( المقصود من سكوت أبي داود )
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وآله وصحبه
أما بعد:
لما ألف الإمام الحافظ أبو داود السجستاني – رحمه الله تعالى – كتابه السنن سأله أهل مكة عن صحة ما في كتابه من أحاديث فقال رحمه الله تعالى : ذكرت فيها الصحيح وما يشابهه وما يقاربه وما لم أذكر فيه شيئاً فهو صالح . أ هـ
قوله رحمه الله ذكرت فيها الصحيح هذا واضح وما يشبهه أي الحسن وما يقاربه أي الحديث الصالح ويحتمل الحسن لغيره ( ينظر شرح ألفية السيوطي- لأحمد شاكر- 1/80 ط مكتبة ابن تيمية ) .
وقوله رحمه الله : وما لم أذكر فيه شيئا فهو صالح اختلف أهل العلم في معنى هذه الكلمة ( أي صالح ) وهو المعروف بسكوت أبي داود .
حتى إن بعض المشايخ يقول : أموت وأعرف معنى السكوت .
فأحببت في هذا البحث أن أذكر أقوال بعض العلماء في معنى السكوت . ونبين القول الراجح فيها بإذن الله.
قال بعضهم : معنى قوله ( صالح ) أي صحيح . وهذا القول نسبه ابن حجر العسقلاني -رحمه الله- لابن عبد البر المالكي – رحمه الله – ( النكت على مقدمة ابن الصلاح لابن حجر 1/ 436 ط دار الراية ) .
وقال بعضهم : معنى قوله ( صالح ) أي حسن أو صحيح . قاله الإمام النووي رحمه الله في الأذكار (ص 63 ط ابن خزيمة ) .
وقال العراقي رحمه الله : والصالح يشمل الصحيح والحسن فلا يرتقي إلى الأول إلا بيقين . ذكره السيوطي في تدريب الراوي (ص 124 ط إحياء التراث ) .
وقال الإمام أبو سليمان الخطابي- رحمه الله-: في مقدمة معالم السنن ( 1/6 ط دار الكتب العلمية ) : ثم اعلموا أن الحديث عند أهله على ثلاثة أقسام : حديث صحيح وحديث حسن وحديث سقيم وكتاب أبي داود جامع لهذين النوعين ( أي الصحيح والحسن ) من الحديث فأما السقيم منه فعلى طبقات شرها الموضوع ثم المقلوب أعني ما قلب إسناده ثم المجهول وكتاب أبي داود خلي منها بريء من جملة وجوهها فإن وقع فيه شيء من بعض أقسامها لضرب من الحاجة تدعوه إلى ذكره فإنه لا يألو أن يبين أمره ويذكر علته ويخرج من عهدته . أ هـ بتصرف يسير .
ظاهر كلام الخطابي - رحمه الله- يدل على أن عامة ما في السنن ( أي سنن أبي داود ) إما حسن وإما صحيح سواء كان نص على صحته أم لم ينص وما فيه ضعف شديد أبان رحمه الله عن سبب ضعفه .
وقال الزركشي في النكت على مقدمة ابن الصلاح له (ص 108 ط الكتب العلمية ) : وقوله ( صالح ) أراد به القدر المشترك بين الصحيح والحسن هذا إن كان أبو داود يفرق بين الصحيح والحسن وأما إن كان يرى الكل صحيحاً ولكن درجات الصحة تتفاوت وهو الظاهر من حاله فذلك أقوى في الإعتراض على ما نقل عنه الحكم بكونه حسن . نعم جاء عن أبي داود أيضاً : ما سكت عنه فهو حسن . إلا أن الرواية لسنن أبي داود مختلفة يوجد في بعضها كلام وحديث ليس في الأخرى . أ هـ
كلام الإمام الزركشي ينص على أن أبا داود - رحمه الله - إذا كان يقسم الحديث المقبول إلى صحيح وحسن فالصالح عنده داخل في هذين النوعين وأما إذا كان لا يقسم المقبول ويرى أن الحديث إما صحيح وإما ضعيف فالصالح داخل في الصحيح ودرجات الصحة تتفاوت .
وقال بعضهم : المراد من قوله ( صالح ) يعني به حسن عنده .
قاله شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – في الإقتضاء (ص 166 ط إحياء التراث ) . وهو قول الحافظ ابن الصلاح – رحمه الله – في مقدمة علوم الحديث (ص 182 ط دار المعارف ) وقاله أيضاً الحافظ ابن كثير -رحمه الله – في تفسيره ( 1/99 ط مكتبة دار السلام ) وقال ( أي ابن كثير ) في كتابه اختصار علوم الحديث ( ص 38 ط دار النور الكويتية ) ويروى عنه أنه قال : وما سكت عنه فهو حسن .
