إعـــــــلان

تقليص
1 من 3 < >

تحميل التطبيق الرسمي لموسوعة الآجري

2 من 3 < >

الإبلاغ عن مشكلة في المنتدى

تساعدنا البلاغات الواردة من الأعضاء على منتدى الآجري في تحديد المشكلات وإصلاحها في حالة توقف شيء ما عن العمل بشكل صحيح.
ونحن نقدّر الوقت الذي تستغرقه لتزويدنا بالمعلومات عبر مراسلتنا على بريد الموقع ajurryadmin@gmail.com
3 من 3 < >

فهرسة جميع الشروح المتوفرة على شبكة الإمام الآجري [مبوبة على حسب الفنون] أدخل يا طالب العلم وانهل من مكتبتك العلمية

بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله -صلى الله عليه - وعلى آله ومن ولاه وبعد :

فرغبة منا في تيسير العلم واشاعته بين طلابه سعينا لتوفير جميع المتون وشروحها المهمة لتكوين طلبة العلم ، وقد قطعنا شوطا لابأس به في ذلك ولله الحمد والمنة وحده ، إلا أنه إلى الآن يعاني بعض الأعضاء والزوار من بعض الصعوبات في الوصول للشروح والمتون المرادة لتداخل الشروح أو لقلة الخبرة التقنية .

من أجل هذا وذاك جاء هذا الموضوع ليكون موضوعا مرجعا جامعا مرتبا بإذن الله لكل المواد العلمية الموضوعة حاليا في شبكتنا ومرتبا على حسب أبواب الفنون العلمية (العقيدة، الفقه، الحديث،...)وسنحاول أيضا ترتيبها على مستويات الطلب (المبتدئ ، المتوسط ، المنتهي) سيتم تحديثه تبعا بعد إضافة أي شرح جديد .

من هـــــــــــنا
شاهد أكثر
شاهد أقل

سلسلة السيوف الباترة في نحور المتكلمة والأشاعرة

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • سلسلة السيوف الباترة في نحور المتكلمة والأشاعرة

    السيوف الباترة في نحور المتكلمة والأشاعرة


    الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله ومن والاه فهذه سلسلة "السيوف الباترة في الرد على المتكلمة والأشاعرة" انطلقت فيها بعد استخارة
    الله جل وعلا مع سلاسلي الأخرى"انفجار البركان على اليهود وعباد الصلبان" ,"الخناجر في كبد الرافضة سابي الصحابة الأكابر" ,"حز رؤوس الرافضة المجوس" ,"فرق تحت المجهر" ,"إضاءة الفانوس على كفر الرافضة المجوس","خيانات الشيعة" و"تصويب قذائف المدفعية إلى عقائد الصوفية" و هذه السلاسل عبارة عن بحوث و مواضيع ورسائل متفرقة لأصحابها حاولت تقريبها وترتيبها و أحيانا تلخيصها وتصفيتها من المسائل المخالفة للعقيدة والمنهج راجيا من الله جل وعلا أن يكتبني و زوجتي وكل المسلمين عنده من المجاهدين المنافحين عن دينه وسنة نبيه و الله من وراء القصد.

    أموت ويبقى ما كتبته ... فيا ليت من قرا دعاليا
    عسى الإله أن يعفو عني ... ويغفر لي سوء فعاليا

    أبو جهاد الجزائري

    الرد على علماء الكلام

    "تدبرتُ عامةَ ما يذكره المتفلسفةُ والمتكلمةُ من الدلائل العقلية، فوجدتُ دلائل الكتاب والسنة تأتي بخلاصته الصافيه عن الكدر، وتأتي بأشياء لم يهتدوا لها، وتحذف ما وقع منهم من الشبهات والأباطيل مع كثرتها واضطرابها" ابن تيمية (19|233).

    قال أبو العلاء المعري:
    لولا التنافُسُ في الدنيا لما وضِعَت ... كتُبُ التناظر لا المُغني ولا العُمَدُ
    يحلّلون -بزعمٍ منهمُ– عقداً... وبالذي وضعوه زادت العقد
    قد بالغوا في كلامٍ بانَ زُخرُفُهُ ... يوهي العُيونَ ولم تثبُت له عَمَدُ
    وما يزالون في شامٍ وفي يمنٍ ... يستنبطونَ قياساً ما لهُ أمَدُ
    فذَرهمُ ودَنياهمُ فقد شَغَلوا... بها ويَكفيهم مِنها القادرُ الصَمَدُ
    كتاب المغني هو للقاضي عبد الجبار المعتزلي.
    الرد على علماء الكلام


    قال الإمام ابن قتيبة –رحمه الله في "تأويل مختلف الحديث" (1|13): وقد تدبرت رحمك الله مقالة أهل الكلام، فوجدتهم: يقولون على الله ما لا يعلمون، ويفتنون الناس بما يأتون، ويبصرون القذى في عيون الناس وعيونهم تطرف على الأجذاع، ويتهمون غيرهم في النقل ولا يتهمون آراءهم في التأويل. ومعاني الكتاب والحديث وما أودعاه من لطائف الحكمة وغرائب اللغة، لا يُدرَكُ بالطفرة والتولد والعرض والجوهر والكيفية والكمية والأينية.


    ولو ردوا المشكل منهما إلى أهل العلم بهما، وضح لهم المنهج واتسع لهم المخرج. ولكن يمنع من ذلك: طلب الرياسة وحب الأتباع واعتقاد الإخوان بالمقالات. والناس أسراب طير يتبع بعضها بعضاً. ولو ظهر لهم من يدعي النبوة –مع معرفتهم بأن رسول الله r خاتم الأنبياء– أو من يدعي الربوبية، لوجد على ذلك أتباعاً وأشياعاً.


