قَالَ الذَّهَبِيُّ مُعَلِّقاً عَلَى مَا حَدَثَ بَينَ الذُّهلِيِّ والبُخَارِيِّ: ((وَمَا زَالَ كَلامُ الكِبَارِ المُتَعاصِرِينَ بَعضِهِم فِي بَعضٍ, لا يُلْوى عَلَيهِ بِمُفْرَدِهِ)) (1.
وَقَالَ السُّبكِيُّ: ((وَلا يَرتَابُ المُنصِفُ أَنَّ مُحَمَّدَ بنَ يَحيَى الذُّهلِيَّ لَحِقَتْهُ آفَةُ الحَسَدِ, الَّتِي لَمْ يَسلَم مِنهَا إِلا أَهلُ العِصمَةِ)) (19).
وَمِن عَدلِ الإِمَامِ البُخَارِيِّ -رَحِمهُ اللهُ- الَّذِي يُحفَظُ لَهُ, وَيُشَادُ بِذِكرِهِ؛ أَنَّهُ عَلَى مَا كَانَ مِنَ الذُّهلِيِّ, إِلا أَنَّهُ لَم يَتَكَلمْ فِيهِ وَلَم يَجْرَحْهُ بِشَيءٍ, بَل أَخرَجَ لَهُ فِي ((صَحِيحِهِ)), وَهَذَا خُلُقٌ كَرِيمٌ لا يَقُومُ بِهِ إِلا النُّبَلاءُ وَاللهُ يَغفِرُ لَنَا وَلَهُم.
وَحَتَى لا يُؤثِّر كَلامُ الأَقرَانِ بَعضِهِم فِي بَعضٍ فِي طُلابِ العِلمِ وَحَمَلَتِهِ جَاءَت نَصِيحَةُ التَّاجِ السُّبكِيِّ فِي ((الطَّبَقَاتِ)) (20) قَوِيَّةً بَيِّنَةً, قَالَ -رَحِمهُ اللهُ-: ((يَنْبَغِي لَكَ أَيُّهَا المُستَرشِدُ أَن تَسلكَ سَبِيلَ الأَدَبِ مَعَ الأَئِمَّةِ المَاضِينَ, وأَلا تَنظُرَ إِلَى كَلامِ بَعضِهِم فِي بَعضٍ إِلا إِذَا أَتَى بِبُرهَانٍ واضِحٍ, ثُمَّ إِن قَدَرْتَ عَلَى التَّأوِيلِ وَحُسنِ الظَّنِّ فَدُونَكَ, وَإِلا فَاضْرِبْ صَفْحاً عَمَّا جَرَى بَينَهُم, فَإِنَّكَ لَم تُخلَقْ لِهَذَا, وَاشتَغِل بِمَا يَعْنِيكَ وَدَعْ مَا لا يَعْنِيكَ.
وَلا يَزَالُ طَالِبُ العِلمِ عِندِي نَبِيلاً حَتَّى يَخُوضَ فِيمَا جَرَى بَينَ السَّلَفِ المَاضِينَ وَيَقضِي لِبَعضِهِم عَلَى بَعضٍ, فَإِيَّاكَ ثُمَّ إِيَّاكَ أَن تُصغِيَ إِلَى مَا اتَّفَقَ بَينَ أَبِي حَنِيفَةَ وَسُفيَانَ الثَّورِيِّ, أَوْ بَينَ مَالِكٍ وابنِ أبِي ذِئبٍ, أَوْ بَينَ أَحْمَد بنِ صَالِحٍ وَالنَّسَائِيِّ, وَهَلُمَّ جَرّاً, إِلَى زَمانِ الشَّيخِ عِزِّ الدِّينِ بنِ عَبدِ السَّلامِ, والشَّيخِ تَقِيِّ الدِّينِ بنِ الصَّلاحِ, فَإِنَّكَ إِنِ اشتَغَلْتَ بِذَلِكَ خَشِيتُ عَلَيكَ الهَلاكَ, فَالقَومُ أَئِمَّةٌ أَعلامٌ, وَلأَقوَالِهِم مَحَامِلُ, رُبَّمَا لَم يُفهَمْ بَعضُهَا, فَلَيسَ لَنَا إِلا التَّرضِّي عَنهُم وَالسُّكُوتُ عَمَّا جَرَى بَينَهُم)).
