منزلةُ الاستغفار، وفضلُه - خطبة لسماحة المفتي عبد العزيز آل الشيخ
إنَّ الحمدَ لله، نحمدُه ونستعينُه ونستغفرُه، ونتوبُ إليه، ونعوذُ به من شرورِ أنفسِنا؛ ومن سيِّئاتِ أعمالِنا، من يهدِه اللهُ؛ فلا مُضِلَّ له، ومن يضلل؛ فلا هاديَ له، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسولُه صلَّى اللهُ عليه، وعلى آلهِ، وصحبِهِ وسلَّمَ تسليمًا كثيرًا إلى يومِ الدين.
أمَّا بعدُ:
فيا أيُّها الناسُ، اتَّقوا اللهَ تعالى حَقَّ التقوى.
عبادَ الله، إنَّ الاستغفارَ عبادةٌ مرتبطةٌ بالتوحيدِ؛ فجديرٌ بالمسلمِ أن يعرفَ أهميَّةَ الاستغفارِ وصفةَ هذا الاستغفارِ، والنتائجَ المترتبةَ عليه، والمناسباتِ التي شُرِعَ فيها الاستغفارُ بخصوص.
أيُّها المسلمُ، إنَّ الاستغفارَ دأْبُ أنبياءِ اللهِ والصالحينَ من عبادِهِ، وقد بَيَّنَ اللهُ لنا في كتابِهِ العزيزِ، ما كان عليه أنبياؤُه ورسلُهُ، من استغفارِه و اللَّجاءَةِ إليه، والتوبةِ إليه، قال جَلَّ وعلا مبين مبيِّنًا حالَ الأبوينِ آدمَ وحواءَ بعدما وقعا فيما وقعا فيه من المعصية، أنهما قالا: (رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ) [الأعراف:23]، فانظرْ إلى هذا الأدَبِ الرَّفيعِ، وهذا الاِلتجاءِ والاعترافِ بالذَّنبِ والخطأ، ونسبةِ ذلك إلى الإنسانِ، (رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ)، وقال نوحٌ عليه السلامُ: (وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنْ الْخَاسِرِينَ) [هود:47]، بعدما قال: (رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ* قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنْ الْجَاهِلِينَ) [هود:45-46]، فقال بعدها عليه السلام: (وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنْ الْخَاسِرِينَ)، وقال أيضًا كما أخبرَ اللهُ عنه: (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِي مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ) [نوح:28] ، وأخبرنا جَلَّ وعلا عن داودَ عليه السلام، قال: (فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ) [ص:24]، وقال عن نبيِّهِ سُلَيمانَ أنه قال: (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ) [ص:35]، وأمرَ نبِيَّه صلى اللهُ عليه وسلم خَاتَمَ الأنبياءِ والمرسلين بقوله: (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ) [محمد:19]، وأخبرَنا تعالى عن حالِ المُتَّقِينَ، وعن استغفارِهم لربِّهم، قال جَلَّ وعلا: (الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ) [آل عمران:]17، وقال: (كَانُوا قَلِيلاً مِنْ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ* وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) [الذاريات:17-18]، فكانوا يقومون من الليلِ، فإذا انتهت صلاتُهم خَتموا ذلك بالاستغفارِ وذِكرِ اللهِ، حتى يَسلَموا من العُجبِ بأنفسِهم، ويكونُ الاعترافُ بفضلِ اللهِ عليهم.
أيُّها المسلمُ، وأخبرَ اللهُ عن حالِ عبادِهِ المؤمنينَ بقوله الذين وَعَدَهم جنَّاتٍ عرضُها كعَرْضِ السماواتِ والأرضِ، قال: (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ) [آل عمران:135]، وقال آمرًا بالاستغفارِ: (وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [البقرة:199].
أيُّها المسلمُ، أيُّها المسلمُ، اِسمَعْ نبيَّك يقولُ عن ربِّهِ جَلَّ وعلا يقول: "يا عِبادِي إنَّكم تُخطِئون بالليلِ والنَّهارِ، وأنا أَغفِرُ الذُّنوبَ جميعًا فَاسْتَغْفِرونِي أغفِرْ لكم".
أيُّها المسلمُ، أيُّها المسلمُ، إنَّ الاِستغفارَ مشروعٌ لنا في كُلِّ أحوالِنا، مهما نَكُنْ عليهِ من حالٍ، فإن كنَُّا مِن المُتَّقِينَ المُستقيمينَ كان الاستغفارُ لنا شُكرًا للهِ على فضلهِ، وشكرًا للهِ على تَوفِيقِهِ، حتى يَذهَبَ العجبُ والكِبْرُ مِن أنفُسِنا، وإن كُنَّا مُخطِئينَ؛ ففي الاستغفارِ تكفيرٌ لخَطايانا، وجبرٌ لنَقْصِ أعمالِنا.
أيُّها المسلمُ، وإنَّ الاِستغفارَ مشروعٌ دائمًا وأبدًا، ولكنْ هناك أوقاتٌ يَتَأَكَّدُ فيها الاِستغفارُ فقد جَعَلَ اللهُ الاستغفارَ خِتامًا للأعمالِ الصالحةِ كُلِّها، فهذه الصلاةُ يُؤَدِّيها المسلمُ، وبعدَما يُسَلِّمُ عن يمينِهِ ويسارِه، يقولُ: " أَستَغْفِرُاللهَ، أَستَغْفِرُ اللهَ، أَستَغْفِرُ اللهَ"، هكذا هديُ نَبِيِّنا صلى اللهُ عليه وسلم إذا سَلَّمَ عن يمينِه وشمالِه بَقِيَ مُستَقْبِلًا القبلةَ قَدْرَ ما يقول: " أَستَغْفِرُ الله، أَستَغْفِرُ الله، أَستَغْفِرُ الله، اللهمَّ أنت السلامُ، ومِنك السلامُ، تباركتَ يا ذا الجَلالِ والإِكرامِ"، ذلك أنَّ المسلمَ يُؤَدِّي الصَّلاةَ وهو يَخشى على نفسِهِ من تقصيرٍ في الصلاةِ وذُهولِ فكرِه بالصلاة، ولهذا في الحديث: "إنَّ العبدَ ليُصَلِّي الصَّلاةَ ما يُكتبُ له إلا نِصفَها، إلا ثُلُثُها، إلا رُبعُها، أو قال: إلا عُشرُها"، فالاستغفارُ عقبَ الفرائضِ سؤالُ اللهِ التَّجاوُزَ عمَّا وقعَ مِنَّا من أخطاءٍ في صلاتِنا، بتقصيرٍ في الواجبِ، أو قِلَّةِ خُشوعٍ فيها، وشُرِعَ لنا الاِستغفارُ في قِيامِ اللَّيلِ كما قال اللهُ: (وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) [الذاريات:18]، وشُرِعَ لنا أن نَخْتِمَ مناسِكَ حَجِّنا بالاِستغفارِ (ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [البقرة:199]، وشُرِعَ لنا أن نَستغفِرَ اللهَ عندَ قِيامِنا مِن مجالِسِنا؛ لأنَّ مجالسَنا لا تَخلو من لَغَطٍ، وقِيلٍ وقالٍ، وما لا خيرَ فيه، فإذا قام المسلمُ مِن مجلسِهِ قال: "سُبحانَكَ اللَّهُمَّ وبِحمدِكَ، أشهدُ أن لا إلهَ إلا أنتَ، استغفرك أَستغفِركُ وأتوبُ إليك"، فإنْ كان مجلس حق كان كالطّابَعِ عليه، وإنْ كان غيرَ ذلك كان كفَّارةً له.
