بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن تبعه إلى يوم الدين، أما بعد:
أختي، أعرف أنك تتألمين ولا يعلم مدى مرارة مصابكِ سوى الله عز وجل.
فكيف لا، وأنت خسرتِ فلذة كبدكِ وثمرة فؤادكِ .
قد كان بين يديكِ البارحة وترعينه وتقبلينه.
وأعرف جيدًا كم تمنيتِ وانتظرتِ أن يأتي طفلكِ إلى هذه الدنيا، وكنت ترسمين مخططكِ وتعدّين ملابسه وأغراضه استقبالاً لهذا الطفل العزيز، لتحضنيه وترعينه أحسن رعاية.
والآن قد ترك فراغًا كبيرًا فثيابه ما زالت في الخزانة، وهنا كان يلعب، وفي هذه الزاوية كنت تضعينه...
قد تسمعين ضحكاته في أذنيك ما زالت ترنّ لهذه اللحظة، وبكاءه حينما يستيقظ من النوم...
أعرف أن موقفكِ ليس سهلاً، ففقد الولد أشدّ من فقد أي انسان آخر. فهو قطعة منكِ..
لكن اعلمي أمورًا وددتُ أن أذكركِ بها من باب قوله تعالى: [وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِين].
أولاً إني أدعو الله أن تكوني صابرة لقضاء الله وقدره، وأن يثبتكِ فما عهدتكِ إلا مؤمنة عاقلة أحسبكِ كذلك.
قد تبكين فهذا حقك، فابكي لكن لا تجزعي ولا تعترضي على قضاء الله سبحانه.
واعلمي أن هذه الدار هي دار ابتلاء، والله يمتحنكِ، فهل أنتِ جديرة باجتياز هذا الامتحان؟
وتذكري قول الله سبحانه وتعالى: [ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ . الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعون. أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُهْتَدُون]
واقرأي هذا الحديث وأبشري:
عَنْ أَبِي سِنَانٍ قَالَ دَفَنْتُ ابْنِي سِنَانًا وَأَبُو طَلْحَةَ الْخَوْلَانِيُّ جَالِسٌ عَلَى شَفِيرِ الْقَبْرِ، فَلَمَّا أَرَدْتُ الْخُرُوجَ أَخَذَ بِيَدِي فَقَالَ: أَلَا أُبَشِّرُكَ يَا أَبَا سِنَانٍ؟ قُلْتُ: بَلَى، فَقَالَ: حَدَّثَنِي الضَّحَّاكُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَرْزَبٍ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِذَا مَاتَ وَلَدُ الْعَبْدِ قَالَ اللَّهُ لِمَلَائِكَتِهِ: قَبَضْتُمْ وَلَدَ عَبْدِي؟ فَيَقُولُونَ: نَعَمْ، فَيَقُولُ: قَبَضْتُمْ ثَمَرَةَ فُؤَادِهِ؟ فَيَقُولُونَ: نَعَمْ، فَيَقُولُ: مَاذَا قَالَ عَبْدِي؟ فَيَقُولُونَ: حَمِدَكَ وَاسْتَرْجَعَ، فَيَقُولُ اللَّهُ: ابْنُوا لِعَبْدِي بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَسَمُّوهُ بَيْتَ الْحَمْدِ) رواه الترمذي وحسنه.
فاسترجعي وقولي: إنا لله وإنا إليه راجعون.
وتذكَّري كيف أن النبي صلى الله عليه وسلم الذي نشأ يتيمًا وكيف فقد أطفاله الواحد تلو الآخر؟ فكيف به أن صبر - صلى الله عليه وسلم- على كل هذا مع كل الأذى الذي تلقاه من المشركين؟
إنه الإيمان - أخيتي.
الإيمان الذي لا يعدله شيء. الإيمان الذي يملأ قلب المرء رضىً واطمئنانًا وثباتًا ويقينًا.
فأمامكِ طريقان: طريق الرضا والتسليم والصبر، وطريق آخر وهو الجزع والقنوط والاعتراض.
فماذا اخترتِ؟
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: (مَرَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِامْرَأَةٍ تَبْكِي عِنْدَ قَبْرٍ فَقَالَ: اتَّقِي اللَّهَ وَاصْبِرِي، قَالَتْ: إِلَيْكَ عَنِّي؛ فَإِنَّكَ لَمْ تُصَبْ بِمُصِيبَتِي، وَلَمْ تَعْرِفْهُ، فَقِيلَ لَهَا: إِنَّهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَتَتْ بَابَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ تَجِدْ عِنْدَهُ بَوَّابِينَ، فَقَالَتْ: لَمْ أَعْرِفْكَ، فَقَالَ: إِنَّمَا الصَّبْرُ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الْأُولَى). رواه البخاري.
فأوصيكِ كما أوصى النبي صلى الله عليه وسلم هذه المرأة بأن تتقي الله وتصبري. والصبر فيه مشقة وألم ، لكن لا عبادة إلا وسيجازيكِ الله بها في الآخرة نِعَمٌ لا تُعد ولا تحصى.
فإني أدعو الله عز وجل بكل أسمائه وصفاته التي أنزلها في كتابه أو علمها لأحد من خلقه، أن يجبر مصابكِ ويربط على قلبكِ ويمتّعكِ بالصبر، ويخلف لكِ خيرًا منه.إنه سميع مجيب. آمين
هذه كلمات أهديها لأم زكريا ولكل أم فقدت طفلها
والله المعين
~ ~ ~