تزويج الصغيرة التي دون البلوغ من كفء سائغ إجماعا
الحمد لله: وبعد فقد كثرت في هذا الوقت تدخلات الصحافة والصحفيين في الأحكام الشرعية من غير علم وهذا عمل يخاف من عواقبه على المجتمع. و من ذلك تدخلهم في مسألة تزويج الصغيرة التي دون البلوغ من كفء يصلح لها ومطالبتهم بتحديد سن لتزويج الفتاة. وهذا تدخل في حكم شرعي مرجعه إلى أهل العلم وعلى ضوء الكتاب والسنة. وليس في الشريعة ما يحدد السن الذي تزوج فيه الفتاة. بل في الشريعة ما يدل على خلاف ذلك قال الله تعالى في عدة المطلقة: (وَاللاَّئِي يَئِسْنَ مِنْ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنْ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ)، أي الصغيرات اللاتي لم يبلغن سن الحيض فعدتهن ثلاثة أشهر مثل اليائسات من الحيض فهذا دليل من القرآن على أن الصغيرة تزوج وتطلق وتلزمها العدة. وقد دلت السنة على ذلك فقد تزوج النبي صلى الله عليه وسلم عائشة رضي الله عنها وهي بنت ست سنين. ودخل بها وهي بنت تسع سنين فهذا دليل من السنة على هذه المسألة وقد أجمع العلماء على جواز ذلك. قال الإمام البخاري رحمه الله في صحيحه: باب إنكاح الرجل ولده الصغار. لقوله تعالى: (وَاللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ)، فجعل عدتها ثلاثة أشهر قبل البلوغ. حدثنا محمد بن يوسف حدثنا سفيان عن هشام عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوجها وهي بنت ست سنين وأدخلت عليه وهي بنت تسع ومكثت عنده تسعاً قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في الفتح: قوله: لقول الله تعالى: (وَاللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ)، فجعل عدتها ثلاثة أشهر قبل البلوغ أي فدل على أن نكاحها قبل البلوغ جائز وهو استنباط حسن لكن ليس في الآية تخصيص ذلك بالوالد ولا بالبكر. ويمكن أن يقال الأصل في الأبضاع التحريم إلا ما دل عليه الدليل وقد ورد حديث عائشة في تزويج أبي بكر لها وهي دون البلوغ فبقي ما عداها على الأصل. ولهذا السر أورد حديث عائشة قال المهلب: أجمعوا أنه يجوز للأب تزويج ابنته الصغيرة ولو كانت لا يوطأ مثلها: انتهى من الجزء التاسع من فتح الباري صفحة 189- 190.
وقال ابن بطال في شرحه لصحيح البخاري في صفحة 172 – 173 على باب تزويج الصغار من الكبار: أجمع العلماء على أنه يجوز للآباء تزويج الصغار من بناتهم وإن كن في المهد إلا أنه لا يجوز لأزواجهن البناء بهن إلا إذا صلحن للوطء واحتملن الرجال وأحوالهن تختلف في ذلك على قدر خلقهن وطاقتهن. وكانت عائشة رضي الله عنها حين تزوج بها النبي بنت ست سنين وبنى بها بنت تسع ـ انتهى.
وقال الموفق في المغني شرح مختصر الخرقي الجزء السادس صفحة 487: مسألة: (وإذا زوج الرجل ابنته البكر فوضعها في كفاية فالنكاح ثابت وإن كرهت كبيرة كانت أو صغيرة) قال الموفق: أما البكر الصغيرة فلا خلاف فيها. قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم أن نكاح الأب ابنته البكر الصغيرة جائز إذا زوجها من كفء مع كراهيتها وامتناعها. وقد دل على جواز تزويج الصغيرة قول الله تعالى: (وَاللاَّئِي يَئِسْنَ مِنْ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنْ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ)، فجعل لللائي لم يحضن عدة ثلاثة أشهر. ولا تكون العدة ثلاثة أشهر إلا من طلاق في نكاح أو فسخ فدل ذلك على أنها تزوج وتطلق ولا إذن لها فيعتبر. وقالت عائشة رضي الله عنها: تزوجني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا ابنة ست وبنى بي وأنا ابنة تسع متفق عليه. ومعلوم أنها لم تكن في تلك الحال ممن يعتبر إذنها ـ انتهى.