وشُرِعَ لنا أن نَستغفِرَ اللهَ إذا خرَجْنا من قضاءِ حاجتِنا من بيتِ الخلاءِ، كان صلى اللهُ عليه وسلم إذا قَضى حاجَتَه وخرجَ من الخلاْْْءِ، قال: "غُفرانَك"، قال العلماءُ: مُناسَبَةُ ذلك: "غُفرانَك" أي: غُفرانَك عن التقصيرِ في شكرِ نِعَمِك، فكَمْ وهبتَ لنا الطعامَ، ويَسَّرْتَ لنا تناوُلَه، وأخذَ الكل كُلُّ عُضْوٍ مِن أعضاءِ البدنِ نَصِيبَهُ، ثم خَرَجت فُضولاتِ ذلك الأمرِ؛ فنشكرُ اللهَ على هذه النعمةَ، وعلى هذا الفضلِ.
وشُرِعَ للمسلمِ أن يستغفرَ اللهَ في آخرِ عُمُرِهِ وعِندَ كِبَرِ سنِّه أن يكونُ الاستغفارُ دائمًا على لسانِه؛ ليَختِمَ اللهُ له بفضلِهِ بخاتِمَةِ خيرٍ؛ فلمَّا أنزلَ اللهُ على نبِيِّهِ صلى اللهُ عليه وسلم: (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ* وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً* فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً)، كان صلى اللهُ عليه وسلم بعدَ ذلك يُكثِرُ أن يقول: "سُبحانك اللَّهُمَّ وبِحمدِك استغفر أستغفِرُ اللهَ وأتوبُ إليه" داخلًا وخارجًا، وقائمًا وقاعدًا ، تَسألُهُ عائشةُ عن ذلك؛ فقال: "علامةٌ لي رأيتُها في أمتي (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ)؛ فأُمِرْتُ بالاِستغفارِ"، فكان كثيرَ الاِستغفارِ صلى اللهُ عليه وسلَّم، وكان يُكثِرُ في ركوعِه وسجودِه في صلاتِه أن يقولَ: "سُبحانك اللَّهُمَّ وبِحَمْدِك، اللَّهُمَّ اِغفِرْ لي"، وكانوا يَعُدُّون له في المجلسِ الواحدِ مائةَ مَرَّةٍ: "ربِّ اِغفِرْ لي وتُبْ عليَّ؛ إنَّك أنت التَّوَّابُ الرَّحيمُ"، وشُرِعَ لنا الاِستغفارُ في آخِرِ الصَّلاةِ قبلَ السَّلامِ، فكان صلى اللهُ عليه وسلم يقولُ -قبل أن يُسَلِّمَ-: "اللَّهُمَّ اِغفِرْ لي ما قدَّمْتُ، وما أَخَّرْتُ، وما أَسْرَرْتُ، وما أَعْلَنْتُ، وما أَسْرَفْتُ، وما أنتَ أعلمُ بهِ مِنِّي، أنتَ المُقَدِّمُ، وأنت المُؤَخِّرُ، لا إلهَ إلا أنتَ"، وربَّما قال: "اللَّهُمَّ اِغفِرْ لي خَطيئَتِي وجَهْلِي، وإِسْرَافِي فِي أَمْرِي، وجميعُ ذلك عِندي، وما أنتَ أَعْلَمُ به مِنِّي، اللَّهُمَّ اِغْفِرْ لي جِدّي وهَزْلِي، وخَطَئِي وعَمْدِي، وكُلُّ ذلك عِنْدِي، اللَّهُمَّ اِغْفِرْ لِي ما قّدَّمْتُ، وما أَخَّرْتُ، وما أَسْرَرْتُ، وما أَعْلَنْتُ، وما أنتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي، أنتَ المُقَّدِمُ، وأنتَ المُؤَخِّرُ، وأنت على كُلِّ شيءٍ قديرٌ".
أّخِي المسلمُ، إنَّ الاِستِغْفارَ يَمحو الذُّنوبَ والخَطايا؛ فأكثِرْ مِن الاِستغفارِ دائمًا وأبدا، ربُّك يقولُ: "يا عِبادي إنَّكُم تُخْطِئونَ بالليلِ والنَّهارِ، وأنا أَغْفِرُ الذُّنوبَ جَميعًا؛ فاستغفروني أَغْفِرْ لكم" [حديث قدسي]، أَجَلْ أَخِي نُخْطِئُ دائمًا في ليلِنا ونهارِنا، نُخْطِئُ أخطاءً، لو حَسِبْناها لرَأَيْنا الهَوْلَ العَظِيمَ، كم نُخطِئُ بألسِنَتِنا؛ فنغتابُ مسلم مسلمًا،ونَعيبُهُ، ونَلمِزُهُ، ونقولُ فيه ما هو بَراءٌ منه، وكم نُخطِئُ بألسنَتِنا كَذِبًا أحيانًا، ونميمةَ أحيانًا، وكم نُخطِئُ بألسنَتِنا بَذاءةً بالأقوالِ، وفحشًا فيما نقولُ كم نُخطِئُ بألسنَتِنا الشيءَ الكثيرَ، لو تَعَقَّلنا لعَلِمْنا ذلك، ونَتَذَكَّرُ قولَه: (مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) [ق:18]، كم نخطئ بأبصارنا؛ فنَطَّلِعُ على ما حُرِّمَ علينا النظرُ إليه (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ) [النور:30]، وكم نُخْطِئُ فَنَسمعُ بآذانِنا ما لا خيرَ في سماعِهِ، وكم نُخْطِئُ فَيجولُ في أفكارِنا أمورٌ عظيمةٌ، نُحاوِلُ تَنفيذَها، نُفَكِّرُ فيها، ويُخشى مِن تنفيذِها؛ فنستغْفِرُ اللهَ مِن خَطَراتِ أفكارِنا، وما اِنْطَوَت عليه ضمائِرُنا مِمَّا يُخالِفُ شرعَ اللهِ.