    وقد كان يجب مع ما يدَّعونه من معرفة القياس وإعداد آلات النظر، أن لا يختلفوا، كما لا يختلف الحُسّاب والمُسّاح والمهندسون، لأن آلتهم لا تدل إلا على عددٍ واحِدٍ، وإلا على شكلٍ واحدٍ. وكما لا يختلف حُذّاق الأطباء في الماء وفي نبض العروق، لأن الأوائل قد وقفوهم من ذلك على أمرٍ واحدٍ. فما بالهم أكثر الناس اختلافاً؟ لا يجتمع اثنان من رؤسائهم على أمر واحد في الدين! فأبو الهذيل العلاف يخالف النّظّام. والنجار يخالفهما. وهشام بن الحكم يخالفهم. وكذلك ثمامة ومويس وهاشم الأوقص وعبيد الله بن الحسن وبكر العمى وحفص وقبة وفلان وفلان. ليس منهم واحد إلا وله مذهب في الدين يدان برأيه، وله عليه تبع.


    ولو كان اختلافهم في الفروع والسنن، لاتسع لهم العذر عندنا. وإن كان لا عذر لهم مع ما يدعونه لأنفسهم، كما اتسع لأهل الفقه ووقعت لهم الأسوة بهم. ولكن اختلافهم في التوحيد، وفي صفات الله تعالى، وفي قدرته، وفي نعيم أهل الجنة، وعذاب أهل النار، وعذاب البرزخ، وفي اللوح، وغير ذلك من الأمور التي لا يعلمها نبي إلا بوحي من الله تعالى.


    ولن يعدم هذا من رد مثل هذه الأصول إلى استحسانه ونظره وما أوجبه القياس عنده، لاختلاف الناس في عقولهم واختياراتهم. فإنك لا تكاد ترى رجلين متفقين، حتى يكون كل واحد منهما يختار ما يختاره الآخر، ويرذل ما يرذله الآخر، إلا من جهة التقليد. والذي خالف بين مناظرهم وهيئاتهم وألوانهم ولغاتهم وأصواتهم وخطوطهم وآثارهم –حتى فرق القائف بين الأثر والأثر وبين الأنثى والذكر– هو الذي خالف بين آرائهم.
    والذي خالف بين الآراء، هو الذي أراد الاختلاف لهم. ولن تكمل الحكمة والقدرة، إلا بخلق الشيء وضده، ليعرف كل واحد منهما بصاحبه. فالنور يُعرَفُ بالظلمة. والعلم يعرف بالجهل. والخير يعرف بالشر. والنفع يعرف بالضر. والحلو يعرف بالمر. لقول الله تبارك وتعالى: {سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون}. والأزواج: الأضداد. والأصناف: كالذكر والأنثى واليابس والرطب. وقال تعالى: {وأنه خلق الزوجين الذكر والأنثى}.

    ولو أردنا –رحمك الله– أن ننتقل عن أصحاب الحديث، ونرغب عنهم إلى أصحاب الكلام، ونرغب فيهم، لخرجنا من اجتماعٍ إلى تشتّتٍ، وعن نِظامٍ إلى تفرقٍ، وعن أُنْسٍ إلى وِحشة، وعن اتفاق إلى اختلاف. لأن أصحاب الحديث كلهم مجمعون على أن: ما شاء الله كان وما لم يشأ لا يكون، وعلى أنه خالق الخير والشر، وعلى أن القرآن كلام مخلوق، وعلى أن الله تعالى يُرى يوم القيامة، وعلى تقديم الشيخين، وعلى الإيمان بعذاب القبر. لا يختلفون في هذه الأصول. ومن فارقهم في شيء منها، نابذوه وباغضوه وبدّعوه وهجروه. وإنما اختلفوا في اللفظ بالقرآن، لغموضٍ وقَعَ في ذلك. وكلهم مجمعون على أن القرآن بكل حال –مقروءاً ومكتوباً ومسموعاً- غير مخلوق مخلوق. فهذا الإجماع.
    وأما الإيتساء، فبالعلماء المبرزين والفقهاء المتقدمين والعباد المجتهدين الذين لا يجارون ولا يبلغ شأوهم. مثل سفيان الثوري ومالك بن أنس والأوزاعي وشعبة والليث بن سعد، وعلماء الأمصار وكإبراهيم بن أدهم ومسلم الخواص والفضيل بن عياض وداود الطائي وأحمد بن حنبل وبشر الحافي، وأمثال هؤلاء ممن قرب من زماننا. فأما المتقدمون فأكثر من أن يبلغهم الإحصاء ويحوزهم العدد. ثم بسواد الناس ودهمائهم وعوامهم في كل مصر وفي كل عصر، فإن من أمارات الحق إطباق قلوبهم على الرضاء به. ولو أن رجلا قام في مجامعهم وأسواقهم بمذاهب أصحاب الحديث –التي ذكرنا إجماعهم عليها– ما كان في جميعهم لذلك منكر ولا عنه نافر. ولو قام بشيء مما يعتقده أصحاب الكلام –مما يخالفه– ما ارتد إليه طرفه إلا مع خروج نفسه.


    فإذا نحن أتينا أصحاب الكلام لما يزعمون أنهم عليه من معرفة القياس وحسن النظر وكمال الإرادة، وأردنا أن نتعلق بشيء من مذاهبهم ونعتقد شيئا من نحلهم، وجدنا النّظَّام (من كبار زعماء المعتزلة) شاطرا من الشطار (أي قاطع طريق). يغدو على سكر، ويروح على سكر، ويبيت على جرائرها. ويدخل في الأدناس، ويرتكب الفواحش والشائنات. وهو القائل:
    ما زلت آخذ روح الزّق في لطف * وأستبيح دماً من غير مجروح
    حتى انثنيت -ولي روحان في جسدي * والزق مطرح- جسم بلا روح


    ثم نجد أصحابه يعدون من خطئه قوله: «إن الله عز وجل يحدث الدنيا وما فيها في كل وقت إفنائها». قالوا: «فالله في قوله يحدث الموجود ولو جاز إيجاد الموجود لجاز إعدام المعدوم». وهذا فاحش في ضعف الرأي وسوء الاختيار. وحكوا عنه أنه قال: «قد يجوز أن يجمع المسلمون جميعا على الخطأ»! قال: «ومن ذلك إجماعهم على أن النبي r بعث إلى الناس كافة دون جميع الأنبياء، وليس كذلك. وكل نبي في الأرض بعثه الله تعالى فإلى جميع الخلق بعثه. لأن آيات الأنبياء لشهرتها تبلغ آفاق الأرض، وعلى كل من بلغه ذلك أن يصدقه ويتبعه». فخالف الرواية عن النبي r أنه قال: «بعثت إلى الناس كافة وبعثت إلى الأحمر والأسود وكان النبي يبعث إلى قومه». وأوَّلَ الحديث. وفي مخالفة الرواية وحشة. فكيف بمخالفة الرواية والإجماع لما استحسن؟ انتهى كلام الإمام ابن قتيبة.


