السلام عليكم
....
قال بعض أهل الأدب: العتاب خير من الحقد، ولا يكون العتاب إلا على زلة0
فالذي يحمل في قلبه على عشرائه إنما يجمع الأحقاد ويكثرها، فإذا عاتب صاحبه تبين له ما كان ملتبسا بشبهة،واتضح له ما كان يحتمل أكثر من معنى؛ومن أجل ذلك قال القائل:
وفي العتاب حياة بين أقـوام = وهو المحك لذي لبس وإيهام
ويحسن بالمرء إذا أراد أن يعاتب صاحبه أن يجعل له طريقا إلى الرجوع والمعاودة؛ وذلك عن طريق التماس العذر؛فلا يغلق عليه الأبواب بعتاب غليظ جاف ثم يريد منه أن يعتذر منه.
ألم تر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين جاءه المتخلفون عن غزوة تبوك يعتذرون عن تخلفهم أخذ بظاهرهم وقبل اعتذارهم ووكل سريرتهم إلى الله تعالى0
0
كتب رجل إلى صديقه كتابا أرسله إليه وفيه حط عليه، فرد عليه الصديق: ينبهه إلى تأمُّلِ ما كتبه من عتاب غليظ بعد هدوء النفس؛حتى يرى قوة عباراته فقال:
اقرأ كتابـك واعتبره قريبـــا
فكفى بنفسك لي عليك حسيبـا
أكذا يكون خطاب إخوان الصفا
إن أرسلوا جعلوا الخطاب خطوبا؟
ما كان عذري إن أجبت بمثلـه
أوكنت بالعتـب العنيف مجيبـا
لكنني خفت انتقاص مودتــي
فيعد إحساني إليك ذنــوبـا
كما أن من الواجب على المرء أنْ لا يعاتبَ في كل شيء،حتى يكون العتاب له سمة وعلامة يُعرَف بها؛فيحط قدره عند إخوانه فيعرف بأنه يعاتب على كل شيء ويغضب لأي شيء، ف0
وينبغي للعاقل إن عاتب أخاه أو صاحبه أو عشيره أن يتلطف معه؛ولا يسبه فيما عرفه عنه، فإن من أخلاق اللؤم عند بعض الناس إن غضب على صاحبه بشيء أظهر كل ما يعرفه عنه؛فقطع وصله؛وأثار ضغينته ؛ولم يبق للصلح موضعا وسبيلا؛وقد أحسن من قال:
وأعرض عن أشياء لو شئت قلتها
ولو قلتها لم أبق للصلح موضـعا
فكل منا يرى في الناس ما لا يرى في نفسه؛فلو كان في حال عتابه ومخاصمته لصديقه أظهر كل ما في مكنونه، هل يأمل أن ترجع الصحبة إلى موضعها في يوم من الأيام؟ فإن هذا الخلق يعمل به من أراد قطع صلته بصاحبه؛وليس من أراد تقريبها بعد انفلاتها..
وليحذر العاقل من العتاب المفضي إلى القطيعة،فالعاقل يميز فإن رأى أن هذا الشخص مما يجدي معه العتاب عاتبه، وإن رأى أن هذا مما يفسد عليه صحبته أحجم عنه0
قال إياس بن معاوية: خرجت في سفر ومعي رجل من الأعراب فلما كان في بعض المناهل، لقيه ابن عم له، فتعانقا وتعاتبا، وإلى جانبهما شيخ من الحي فقال لهما: أنعما عيشا؛إن المعاتبة تبعث التجني ؛والتجني يبعث المخاصمة، والمخاصمة تبعث العداوة؛ولا خير في شيء ثمرته العداوة0
هذا وإن من الخير للصديق إن رأى من صاحبه شيئا وهو صديق له ويحبه؛أن يذهب إليه مباشرة ويسأله عما في نفسه، ولا يجعل بينهما وسيطا فيظل يكلم الناس–وإن كانوا أصدقاء-وصاحبه أمامه فلا يسأله حتى يبين له وجهة نظره؛
لا سيما في هذا الوقت الذي كثر فيه مستشارو السوء وناقصو المروءة؛ فلعلهم يوقعون بينه وبين صديق يحبه ويألفه؛وقد قال عمر رضى الله عنه: "إذا رزقك الله مودة امرئ فتشبث به"0
هذا وإنَّ تَرْك مصارحة الصاحب لصاحبه فيما يعاتبه به؛مما يزيد التفرق والشتات ويذهب الألفة، كما أنه من كتم النصيحة والنبي صلى الله عليه وسلم قال: " الدين النصيحة" .