إنَّ الاِستغفارَ يَمحو ذُنوبَنا، ويُخَفِّفُ أَوزارَنا، ويُكْسِبُنا الخيرَ الكثيرَ؛ فَلْنَستغفِرِ اللهِ دائمًا وأبدًا، ولْيَكُنْ الاِستغفارُ على ألسنَتِنا في كُلِّ أحوالِنا، عسى اللهُ أن يَمحُوَ به آثارَ ذنوبَنا، وكان صلى اللهُ عليه وسلم إذا دخلَ المسجدَ يُسَمِّي ويُصَلِّي على النَّبِيِّ، ثُمَّ يقولُ: "اللَّهُمَّ اِغفِرْ لي ذُنوبِي، وافْتَحْ لي أبوابَ رحمتِك" [حديث]، وإذا خرج قال: "وافتح لي أبوب فضلك" [حديث] أو قال: "اللهم إني أسألك من فضلك" [حديث]، وكان إذا تعارَّ مِن الليلِ أي: تقلب على فراشه، يقولُ: "لا إلهَ إلا اللهُ، وحدَه لا شريك له، له الملكُ، وله الحمدُ، وهو على كُلِّ شيءٍ قديرٌ، الحمدُ لله وسبحانَ الله، ولا إلهَ إلا اللهُ، واللهُ أكبرُ، ولا حولَ ولا قُوَّةَ إلا بالله"، فقال صلى اللهُ عليه وسلَّم: "مَن قالها؛ فإنَّ دُعاء استُجِيبَ له، وإن تَوَضَّأَ وصَلَّى تُقُبِّلت صلاتُه"، هكذا الاستغفارُ يَصحَبُك وأنتَ على فِراشك، وفي قِيامِك وقُعودِك، وفي كُلِّ أحوالِك، لِيَكُنْ الاِستغفارُ دأبُك؛ لأنَّ استغفارَك يَدُلُّ على استحضارِ عَظَمَةِ مَن يَعلمُ سِرَّك ونَجْواكَ، ويَطَّلِعُ على أحوالِك كُلِّها، ويَراك حِينَ تَقومُ، وتَقَلُّبَك في الساجدين، إنَّ اِستغفارَك له قوةُ إيمانٍ منك؛ فَاسْتَغْفِرْ اللهَ، وتُبْ إليه دائمًا وأبدًا، فنحنُ مُقَصِرون، ومُسيئون، ومُذنِبون، ونَسألُ اللهَ التَّجاوُزَ عمَّا وقعَ مِنَّا مِن الإساءةِ والتقصيرِ، وأن يَغفِرَ اللهُ ذنوبَنا، ويُقيلَ عَثَراتِنا، ويُوّفِّقَنا لتوبةٍ نصوحٍ قبلَ لقاءه لقائِهِ.
بارك اللهُ لي ولكم في القرآنِ العظيمِ، ونفعَنِي وإيَّاكم بما فيه من الآياتِ والذكر الحكيمِ، أقولُ قولي هذا واستغفر أستغْفِرُ اللهَ العظيمَ الجليلَ لِي ولكم، ولسائرِ المسلمينَ مِن كُلِّ ذنبٍ؛ فاستغفِروه وتوبوا إليه أنه إنه هو الغفورُ الرحيمُ.
الخطبة الثانية:
الحمدُ لله، حمدًا كثيرًا، طيِّبًا مباركًا فيه، كما يُحِبُّ ربُّنا ويَرضى، وأشهدُ ألا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أن محمَّدًا عبدُه ورسولُه، صلَّى اللهُ عليه، وعلى آله وصحبِه، وسلّمَ تسليمًا كثيرًا إلى يومِ الدينِ، أما بعدُ:
فيا أيُّها الناسُ، اتَّقوا اللهَ تعالى حقَّ التقوى.