    قال شيخ الإسلام في الرد على بعض أئمة أهل الكلام –لما تكلموا في المتأخرين من أهل الحديث، وذموهم بقلة الفهم، وأنهم لا يفهمون معاني الحديث، ولا يميزون بين صحيحه من ضعيفه، ويفتخرون عليهم بحذقهم ودقة علومهم فيها– فقال –رحمه الله تعالى– في مجموع الفتاوى (18|52):
    «لا ريب أن هذا موجود في بعضهم، يحتجون بأحاديث موضوعة في مسائل الفروع والأصول وآثار مفتعلة وحكايات غير صحيحة، ويذكرون من القرآن والحديث ما لا يفهمون معناه. وقد رأيت من هذا عجائب. لكنهم بالنسبة إلى غيرهم في ذلك، كالمسلمين بالنسبة إلى بقية الملل. فكل شرٍّ في بعض المسلمين، فهو في غيرهم أكثر. وكل خيرٍ يكون في غيرهم، فهو فيهم أعظم. وهكذا أهل الحديث بالنسبة إلى غيرهم. وبإزاء تكلم أولئك بأحاديث لا يفهمون معناها، تكلف هؤلاء (الأصوليون) من القول بغير علم، ما هو أعظم من ذلك و أكثر. وما أحسن قول الإمام أحمد: "ضعيف الحديث خيرٌ من الرأي".


    وقد أمر الشيخ أبو عمرو ابن الصلاح بانتزاع مدرسة معروفة من أبى الحسن الآمدي. وقال: "أخذُها منه، أفضل من أخذ عكا" (أي من الإفرنج أيام احتلالهم لبعض بلاد الشام ومصر في المئة السادسة). مع أن الآمدي لم يكن في وقته أكثر تبحراً في الفنون الكلامية والفلسفية منه. ومن المعلوم أن الأمور الدقيقة سواء كانت حقاً أو باطلاً، إيماناً أو كفراً، لا تُدرك إلا بذكاءٍ وفِطنة. فلذلك يستجهلون (أي المتكلمين) من لم يشركهم في عملهم، وإن كان إيمانه أحسن من إيمانهم، إذا كان منه قصورٌ في الذكاء والبَيان. وهُم كما قال الله تعالى: ]إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون. وإذا مروا بهم يتغامزون...[ الآيات. فلذا تقلدوا عن طواغيتهم: أن كل ما لم يحصل بهذه الطرق القياسية ليس بعلم.

    وقد لا يحصل لكثير منهم منها ما يستفيد به الإيمان الواجب، فيكون كافراً زنديقاً منافقاً جاهلاً ضالاً مضلاً ظلوماً كفوراً، ويكون من أكابر أعداء الرسل ومنافقي الملة من الذين قال الله فيهم: {وكذلك جعلنا لكل نبي عدوّاً من المجرمين}. وقد يحصل لبعضهم إيمان ونفاق، ويكون مرتداً: إما عن أصل الدين، أو بعض شرائعه. إما ردة نفاق، وإما ردة كفر. وهذا كثير غالب، لا سيما في الأعصار والأمصار التي تغلب فيها الجاهلية والكفر والنفاق. فلهؤلاء (الأصوليين) من عجائب الجهل والظلم والكذب والكفر والنفاق والضلال، مالا يتسع لذكره المقال.
    وإذا كان في المقالات الخفية، فقد يقال أنه: فيها مخطئ ضال، لم تقم عليه الحجة التي يكفر صاحبها. لكن ذلك يقع في طوائف منهم في الأمور الظاهرة التي يعلم الخاصة والعامة من المسلمين أنها من دين المسلمين. بل اليهود والنصارى والمشركون يعلمون أن محمداً بُعِثَ بها وكَفَّرَ من خالَفها، مثل أمره بعبادة الله وحده لا شريك له، ونهيه عن عبادة أحد سوى الله من الملائكة والنبيين وغيرهم. فإن هذا أظهر شعائر الإسلام. ومثل: معاداة اليهود والنصارى والمشركين. ومثل: تحريم الفواحش والربا والخمر والميسر، ونحو ذلك. ثم تجد كثيراً من رؤوسهم وقعوا في هذه الأنواع، فكانوا مرتدين. وإن كانوا قد يتوبون من ذلك، ويعودون كرؤوس القبائل، مثل الأقرع وعيينة ونحوهم ممن ارتد عن الإسلام ثم دخل فيه. ففيهم من كان يتهم بالنفاق ومرض القلب، وفيهم من لم يكن كذلك.

