سمع بعض أهل العلم رجلا يدعوا بالعافية فقال له: "يا هذا استعمل الأدوية وادع بالعافية فإن الله تعالى إذا كان قد جعل إلى العافية طريقا وهو التداوي ودعوته بالعافية ربما كان جوابه قد عافيتك بما جعلته ووضعته سببا للعافية وما هذا إلا بمثابة من بين زرعه وبين الماء ثلمة يدخل منها الماء يسقي زرعه فجعل يصلي ويستسقي لزرعه ويطلب المطر مع قدرته على فتح تلك الثلمة لسقي زرعة فإن ذلك لا يحسن منه شرعا ولا عقلا ولم يكن ذلك إلا لأنه سبق بإعطاء الأسباب فهو إعطاء بأحد الطريقين وله أن يعطي بسبب وبغير سبب وبالسبب ليتبين به ما أفاض من صنعه وما أودع في مخلوقاته من القوى والطبائع والمنافع وإعطاؤه لغير سبب ليتبين للعباد أن القدرة غير مفتقرة إلى واسطة في فعله فإذا دعوته بالعافية فاستنقذ ما أعطاك من العتائد والأرزاق فإن وصلت بها وإلا فاطلب طلب من أفلس من مطلوبه فرغب إلى المعدن كما قال سيد الخلائق: "اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك".
قلت: هذا كلام حسن وأكمل منه أن يبذل الأسباب ويسأل سؤال من لم يدل بشيء البتة والناس في هذا المقام أربعة أقسام:
- فأعجزهم من لم يبذل السبب ولم يكثر الطلب فذاك أمهن الخلق.
- والثاني: مقابلة وهو أحزم الناس من أدلى بالأسباب التي نصبها الله تعالى مفضية إلى المطلوب وسأل سؤال من لم يدل بسبب أصلا بل سؤال مفلس بائس ليس له حيلة ولا وسيلة.
- والثالث: من استعمل الأسباب وصرف همته إليها وقصر نظره عليها فهذا وإن كان له حظ مما رتبه الله تعالى عليها لكنه منقوص منقطع نصب الآفات والمعارضات لا يحصل له إلا بعد جهد فإذا حصل فهو وشيك الزوال سريع الانتقال غير معقب له توحيدا ولا معرفة ولا كان سببا لفتح الباب بينه وبين معبوده.
- الرابع: مقابلة وهو رجل نبذ الأسباب وراء ظهره وأقبل على الطلب والدعاء والابتهال فهذا يحمد في موضع ويذم في موضع ويشينه الأمر في موضع فيحمد عند كون تلك الأسباب غير مأمور بها إذ فيها مضرة عليه في دينه فإذا تركها وأقبل على السؤال والابتهال والتضرع لله كان محمودا ويذم حيث كانت الأسباب مأمورا بها فتركها وأقبل على الدعاء كمن حصره العدو وأمر بجهاده فترك جهاده وأقبل على الدعاء والتضرع أن يصرفه الله عنه وكمن جهده العطش وهو قادر على تناول الماء فتركه وأقبل يسأل الله تعالى أن يرويه وكمن أمكنه التداوي الشرعي فتركه وأقبل يسأل العافية ونظائر هذا.
ويشتبه الأمر في الأسباب التي لا يتبين له عواقبها وفيها بعض الاشتباه ولها لوازم قد يعجز عنها وقد يتولد عنها ما يعود بنقصان دينه فهذا موضع اشتباه وخطر والحاكم في ذلك كله الأمر فإن خفي فالاستخارة وأمر الله وراء ذلك.
بدائع الفوائد (3\1126-112
تعليق