((هَذّا بابٌ قَد غَلِطَ فِيهِ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ, وضَلَّت بِهِ نَابِتَةٌ جَاهِلَةٌ لا تَدرِي مَا عَلَيهَا فِي ذَلِكَ, وَالصَّحِيحُ فِي هَذَا البَابِ أَنَّ مَنْ صَحَّتْ عَدَالَتُهُ, وَثَبَتَت فِي العِلمِ أَمَانَتُهُ, وَبَانَت ثِقَتُهُ وَعِنَايَتُهُ بِالعِلمِ لَم يُلتَفَت فِيهِ إِلَى قَولِ أَحدٍ إِلا أَن يَأتِيَ فِي جُرْحَتِهِ بِبَيِّنَةٍ عَادِلَةٍ تَصِحُّ بِهَا جُرْحَتُهُ عَلَى طَرِيقِ الشَّهَادَاتِ وَالعَمَلِ فِيهَا مِنَ المُشَاهَدَةِ والمُعَايَنَةِ لِذَلِكَ بِمَا يُوجِبُ قَولهُ مِن جِهَةِ الفِقهِ والنَّظَرِ, وَأَمَّا مَنْ لَم تَثْبُت إِمَامَتُهُ, وَلا عُرِفَت عَدَالَتُهُ, وَلا صَحَّت لِعَدَمِ الحِفظِ والإتقَانِ رِوَايَتُهُ, فَإِنَّهُ يُنظَرُ فِيهِ إِلَى مَا اتَّفَقَ أَهلُ العِلمِ عَلَيهِ, وَيجتَهدُ فِي قَبُولِ مَا جَاءَ بِهِ عَلَى حَسَبِ مَا يُؤَدِّي النَّظَرُ إِلَيهِ... فَمَن صَحَّتْ عَدَالَتُهُ, وعُلِمَت بِالعِلمِ عِنَايَتُهُ, وَسَلِمَ مِنَ الكَبَائِرِ, وَلَزِمَ المُرُوءَةَ والتَّعَاوُنَ, وَكَانَ خَيرُه غَالِباً وَشَرُّهُ أَقَلَّ عَمَلِه, فَهَذَا لا يُقبَلُ فِيهِ قَولُ قَائِلٍ لا بُرهَانَ لَهُ بِهِ, فَهَذَا هُوَ الحَقُّ الَّذِي لا يَصِحُّ غَيرُهُ إِن شَاءَ اللهُ)) (1).
وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ ابنُ عَبدِ البَرِّ هُوَ قَانُونُ العُلَمَاءِ فِي قَبُولِ كَلامِ الأَقرَانِ بَعضِهِم فِي بَعضٍ, وَرَدِّهِ.
وَقَد صَاغَهُ اللَّكنَوِيُّ صِيَاغَةً مُوجَزَةً, فَقَالَ: ((قَد صَرَّحُوا بِأَنَّ كَلِمَاتِ المُعَاصِرِ فِي حَقِّ المُعَاصِرِ غَيرُ مَقبُولَةٍ, وَهُوَ مُقَيَّدٌ بِمَا إِذَا كَانَت بِغَيرِ بُرهَانٍ وَحُجَّةٍ, وَكَانَت مَبنِيَّةً عَلَى التَّعَصُّبِ والمُنَافَرَةِ, فَإِن لَم يَكُن هَذَا وَلا هَذَا فَهِيَ مَقبُولَةٌ بِلا شُبهَةٍ)) (2).
وَلِذَلِكَ لَم يُقبَل قَولُ الإِمَامِ مَالِكٍ فِي مُحَمَّدِ بنِ إَسْحَاق صَاحِبِ ((المَغَازِي)), وَلَم يُقبَلْ قَدحُ النَّسَائيِّ فِي أَحْمَد بنِ صالِحٍ المِصرِيِّ, وَقَدحُ الثَّورِيِّ فِي أَبِي حَنِيفَةَ, وَقَدحُ ابن مَعِينٍ فِي الشَّافِعِيِّ, وقَدحُ ابن مَندَهْ فِي أَبِي نُعَيمٍ, وَغَيرِهِم فِي غَيرِهِم (3).