    فكثير من رؤوس هؤلاء (الأصوليين) هكذا: تجده تارة يرتد عن الإسلام ردة صريحة، وتارة يعود إليها ولكن مع مرض في قلبه ونفاق. وقد يكون له حال ثالثة يغلب الإيمان فيها النفاق. لكن قلّ أن يَسلَموا من نوع نفاق. والحكايات عنهم بذلك مشهورة. وقد ذكر ابن قتيبة عن ذلك طرفاً في أول "مختلف الحديث". وقد حكى أهل المقالات بعضهم عن بعض من ذلك طرفاً، كما يذكره أبو الحسن الأشعري (ت 324هـ) والقاضي أبو بكر ابن الباقلاني (الأصولي المالكي، ت 403هـ) وأبو عبد الله الشَّهْرَسْتاني (أبو الفتح ت 548هـ) وغيرهم.
    وأبلغ من ذلك أن منهم من يُصنِّف في دين المشركين والردة عن الإسلام، كما صنفَ الرازي (606هـ) كتابه في عبادة الكواكب، وأقام الأدلة على حُسن ذلك ومنفعته، ورغَّبَ فيه. وهذه ردةٌ عن الإسلام باتفاق المسلمين. وإن كان قد يكون عاد إلى الإسلام».

    جهل علماء الأصول بعلم الحديث

    قال الحافظ ابن رجب في "ذيل طبقات الحنابلة" (2|16) (في ترجمة الإمام الحافظ عبد الغني بن عبد الواحد المقدسي): «ولقد عُقِد مرةً مجلسٌ لشيخِ الإسلامِ أبي العباسِ ابنِ تيميةَ، فتكلمَ فيهِ بعضُ أكابرِ المخالفينَ، وكان خطيبُ الجامعِ. فقالَ الشيخُ شرفُ الدينِ عبدُ اللهِ أخوْ الشيخِ: "كلامُنا معَ أهلِ السنةِ، أما أنتَ: فأنا أكتبُ لكَ أحاديثَ من الصحيحينِ، وأحاديثَ من الموضوعاتِ، وأظنُهُ قالَ: وكلاماً من سيرةِ عنترَ فلا تـُمَيّزُ بينهما"! أو كما قالَ، فسكتَ الرجلُ».

    ونحو هذا ما قاله أخوه شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى (4|71): «فإن فرض أن أحدا نقل مذهب السلف كما يذكره، فإما أن يكون قليل المعرفة بآثار السلف كأبي المعالي، وأبي حامد الغزالي، وابن الخطيب، وأمثالهم، ممن لم يكن لهم من المعرفة بالحديث ما يعدون به من عوام أهل الصناعة، فضلا عن خواصها، ولم يكن الواحد من هؤلاء يعرف بالبخاري، ومسلما، وأحاديثهما إلا بالسماع، كما يذكر ذلك العامة، ولا يميزون بين الحديث الصحيح المتواتر عند أهل العلم بالحديث، وبين الحديث المفترى المكذوب، وكتبهم أصدق شاهد بذلك، ففيها عجائب، وتجد عامة هؤلاء الخارجين عن منهاج السلف من المتكلمة والمتصوفة يعترف بذلك إما عند الموت، وإما قبل الموت، والحكايات في هذا كثيرة معروفة.. [ثم ذكر شيئا منها] ».
    ورحم الله الشوكاني حين قال في "البدر الطالع" (2|262): «وليس في علم إنسان خير، إذا كان لا يعرف علم الحديث، وإن بلغ في التحقيق إلى ما ينال».

  • #2
    الحلقة
    (2)


    إبطال مذهب التفويض


    التفويض هو الدعوة إلى الجهل بالله.
    تعريف التفويض
    التفويض هو ” صرف اللفظ عن ظاهره مع عدم التعرض لبيان المعنى المراد منه بل يترك ويفوض علمه إلى الله“ (النظام الفريد بتحقيق جوهرة التوحيد. حاشية على إتحاف المريد بجوهرة التوحيد ص12.
    التفويض عند القشيـري
    قال القشيري ” صفة ذاتية لا يعقل معناها تمويه ضمنه تكييف وتشبيه ودعاء إلى الجهل .“
    قال القشيري ” وإن قال الخصم بأن هذه الظواهر لا معني لها أصلاً فهو حكم بأنها ملغاة“
    إما أن يتراءى لنا أو يوصف لنا
    ونحن لا يمكن أن نتعرف على الله إلا من خلال رؤيته وهو محال في الدنيا.
    أو التعرف عليه من خلال تدبر صفاته. وهذا محرم عند المفوضة.
    ونتيجة ذلك تعطيل الله تماما في نفس البشر.
    وقد قيل: الجهل بالصفات يؤدي إلى الجهل بالموصوف.
    ويلزم منه وصف النبي بالجهل وأنه كان يدعو إلى الجهل بالله.
    ويلزم منه أن ألفاظ الصفات في القرآن بأحرف عربية ولكن بلغة سنسكريتية لا نعرفها.
    ويلزم أن الله لم ينزل آيات الصفات في القرآن العربي بصفات عربية مع أن آيات الصفات نزلت بلغة العرب فكيف تكون ألفاظا ذات معنى ولا يكون لها معنى؟؟؟
    ألفاظ ذات معنى لكن لا معنى لها!!!
    والتفويض هو إثبات لفظ الصفة مفرغة من المعنى وبتعبير آخر: قبول ألفاظ الصفات مع إخلائها من معانيها الصحيحة.
    أراد به قسم من الأشاعرة الهروب من مصيدة تحريف معنى الصفة الذي يسميه أشاعرة آخرون (التأويل) ولكنهم سقطوا في مصيدة منع معنى الصفة، ظن المفوض أنه نجا بذلك ممن يجعلون لألفاظ الصفات معان باطلة، وإنما انتقل من المعنى الباطل إلى لا معنى.

