العناية بتربية النشء :
ومن حكمة الزواج وأهدافه ، العناية بتربية النشء ، فالأسرة ضرورة بشرية لرعاية الأولاد وتربيتهم ، وحفظهم من الضياع ، وحمايتهم والعناية بهم ، منذ لحظة الميلاد الأولى ، وبخاصة إذا علمنا أن حكمة الله تعالى اقتضت احتياج الوليد الإنساني إلى حضانة طويلة .
وتبدأ عملية العناية بالأبناء منذ لحظة الميلاد ، حيث يحتاج الطفل إلى الرضاعة ، ولهذا كفل الإسلام للأطفال حق الرضاعة الطبيعية ، فقال تعالى : (وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ ) سورة البقرة الآية 233 ، وقال الغزالي : " ينبغي للأب أن يراقبه من أول مرة ، فلا يستعمل في حضانته وإرضاعه إلا امرأة صالحة متدينة ، تأكل الحلال ، فإن اللبن الحاصل من الحرام لا بركة فيه " إحياء علوم الدين 3 : 70 ، 71 مختصر منهاج القاصدين 159 ، دراسات في الثقافة الإسلامية 526 . .
وتؤكد الدراسات الدينية ، والطبية ، والنفسية ، أن الرضاعة الطبيعية لها قيمة لدى الطفل ، حيث يحس الطفل من خلالها بالدفء والحب والحنان ، لأن لبن الأم أقوى غذاء جسمي ، وأشهى غذاء نفسي ، فالطفل حين يرضع من أمه ، لا يملأ معدته فحسب ، ولكنه يملأ نفسه سرورا واطمئنانا وأمنا ، " علاوة على أن الرضاعة الطبيعية تعطيه مناعة ضد كثير من أمراض الطفولة ، وتقي الأم نفسها من أمراض الثدي السرطانية " علم نفس النمو ، لأستاذنا د . حامد زهران 119 . .
كما تقوم الأسرة بدور الحضانة للأبناء فيما بعد ، وتوفير الأكل والشرب واللبس والمسكن لهم ، وقد كفل الإسلام لهم هذا الحق في قوله تعالى : (وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ ) سورة الإسراء الآية 31 ، وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته ، فالرجل راع في أهله وهو مسئول عن رعيته ، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها ، والخادم راع في مال سيده ومسئول عن رعيته ، وكلكم راع ومسئول عن رعيته " ، وعن ثوبان رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "أفضل دينار ينفقه الرجل ، دينار ينفقه على عياله " ، وعن يزيد بن مسعود البدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن المسلم إذا أنفق على أهله نفقة وهو يحتسبها كانت له صدقة " ، وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كفى بالمرء إثما أن يضيع من يقوت " ، وفي حديث أبي الدرداء : " أوصاني رسول الله صلى الله عليه وسلم بتسع " . . " وأنفق من طولك على أهلك " ، وقال الثوري : " عليك بعمل الأبطال ، الكسب من الحلال ، والإنفاق على العيال " الجامع لأخلاق الراوي 1 : 98 رقم 47 . .
ولا تقتصر التربية الأسرية للنشء والعناية بهم ، على توفير الأكل والشرب ، واللباس والمسكن ، بحيث يمكن الاستغناء عنها ، بدور المؤسسات والحضانة والملاجئ ، وإنما تمتد أهمية الأسرة إلى تربية الأبناء تربية شاملة ، للوصول بهم إلى النمو المتكامل ، فالطفل يتطلب حاجات فسيولوجية تتعلق بالجسد والأعضاء وحاجات نفسية تتعلق بالشعور والقلب كالحب والتقدير وتأكيد الذات ، وحاجات اجتماعية تتعلق بالواقع كالأمن والانتماء والنجاح والاستقلال ، وتعلم المعايير السلوكية ، واكتساب المعرفة الدينية والتفاعل الاجتماعي والإنساني ، قال ابن عمر : " أدب ابنك فإنك مسئول عنه ماذا أدبته وماذا علمته " تحفة المودود بأحكام المولود 225 . .
وتؤكد الدراسات النفسية ( أن الأطفال الذين ينشئون في ظل الأسرة ينمون نموا يفوق الذين ينشئون في ملاجئ الإيداع . والحضانة والمؤسسات ، أو على يد الشغالات والمربيات ، كما تؤكد تلك الدراسات أن الذين ينشئون بلا أسر ، يعانون من الحرمان الانفعالي ، والجوع العاطفي ، والندوب العقلي ، والعجز في الشخصية ، وعدم الإحساس بالذات ، ولذلك يقوم بعضهم بسلوك عدواني أو سلبي في بعض التصرفات ، يفسر بأنه اعتراض منهم على هذا النوع من التربية ، بل يمكن القول : إن هذا الوضع المناهض للفطرة الأسرية هو المسئول عن بعض الاضطرابات النفسية ، وضياع هذا الجيل الجديد - في الشرق والغرب - وإقباله على تعاطي المخدرات والتورط في الجريمة ، والتمرد على القيم والقانون .
كما ثبت في الدراسات الاجتماعية أن الشغالات والخادمات إذا مكن من الأطفال ، فإنهن يفسدن على الأطفال تربيتهم السوية في الدين واللغة والأخلاق والقيم والسلوك ، وقد يجررن في نهاية المطاف إلى كوارث خلقية ، وباختصار الكلمات ، لا تستطيع محاضن الأرض بالطول والعرض ، أن تقوم مقام الأمومة الحقيقية في الحب والحنو ، ومصداقية التربية ، وسلامة التنشئة ، حتى اعتبرت " أفقر المنازل ، أفضل من أية حضانة أو مؤسسة إيداع " .
********************************
"مجلة البحوث الإسلامية" العدد33