قال السيوطي – رحمه الله – في تدريب الراوي (ص 123 ط إحياء التراث ) فإن صح ذلك أي نسبة هذا القول لأبي داود – فلا إشكال – يعني أنه لا إشكال فيما سكت عنه لأن معناه عرف وهو الحسن عنده . وقال هذا القول الإمام الألباني – رحمه الله – في مقدمة سنن أبي داود ( 1/14-15 ط غراس ) قال : فالرواية إن صحت فهي صريحة بمعنى السكوت .
قال أحمد شاكر في شرح ألفية السيوطي ( 1/83 ط مكتبة ابن تيمية ) : فالأولى أن يحمل – أي السكوت – على أنه حسن عنده ولا يرتقي إلى درجة الصحة وإن جاز أن يبلغها لأنه أحوط . أ هـ
وقال بعضهم : المراد من قوله ( صالح ) يعني به صالح عنده .
قاله ابن حجر العسقلاني – رحمه الله – في القول المسدد ( طبع في آخر مسند أحمد 20 / 594 ط دار الحديث ) أ هـ .
وقال السيوطي في تدريب الراوي ( ص 122 ط إحياء التراث ) : فالأحوط الإقتصار على الحسن وأحوط منه التعبير عنه بصالح . أ هـ
وقال السخاوي في فتح المغيث ( 1/142 ط مكتبة دار المنهاج ): فالأحوط أن يقول المسكوت عليه : صالح كما هي عبارته خصوصاً وقد سلكه جماعة . أ هـ
والمراد من قول الأئمة – رحمهم الله – صالح عنده أي أنه أعم من أن يكون للاحتجاج أو الإعتبار فما ارتقى إلى الحسن ثم إلى الصحيح فهو بالمعنى الأول ( الإحتجاج ) وما عداهما فهو المعنى الثاني ( الإعتبار ) وهذا
التفسير لهذه الكلمة قاله الإمام الألباني – رحمه الله – في مقدمة سنن أبي داود ( 1 / 15 ط غراس ) وقاله الإمام مقبل بن هادي الوادعي – رحمه الله – في المقترح ( ص 68 – 69 ط دار الآثار ) .
والتحقيق : هو القول الرابع أي قول من قال إن معناها أنه ( صالح عنده ) لعدة أمور :
أولاً : أنه يسكت على أحاديث مخرجة في الصحيحين أو على شرطهما . ولا يقال هذا من قبيل الحسن . ويسكت على أحاديث ظاهرها الحسن وربما ظاهرها الضعف لكن ليس بضعف شديد . ( ينظر النكت على مقدمة ابن الصلاح لابن حجر 1/435 ط دار الراية ) . وينظر أيضا فتح المغيث للسخاوي ( 1 / 142 ط مكتبة دار المنهاج ) فقد نصا على هذا القول .
ثانياً : أنه – رحمه الله – ذكر في رسالته لأهل مكة – مطبوعة في مقدمة بذل المجهود للسهارنفوري ( 1/35 ط الكتب العلمية ) : أن ما كان فيه ضعف شديد بينته .
مفهوم كلامه – رحمه الله – أن الضعف اليسير لا يتكلم عليه لأنه يصلح للإعتبار .
ثالثاً : أنه روي عنه أنه قال ( وما سكت عنه فهو حسن ) ذكرها ابن كثير – رحمه الله – كما مر بصيغة التمريض . والرواية المعروفة ( وما سكت عنه فهو صالح ) وقد مر قبل ذلك قول الزركشي : أن الرواية لسنن أبي داود مختلفة يوجد في بعضها كلام وحديث ليس في الأخرى .
رابعاً : أنه قد يسكت على الحديث ويضعف رجاله في موضع آخر . قال أحمد شاكر – رحمه الله – في الباعث ( ص 40 ط الكتب العلمية ) : وأما قول ابن كثير من ذلك أحاديث ورجال قد ذكرها في سننه . أراد به أنه ضعف أحاديث ورجالاً في سؤالات الآجري وسكت عليها في السنن فلا يلزم من ذكره لها في السؤالات بضعف أن يكون الضعف شديداً فإنه يسكت في سننه على الضعف الذي ليس بشديد كما ذكره هو . أ هـ
خامساً : أنه لا يسع الباحث في هذه المسألة إلا هذا القول وما عداه من الأقوال فيها نظر . كما لا يخفى على أهل هذا الفن .
هذا ما يسر الله لي جمعه من أقوال الأئمة في هذه المسألة المهمة وأسأل الله أن ينفع بها وأن يعفو عني بمنه وكرمه . والله أعلم .
وكتبه
بدر بن محمد آل بدر
8/6/1431 هــ