    فإنه: إذا كان التأويل: هو إيجاد المعاني المستبعدة لنصوص الصفات. فإن التفويض هو إبعاد المعاني الحقة لنصوص الصفات.
    والتفويض فرع مذهب المعتزلة الذين كانوا يعتبرون أسماء الله أعلاماً محضة، بينما يعتبر المفوض الصفات أعلاماً محضة. والنتيجة لكليهما التعطيل، وحينئذ لا فرق بين المعتزلة الذين جعلوا أسماء الله أعلاماً محضة وبين الأشاعرة المفوضة الذين جعلوا صفات الله أعلاماً محضة. فإنه لو كانت أسماء الله وصفاته أعلاماً محضة لم تكن حسنى.
    والمفوضة ضاقوا ذرعاً بالتحريف (التأويل) ولم يحتملوا ما أثمره في قلوبهم من قسوة وظلمة ولكنهم لم يحلوا الإشكال الوارد في النصوص التي يسمونها «نصوص التشبيه» فكان الحل أن يُبقوا هذا الإشكال في صدورهم ولا يتحدثوا به. فمرض التشبيه باق ولكن اكتمه في صدرك ولا تحدث به واشك مصيبتك إلى الله!
    لقد سُمِح بالتفويض في المذهب الأشعري لسببين:
    السبب الأول: أن كثيراً من أئمة الأشاعرة كالغزالي والجويني والسمرقندي تركوا التأويل وكانوا قبل تركه يُكرهون فِطَرَهُم على قبول المحال والمتناقض ويرغمونها على ما تأباه وتنفر منه. كقولهم إن الله قَهَرَ العرش وأن النبي  قال للجارية أين الله أي ما اعتقادك في عظمة الله فقالت في السماء أي عظيم القدر جداً.. الخ. ووجدوا من الصعوبة الجمع بين طلب التقوى والصدق مع الله، والقول على الله بهذه الاحتمالات في العقيدة التي تصيب القلب بالقسوة وقلة الورع. ولو لم يكن التأويل اجتهاداً ورأياً لما سُمِح بالتفويض. ولوجب الاقتصار على التأويل.
    السبب الثاني: أن التفويض ينتهي إلى ما انتهى إليه التأويل، فهما يسيران في طريقين مختلفين ثم يلتقيان معاً في النهاية.
    فإن المفوض يصرف اللفظ عن المعنى الراجح: ولكن لا إلى معنى، بينما المؤول يصرف اللفظ عن المعنى الراجح إلى معنى مرجوح، فيتفقان في صرف اللفظ عن المعنى المتبادر. ويفترقان في أن أحدهما يعطيه معنى آخر محتملاً، والثاني يمنع عنه المعنى. ولكنهم في النهاية يلتقون عند نتيجة مشتركة: وهي: رفض وصف الله بما وصف به نفسه وتنزيهه عما وصف به نفسه.
    ولهذا قيل إن التأويل والتفويض وجهان لعملة واحدة، فإنهما يلتقيان عند تعطيل معنى الصفة المرادة لله. ومن هنا ندرك سر الإذن به من قِبَل الأشاعرة والماتريدية. فنتائج التفويض مثل نتائج التأويل من حيث الجناية على النصوص وتعطيل معانيها.
    لقد نظر جماعة من الأشاعرة إلى زجر السلف عن تأويلات الجهمية والمعتزلة، وعرفوا ما يُحدث التفويض عند أبناء المذهب من النفور من التأويل وعدم اطمئنان النفوس إليه، وخافوا من الارتداد عن المذهب فأوجدوا لهم بديلاً أسموه التفويض وزعموا أن السلف كانوا يمنعون حتى مجرد تفسير آيات الصفات.
    وكل من هاتين الطائفتين تمتاز بصفة ذكرها الله في أهل الكتاب:
    فالمؤولة  يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ  [النّساء 46].
    والمفوضة  لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاّ أَمَانِيّ  [البقرة 78]، أي إلا تلاوة للمعنى، لا يفهمونه ولا يتدبرونه. مع أن ثمرة التلاوة يجب أن تكون التفكر وتدبر المعاني.
    وقد أراد المفوض التخلص من أذى التأويل – أعني التحريف – الذي يمرض القلوب فوقع في مرض آخر هو التفويض الذي حقيقته تجاهل معاني أسماء الله وصفاته والادعاء بأن الله أنزلها ولم يرد منا معرفة معناها فجهلها رسول الله وأصحابه وكان  يحفظ أسماء مجردة عن المعاني.


    اللجوء إلى مرض التفويض هرباً من مرض التأويل

    التفويض مذهب ظاهره التقوى والكف، وباطنه سوء الظن بالنصوص وتجاهل ما أراد الله من عباده أن يعلموه، وثبت عن السلف تفسيره، فقد دعا النبي  لابن عباس أن يفقهه الله في الدين، ويعلمه التأويل، أي التفسير.
    وقد قال ابن عباس: « كلّ القرآن أعلم إلا أربع: حنان وأواه وغسلين والرقيم ». ثم علم ذلك بعد كما حكاه ابن قتيبة.
    وهذا دليل على أن السلف كانوا إذا جهلوا شيئاً من القرآن صرحوا بذلك. وهم لم يصرحوا بنفي العلم بمعاني صفات الله تعالى. وإذا امتنع أحدهم عن تفسير لفظ ما فلا يدل على أن ذلك منهج لهم.
    الدليل على أن السلف فسروا آيات الصفات
    ونضرب مثالاً على أن السلف ما تجاهلوا معاني الصفات: فقد قال مجاهد:  اسْتَوَى عَلَى الْعَرْش  [الفرقان 59]، أي علا على العرش. وقال أبو العالية استوى أي ارتفع [رواه البخاري في التوحيد باب وكان عرشه على الماء].
    وعن ابن عباس في قوله تعالى:  وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا  [هود 37]، « أي بعين الله تبارك وتعالى ». وفي رواية أنه أشار بيده إلى عينه [روه البيهقي في الأسماء والصفات 396 واللالكائي في شرح أصول السنة 3/411].
    وقد قال مجاهد أخذت التفسير عن ابن عباس من أوله إلى خاتمته أقفه آيةً آيةً. فلم يستثن من ذلك آيات الصفات. وقد ثبت تفسير مجاهد لصفةٍ كثر الجدل حولها وهي صفة الاستواء.