عِبادَ الله، إنَّ هناك نوع نوعًا مِن الاستغفارِ، يَنبغِي للمسلمِ أن يُحافِظَ عليه دائما، وهو سيِّدُ الاِستغفارِ وأجمعُه، مَن قاله في يومِه، فمات في يومِه دخلَ الجَنَّةَ، ومن قالها قاله في ليلتِهِ فماتَ مِن ليلتِه دخلَ الجنَّةَ، هو سيِّدُ الاِستغفارِ: "اللَّهُمَّ أنتَ رَبِّي لا إلهَ إلا أنتَ خَلَقْتَنِي وأنا عبدُك وأنا على عهدِك ووعدِك ما استطعتُ، أعوذُ بِك ربِّي مِن شَرِّ ما صنعتُ، أبوءُ لك ربِّي بنِعمتِك عليَّ، وأبوءُ بِذنبِي؛ فاغفِر لي؛ فإنه لا يغفِرُ الذُّنوبَ إلا أنت"
أيُّها المسلمُ، ولِلاِستغفارِ أثرٌ في مَحْوِ السَّيِّئاتِ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ) [التحريم:8]، وللاستغفارِ أثرٌ في قوَّةِ البَدَنِ وسلامَتِه، وتَمَتُّعِ الإنسانِ بقُِواهُ (وَأَنْ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعاً حَسَناً إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ) [هود:52]، وقال هودٌ عليه السلامٌ: (وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ) [هود:52]، والاستغفارُ سببٌ في كثرةِ الرِّزقِ والولدِ، يقولُ نوحٌ عليه السلامُ: (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً* يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً* وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً) [نوح:11]، وصالحٌ عليه السلامُ يقولُ لقومِهِ: (فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ) [هود:61]، وشعيبٌ يقولُ: (وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ) [هود:90]، فبِالاستغفارِ تحصُلُ الرَّحمةُ والمَوَّدَةُ، ويُجاب الدعاءُ، ويُبارِكُ في الرِّزقِ، بالاستغفار تذهبُ الهمومُ والأحزانُ (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً* وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) [الطلاق:2]، وفي الحديث: "مَن لَزِمَ الاستغفارَ جعلَ اللهُ له مِن كُلِّ هَمٍّ فَرَجًا، ومِنْ كُلِّ ضِيقٍ مَخْرَجًا، ومِن كُلِّ بلاءِ عافيةً، وارْزقهُ مِن حيثُ لا يَحتسِبُ"، وبالاستغفارِ يُمْحى عنك فَلَتاتُ لسانِك، وما قد تقولُه لأهلِك، قال حُذيفةُ بنُ اليمانِ رضيَ اللهُ عنه: كنت ذَرِبَ اللسانِ على أهلي؛ فسألتُ النَّبِيَّ، فقلتُ: أخشى أن أكونَ مِن أهلِ النَّارِ إِنِّي ذَرِبُ اللِّسانِ على أهلي، قال: "أَيْنَكَ والاستغفارَ"، فبِالاِستِغفارِ تُمْحى الخَطايا وبالاستغفارِ تُرفَعُ الدَّرجاتُ، وبِالاِستغفارِ تُقالُ العَثَراتُ، وبالاستغفار يُبارَك في الرِّزقِ والمالِ والولدِ، وبالاستغفارِ تُفَرَّجُ الهمومُ، وتَنكَشِفُ الغمومُ، ويَنالُ العبدُ الرَّاحةَ، وقُرَّةَ العينِ؛ فاستغفروا ربَّكم دائمًا وأبدا، فنسألُه تعالى أن يَغفِرَ لنا ذُنوبَنا، وخطايانا، ويُصلِحَ شأنَنا، ويَجعَلَنا مِن أهلِ الخيرِ والصَّلاحِ.
نبيُّنا صلى اللهُ عليه وسلم يقولُ: "إنَّهُ لَيُرانُ على قَلبِي، وإنِّي لاستغفر لأستغْفِرُ اللهَ في اليومِ مائةَ مَرَّةٍ"، هكذا يقولُ المغفورُ له ما تقدَّمَ مِن ذنبِه وما تَأَخَّرَ، وفي الحديث: "إن العبد إذا أذن بذنبًا نُكِتَ في قلبِه نُكتةٌ سوداءُ، فإن نَزَعَ ونَدِمَ مُحِيَتْ، وإنْ عادَ زادتْ حتى تكونَ كالرَّانِ"، قال اللهُ: (كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) [المطففين:14]، فَاستَغْفِروا اللهَ إخواني دائمًا، واجْعَلُوهُ على لفظات ألسنتكم دائما يمحو الله بها خطاياكم ويبارك في أعمالكم وأرزاقكم وأولادكم ويوفقكم لأعمال صالحة؛ لأنَّ اِستغفارَكم لِرَبِّكم دليلٌ على الرَّغبةِ فيما عِندَهُ، دليلٌ على الإيمانِ به، دليلٌ على الخَوْفِ منه، نسألُ اللهَ لنا ولكم مَزيدًا مِن الخوفِ والتوفيق؛ إنهُ على كُلِّ شيءٍ قديرٌ.
واعلموا رَحِمَكم اللهُ أنّ أحسنَ الحديثِ كتابُ الله، وخيرَ الهدي هديُ محمدٍ صلى اللهُ عليه وسلم، وشرَّ الأمورِ محدثاتُها، وكلَّ بدعةٍ ضلالةٌ، وعليكم بجماعةِ المُسلمينَ، فإنّ يدَ اللهِ على الجماعةِ؛ ومن شذَّ شذَّ في النار، وصَلُّوا رَحِمَكُم اللهُ على مُحَمَّدِ بنِ عبدِ الله، كما أمَرَكُم بذلك ربُّكم، قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب:٥٦].
اللَّهُمَّ صلِّ وسلِّم، وبارِك على عبدِك ورسولِك محمدٍ، وارضَ اللَّهُمَّ عن خُلفائِه الراشدين الأئمةِ المَهدِيِّين، أبي بكر، وعمرَ، وعثمانَ، وعليٍّ، وعَن سائرِ أصحابِ نبيِّك أجمعين، وعن التابِعين، وتابِعيهم بإحسانٍ إلى يومِ الدين، وعنَّا معهم بعفوِك، وكرمِك، وجودِك، وإحسانِكَ، يا أرحمَ الراحمين.
اللهم أعِزَّ الإسلامَ والمسلمين، وأذِلَّ الشركَ والمُشرِكين، ودمِّرْ أعداءَ الدين، وانصُرْ عبادَك المُوَحِّدين، واجعلِ اللَّهُمَّ هذا البلدَ آمنًا مُطمئِنًا، وسائرَ بلاد المسلمين، يا ربَّ العالمين، اللَّهمَّ آمِنَّا في أوطانِنا، وأصلحْ أئمتََََّنا ووُلاةَ أمرِنا، اللهمَّ وفِّقْهُم لما فيه خير الإسلامِ والمُسلمين، اللَّهمّ وفِّقْ إمامَنا إمامَ المسلمينَ، عبدَ الله بنَ عبدِ العزيزِ لكلِّ خير، اللَّهمَّ أَمِدَّهُ بعونِك، وتوفيقِك، وتأييدِك، وبارك له في عمره وعمله، اللهمَّ اِجمَعْ به كلمةَ الأُمَّةِ، ووَحِّدْ به صُفوفَها على الخيرِ والتقوى، اللّهُمَّ شُدَّ عَضُدَهُ بوليِّ عهدِه سلطانَ بنِِ عبدِ العزيزِ، وبارِك له في عُمُرِه وعملِه، وأمِدَّهُ بالصِّحةِ والسَّلامةِ والعافِيةِ وارْزُقهُ الإخلاصِ في القولِ والعملِ، ووَفِّقْ النائبَ الثانيَ لكلِّ خيرٍ، وأعِنْهُ على مَسؤولِيَّتِه؛ إنك على كُلِّ شيءٍ قديرٌ، (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) [الأحزاب:٥٦] (رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ) [الأعراف:23]، ربَّنا آتِنا في الدنيا حسنةً، وفي الآخرة حسنةً، وقِنا عذابَ النار.