قَالَ أَبُو عُمَرَ: ((مَنْ أَرَادَ قَبُولَ قَولِ العُلَمَاءِ الثِّقَاتِ بَعضِهِم فِي بَعضٍ فَلْيَقبَلْ قَولَ الصَّحَابَةِ بَعضِهِم فِي بَعضٍ, فَإِن فَعَلَ ذَلِكَ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً, وَخَسِرَ خُسرَاناً مُبِيناً, وَإِن لَم يَفعَلْ -إِن هَدَاهُ اللهُ وَأَلهَمَهُ رُشدَهُ- فَلْيَقِفْ عِندَ مَا شَرَطْنَا فِي أَلا يُقبلَ فِيمَن صَحَّت عَدَالَتُهُ, وَعُلِمَت بِالعِلمِ عِنَايَتُهُ, وَسَلِمَ مِنَ الكَبَائِرِ, وَلَزِمَ المُرُوءَةَ والتَّعَاوُنَ, وَكَانَ خَيرُهُ غَالِباً, وَشَرُّهُ أَقَلَّ عَمَلِهِ, فَهَذَا لا يُقبَلُ فِيهِ قَولُ قَائِل لا بُرهَانَ لَهُ بِهِ)) (4).
وَقَد نَقَلَ التَّاجُ السُّبكِيُّ فِي ((الطَّبَقاتِ)) كَلامَ ابنِ عَبدِ البَرِّ, مُحتَرِزاً وَمُعَلِّقاً فَقَالَ: ((هَذَا كَلامُ ابنِ عَبدِ البَرِّ, وَهُوَ عَلَى حُسنِهِ غَيرُ صَافٍ عَنِ القَذَى وَالكَدَرِ؛ فَإِنَّهُ لَم يَزِدْ فِيهِ عَلَى قَولِهِ: إَنَّ مَنْ ثَبَتَت عَدَالَتُهُ وَمَعرِفَتُهُ لا يُقبَلُ قَولُ جَارِحِهِ إلا بِبُرهَانٍ, وَهَذَا قَد أَشَارَ إِلَيهِ العُلَمَاءُ جَمِيعاً, حَيثُ قَالُوا: لا يُقبَلُ الجَرحُ إِلا مُفَسَّراً, فَمَا الَّذِي زَادَهُ ابنُ عَبدِ البَرِّ عَلَيهِم؟ وَإِنْ أَوْمَأ إِلَى أَنَّ كَلامَ النَّظِيرِ فِي النَّظِيرِ, وَالعُلَمَاءِ بَعضِهِم فِي بَعضٍ مَردُودٌ مُطلَقاً فَلْيُفْصِحْ بِهِ, ثُمَّ هُوَ مِمَّا لا يَنبَغِي أَن يُؤخَذَ هَذَا عَلَى إِطلاقِهِ, بَل لابُدَّ مِن زِيَادَةٍ عَلَى قَولِهِم: إِنَّ الجَرحَ مُقَدَّمٌ عَلَى التَّعدِيلِ, ونُقصَانٍ مِن قَولِهِم: كَلامُ النَّظِيرِ فِي النَّظِيرِ مَردُودٌ.
وَالقَاعِدَةُ مَعقُودَةٌ لِهَذِهِ الجُملَةِ, وَلَم يَنْحُ ابنُ عبدِ البَرِّ فِيمَا يَظهَرُ سِوَاهَا, وَإِلا لَصَرَّحَ بَأنَّ كَلامَ العُلَمَاءِ بَعضِهِم فِي بَعضٍ مَردُودٌ, أَو لَكَانَ كَلامُهُ غَيرَ مُفِيدٍ فَائِدَةً زَائِدةً عَلَى مَا ذَكَرَهُ النَّاسُ, وَلَكِنَّ عِبَارَتَهُ -كَمَا تَرى- قَاصِرَةٌ عَنِ المُرَادِ.