    النبي يفسر الصفات
    بل الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم تفسير الصفات:
    ففي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة ” اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء وأنت الآخر فليس بعدك شيء وأنت الظاهر فليس فوقك شيء وأنت الباطن فليس دونك شيء الدين واغننا من الفقر“
    قال القرطبي:
    ” عني بالظاهر الغالب والباطن العالم والله أعلم وهو بكل شيء عليم بما كان أو يكون فلا يخفى عليه شيء“ ((تفسير القرطبي17/236).).
    أضاف القرطبي:
    ” قوله تعالى هو الأول والآخر والظاهر والباطن اختلف في معاني هذه الأسماء وقد بيناها في الكتاب الأسني وقد شرحها رسول الله ص شرحا يغني عن قول كل قائل“ (تفسير القرطبي17/236).
    تأمل قول القرطبي: " وشرحها رسول الله".
    وقال رسول الله «النبي  : « يطوي الله عز وجل السماوات يوم القيامة ثم يأخذهن بيده اليمنى ثم يقول أنا الملك: أين الجبارون أين المتكبرون؟» وفي رواية: « يأخذ الله عز وجل سماواته وأرضيه بيديه ويقول: أنا الله. ويقبض أصابعه ويبسطها ويقول: أنا الملك، قال ابن عمر: حتى نظرت إلى المنبر يتحرك من أسفل شيء منه، حتى إني أقول: أساقط هو برسول الله  ؟» [رواه مسلم رقم (278].
    وكذلك تلا  قوله تعالى:  إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيرًا  [النّساء 58]، قال أبو هريرة: « رأيت رسول الله  يضع إبهامه على أذنه والتي تليها على عينه. يقرؤها ويضع أصبعيه. قال المقرئ: يعني أن الله سميع بصير. قال أبو داود: وهذا رد على الجهمية » [رواه أبو داود في كتاب السنة باب في الجهمية 4/233 رقم (472 وصححه الحاكم 1/24 وقال الذهبي "على شرط مسلم" وحسن إسناده الحافظ ابن حجر 13/373].
    وفي رواية عن عقبة بن عامر قال: « سمعت رسول الله  يقول على المنبر: « إن ربنا سميع بصير » وأشار إلى عينه » [ذكر هذه الرواية الحافظ ابن حجر في الفتح 13/373 نقلا عن البيهقي في الأسماء والصفات وقال "سنده حسن"].
    وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: « جاء رجل إلى النبي  من أهل الكتاب فقال: يا أبا القاسم: إن الله يمسك السماوات على إصبع والأرضين على إصبع والشجر والثرى على إصبع والخلائق على إصبع ثم يقول: أنا الملك أنا الملك. فرأيت رسول الله  ضحك حتى بدت نواجذه [تعجباً وتصديقا] ثم قرأ:  وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ  [الأنعام 91]. وحاشا لنبينا أن يُضحكه كفرٌ ثم يقره ولا ينكره.

    وهذا يؤكد أن الرسول  قد بين لأصحابه معاني القرآن كما بين لهم ألفاظه كما أمره الله بذلك فقال:  وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِم  [النّحل 44].
    وأما هؤلاء فينتهون إلى أنه  اكتفى بإبلاغ الأمة الألفاظ وترك لهم هذا الباب دون بيان.
    وهذا من المحال:
    • إذ كيف يكون القرآن السراج المنير الذي أخر الله به الناس من الظلمات إلى النور وأنزل معه الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه أن يترك باب الإيمان بصفات الله مشتبهاً متلبساً بالـ - - - مما يضطر البعض أن يصف آياته ب‍ «آيات التشبيه» أو «الآيات التي ظاهرها كفر». ولم يميز ما يجب وما لا يجوز عليه وما يستحيل؟
    • وكيف يترك النبي  هذا الباب ملتبساً مشتبهاً وهو الذي أشهد أمته على أنه بلغ وبين ونصح وقال: « تركتكم على البيضاء، ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك » [رواه أحمد 4/126 وابن ماجه (43) والحاكم 1/96 واللالكائي 1/22 قال الألباني إسناده صحيح (سلسلة رقم 937)].


