قال الإمام مسلم رحمه الله: حَدَّثَنِي أَبُو الطَّاهِرِ أَحْمَدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ سَرْحٍ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، حَدَّثَنِي أَبُو هَانِئٍ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، يَقُولُ: عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ: «فِرَاشٌ لِلرَّجُلِ، وَفِرَاشٌ لِامْرَأَتِهِ، وَالثَّالِثُ لِلضَّيْفِ، وَالرَّابِعُ لِلشَّيْطَانِ»
قال الإمام النووي في شرح هذا الحديث: قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فِرَاشٌ لِلرَّجُلِ وَفِرَاشٌ لِامْرَأَتِهِ وَالثَّالِثُ لِلضَّيْفِ وَالرَّابِعُ لِلشَّيْطَانِ) قَالَ الْعُلَمَاءُ مَعْنَاهُ أن ما زاد عَلَى الْحَاجَةِ فَاتِّخَاذُهُ إِنَّمَا هُوَ لِلْمُبَاهَاةِ وَالِاخْتِيَالِ وَالِالْتِهَاءِ بِزِينَةِ الدُّنْيَا وَمَا كَانَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَهُوَ مَذْمُومٌ وَكُلُّ مَذْمُومٍ يُضَافُ إِلَى الشَّيْطَانِ لِأَنَّهُ يَرْتَضِيهِ وَيُوَسْوِسُ بِهِ وَيُحَسِّنُهُ وَيُسَاعِدُ عَلَيْهِ وَقِيلَ إِنَّهُ عَلَى ظَاهِرِهِ وَأَنَّهُ إِذَا كَانَ لِغَيْرِ حَاجَةٍ كَانَ لِلشَّيْطَانِ عَلَيْهِ مَبِيتٌ وَمَقِيلٌ كَمَا أَنَّهُ يَحْصُلُ لَهُ الْمَبِيتُ بِالْبَيْتِ الَّذِي لا يذكر اللَّهَ تَعَالَى صَاحِبُهُ عِنْدَ دُخُولِهِ عِشَاءً وَأَمَّا تَعْدِيدُ الْفِرَاشِ لِلزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ فَلَا بَأْسَ بِهِ لِأَنَّهُ قَدْ يَحْتَاجُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِلَى فِرَاشٍ عِنْدَ الْمَرَضِ وَنَحْوِهِ وَغَيْرِ ذلك واستدل بعضهم بهذا على أنه لا يلزمه النَّوْمُ مَعَ امْرَأَتِهِ وَأَنَّ لَهُ الِانْفِرَادَ عَنْهَا بِفِرَاشٍ وَالِاسْتِدْلَالُ بِهِ فِي هَذَا ضَعِيفٌ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهَذَا وَقْتُ الْحَاجَةِ كَالْمَرَضِ وَغَيْرِهِ كَمَا ذَكَرْنَا وَإِنْ كَانَ النَّوْمُ مَعَ الزَّوْجَةِ لَيْسَ وَاجِبًا لَكِنَّهُ بِدَلِيلٍ آخَرَ وَالصَّوَابُ فِي النَّوْمِ مَعَ الزَّوْجَةِ أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا عُذْرٌ فِي الِانْفِرَادِ فَاجْتِمَاعُهُمَا فِي فِرَاشٍ وَاحِدٍ أَفْضَلُ وَهُوَ ظَاهِرُ فِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي وَاظَبَ عَلَيْهِ مَعَ مُوَاظَبَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى قِيَامِ اللَّيْلِ فَيَنَامُ مَعَهَا فَإِذَا أَرَادَ الْقِيَامَ لوظيفته قام وتركها فيجمع بين وظيفته وقضاء حقها المندوب وعشرتها بالمعروف لاسيما إِنْ عَرَفَ مِنْ حَالِهَا حِرْصَهَا عَلَى هَذَا ثُمَّ إِنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنَ النَّوْمِ مَعَهَا الْجِمَاعُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ا.ه
قَالَ الطِّيبِيُّ: وَلِأَنَّ قِيَامَهُ مِنْ فِرَاشِهَا مَعَ مَيْلِ النَّفْسِ إِلَيْهَا مُتَوَجِّهًا إِلَى التَّهَجُّدِ أَصْعَبُ وَأَشَقُّ: وَمِنْ ثَمَّ وَرَدَ: " «عَجِبَ رَبُّنَا مِنَّ رَجُلَيْنِ، رَجُلٌ ثَارَ عَنْ وِطَائِهِ وَلِحَافِهِ مِنْ بَيْنِ حِبِّهِ وَأَهْلِهِ إِلَى صَلَاتِهِ، فَيَقُولُ اللَّهُ لِمَلَائِكَتِهِ: انْظُرُوا إِلَى عَبْدِي ثَارَ عَنْ فِرَاشِهِ وَوِطَائِهِ مِنْ بَيْنِ حِبِّهِ وَأَهْلِهِ إِلَى صَلَاتِهِ رَغْبَةً فِيمَا عِنْدِي وَشَفَقًا فِيمَا عِنْدِي» .