عبادَ الله، (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [النحل:90]، فاذكروا اللهَ العظيمَ الجليلَ يذكُرْكم، واشكُروه على عُمومِ نعمِه يزِدْكم، ولذِكْرُ اللهِ أكبرُ، واللهُ يعلمُ ما تصنعون.
منزلةُ الاستغفار، وفضلُه
أمَّا بعدُ:
فيا أيُّها الناسُ، اتَّقوا اللهَ تعالى حَقَّ التقوى.
عبادَ الله، إنَّ الاستغفارَ عبادةٌ مرتبطةٌ بالتوحيدِ؛ فجديرٌ بالمسلمِ أن يعرفَ أهميَّةَ الاستغفارِ وصفةَ هذا الاستغفارِ، والنتائجَ المترتبةَ عليه، والمناسباتِ التي شُرِعَ فيها الاستغفارُ بخصوص.
أيُّها المسلمُ، إنَّ الاستغفارَ دأْبُ أنبياءِ اللهِ والصالحينَ من عبادِهِ، وقد بَيَّنَ اللهُ لنا في كتابِهِ العزيزِ، ما كان عليه أنبياؤُه ورسلُهُ، من استغفارِه و اللَّجاءَةِ إليه، والتوبةِ إليه، قال جَلَّ وعلا مبين مبيِّنًا حالَ الأبوينِ آدمَ وحواءَ بعدما وقعا فيما وقعا فيه من المعصية، أنهما قالا: (رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ) [الأعراف:23]، فانظرْ إلى هذا الأدَبِ الرَّفيعِ، وهذا الاِلتجاءِ والاعترافِ بالذَّنبِ والخطأ، ونسبةِ ذلك إلى الإنسانِ، (رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ)، وقال نوحٌ عليه السلامُ: (وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنْ الْخَاسِرِينَ) [هود:47]، بعدما قال: (رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ* قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنْ الْجَاهِلِينَ) [هود:45-46]، فقال بعدها عليه السلام: (وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنْ الْخَاسِرِينَ)، وقال أيضًا كما أخبرَ اللهُ عنه: (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِي مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ) [نوح:28] ، وأخبرنا جَلَّ وعلا عن داودَ عليه السلام، قال: (فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ) [ص:24]، وقال عن نبيِّهِ سُلَيمانَ أنه قال: (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ) [ص:35]، وأمرَ نبِيَّه صلى اللهُ عليه وسلم خَاتَمَ الأنبياءِ والمرسلين بقوله: (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ) [محمد:19]، وأخبرَنا تعالى عن حالِ المُتَّقِينَ، وعن استغفارِهم لربِّهم، قال جَلَّ وعلا: (الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ) [آل عمران:]17، وقال: (كَانُوا قَلِيلاً مِنْ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ* وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) [الذاريات:17-18]، فكانوا يقومون من الليلِ، فإذا انتهت صلاتُهم خَتموا ذلك بالاستغفارِ وذِكرِ اللهِ، حتى يَسلَموا من العُجبِ بأنفسِهم، ويكونُ الاعترافُ بفضلِ اللهِ عليهم.
أيُّها المسلمُ، وأخبرَ اللهُ عن حالِ عبادِهِ المؤمنينَ بقوله الذين وَعَدَهم جنَّاتٍ عرضُها كعَرْضِ السماواتِ والأرضِ، قال: (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ) [آل عمران:135]، وقال آمرًا بالاستغفارِ: (وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [البقرة:199].
أيُّها المسلمُ، أيُّها المسلمُ، اِسمَعْ نبيَّك يقولُ عن ربِّهِ جَلَّ وعلا يقول: "يا عِبادِي إنَّكم تُخطِئون بالليلِ والنَّهارِ، وأنا أَغفِرُ الذُّنوبَ جميعًا فَاسْتَغْفِرونِي أغفِرْ لكم".
أيُّها المسلمُ، أيُّها المسلمُ، إنَّ الاِستغفارَ مشروعٌ لنا في كُلِّ أحوالِنا، مهما نَكُنْ عليهِ من حالٍ، فإن كنَُّا مِن المُتَّقِينَ المُستقيمينَ كان الاستغفارُ لنا شُكرًا للهِ على فضلهِ، وشكرًا للهِ على تَوفِيقِهِ، حتى يَذهَبَ العجبُ والكِبْرُ مِن أنفُسِنا، وإن كُنَّا مُخطِئينَ؛ ففي الاستغفارِ تكفيرٌ لخَطايانا، وجبرٌ لنَقْصِ أعمالِنا.
أيُّها المسلمُ، وإنَّ الاِستغفارَ مشروعٌ دائمًا وأبدًا، ولكنْ هناك أوقاتٌ يَتَأَكَّدُ فيها الاِستغفارُ فقد جَعَلَ اللهُ الاستغفارَ خِتامًا للأعمالِ الصالحةِ كُلِّها، فهذه الصلاةُ يُؤَدِّيها المسلمُ، وبعدَما يُسَلِّمُ عن يمينِهِ ويسارِه، يقولُ: " أَستَغْفِرُاللهَ، أَستَغْفِرُ اللهَ، أَستَغْفِرُ اللهَ"، هكذا هديُ نَبِيِّنا صلى اللهُ عليه وسلم إذا سَلَّمَ عن يمينِه وشمالِه بَقِيَ مُستَقْبِلًا القبلةَ قَدْرَ ما يقول: " أَستَغْفِرُ الله، أَستَغْفِرُ الله، أَستَغْفِرُ الله، اللهمَّ أنت السلامُ، ومِنك السلامُ، تباركتَ يا ذا الجَلالِ والإِكرامِ"، ذلك أنَّ المسلمَ يُؤَدِّي الصَّلاةَ وهو يَخشى على نفسِهِ من تقصيرٍ في الصلاةِ وذُهولِ فكرِه بالصلاة، ولهذا في الحديث: "إنَّ العبدَ ليُصَلِّي الصَّلاةَ ما يُكتبُ له إلا نِصفَها، إلا ثُلُثُها، إلا رُبعُها، أو قال: إلا عُشرُها"، فالاستغفارُ عقبَ الفرائضِ سؤالُ اللهِ التَّجاوُزَ عمَّا وقعَ مِنَّا من أخطاءٍ في صلاتِنا، بتقصيرٍ في الواجبِ، أو قِلَّةِ خُشوعٍ فيها، وشُرِعَ لنا الاِستغفارُ في قِيامِ اللَّيلِ كما قال اللهُ: (وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) [الذاريات:18]، وشُرِعَ لنا أن نَخْتِمَ مناسِكَ حَجِّنا بالاِستغفارِ (ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [البقرة:199]، وشُرِعَ لنا أن نَستغفِرَ اللهَ عندَ قِيامِنا مِن مجالِسِنا؛ لأنَّ مجالسَنا لا تَخلو من لَغَطٍ، وقِيلٍ وقالٍ، وما لا خيرَ فيه، فإذا قام المسلمُ مِن مجلسِهِ قال: "سُبحانَكَ اللَّهُمَّ وبِحمدِكَ، أشهدُ أن لا إلهَ إلا أنتَ، استغفرك أَستغفِركُ وأتوبُ إليك"، فإنْ كان مجلس حق كان كالطّابَعِ عليه، وإنْ كان غيرَ ذلك كان كفَّارةً له.
