فقه الواقع ،،،
للشيخ صالح آل الشيخ -حفظه الله-
بسم الله الرحمن الرحيم
للشيخ صالح آل الشيخ -حفظه الله-
بسم الله الرحمن الرحيم
أما بعد : إن فقه الواقع – ونعني به الواقع المؤثر في الأحكام الشرعية – من المواضيع الشائكة ، ومعرفته من الأمور الواجبة لكل عالِم من علماء تلك الأمة الإسلامية ، فمن خلال فهمه للواقع يكون قادرًا على إصدار الأحكام بما يتوافق مع الشريعة ويتماشى معها ، وسنتطرق لهذا الموضوع من خلال الأثر الذي جاء عن ابن عباس والذي ذكره شيخ الدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب في كتاب ( التوحيد الذي هو حق الله على العبيد ) ، وشرحه الشيخ عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ في كتاب ( فتح المجيد ) ، وهو قوله رضي الله عنه : « وقد صارت عامة مؤاخاة الناس على أمر الدنيا ، وذلك لا يجدي على أهله شيئا » ([1]) .
لقد عبر الشيخ محمد بن عبد الوهاب – رحمه الله – إمام هذه الدعوة في المسائل عن ذلك بقوله : « وفيه فهم الصحابي للواقع » ([2]) .
ويعني بالواقع واقع الناس وصلتهم بالشرع ؛ لأن ابن عباس حَكَم على الناس بأن عامة مؤاخاتهم أصبحت على أمر الدنيا . إن معرفة العَالِمِ أو الفقيهِ بحال الناس من حيث ارتباطُهم وصلاتُهم وعلاقةُ بعضهم ببعض أمر لا بد منه ؛ لأنه لا سبيل إلى إصلاحهم إلا بذلك ، فكيف يؤثر في أناس لا يعرف طريقتهم ؟
لقد بين الله – جل وعلا – لنبيه طريقة المشركين وحالاتهم وعلاقاتهم وصلاتهم فقال – جل وعلا – بعد أن بَيَّن حالَهم : ﴿ وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ المُجْرِمِينَ ﴾[ الأنعام : 55 ] .
إن من مقاصد الشرع أن نستبين سبيل أهل الباطل بصفة خاصة وسبيل الناس بصفة عامة ،وذلك لأن استبانة سبيل الناس ينفع الداعية ويُمَكِّنُه من بيان دعوته ويساعده على تأديتها على الوجه الأكمل . إن الصحابي الجليل ابن عباس وغيره من الصحابة الذين نشروا الدعوة وبينوا الكتاب والسنة للناس كانوا على دراية بمعرفة أحوال الناس وما هم عليه من إقبالهم على الدين ومن مخالفتهم له ، فكان كلامهم مؤثرا لأجل معرفتهم بحال الناس ، فابن عباس لما رأى أن عامة مؤاخاة الناس صارت على الدنيا قال هذا الكلام وهو قوله : « من أحب في الله ، وأبغض في الله ، ووالَى في الله ، وعادى في الله ، فإنما تنال ولاية الله بذلك ، ولن يجد عبد طعم الإيمان وإن كثرت صلاته وصومه حتى يكون كذلك ، فقد صارت عامة مؤاخاة الناس على أمر الدنيا » ([3]) .
وسبب قوله رضي الله عنه : « من أحب في الله وأبغض في الله » . هو ما رآه من حال الناس ومن أن عامة مؤاخاتهم صارت لأمر الدنيا ، فنبه لهذه القاعدة العامة العظيمة التي أخذها من عموم الأدلة من الكتاب والسنة .
