مزاحه صلى الله عليه وسلم مع الصغار
المبحث الثاني : الأحاديث الواردة في مزاحه صلى الله عليه وسلم مع الصغار .
أن المتأمل لهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في مزاحه ودعابته مع الصبيان يجد أنموذجا فريدا ، فهو مع كونه صلى الله عليه وسلم نبيا ورسولا وقائدا ومعلما، ومربيا لهذه الأمة لم ينس الصبيان علماء المستقبل فكان أرحم الناس بالصبيان والعيال .
وقد أشار النووي إلى أن الحديث يروى: " ما رأيت أحدا أرحم من رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعيال " . صحيح مسلم الفضائل (2316),مسند أحمد بن حنبل (3/112).
وهذا هو المشهور الموجود في النسخ والروايات ، وفي بعض الروايات بالعباد ، ثم قال : ففيه بيان كريم خلقه صلى الله عليه وسلم ورحمته للعيال والضعفاء ، وفيه : فضيلة رحمة العيال والأطفال وتقبيلهم شرح النووي على مسلم 8 \ 85 .
الحديث الأول :
روى البخاري ومسلم بسنديهما إلى أبي التياح قال : سمعت أنس بن مالك رضي الله عنه يقول :"إن كان النبي صلى الله عليه وسلم ليخالطنا حتى يقول لأخ لي صغير : يا أبا عمير ، ما فعل النغير ".
تصغير النغر ، وهو طائر يشبه العصفور، أحمر المنقار ، ويجمع على: نغران . النهاية : 5 \ 86 . والحديث متفق عليه أخرجه البخاري في الأدب ، باب الانبساط إلى الناس : 8 \ 37 ومسلم في كتاب الأدب ، حديث : 3 \ 2150.
قلت : هذا الحديث من الأحاديث التي أفردها العلماء بتآليف خاصة دفاعا عن السنة المطهرة ، فمن العلماء الذين أفردوه . بمؤلف خاص ابن القاص وسمى كتابه : ( فوائد حديث ابن عمير ) وذكر في مقدمة هذا الكتاب سبب تأليفه وأن بعض الناس عاب على أهل الحديث أنهم يروون أشياء لا فائدة فيها ومثل بحديث أبي عمير هذا وقال رحمه الله: أنه استخرج منه ستين وجها من الفقه وسردها جميعا ونحن نذكر بعض ما ذكر فقال: في قوله (وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جاء مزاحه ) ما يدل على أنه كان يمازحه كثيرا ، وإذا كان كذلك كان في ذلك شيئان :
أحدهما: أن الممازحة مع الصبيان مباح .
والثاني : إنها إباحة سنة لا إباحة رخصة؛ لأنها لو كانت إباحة رخصة لأشبه أن لا يكثرها. وفيه ما يدل على حسن الخلق وأنه يجوز أن يختلف حال المؤمن في المنزل عن حاله إذا برز، فيكون في المنزل أكثر مزاحا، وإذا خرج أكثر سكينة ووقارا إلا من طريق الرياء.
وفيه أنه كان من صفاته صلى الله عليه وسلم أنه كان يواسي بين جلسائه حتى يأخذ كل بحظ. وكذلك فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في دخوله على أم سليم، صافح أنسا، ومازح أبا عمير الصغير ، ونام على فراش أم سليم ، حتى نال الجميع من بركته.
الحديث الرابع :
في بيان حرص الصبيان على التقرب من النبي صلى الله عليه وسلم وملاقاتهم له في الطرقات روى ثابت عن أنس رضي الله عنه قال : "أتى علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا ألعب مع الغلمان قال : فسلم علينا . فبعثني إلى حاجة فأبطأت عن أمي . فلما جئت قالت : ما حبسك ؟ قلت : بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم لحاجة قالت : ما حاجته قلت : إنها سر ، قالت لا تحدثن بسر رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدا ".
قال أنس : والله لو حدثت به أحدا لحدثتك يا ثابت . صحيح مسلم فضائل الصحابة (2482).
وقد أجمل القرطبي فوائد هذا الحديث بقوله : فيه دليل على تخلية الصغار ودواعيهم من اللعب والانبساط ولا نضيق عليهم بالمنع مما لا مفسدة فيه ، وفيه دليل على مشروعية السلام على الصبيان، وفائدته تعليمهم السلام وتمرينهم على فعله وإفشائه ... وكتمان أنس سر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أمه ، دليل على كمال عقله .
الحديث السادس:
ومن ملاطفته وتأنيسه للصبيان ما رواه ابن عباس قال : "كنت ألعب مع الصبيان فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فتواريت خلف الباب . قال : فجاء فحطأني حطأة وقال : ( اذهب وادع لي معاوية ) قال : فجئت فقلت : هو يأكل . قال : ثم قال لي : ( اذهب فادع معاوية ) قال : فجئت فقلت : هو يأكل . فقال : ( لا أشبع الله بطنه ) قال ابن المثنى : قلت لأمية : ما حطأني ؟ قال : قفدني قفدة .
قلت : أما فوائد هذا الحديث فأجملها النووي بقوله : فيها جواز ترك الصبيان يلعبون بما ليس بحرام . واعتماد الصبي فيما يرسل فيه من دعاء إنسان ونحوه من حمل هدية وطلب حاجة وأشباهه. وجواز إرسال الصبي غيره ممن يدل عليه في مثل هذا ولا يقال : هذا تصرف في منفعة الصبي ، لأن هذا قدر يسير ورد الشرع بالمسامحة للحاجة ، واطرد به العرف وعمل المسلمين .
----------------------------------
"مجلة البحوث الإسلامية" العدد 68