وشُرِعَ لنا أن نَستغفِرَ اللهَ إذا خرَجْنا من قضاءِ حاجتِنا من بيتِ الخلاءِ، كان صلى اللهُ عليه وسلم إذا قَضى حاجَتَه وخرجَ من الخلاْْْءِ، قال: "غُفرانَك"، قال العلماءُ: مُناسَبَةُ ذلك: "غُفرانَك" أي: غُفرانَك عن التقصيرِ في شكرِ نِعَمِك، فكَمْ وهبتَ لنا الطعامَ، ويَسَّرْتَ لنا تناوُلَه، وأخذَ الكل كُلُّ عُضْوٍ مِن أعضاءِ البدنِ نَصِيبَهُ، ثم خَرَجت فُضولاتِ ذلك الأمرِ؛ فنشكرُ اللهَ على هذه النعمةَ، وعلى هذا الفضلِ.
وشُرِعَ للمسلمِ أن يستغفرَ اللهَ في آخرِ عُمُرِهِ وعِندَ كِبَرِ سنِّه أن يكونُ الاستغفارُ دائمًا على لسانِه؛ ليَختِمَ اللهُ له بفضلِهِ بخاتِمَةِ خيرٍ؛ فلمَّا أنزلَ اللهُ على نبِيِّهِ صلى اللهُ عليه وسلم: (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ* وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً* فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً)، كان صلى اللهُ عليه وسلم بعدَ ذلك يُكثِرُ أن يقول: "سُبحانك اللَّهُمَّ وبِحمدِك استغفر أستغفِرُ اللهَ وأتوبُ إليه" داخلًا وخارجًا، وقائمًا وقاعدًا ، تَسألُهُ عائشةُ عن ذلك؛ فقال: "علامةٌ لي رأيتُها في أمتي (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ)؛ فأُمِرْتُ بالاِستغفارِ"، فكان كثيرَ الاِستغفارِ صلى اللهُ عليه وسلَّم، وكان يُكثِرُ في ركوعِه وسجودِه في صلاتِه أن يقولَ: "سُبحانك اللَّهُمَّ وبِحَمْدِك، اللَّهُمَّ اِغفِرْ لي"، وكانوا يَعُدُّون له في المجلسِ الواحدِ مائةَ مَرَّةٍ: "ربِّ اِغفِرْ لي وتُبْ عليَّ؛ إنَّك أنت التَّوَّابُ الرَّحيمُ"، وشُرِعَ لنا الاِستغفارُ في آخِرِ الصَّلاةِ قبلَ السَّلامِ، فكان صلى اللهُ عليه وسلم يقولُ -قبل أن يُسَلِّمَ-: "اللَّهُمَّ اِغفِرْ لي ما قدَّمْتُ، وما أَخَّرْتُ، وما أَسْرَرْتُ، وما أَعْلَنْتُ، وما أَسْرَفْتُ، وما أنتَ أعلمُ بهِ مِنِّي، أنتَ المُقَدِّمُ، وأنت المُؤَخِّرُ، لا إلهَ إلا أنتَ"، وربَّما قال: "اللَّهُمَّ اِغفِرْ لي خَطيئَتِي وجَهْلِي، وإِسْرَافِي فِي أَمْرِي، وجميعُ ذلك عِندي، وما أنتَ أَعْلَمُ به مِنِّي، اللَّهُمَّ اِغْفِرْ لي جِدّي وهَزْلِي، وخَطَئِي وعَمْدِي، وكُلُّ ذلك عِنْدِي، اللَّهُمَّ اِغْفِرْ لِي ما قّدَّمْتُ، وما أَخَّرْتُ، وما أَسْرَرْتُ، وما أَعْلَنْتُ، وما أنتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي، أنتَ المُقَّدِمُ، وأنتَ المُؤَخِّرُ، وأنت على كُلِّ شيءٍ قديرٌ".
أّخِي المسلمُ، إنَّ الاِستِغْفارَ يَمحو الذُّنوبَ والخَطايا؛ فأكثِرْ مِن الاِستغفارِ دائمًا وأبدا، ربُّك يقولُ: "يا عِبادي إنَّكُم تُخْطِئونَ بالليلِ والنَّهارِ، وأنا أَغْفِرُ الذُّنوبَ جَميعًا؛ فاستغفروني أَغْفِرْ لكم" [حديث قدسي]، أَجَلْ أَخِي نُخْطِئُ دائمًا في ليلِنا ونهارِنا، نُخْطِئُ أخطاءً، لو حَسِبْناها لرَأَيْنا الهَوْلَ العَظِيمَ، كم نُخطِئُ بألسِنَتِنا؛ فنغتابُ مسلم مسلمًا،ونَعيبُهُ، ونَلمِزُهُ، ونقولُ فيه ما هو بَراءٌ منه، وكم نُخطِئُ بألسنَتِنا كَذِبًا أحيانًا، ونميمةَ أحيانًا، وكم نُخطِئُ بألسنَتِنا بَذاءةً بالأقوالِ، وفحشًا فيما نقولُ كم نُخطِئُ بألسنَتِنا الشيءَ الكثيرَ، لو تَعَقَّلنا لعَلِمْنا ذلك، ونَتَذَكَّرُ قولَه: (مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) [ق:18]، كم نخطئ بأبصارنا؛ فنَطَّلِعُ على ما حُرِّمَ علينا النظرُ إليه (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ) [النور:30]، وكم نُخْطِئُ فَنَسمعُ بآذانِنا ما لا خيرَ في سماعِهِ، وكم نُخْطِئُ فَيجولُ في أفكارِنا أمورٌ عظيمةٌ، نُحاوِلُ تَنفيذَها، نُفَكِّرُ فيها، ويُخشى مِن تنفيذِها؛ فنستغْفِرُ اللهَ مِن خَطَراتِ أفكارِنا، وما اِنْطَوَت عليه ضمائِرُنا مِمَّا يُخالِفُ شرعَ اللهِ.