قال القاري في مرقاة المفاتيح 3/938 (" ثَارَ عَنْ فِرَاشِهِ وَوِطَائِهِ ") ، أَيْ: تَبَاعَدَ عَنْهُمَا (" مِنْ بَيْنِ حِبِّهِ وَأَهْلِهِ ") ، أَيْ: مُنْفَرِدًا مِنْهُمْ وَمِنِ اتِّفَاقِهِمْ، وَمُعْتَزِلًا عَنِ اقْتِرَابِهِمْ وَاعْتِنَاقِهِمْ، (" إِلَى صَلَاتِهِ ") ، أَيِ: الَّتِي تَنْفَعُهُ فِي حَيَاتِهِ وَمَمَاتِهِ (" رَغْبَةً ") ، أَيْ: لَا رِيَاءً وَسُمْعَةً بَلْ مَيْلًا (" فِيمَا عِنْدِي ") ، أَيْ: مِنَ الْجَنَّةِ وَالثَّوَابِ، أَوْ مِنَ الرِّضَا وَاللِّقَاءِ يَوْمَ الْمَآبِ. (" وَشَفَقًا ") ، أَيْ: خَوْفًا (" مِمَّا عِنْدِي ") : مِنَ الْجَحِيمِ وَأَنْوَاعِ الْعَذَابِ، أَوْ مِنَ السُّخْطِ وَالْحِجَابِ الَّذِي هُوَ أَشَدُّ مِنَ الْعِقَابِ، وَهَذَا غَايَةُ الْجِهَادِ الْأَكْبَرِ، فَإِنَّهُ قَامَ بِالْعِبَادَةِ فِي وَقْتِ رَاحَةِ النَّاسِ فِي الْعَادَةِ مَعَ عَدَمِ التَّكْلِيفِ الْإِلَهِيِّ، فَيَكُونُ مِنْ عَلَامَةِ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ السَّعَادَةِ. ا.ه.
وجاء في فيض القدير 4/424 قال القرطبي: وهذا الحديث إنما جاء مبينا لعائشة ما يجوز للإنسان أن يتوسع فيه ويترفه به من الفرش لا أن الأفضل أن يكون له فراش يختص به ولامرأته فراش فقد كان المصطفى صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم ليس له إلا فراش واحد في بيت عائشة وكان عنده فراشا ينامان عليه ويجلسان عليه نهارا وأما فراش الضيف فيتعين للمضيف إعداده لأنه من إكرامه والقيام بحقه ولأنه لا يتأتى له شرط الاضطجاع ولا النوم معه وأهله على فراش واحد ومقصود الحديث أن الرجل إذا أراد أن يتوسع في الفرش فغايته ثلاث والرابع لا يحتاجه فهو سرف وفقه الحديث ترك الإكثار من الآلات والأشياء المباحة والترفه بها وأن يقتصر على حاجته ونسبة الرابع للشيطان ذم له لكنه لا يدل على التحريم فكذا الفرش قيل وفيه أنه لا يلزمه المبيت مع زوجته بفراش ورد بأن النوم معها وإن لم يجب لكن علم من أدلة أخرى أنه أولى حيث لا عذر لمواظبة النبي صلى الله عليه وسلم عليه. ا.ه.
وقال العلامة عبد المحسن العباد في شرحه على سنن أبي داود :
أما قول الخطابي: بأن فيه دليلاً على أن المستحب -وأنه من أدب السنة- أن يبيت الرجل على فراش وزوجته على فراش آخر، ولو كان المستحب لهما أن يبيتا معاً على فراش واحد لكان لا يرخص له في اتخاذه فراشين لنفسه ولزوجته.
فالذي يبدو أنه لا بأس بأن يتخذ الفراش الواحد لهما جميعاً، ولكن كونه يصير لها فراش وله فراش، فذلك حتى يمكن أن ينفرد به كل واحد منهما إذا حصل مرض، أو أنها تستقل عنه لحاجة، وأما إذا جمع بينهما في فراش واحد وفي لحاف واحد؛ فإن ذلك لا بأس به. ا.ه.
تعليق