فاعملوا على تنقية القلوب وطهارتها، فالقلب صغير والعمر قصير فلا نذهبهما بالشحناء والضغائن؛فإن منتهى السعادة في مراجعة القلب وتزكيته وتطهيره0
إن أخوان الصدق هم خير مكاسب الدنيا ، زينة في الرخاء ، وعدةٌ في الشدة ، والعاقل هو الذي لا يفرط في اكتسابهم ؛فمن رزق بأخ صالح ناصح فليتشبث به،وليجعل المودةَ والألفة خير رباط بينهما؛ألا ترى أن الله سبحانه امتن على خير القرون أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم،وذكرهم نعمته بأن جمع قلوبهم على الصفاء،وردها بعد الفرقة إلى الألفة والإخاء؛فقال تعالى:"واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداءً فألّف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته أخوانا"0
ومن أجل ذلك فقد عرف سلف الأمة وعقلاؤها المتقدمون منزلة الأخوة فحثوا عليها ، واتخذوها وسيلة لإيناس الوحشة وتبديد التفرد والانعزال0
قال علي رضي الله عنه :" الرجل بلا أخ كشمال بلا يمين "0
وعلى المرء إن اتخذ صديقاً أن يتخذ أخا عاقلاً رزينا،تزينه صحبته ولا تشينه؛ فإن الأصحاب مرآة الأصحاب،والمرء يعرف حاله عند النظر في أقرانه؛قال عبد الله بن المبارك : "خير ما أعطي الرجل أخ ناصح يستشيره"0
وقيل لابن السماك : "أي الأخوان أحق ببقاء المودة؟؛قال:الوافرُ دينه،الوافي عقله، الذي لا يملُّك على القرب،ولا ينساك على البعد ،إن دنوت منه داناك ،وإن بعدت عنه راعاك،وإن أستعنت به عضدك، وإن احتجت إليه أعانك،وتكون مودةُ فعله أكثر من مودةِ قوله "0
ومن رزق بإخوانٍ فليكن اتساع صدره لهم طبيعته وسجيته،وليعلم أن من طلب صديقاً لا يزل، فقد طلب المحال ،ورام الوصول إلى مرتقى بعيد المنال؛وقد قيل: "من لا يؤاخي إلا من لا عيب فيه،مل صديقه،ومن لم يرضَ من صديقه إلا بإيثاره على نفسه دام سخطه،ومن عاتب على كل ذنب ضاع عتبه وكثر تعبه"؛ ولذا قيل :
إذا كنت في كـل الأمور معاتبـاً
صديقك لم تلق الذي لا تعاتبــه
وإن كنت لم تشرب مراراً من الأذى
ظمئت وأي الناس تصفـو مشاربه
وقد قال بعض أهل العلم :"إذا رأيت من أخيك أمراً تكرهه،أو خلةً لا تحبها فلا تقطعْ حبله،ولا تصرم وده،ولكن داو جُرحَه ،واستر عورتَه ،وابقه وابرأ من عمله ،قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم :"واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين0"؛فلم يأمره بقطعهم وإنما بالبراءة من عملهم السيء"0
هذا واعلموا أن من طمع باستكمال الأجر؛فليحب صاحبه لصلاحه وقربه من ربّه لا لطمع في دنيا،فمن أحبه لذلك فقد استكمل الإيمان،قال صلى الله عليه وسلم :"أوثق عرى الإيمان: الحب في الله؛والبغض في الله"0
وليعلم المسلم أن أقرب الصاحبين إلى الله أشدهما حباً للآخر في الله؛قال صلى الله عليه وسلم:"ما تحاب اثنان في الله إلا كان أفضلهما عند الله أشدهما حباً لصاحبه"0
نسأل الله أن يوفقنا للعمل بطاعته؛وأن يرزقنا جنته ورضوانه؛وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
لفضيلة الشيخ
سالم العجمي
تعليق