إنَّ الاِستغفارَ يَمحو ذُنوبَنا، ويُخَفِّفُ أَوزارَنا، ويُكْسِبُنا الخيرَ الكثيرَ؛ فَلْنَستغفِرِ اللهِ دائمًا وأبدًا، ولْيَكُنْ الاِستغفارُ على ألسنَتِنا في كُلِّ أحوالِنا، عسى اللهُ أن يَمحُوَ به آثارَ ذنوبَنا، وكان صلى اللهُ عليه وسلم إذا دخلَ المسجدَ يُسَمِّي ويُصَلِّي على النَّبِيِّ، ثُمَّ يقولُ: "اللَّهُمَّ اِغفِرْ لي ذُنوبِي، وافْتَحْ لي أبوابَ رحمتِك" [حديث]، وإذا خرج قال: "وافتح لي أبوب فضلك" [حديث] أو قال: "اللهم إني أسألك من فضلك" [حديث]، وكان إذا تعارَّ مِن الليلِ أي: تقلب على فراشه، يقولُ: "لا إلهَ إلا اللهُ، وحدَه لا شريك له، له الملكُ، وله الحمدُ، وهو على كُلِّ شيءٍ قديرٌ، الحمدُ لله وسبحانَ الله، ولا إلهَ إلا اللهُ، واللهُ أكبرُ، ولا حولَ ولا قُوَّةَ إلا بالله"، فقال صلى اللهُ عليه وسلَّم: "مَن قالها؛ فإنَّ دُعاء استُجِيبَ له، وإن تَوَضَّأَ وصَلَّى تُقُبِّلت صلاتُه"، هكذا الاستغفارُ يَصحَبُك وأنتَ على فِراشك، وفي قِيامِك وقُعودِك، وفي كُلِّ أحوالِك، لِيَكُنْ الاِستغفارُ دأبُك؛ لأنَّ استغفارَك يَدُلُّ على استحضارِ عَظَمَةِ مَن يَعلمُ سِرَّك ونَجْواكَ، ويَطَّلِعُ على أحوالِك كُلِّها، ويَراك حِينَ تَقومُ، وتَقَلُّبَك في الساجدين، إنَّ اِستغفارَك له قوةُ إيمانٍ منك؛ فَاسْتَغْفِرْ اللهَ، وتُبْ إليه دائمًا وأبدًا، فنحنُ مُقَصِرون، ومُسيئون، ومُذنِبون، ونَسألُ اللهَ التَّجاوُزَ عمَّا وقعَ مِنَّا مِن الإساءةِ والتقصيرِ، وأن يَغفِرَ اللهُ ذنوبَنا، ويُقيلَ عَثَراتِنا، ويُوّفِّقَنا لتوبةٍ نصوحٍ قبلَ لقاءه لقائِهِ.
بارك اللهُ لي ولكم في القرآنِ العظيمِ، ونفعَنِي وإيَّاكم بما فيه من الآياتِ والذكر الحكيمِ، أقولُ قولي هذا واستغفر أستغْفِرُ اللهَ العظيمَ الجليلَ لِي ولكم، ولسائرِ المسلمينَ مِن كُلِّ ذنبٍ؛ فاستغفِروه وتوبوا إليه أنه إنه هو الغفورُ الرحيمُ.
الخطبة الثانية:
الحمدُ لله، حمدًا كثيرًا، طيِّبًا مباركًا فيه، كما يُحِبُّ ربُّنا ويَرضى، وأشهدُ ألا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أن محمَّدًا عبدُه ورسولُه، صلَّى اللهُ عليه، وعلى آله وصحبِه، وسلّمَ تسليمًا كثيرًا إلى يومِ الدينِ، أما بعدُ:
فيا أيُّها الناسُ، اتَّقوا اللهَ تعالى حقَّ التقوى.
عِبادَ الله، إنَّ هناك نوع نوعًا مِن الاستغفارِ، يَنبغِي للمسلمِ أن يُحافِظَ عليه دائما، وهو سيِّدُ الاِستغفارِ وأجمعُه، مَن قاله في يومِه، فمات في يومِه دخلَ الجَنَّةَ، ومن قالها قاله في ليلتِهِ فماتَ مِن ليلتِه دخلَ الجنَّةَ، هو سيِّدُ الاِستغفارِ: "اللَّهُمَّ أنتَ رَبِّي لا إلهَ إلا أنتَ خَلَقْتَنِي وأنا عبدُك وأنا على عهدِك ووعدِك ما استطعتُ، أعوذُ بِك ربِّي مِن شَرِّ ما صنعتُ، أبوءُ لك ربِّي بنِعمتِك عليَّ، وأبوءُ بِذنبِي؛ فاغفِر لي؛ فإنه لا يغفِرُ الذُّنوبَ إلا أنت"
أيُّها المسلمُ، ولِلاِستغفارِ أثرٌ في مَحْوِ السَّيِّئاتِ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ) [التحريم:8]، وللاستغفارِ أثرٌ في قوَّةِ البَدَنِ وسلامَتِه، وتَمَتُّعِ الإنسانِ بقُِواهُ (وَأَنْ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعاً حَسَناً إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ) [هود:52]، وقال هودٌ عليه السلامٌ: (وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ) [هود:52]، والاستغفارُ سببٌ في كثرةِ الرِّزقِ والولدِ، يقولُ نوحٌ عليه السلامُ: (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً* يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً* وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً) [نوح:11]، وصالحٌ عليه السلامُ يقولُ لقومِهِ: (فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ) [هود:61]، وشعيبٌ يقولُ: (وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ) [هود:90]، فبِالاستغفارِ تحصُلُ الرَّحمةُ والمَوَّدَةُ، ويُجاب الدعاءُ، ويُبارِكُ في الرِّزقِ، بالاستغفار تذهبُ الهمومُ والأحزانُ (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً* وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) [الطلاق:2]، وفي الحديث: "مَن لَزِمَ الاستغفارَ جعلَ اللهُ له مِن كُلِّ هَمٍّ فَرَجًا، ومِنْ كُلِّ ضِيقٍ مَخْرَجًا، ومِن كُلِّ بلاءِ عافيةً، وارْزقهُ مِن حيثُ لا يَحتسِبُ"، وبالاستغفارِ يُمْحى عنك فَلَتاتُ لسانِك، وما قد تقولُه لأهلِك، قال حُذيفةُ بنُ اليمانِ رضيَ اللهُ عنه: كنت ذَرِبَ اللسانِ على أهلي؛ فسألتُ النَّبِيَّ، فقلتُ: أخشى أن أكونَ مِن أهلِ النَّارِ إِنِّي ذَرِبُ اللِّسانِ على أهلي، قال: "أَيْنَكَ والاستغفارَ"، فبِالاِستِغفارِ تُمْحى الخَطايا وبالاستغفارِ تُرفَعُ الدَّرجاتُ، وبِالاِستغفارِ تُقالُ العَثَراتُ، وبالاستغفار يُبارَك في الرِّزقِ والمالِ والولدِ، وبالاستغفارِ تُفَرَّجُ الهمومُ، وتَنكَشِفُ الغمومُ، ويَنالُ العبدُ الرَّاحةَ، وقُرَّةَ العينِ؛ فاستغفروا ربَّكم دائمًا وأبدا، فنسألُه تعالى أن يَغفِرَ لنا ذُنوبَنا، وخطايانا، ويُصلِحَ شأنَنا، ويَجعَلَنا مِن أهلِ الخيرِ والصَّلاحِ.