    الأشاعرة المؤولة يردّون على الأشاعرة المفوضة

    يجهل كثيرون أن:
    • الأشاعرة فرقتان: أشاعرة مؤولة وأشاعرة مفوضة.
    • والماتريدية فرقتان: ماتريدية مؤولة وماتريدية مفوضة.
    فهم في الحقيقة أربع فرق لا فرقتان.
    وسترى كيف يضلل كل فريق منهم الآخر ويتهمه بتجاهل معاني كلام الله بل ونسبة الجهل وما لا يليق إلى النبي  .
    والاختلاف على جواز التفويض أو التأويل خلاف أشعري – أشعري وكذلك أشعري – ماتريدي.
    فقد انتهى كبار الأشاعرة كالغزالي والجويني وجماعة من الماتريدية إلى ترجيح التفويض ومنع التأويل بالرغم من نزعتهم العقلانية فتوقفت عقولهم عن استخراج التأويلات.
    لقد جهلوا أن الاختلاف على شرعية التأويل خلاف «أشعري أشعري – أشعري ماتريدي».
    بل هم مختلفون في كون آيات الصفات من المتشابه كما قال أبو منصور البغدادي: « واختلف أصحابنا في هذا فمنهم من قال إن آية الاستواء من المتشابه الذي لا يعلم تأويله إلا الله » [أصول الدين 112].
    • فكل تأويل يتأوله المؤولة من الأشاعرة منقوض بتفويض إخوانهم من الأشاعرة المفوضة، فهذا اختلاف جوهري في العقيدة فأنتم يا مؤولة أو هم على هدى أو في ضلال مبين. فلو كانت تأويلاتكم مصداق دعاء النبي  لابن عباس لما تخلى عنه الأشاعرة المفوضة.
    • فالتفويض ليس شيئاً مسَلّماً به لا فيما بين الأشاعرة والماتريدية ولا من قِبَل غيرهم. فلماذا يخاصمون من يرده عليهم؟
    وانقسام الأشاعرة إلى فرقتين: فرقة مفوضة وفرقة مؤولة هو تفرق في أصول الدين يكشف لك التناقض داخل المذهب. والانشطار الذي بينهم مما يسترونه عن أعين الناس، وينكشف التناقض في نسبتهم كلاً من التفويض والتأويل إلى السلف.
    فالأشاعرة تارة يحكون عن السلف التأويل كقولهم: وقال ابن عباس  يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ  [القلم 47]، أي يكشف عن شدة. وتارة يحكون عن السلف التفويض فيقولون: قال السلف: أمروها على ظاهرها من غير تأويل.
    وقد رد ابن فورك على المفوضة الذين يزعمون أن ألفاظ الصفات مما لا يُفهم معناه قائلاً:
    قال ابن فورك « وأعلم أن النبي  إنما خاطبنا على لغة العرب فإذا ورد منه الخطاب حمل على مقتضى حكم اللغة».
    وقال « النبي  إنما خاطبنا بذلك ليفيدنا أنه خاطبنا على لغة العرب بألفاظها المعقولة فيما بينها المتداولة عندهم في خطابهم فلا يخلو أن يكون قد أشار بهذه الألفاظ إلى معان صحيحة مفيدة أو لم يشر بذلك إلى معنى وهذا مما يجل عنه أن يكون كلامه يخلو من فائدة صحيحة ومعنى معقول.. وأن لا معنى لقول من قال إن ذلك مما لا يفهم معناه أذ لو كان كذلك لكان خطابه خلوا من الفائدة وكلامه معنى عن مراد صحيح وذلك مما لا يليق به  » (مشكل الحديث وبيانه1/302و496).
    أضاف:
    « لو كان معنى الصفات غير مفهوم لكان خطاب الله خالياً من الفائدة، وعارياً عن معنى صحيح: وهذا مما لا يليق بالنبي  » [مشكل الحديث وبيانه 496]. وإذا كان لا يليق بالنبي فهو باطل!
    ولكن هل تمسك ابن فورك بالمعنى الصحيح المتبادر من اللفظ أم أنه انصرف عنه إلى معاني أخرى محتملة والمحتمل لا تقوم به حجة؟!
    والعجيب أن الأشاعرة يجعلون هذا الباطل أحد طريقي أهل السنة في تنزيه الله (التأويل والتفويض) ويجيزون لأتباعهم أن يختاروا أياً من الطريقين شاءوا: إما التأويل وإما التفويض. حتى قال اللقاني في جوهرة التوحيد [جوهرة التوحيد ص 91 وهو كتاب مقرر في الأزهر في تدريس مادة العقيدة]:
    وكل وصفٍ أوهَمَ التشبيها أوِّلْهُ أو فوّض ورُم تنزيها