فَإِنْ قُلْتَ: فَمَا العِبَارَةُ الوَافِيَةُ مِمَّا تَرَونَ؟
قُلْتُ: مَا عَرَّفنَاكَ مِن أَنَّ الجَارِحَ لا يُقبَلُ مِنهُ الجَرحُ, وَإِن فَسَّرَهُ فِي حَقِّ مَنْ غَلَبَت طَاعَاتُهُ عَلَى مَعَاصِيهِ وَمادِحُوهُ عَلَى ذَامِّيهِ, وَمُزَكُّوهُ عَلَى جَارِحِيهِ, إِذَا كَانَت هُنَاكَ قَرِينَةٌ يَشهَدُ العَقلُ بِأَنَّ مِثلَهَا حَامِلٌ عَلَى الوَقِيعَةِ فِي الَّذِي جَرَحَهُ؛ مِن تَعَصُّبٍ مَذهَبِيٍّ, أَو مُنَافَسَةٍ دُنيَوِيَّةٍ, كَمَا يَكُونُ مِنَ النُّظَرَاءِ, أَو غَيرِ ذَلِكَ فَنَقُولُ مَثَلاً: لا يُلْتَفَتُ إِلَى كَلام ابنِ أَبِي ذِئبٍ فِي مَالِكٍ, وَابنِ مَعِينٍ فِي الشَّافِعِيِّ, والنَّسَائِيِّ فِي أَحْمَد بنِ صالِحٍ؛ لأَنَّ هَؤُلاءِ أَئِمَّةٌ مَشهُورُونَ, صَارَ الجَارِحُ لَهُم كَالآتِي بِخَبَرٍ غَرِيبٍ, لَو صَحَّ لَتَوَفَّرَتِ الدَّوَاعِي عَلَى نَقلِهِ, وَكَانَ القَاطَعُ قَائِماً عَلَى كَذِبِهِ)) (5).
قَالَ الذَّهَبِيُّ: ((كَلامُ الأَقرَانِ إِذَا تَبَرهَنَ لَنَا أَنَّه بِهَوًى وَعَصَبِيَّةٍ, لا يُلْتَفَتُ إِلَيهِ, بَل يُطْوَى وَلا يُرْوَى)) (6).
وَقَالَ أَيضاً: ((كَلامُ الأَقرَانِ يُطوَى وَلا يُروَى, فَإِن ذُكِرَ تَأَمَّلَهُ المُحَدِّثُ فَإِن وَجَدَ لَهُ مُتَابِعاً, وَإِلا أَعرَضَ عَنْهُ)) (7).
وَقَالَ فِي مَوضِعٍ ثَالِثٍ: ((كَلامُ الأَقرَانِ بَعضِهِم فِي بَعضٍ أَمرٌ عَجِيبٌ, وَقَعَ فِيهِ سَادَةٌ فَرَحِم اللهُ الجَمِيعَ)) (.
وَالحَافِظُ الذَّهبِيُّ -رَحِمهُ اللهُ- مِن أَبرَزِ مَنِ اتَّضَحَ هَذَا المَنهَجُ فِي كُتُبِهِم, حَيثُ أَوْرَدَ كَثِيراً مِن كَلامِ الأَقْرَانِ بَعضِهِم فِي بَعضٍ, ثُمَّ تَعَقَّبَهُ بِتَعلِيقَاتٍ جِيَادٍ, وَمِن أَمثِلَةِ ذَلِكَ:
1- قَالَ: ((أَمَّا كَلامُ النَّسَائِيِّ فِيهِ -يَعنِي: أَحْمَدَ بنَ صَالِح- فَكَلامُ مَوتُورٍ؛ لأَنَّه آذَى النَّسَائِيِّ, وَطَرَدَهُ مِن مَجلِسِهِ, فَقَالَ فِيهِ: لَيسَ بِثِقَةٍ)) (9).
وَقَالَ فِي مَوضِعٍ آخَرَ: ((وَكَانَ سَبَبُ تَضعِيفِ النَّسَائِيِّ لَهُ, أَنَّ أَحْمَدَ بنَ صَاِلحٍ كَانَ لا يُحَدِّثُ أَحَداً حَتَّى يَشهَدَ عِندَهُ رَجُلانِ مِنَ المُسلِمِينَ أَنَّهُ مِن أَهل الخَيرِ وَالعَدَالَةِ فَكَانَ يُحَدِّثُهُ, وَيَبذُلُ لَهُ عِلمَهُ, فَأَتَى النَّسَائِيُّ لِيَسمَعَ مِنهُ, فَدَخَل بِلا إِذنٍ وَلَم يَأتِهِ بِرَجُلَينِ يَشْهَدَانِ لَهُ بِالعَدَالَةِ, فَلَمَّا رَآهُ فِي مَجلِسِهِ أَنكَرَهُ, وَأَمَرَ بِإخرَاجِهِ, فَضَعَّفَهُ النَّسَائِيُّ لِهَذَا)) (10).