نبيُّنا صلى اللهُ عليه وسلم يقولُ: "إنَّهُ لَيُرانُ على قَلبِي، وإنِّي لاستغفر لأستغْفِرُ اللهَ في اليومِ مائةَ مَرَّةٍ"، هكذا يقولُ المغفورُ له ما تقدَّمَ مِن ذنبِه وما تَأَخَّرَ، وفي الحديث: "إن العبد إذا أذن بذنبًا نُكِتَ في قلبِه نُكتةٌ سوداءُ، فإن نَزَعَ ونَدِمَ مُحِيَتْ، وإنْ عادَ زادتْ حتى تكونَ كالرَّانِ"، قال اللهُ: (كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) [المطففين:14]، فَاستَغْفِروا اللهَ إخواني دائمًا، واجْعَلُوهُ على لفظات ألسنتكم دائما يمحو الله بها خطاياكم ويبارك في أعمالكم وأرزاقكم وأولادكم ويوفقكم لأعمال صالحة؛ لأنَّ اِستغفارَكم لِرَبِّكم دليلٌ على الرَّغبةِ فيما عِندَهُ، دليلٌ على الإيمانِ به، دليلٌ على الخَوْفِ منه، نسألُ اللهَ لنا ولكم مَزيدًا مِن الخوفِ والتوفيق؛ إنهُ على كُلِّ شيءٍ قديرٌ.
واعلموا رَحِمَكم اللهُ أنّ أحسنَ الحديثِ كتابُ الله، وخيرَ الهدي هديُ محمدٍ صلى اللهُ عليه وسلم، وشرَّ الأمورِ محدثاتُها، وكلَّ بدعةٍ ضلالةٌ، وعليكم بجماعةِ المُسلمينَ، فإنّ يدَ اللهِ على الجماعةِ؛ ومن شذَّ شذَّ في النار، وصَلُّوا رَحِمَكُم اللهُ على مُحَمَّدِ بنِ عبدِ الله، كما أمَرَكُم بذلك ربُّكم، قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب:٥٦].
اللَّهُمَّ صلِّ وسلِّم، وبارِك على عبدِك ورسولِك محمدٍ، وارضَ اللَّهُمَّ عن خُلفائِه الراشدين الأئمةِ المَهدِيِّين، أبي بكر، وعمرَ، وعثمانَ، وعليٍّ، وعَن سائرِ أصحابِ نبيِّك أجمعين، وعن التابِعين، وتابِعيهم بإحسانٍ إلى يومِ الدين، وعنَّا معهم بعفوِك، وكرمِك، وجودِك، وإحسانِكَ، يا أرحمَ الراحمين.
اللهم أعِزَّ الإسلامَ والمسلمين، وأذِلَّ الشركَ والمُشرِكين، ودمِّرْ أعداءَ الدين، وانصُرْ عبادَك المُوَحِّدين، واجعلِ اللَّهُمَّ هذا البلدَ آمنًا مُطمئِنًا، وسائرَ بلاد المسلمين، يا ربَّ العالمين، اللَّهمَّ آمِنَّا في أوطانِنا، وأصلحْ أئمتََََّنا ووُلاةَ أمرِنا، اللهمَّ وفِّقْهُم لما فيه خير الإسلامِ والمُسلمين، اللَّهمّ وفِّقْ إمامَنا إمامَ المسلمينَ، عبدَ الله بنَ عبدِ العزيزِ لكلِّ خير، اللَّهمَّ أَمِدَّهُ بعونِك، وتوفيقِك، وتأييدِك، وبارك له في عمره وعمله، اللهمَّ اِجمَعْ به كلمةَ الأُمَّةِ، ووَحِّدْ به صُفوفَها على الخيرِ والتقوى، اللّهُمَّ شُدَّ عَضُدَهُ بوليِّ عهدِه سلطانَ بنِِ عبدِ العزيزِ، وبارِك له في عُمُرِه وعملِه، وأمِدَّهُ بالصِّحةِ والسَّلامةِ والعافِيةِ وارْزُقهُ الإخلاصِ في القولِ والعملِ، ووَفِّقْ النائبَ الثانيَ لكلِّ خيرٍ، وأعِنْهُ على مَسؤولِيَّتِه؛ إنك على كُلِّ شيءٍ قديرٌ، (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) [الأحزاب:٥٦] (رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ) [الأعراف:23]، ربَّنا آتِنا في الدنيا حسنةً، وفي الآخرة حسنةً، وقِنا عذابَ النار.
عبادَ الله، (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [النحل:90]، فاذكروا اللهَ العظيمَ الجليلَ يذكُرْكم، واشكُروه على عُمومِ نعمِه يزِدْكم، ولذِكْرُ اللهِ أكبرُ، واللهُ يعلمُ ما تصنعون.