وقال الإمام النووي رحمه الله في شرحه لصحيح مسلم الجزء التاسع صفحة 294: باب جواز تزويج الأب البكر الصغيرة. فيه حديث عائشة رضي الله عنها قالت: (تزوجني رسول الله صلى الله عليه وسلم لست سنين وبنى بي وأنا ابنة تسع سنين وفي رواية: تزوجها وهي بنت سبع سنين. هذا صريح في جواز تزويج الأب الصغيرة بغير إذنها. لأنه لا إذن لها. إلى أن قال: وأجمع المسلمون على جواز تزويجه بنته البكر الصغيرة لهذا الحديث انتهى وقال الشيخ عبدالعزيز بن باز رحمه الله في مجموع فتاواه ومقالاته الجزء الرابع صفحة 126 لما بلغه أن بعض الدول الإسلامية تريد تحديد سن الزواج بأن لا يقل عمر الفتى عن ثمانية عشر عاما وعمر الفتاة عن ستة عشر عاما. قال: فلما كان ذلك يخالف ما شرعه الله جل وعلا أحببت التنبيه لبيان الحق. فالسن في الزواج لم يقيد بحد معين لا في البكر ولا في الصغير. والكتاب والسنة يدلان على ذلك. لأن فيهما الحث على الزواج والترغيب فيه من دون تقييد بسن معينة. قال الله تعالى: (وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلْ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللاَّتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنكِحُوهُنَّ) الآية. فأجاز نكاح اليتيمة وهي لم تبلغ سن البلوغ. وأعلاه خمسة عشر عاما على الأرجح. وقد تبلغ بأقل من ذلك السن وقال صلى الله عليه وسلم: "تستأذن اليتيمة في نفسها فإن سكتت فهو إذنها وإن أبت فلا جواز عليها"، وقد تزوج النبي صلى الله عليه وسلم عائشة رضي الله عنها ولها ست أو سبع سنين. ودخل بها وهي ابنة تسع. وفعله تشريع لهذه الأمة. كما أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يتزوجون في الصغر وفي الكبر دون تحديد سن معينة. فليس لأحد أن يشرع غير ما شرعه الله ورسوله لأن فيه الكفاية. ومن رأى خلاف ذلك فقد ظلم نفسه وشرع للناس ما لم يأذن به الله. وقد قال عز وجل ذاما لهذا الصنف من الناس: (أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنْ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ) الآية. و قال النبي صلى عليه وسلم: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد"، متفق عليه. وفي رواية مسلم: "من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد"، وعلقه البخاري في الصحيح جازما به. وإنني أذكر القائمين في هذا الأمر بقول الله تعالى: (فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) فما يصيب الأمة أو الأفراد من فتن أو صد عن سبيل الله من أو أوبئة أو حروب أو غير ذلك من أنواع البلاء فأسبابه ما كسبه العباد من أنواع المخالفات لشرع الله كما قال تعالى: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ) وقد بين الله جل وعلا ما حصل لبعض الأمم السابقة من العذاب والهلاك بسبب مخالفتهم لأمره ليتنبه العاقل ويأخذ من ذلك عبرة وعظة. ولا يكفي دعوى الأخذ من الشريعة الإسلامية إذا وجد ما يخالفها. فقد عاب الله جل وعلا ذلك على اليهود حيث قال: (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) انتهى.
فيجب على هؤلاء الذين ينادون بتحديد سن الزواج أن يتقوا الله ولا يخالفوا شرعه أو يشرعوا شيئا لم يأذن به الله. فالحكم لله عز وجل والتشريع حق له سبحانه لا يشاركه فيه غيره. ومن ذلك أحكام الزواج وقد حث الله عليه بقوله: (وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ) وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج" الحديث. وفق الله الجميع لما يحب ويرضى وجنب الجميع مخالفة شرعه ودينه.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
كتبه:
صالح بن فوزان الفوزان
عضو هيئة كبار العلماء