2- قَالَ فِي تَرجَمَة ابنِ مَنْدَهْ: ((قُلتُ: لا نَعبَأُ بِقَولِكَ -يَعنِي: أَبَا نُعَيمٍ- فِي خَصمِك لِلعَدَاوَةِ السَّائِرَةِ كَمَا لا نَسمَعُ أَيضاً قَولَهُ فيكَ, فَلَقَد رَأَيتُ لابنِ مَندَهْ حَطّاً مُقذِعاً عَلَى أَبِي نُعَيمٍ وَتَبدِيعاً, وَكُلٌّ مِنهُمَا فَصَدُوقٌ فِي نَفسِهِ, غَيرُ مُتَّهَمٍ فِي نَقلِهِ بِحَمدِ اللهِ)) (11).
وَقَالَ -رَحِمهُ اللهَ-: ((قَد كَانَ أَبُو عَبدِ اللهِ بنُ مَندَهْ يُقذِعُ فِي أَبي نُعَيمٍ لِمَكَانِ الاعتِقَادِ المُتَنَازَعِ فِيهِ بَينَ الحَنَابِلَةِ وَأَصحَابِ أَبِي الحَسَنِ (12), وَنَالَ أَبُو نُعَيمٍ مِن أبِي عَبدِ اللهِ فِي ((تَارِيخِهِ)), وَقَد عُرِفَ وَهَنُ كَلامِ الأَقرَانِ المُتَنافِسِينَ بَعضِهِم فِي بَعضٍ)) (13).
3- وَمِنهُ ما عَلَّلَ بِهِ كَلامَ مَالِكٍ فِي مُحَمَّدِ بنِ إسحَاقَ بنِ يَسَارٍ, وَقَولَهُ عَنهُ: ((دَجَّالٌ مِنَ الدَّجَاجِلَةِ)).
حَيثُ صَدَرَ مِنهُ ذَلِكَ عِنْدَمَا قَالَ ابنُ إِسحَاقَ: اعْرِضُوا عَلَيَّ عِلمَ مَالِكٍ, فَإِنَّي أَنا بَيْطَارُهُ, وَقِيلَ: إِنَّه كَذَّبَهُ لَمَّا طَعَنَ فِي نَسَبِهِ, قَالَ الذَّهَبِيُّ: ((رُوِيَ عَنِ ابنِ إِسحَاقَ أَنَّه زَعَمَ أَنَّ مَالِكاً وَآلَهُ مَوَالِي بَنِي تَيْم, فَأَخْطَأَ, وَكَانَ ذَلِكَ أَقوَى سَبَبٍ فِي تكذِيبِ الإِمَامِ مَالِكٍ لَهُ, وَطَعنِهِ عَلَيهِ)) (14).
قَالَ الذَّهَبِيُّ -رَحِمهُ اللهُ-: ((كَلامُ الأَقرَانِ بَعضِهِم فِي بَعضٍ لا يُعْبَأُ بِهِ, لا سِيَّمَا إِذَا لاحَ لَكَ أَنَّهُ لِعَدَاوَةٍ أَو لِمَذهَبٍ أَو لِحَسَدٍ, مَا يَنجُو مِنهُ إِلا مَنْ عَصَم اللهُ, وَمَا عَلِمتُ أَنَّ عَصراً مِنَ الأَعصَارِ سَلِمَ أَهلُهُ مِن ذَلِكَ, سِوَى الأَنبِيَاء وَالصِّدِّيقِينَ, وَلَو شِئتُ لَسَرَدتُ مِن ذَاكَ كَرَارِيسَ, اللَّهُمَّ فَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ)) (15).
4- ذَكَرَ الذَّهَبِيُّ كَلامَ سُلَيمَان بنِ حَربٍ فِي عَفَّان بن مُسلِمٍ فَقَالَ: ((تَرَى عَفَّانَ كَانَ يَضبِطُ عَن شُعبَةَ؟ وَالله لَو جَهِدَ جَهدَهُ أَن يَضبِطَ فِي شُعبَةَ حَدِيثاً وَاحِداً ما قَدَر, كانَ بَطِيئاً, رَدِيءَ الحِفظِ, بَطِيءَ الفَهمِ)). ثُمَّ قَالَ الذَّهَبِيُّ مُعَقِّباً: ((عَفَّانُ أَجَلُّ وأَحفَظُ مِن سُلَيمَانَ أَو هُوَ نَظِيرُهُ وَكَلامُ النَّظِيرِ وَالأَقرَانِ يَنبَغِي أَن يُتَأَمَّلَ وَيُتَأَنَّى فِيهِ)) (16).