إن فهم الواقع الذي ذكره الشيخ والذي يعتني به العلماء والفقهاء في كتبهم ، هو فهم الواقع المؤثر في الأحكام الشرعية ؛ ففهم الواقع على قسمين : قسم مؤثر في الأحكام الشرعية ، وقسم غير مؤثر في الأحكام الشرعية . فما كان منه مؤثرا في الأحكام الشرعية – أي تُبْنَى الأحكام الشرعية عليه – فهذا لا بد للعالم من معرفته ، وأما القسم الذي لا يؤثر في الأحكام الشرعية ، فليس ضروريا كضرورة الأول ؛ لأنه غير مؤثر في الحكم الشرعي ، والعالِم إنما يهتم بما يؤثر في الأحكام الشرعية . إن الكلام على فهم الواقع المؤثر في الأحكام الشرعية ينبهنا إلى قاعدة مهمة تكلم الفقهاء وأصحاب القواعد الفقهية عنها وهي أن الأحكام تدور مع عللها ، وأن الفتوى تختلف باختلاف الزمان والأحوال ، وهذا – مما لا شك فيه – مبني على المعرفة بحال الناس ، وينبهنا كذلك إلى القاعدة المشهورة عندهم : وهي أن الحكم على الشيء فرع عن تصوره . وتَصوُّرُ الشيء إنما يكون بمعرفة حاله وواقعه ونعني بذلك الواقع المؤثر في الحكم الشرعي ، أما الواقع غير المؤثر في الحكم الشرعي فإن معرفته ليست مشترطة في العالِم كما أشرنا ؛ لأن العالم مطالب بأن يعلم ما يؤثر في الأحكام ، أما ما لا تأثير له في الأحكام فليس بواجب عليه ، وإنما هو بالنسبة له من قبيل الثقافة والاطلاع والمعرفة ، فالواجب على العالِم هو أن يعلم قبل حكمه وقبل كلامه ما يؤثر في الواقع المرتبط بالحكم الشرعي ، فإذا تكلم بكلام مبناه على واقع أخطأ في تصوره فيكون مخطئا ؛ لأنه لم يفهم الواقع الذي ينبني عليه الحكم الشرعي ، مثلاً كأن يحكم على شخص بأنه يستوجب الحد ، رجل زنى فأتوا به ، وقالوا : أيها العالم ، هذا قد زنى . فلا يقل العالم أو القاضي : اذهبوا به فاجلدوه ، أو اذهبوا به فارجموه . لا بد من معرفة واقع هذا المُعَيَّن حتى يُصْدِرَ حكمه . فيسأل أَوَّلاً ليرى هل هو مُحْصَن أو غير محصن ؟ هل هو عالم بالتحريم أم غير عالم ؟ هل يعذر بالجهالة أم لا يعذر ؟ لا بد من أن يتبين من ذلك المعين حتى لا يصدر أحكامًا مخالفةً للشرع . وهاتان القاعدتان اللتان ذكرناهما يأخذ بهما العلماء في مسائل كثيرة ؛ لأنهم يشترطون في الأحكام – سواء الأحكام عند المفتي أو الأحكام عند القاضي- معرفة الحال . قد يطلق لفظ ( فقه الواقع ) ويُراد به في زمننا هذا المعنى الأعم من الذي ذكرناه ؛ وهو معرفة الواقع السياسي أو ما يدور من مجريات الأمور وما يحدث في الأمة أو العالَم ، وهذا الأمر غير مشترط – كما أسلفنا – في العالِم ، فمعرفة الواقع السياسي والعلم بما يدور في عالم السياسة ليس مُشْتَرَطًا في العالِم ؛ لأن السياسة أمر لا يُعْرَف ولا يدرك كنهه ، وإنما الذي يتعاطى الأخبار في ذلك غايته أن يعلم ما يجري ، أما أن يفقه حقيقة ما يدري فهذا غير ممكن ، ولهذا تجد كثيرين ممن يتكلمون في أمور السياسة يصيبون بعضًا ويخطئون بعضًا ، وقد يكون الخطأ أكثر من الصواب ؛ وذلك لأن مبناهم على الحدث والظن .
إذن معرفة الواقع السياسي هو علم بالخبر ، وليس فقهًا ، ولهذا نقول : إن الأحوال السياسية تعلم ولا تفقه ، لأن هذا من الأمور صعبة المنال ، فالساسة أنفسهم لا يفقهونها على حقيقتها ، يمكننا أن نفقه من الواقع السياسي ما فقهنا الله – جل وعلا – به وهي الأصول الثابتة لعلاقة المؤمن بأعدائه ، هذه أصول ثابتة نفقهها فقهًا جيدا ، مثل معرفة من هم أعداء المسلمين ، قال الله جل وعلا : ﴿ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِياًّ وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا ﴾ [ النساء : 45 ] فالله أعلم بأعدائنا وبين ذلك لنا ، بَيَّن أن المشركين جميعًا أعداء لنا ، وأن اليهود أعداء لنا ، وأن النصارى أعداء لنا ، وأن المنافقين أعداء لنا ، فهذا الأصل العام فقهه يكون بفقه الكتاب والسنة ، وليس بفقه شيء زائد عليه ، فالمؤمن يأخذ حذره بالفقه المستنبط من الكتاب والسنة .
إن معرفة الواقع السياسي لا يدركه إلا الخواص أو المشتغلون بأمور السياسة ، ومعلوم أن من القواعد الشرعية التي قررها الشاطبي في كتابه ( الموافقات ) وقررها غيره أن شريعة الإسلام راعى الشارع فيها حال الأكثرين وهم الأميون ([4]) ، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- : « إنا أمة أمية » ([5]) .
لكن معرفة حال المسلم مع أعدائه هذا يحتاجه كل واحد ولهذا بينها الله – جل وعلا – في القرآن وبينها رسوله صلى الله عليه وسلم ، فيجب على المسلم أن يعلم القدر الواجب من ذلك ، وهو ما أخبر الله – جل وعلا – به في كتابه ، أو أخبر به النبي-صلى الله عليه وسلم- في سنته ، وما هو أبعد من ذلك فإنه من فروض الكفايات ، وقد يكون من المستحبات ، وقد لا يكون ممدوحًا في بعض الحالات إذا حدث به تفريط في الأصول الشرعية ؛ لأن هذه المسألة حادثة ، وأول من أطلقها – في غالب ظني – سيد قطب في تفسيره المعروف بظلال القرآن عند الكلام في سورة يوسف على قوله تعالى : ﴿ قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ ﴾ [ يوسف : 55 ] حيثقسم الفقه إلى قسمين : فقه الأوراق ، وفقه الحركة ([6]) .
