رقابة الأسرة (طرق التضييق على الجريمة في التشريع الجنائي في الإسلام - طرق وقائية-):
والأسرة عندما يدرك أفرادها ما يجب عليهم فهمه من نصوص شرعهم ، ودلالات دينهم ، ويحرصون على ذلك عملا ، فإن نتيجة ذلك الالتزام بالأخلاق ، ومراقبة الأعمال لتزنها من منطلق الفهم الصحيح ، حتى توجه الأبناء منذ حداثة أعمارهم التوجيه السليم ، وتغرس في نفوسهم حب الفضيلة لفضلها ، وعمق أثرها ، وكراهية الرذيلة لسوئها ، وآثار نتائجها ؛ لأن الرذيلة يتمثل فيها شبح الجريمة التي يحسن بالأسرة تجسيمها لدى الناشئة ، وإيصاد الطرق المؤدية إليها ؛ ليكبر هذا الإحساس معهم ، فيرونها شبحا مخيفا ، وعملا رذيلا ، تكبر أحاسيسهم حياله مع الأيام ، حتى إذا كبروا ، وصاروا في موطن المسئولية ، وعمق الفهم ، أدركوا بالدليل الشرعي سر ما رسخ في قلوبهم ، ودور ما أنشئوا عليه من أعمال وأفكار ، حيث أدرك ذلك المفهوم التربوي الشاعر العربي في قوله :
وينشأ ناشئ الفتيان منا
على ما كان عوده أبوه
وأسوة المسلمين في ذلك منهج الصحابة ، وفهم التابعين في حسن توجيههم لأبنائهم ، وتلقينهم الفضيلة طبعا وخلقا وتعويدهم الأعمال الحميدة ترويضا ومتابعة ، حيث تابعوا التطبيق مع أقرب الناس إليهم ، ونشئوا محبين لكل عمل مستحسن ، آلفين كل منهج سليم ، سائرين على الفطرة السليمة ، التي هي تعاليم الإسلام الصحيحة ؛ لأن كل مولود يولد على الفطرة ، والإسلام وتشريعاته هي الفطرة التي فطر الله الناس عليها ، فالأسرة المسلمة في كل عصر ومصر عندما يهتم أربابها بأبنائهم تربية وحسن خلق ، وإنكارا للمنكر ، وتحذيرا من الصغائر ، التي حذر منها رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله : "إياكم ومحقرات الذنوب " أي ما تحتقره النفس ويصغر في العين . فإن هذا من أسباب توفر البيئة الصالحة ، التي تبغض الجريمة ، وتنكر الجنوح إليها ؛ لأن صلاح الأحداث ، وتعظيمهم شرائع الله ، والوقوف عند حدوده ، دافعه الزاجر الإيماني ، والتربية السليمة التي حرصت الأسرة على تمكينه في جوانب البيت ، ضمن التربية الأولية التي يلقنها الآباء والأمهات لأبنائهم ، فالكبير يمتثل ويوجه ويضرب النموذج الصالح بالقدوة والالتزام ، أما الصغار فيبين لهم أن ذلك العمل ما هو إلا استجابة لشرع الله الذي جاء به الإسلام تربية وتوجيها وتعليما وتطبيقا . فالصغير عندما يتعود ذلك عملا ، وتنطبع به أخلاقه سلوكا ، فإن الأمر سيعظم في قلبه ، والمصدر الذي جاء منه وهو كتاب الله ، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، الذي استجاب من أجلها ، سيكون له مكانة راسخة في أعماقه ؛ لأن هذا من تعظيم حرمات الله ، كما قال تعالى : سورة الحج الآية 30 ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ .
وقوله سبحانه : ( وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ ) سورة الحج الآية 32 إن الأسرة التي تحرص على غرس الروح الإيمانية في قلوب أبنائها ، منذ تفتح براعمهم ، فإنما تحصنهم لمجابهة الحياة ، والاستعداد لإدراك المخاطر ؛ لأن الإيمان بالله وبكتبه وبملائكته وبرسله ، وباليوم الآخر ، وبالقدر خيره وشره ، ترسيخ هذا الإيمان يعطي الأبناء سلاحا قويا يدفعهم للعمل ، وينمي عندهم بغض الشر ، وإدراك خطره ، ويحبب إليهم الخير ، ويرغبهم في البحث عن مداخله ، والاستئناس بأهله ؛ لأن من شب على شيء شاب عليه ، وبذلك يسلم الأحداث- بتوفيق من الله- من الجنوح في صغرهم ، ومن ثم الابتعاد عن الجريمة في كبرهم ؛ لأنها لم تجد في قلوبهم بابا مفتوحا ، ولا ارتياحا يدفعها للاستقرار .
ومعلوم أن من يركب مخاطر اليم ، إذا لم يكن قادرا على السباحة ، فإنه يعرض حياته للموت ، ونفسه للخطر ، بل أبسط ما يقال عنه : إنه قد ألقى بنفسه إلى التهلكة ؛ لأنه لم يستعد من قبل بما يعينه على مصارعة الأخطار ، والقدرة على توقي أضرارها .
****************************************
"مجلة البحوث الإسلامية" العدد29