5- وَذَكَرَ الذَّهَبِيُّ أَنَّ مُحَمَّدَ بنَ يَحيَى الذُّهلِيَّ لَمَّا وَرَدَ البُخَارِيُّ نَيْسَابُورَ قَالَ -أَي: الذُّهلِيُّ-: ((اذهَبُوا إِلَى هَذَا الرَّجُلِ الصَّالِح فَاسمَعُوا مِنهُ, فَذَهَبَ النَّاسُ إِلَيهِ, وَأَقبَلُوا عَلَى السَّمَاعِ مِنهُ, حَتَّى ظَهَرَ الخَلَلُ فِي مَجلِسِ مُحَمَّدِ بنِ يَحيَى فَحَسَدَهُ بَعدَ ذَلِكَ, وَتَكَلمَ فِيهِ)) (17).
قَالَ الذَّهَبِيُّ مُعَلِّقاً عَلَى مَا حَدَثَ بَينَ الذُّهلِيِّ والبُخَارِيِّ: ((وَمَا زَالَ كَلامُ الكِبَارِ المُتَعاصِرِينَ بَعضِهِم فِي بَعضٍ, لا يُلْوى عَلَيهِ بِمُفْرَدِهِ)) (1.
وَقَالَ السُّبكِيُّ: ((وَلا يَرتَابُ المُنصِفُ أَنَّ مُحَمَّدَ بنَ يَحيَى الذُّهلِيَّ لَحِقَتْهُ آفَةُ الحَسَدِ, الَّتِي لَمْ يَسلَم مِنهَا إِلا أَهلُ العِصمَةِ)) (19).
وَمِن عَدلِ الإِمَامِ البُخَارِيِّ -رَحِمهُ اللهُ- الَّذِي يُحفَظُ لَهُ, وَيُشَادُ بِذِكرِهِ؛ أَنَّهُ عَلَى مَا كَانَ مِنَ الذُّهلِيِّ, إِلا أَنَّهُ لَم يَتَكَلمْ فِيهِ وَلَم يَجْرَحْهُ بِشَيءٍ, بَل أَخرَجَ لَهُ فِي ((صَحِيحِهِ)), وَهَذَا خُلُقٌ كَرِيمٌ لا يَقُومُ بِهِ إِلا النُّبَلاءُ وَاللهُ يَغفِرُ لَنَا وَلَهُم.
وَحَتَى لا يُؤثِّر كَلامُ الأَقرَانِ بَعضِهِم فِي بَعضٍ فِي طُلابِ العِلمِ وَحَمَلَتِهِ جَاءَت نَصِيحَةُ التَّاجِ السُّبكِيِّ فِي ((الطَّبَقَاتِ)) (20) قَوِيَّةً بَيِّنَةً, قَالَ -رَحِمهُ اللهُ-: ((يَنْبَغِي لَكَ أَيُّهَا المُستَرشِدُ أَن تَسلكَ سَبِيلَ الأَدَبِ مَعَ الأَئِمَّةِ المَاضِينَ, وأَلا تَنظُرَ إِلَى كَلامِ بَعضِهِم فِي بَعضٍ إِلا إِذَا أَتَى بِبُرهَانٍ واضِحٍ, ثُمَّ إِن قَدَرْتَ عَلَى التَّأوِيلِ وَحُسنِ الظَّنِّ فَدُونَكَ, وَإِلا فَاضْرِبْ صَفْحاً عَمَّا جَرَى بَينَهُم, فَإِنَّكَ لَم تُخلَقْ لِهَذَا, وَاشتَغِل بِمَا يَعْنِيكَ وَدَعْ مَا لا يَعْنِيكَ.