وقال : إن فقه الحركة مبني على فقه الواقع ، ولابد للحركة – يعني للجماعة الإسلامية المنظمة – أن تعتني بفقه الواقع ؛ لأن مبنى حركتها مرتبط بمعرفتها لفقه الواقع ، وقدم معرفة فقه الواقع على ما سماه بفقه الأوراق ، وذلك أنه قال : إن فقه الأوراق- وهو فقه الكتاب والسنة – إنما يحتاج إليه إذا قامت الدولة المسلمة ، فإذا لم تكن للدولة المسلمة أو الجماعة المسلمة سلطة سياسية تحكم فكيف يُعْتَنَى بفقه الأوراق قبل أن تقوم ؟ فركز على الاهتمام بفقه الواقع بالمعنى العام ، وهو أول من قسم هذا التقسيم . فسيد قطب هو أول من طرق هذه الأفكار ، وطرقه لها كان مبنيا على نظرة ، وهذه النظرة غير صائبة في أصلها ، وهي أن فقه الكتاب والسنة لا يُحتاج إليه إلا إذا قامت الدولة المسلمة ، وهذا مما لا شك فيه خطأ عظيم ، فالدعوة التي لا تقوم على فقه الكتاب والسنة دعوة لا تمت إلى الإسلام بصلة ، بل هي دعوة مبتدعة ، إذا لم تكن الدعوة مبنية على فقه الكتاب والسنة فلن تقوم لها قائمة ولن يكتب لها البقاء وسيعتريها من الخلل الكثير . إن فقه الكتاب والسنة يحتاج إليه كل داعية ، ونحن نرى دعوات كثيرة قائمة اليوم في المجتمع الإسلامي لا تهتم بتربية أفرادها على الفقه – فقه الكتاب والسنة – وهذا ينتج عنه ضرر جسيم ، فكيف يدعون الناس ويعلمونهم إذا لم يكونوا يفقهون الكتاب والسنة ؟ ونجد كثيرًا ممن هو في خارج هذه البلاد من يتصدر للدعوة وليس لديه من العلم إلا القدر اليسير ، بل قد يكون علمه أقل من بعض المبتدئين في طلب العلم وللأسف قد يكون هذا الداعية رئيسًا في جماعة أو مسئولا عن فئة معينة ونحو ذلك . الخلاصة أن الواقع ينقسم إلى قسمين : واقع مؤثر في الأحكام ، وواقع غير مؤثر في الأحكام ، فالواقع المؤثر في الأحكام هذا هو الذي يجب على العالم والداعية رعايته ، أما الواقع الذي لا يؤثر في الأحكام فهذا لا يجب على العالم أو الداعية أن يعرفه ، فهذا من فروض الكفايات ، وقد يكون في بعض الأحوال مستحبا وقد يكون مباحًا كما أشرنا سابقًا . إذا تأملنا دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب وكيف كان يدعو الناس لوجدنا أنه – رحمه الله – كان عالِمًا بواقع الناس وأحوالهم في وقته ، ولهذا بدأ – رحمه الله تعالى – دعوته للناس بما يصلحهم ، فما ابتدأهم بشيء بعيد عن واقعهم ، بل نقلهم خطوة بخطوة معه حتى كتب الله – جل وعلا – له ما كتب من انتشار الدعوة وقوتها . هذه هي دعوة الشيخ رحمه الله ، وتحتاج منا إلى دراسة وتأمل ؛ لأنها دعوة سلفية نجحت في هذه البلاد ، ولا بد أن يتعلمها الدعاة ، وأن ينظروا في أسباب نجاحها ، وأن ينظروا فيما كان عليه الشيخ وما هي اهتماماته ، وما كان عليه من النظر العام وأصول الدعوة ؛ لأن كل مخلص في دعوته يحب أن يعمل على نجاح دعوته التي يدعوا إليها ، وهذا يحتاج إلى النظر في الدعوات السالفة ، لعل الله – جل وعلا – أن يكتب النجاح لكل مخلص في دعوته . نسأل الله – جل وعلا – أن يجعلنا من المخلصين في قولهم وفي عملهم المقتصدين المنصفين المعتدلين ، ونسأله تبارك وتعالى أن يرزقنا العلم النافع والعمل الصالح ، وأن يميتنا على الإسلام غير مُغيِّرين ولا مبدلين .
( [1] ) أخرجه الطبراني ( 12 / 417 ، رقم 13537 ) ، وأبو نعيم فى الحلية ( 1 / 312 ) .
( [2] ) كتاب التوحيد الذي هو حق الله على العبيد ( ص43 ) .
( [3] ) سبق تخريجه في حاشية ( 1 ) .
( [4] ) المواققات ( 1 / 52 ) .
( [5] ) أخرجه البخاري ( 2 / 675 ، رقم 1814 ) ، ومسلم ( 2 / 761 ، رقم 1080 ) .
( [6] ) انظر ظلال القرآن ( 4 / 318 ) .