وَلا يَزَالُ طَالِبُ العِلمِ عِندِي نَبِيلاً حَتَّى يَخُوضَ فِيمَا جَرَى بَينَ السَّلَفِ المَاضِينَ وَيَقضِي لِبَعضِهِم عَلَى بَعضٍ, فَإِيَّاكَ ثُمَّ إِيَّاكَ أَن تُصغِيَ إِلَى مَا اتَّفَقَ بَينَ أَبِي حَنِيفَةَ وَسُفيَانَ الثَّورِيِّ, أَوْ بَينَ مَالِكٍ وابنِ أبِي ذِئبٍ, أَوْ بَينَ أَحْمَد بنِ صَالِحٍ وَالنَّسَائِيِّ, وَهَلُمَّ جَرّاً, إِلَى زَمانِ الشَّيخِ عِزِّ الدِّينِ بنِ عَبدِ السَّلامِ, والشَّيخِ تَقِيِّ الدِّينِ بنِ الصَّلاحِ, فَإِنَّكَ إِنِ اشتَغَلْتَ بِذَلِكَ خَشِيتُ عَلَيكَ الهَلاكَ, فَالقَومُ أَئِمَّةٌ أَعلامٌ, وَلأَقوَالِهِم مَحَامِلُ, رُبَّمَا لَم يُفهَمْ بَعضُهَا, فَلَيسَ لَنَا إِلا التَّرضِّي عَنهُم وَالسُّكُوتُ عَمَّا جَرَى بَينَهُم)).
من كتاب:
ضَوَابِطُ التَّبْدِيع
ضَوَابِطُ التَّبْدِيع
تأليف فضيلة الشيخ:
أَبِي عَبْدِ اللهِ مُحَمَّد بنِ سَعِيْد رَسْلان
حفظه الله تبارك وتعالى
أَبِي عَبْدِ اللهِ مُحَمَّد بنِ سَعِيْد رَسْلان
حفظه الله تبارك وتعالى
===============
(1) جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر (2/ 152,162).
(2) الرفع والتكميل في الجرح والتعديل لمحمد عبد الحي اللكنوي (ص200).
(3) انظر: الرفع والتكميل للكنوي (ص189).
(4) جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر (2/ 162).
(5) طبقات الشافعية للسبكي, تحقيق: عبد الفتاح الحلو ومحمود الطناحي (2/ 9).
(6) سير أعلام النبلاء (10/ 92).
(7) سير أعلام النبلاء (5/ 276).
( سير أعلام النبلاء (12/ 61).
(9) سير أعلام النبلاء (11/ 83).
(10) سير أعلام النبلاء (12/ 167).
(11) سير أعلام النبلاء (17/ 34).
(12) يعني: الأشاعرة.
(13) سير أعلام النبلاء (17/ 462).
(14) سير أعلام النبلاء (8/ 71).
(15) ميزان الاعتدال للذهبي (1/ 251).
(16) ميزان الاعتدال (5/ 102).
(17) سير أعلام النبلاء (12/ 453).
(1 سير أعلام النبلاء (12/ 230).
(19) طبقات الشافعية للسبكي (2/ 230).
(20) طبقات الشافعية للسبكي (2/ 27.
(1) جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر (2/ 152,162).
(2) الرفع والتكميل في الجرح والتعديل لمحمد عبد الحي اللكنوي (ص200).
(3) انظر: الرفع والتكميل للكنوي (ص189).
(4) جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر (2/ 162).
(5) طبقات الشافعية للسبكي, تحقيق: عبد الفتاح الحلو ومحمود الطناحي (2/ 9).
(6) سير أعلام النبلاء (10/ 92).
(7) سير أعلام النبلاء (5/ 276).
( سير أعلام النبلاء (12/ 61).
(9) سير أعلام النبلاء (11/ 83).
(10) سير أعلام النبلاء (12/ 167).
(11) سير أعلام النبلاء (17/ 34).
(12) يعني: الأشاعرة.
(13) سير أعلام النبلاء (17/ 462).
(14) سير أعلام النبلاء (8/ 71).
(15) ميزان الاعتدال للذهبي (1/ 251).
(16) ميزان الاعتدال (5/ 102).
(17) سير أعلام النبلاء (12/ 453).
(1 سير أعلام النبلاء (12/ 230).
(19) طبقات الشافعية للسبكي (2/ 230).
(20) طبقات الشافعية للسبكي (2/ 27.
تعليق