    القشيري يطعن في المفوضة
    ولما قال والد الجويني أن الحروف المقطعة من قبيل الصفات ورجح التفويض زاعماً أنه طريق السلف [إتحاف السادة المتقين 2/110]:
    رد عليه القشيري في التذكرة الشرقية قائلاً:
    « وكيف يسوغ لقائل أن يقول في كتاب الله ما لا سبيل لمخلوق إلى معرفته ولا يعلم تأويله إلا الله؟ أليس هذا من أعظم القدح في النبوات وأن النبي  ما عرف تأويل ما ورد في صفات الله تعالى ودعا الخلق إلى علم ما لا يعلم [قال جابر بن عبد الله في حجة النبي  "ورسول الله بين أظهرنا وعليه ينزل القرآن، وهو يعرف تأويله" (مسلم رقم 147)]؟ أليس الله يقول بلسان عربي مبين؟ فإذن: على زعمهم يجب أن يقولوا كذب حيث قال:  بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ  [الشّعراء 195]، إذ لم يكن معلوماً عندهم، وإلا: فأين هذا البيان؟
    وإذا كان بلغة العرب فكيف يدعي أنه مما لا تعلمه العرب »؟
    أضاف: « ونسبة النبي  إلى أنه دعا إلى رب موصوف بصفات لا تعقل: أمر عظيم لا يتخيله مسلم فإن الجهل بالصفات يؤدي إلى الجهل بالموصوف، وقول من يقول: استواؤه صفة ذاتية لا يعقل معناها، واليد صفة ذاتية لا يعقل معناها، والقدم صفة ذاتية لا يعقل معناها تمويه ضمنه تكييف وتشبيه ودعاء إلى الجهل… وإن قال الخصم بأن هذه الظواهر لا معنى لها أصلاً فهو حكم بأنها ملغاة وما كان في إبلاغها إلينا فائدة وهي هدر. وهذا محال… وهذا مخالف لمذهب السلف القائلين بإمرارها على ظواهرها » [إتحاف السادة المتقين 2/110 – 111 صريح البيان 35 ط: مجلدة]. ورجح النووي ذلك فقال: « يبعد أن يخاطب الله عباده بما لا سبيل إلى معرفته » [شرح مسلم للنووي 16/218].
    • وألزم الرازي المفوض بأحد أمرين:
    - إما أن يقطع بتنزيه الله عن المكان والجهة فقد قطع بأنه ليس مراد الله من الاستواء الجلوس. وهذا هو التأويل.
    - وإما أن لا يقطع بتنزيه الله عن المكان والجهة بل بقي شاكاً فيه فهو جاهل بالله تعالى" [التفسير الكبير للرازي 22/6]. وبهذا يكون الرازي قد أفصح عن حقيقة التفويض ولوازمه الفاسدة وكشف قناعه.
    • وطعن أبو حيان النحوي في التفويض ورجح التأويل عليه.
    ونقل قول ابن عباس عن آيات الصفات بأن: « هذا من المكتوم الذي لا يفسر » وكذلك نقل قول الشعبي وسعيد بن المسيب والثوري: « نؤمن بها ونقر كما نصّتْ، ولا نعيّن تفسيرها ولا يسبق النظر فيها ». ثم وصف هذين القولين بأنهما: « قول من لم يمعن النظر في لسان العرب ».
    ونسب إلى جماهير المسلمين أن الصفات تفسر على قوانين اللغة ومجازات الاستعارة. « فما صح في العقل نسبته إليه [أي إلى لله] نسبناه، وما استحال أولناه بما يليق به تعالى » [انظر تفسير البحر المحيط 1/121 و 2/124 3/524 2/124 3/524]. وهذا القول هو الأصل الذي بنى المعتزلة مذهبهم عليه.
    وإذا كان الأمر كذلك فالتفويض ليس أمراً يجوز للمتأشعر الاختيار بينه وبين التأويل. فالقشيري المؤول ينسب المفوضة الأشاعرة إلى الجهل.
    وإذا كان علم النبي تأويلها فهل كان يكتم أن الاستيلاء هو معنى الاستواء، وهل أخذتم هذا التأويل منه أو من صحابته أم من المعتزلة؟
    • وجاء بدر الدين العيني فصرح في كتابه «إيضاح الدليل» أن أهل الحق انقسموا إلى قسمين:
    أحدهما: أهل التأويل.
    ثانيهما: القائلون ب‍ «قول السلف» وهو السكوت عن تعيين المراد.
    ولكنه ناقش هذا القسم الثاني حتى وصل إلى نقده وإبطاله مع اعترافه الخاطئ أنه نهج السلف قائلاً: « وهذه المعاني المسماة إن لم تكن معلومة ولا معقولة للخلق ولا لها موضع في اللغة استحال خطاب الله الخلقَ بها! لأنه يكون خطاباً بلفظ مهمل لا معنى له، وفي ذلك ما يتعالى الله عنه، أو كخطاب عربي بلفظ تركي لا يعقل معناه... وهذا على قول هؤلاء لا يمكن أن يعلم معناه إلا الله، فيكون خطاباً بما يحير السامع، ولا يفيده شيئاً، ويلزم منه ما لا يخفى على العقلاء ما يتقدس خطاب الله عنه ». والعجب منه أن ينتهي إلى أن: « من اعتقد مذهب السلف المذكور أو مذهب التأويل الحق فهو على هدى » [إيضاح الدليل في قطع حجج أهل التعطيل 92 – 96 تحقيق وهبي غاوجي الألباني]. ويظهر أن ابن جماعة لم يرتض طريق التفويض لنفسه فكيف يرتضيه لغيره ويوصي به!
    فالتفويض مذهب يدعو إلى تغييب العقل، وقد زعموا أنه طريق السلف الصالح، وهو ليس مذهب السلف لأنه يؤدي إلى أفول العقل، والسلف لا يحبون الآفلين.
    هل نهى الله عن الاقتراب من الصفات
    كما نهى آدم عن الاقتراب من الشجرة
    ويدعي المفوض أن الله أوحى بآيات تتحدث عن الصفات لكن منعنا من معرفة معناها مثلما أن الله خلق الشجرة ونهى آدم عن الاقتراب منها. ولكن الله لم يمنعنا من الاقتراب من معاني الصفات كما منع آدم من الاقتراب من الشجرة، وكان منعه منها حجة من الله عليه.
    فأي حجة تقوم على من يطلب فهم معاني الصفات، والله لم يحذرنا من ذلك، وشأن الصفات أعظم أن تنتهك من الشجرة أن يأكل منها آدم  أَفَلا تَعْقِلُونَ  !
    وزعموا أن التفويض هو الإيمان بما وصف الله به نفسه من غير تعرف على معانيها مثل الرحيم والرحمن واللطيف والرقيب... الخ.
    وهذا إيمان لا نسلم به كلياً، فإن الإيمان بها: فهم معانيها.

    تناقض المفوضة فيما بينهم
    فقولهم: أمروها على ظاهرها يناقض قولهم بأن ظاهرها غير مراد، إذ أن إجراء النصوص على ظاهرها يقتضي الإيمان بهذا الظاهر من غير تأويل.
    وقولهم بأن ظاهرها غير مراد يقتضي إبطال هذا الإيمان وعدم إجرائها عن ظاهرها.
    وقولهم تجرى على ظاهرها يناقض قولهم لها تأويل لا يعلمه إلا الله، فإنهم بإجرائها على ظاهرها أبطلوا كل تأويل يخالف هذا الظاهر، ثم أثبتوا لها تأويلاً يخالف هذا الظاهر لا يعلمه إلا الله.
    فهم تارة يجعلون الظاهر مراداً، وتارة يجعلونه غير مراد وإنما المراد هو التأويل الباطن الذي لا يعلمه أحد حتى الراسخون في العلم!
    انقسام المفوضة فيما بينهم
    وقد انقسم المفوضة إلى قسمين:
    1 ـ قسم يزعمون أن ظواهر نصوص الصفات تقتضي التمثيل، فيحكمون بأن المراد بها خلاف ظاهرها، ثم لا يعينون المراد.
    2 ـ قسم يقولون: تجرى على ظاهرها ولها تأويل لا يعلمه إلا الله خلاف الظاهر منها وهؤلاء متناقضون [مذهب التفويض ص 568 للأستاذ أحمد القاضي].
    تارة التفويض واجب وتارة التأويل واجب
    وبينما يزعم الرازي أن مذهب السلف «وجوب» تفويض معاني الصفات ولا يجوز الخوض في تفسيرها، يبطل مذهبهم المزعوم بإجماع أهل الكلام فيقول: « وقال جمهور المتكلمين بأنه يجب الخوض في المتشابهات » [أساس التقديس 236 وانظر مجرد مقالات الأشعري 189].
    ثم يأتي متناقض معاصر وهو الحبشي فيناقض قول الرازي ويزعم بأن التأويل التفصيلي كان طريقة السلف [صريح البيان 38 الطبعة الرابعة التي زعموا أنها الأولى].
    وهم يفرضون على المسلم أن يختار واحداً من تناقضهم:
    • إما أن نردّ ما وصف الله به نفسه بتجاهل معاني صفاته.
    • أو نردّ ما وصف به نفسه باختلاق معان بعيدة عن اللفظ تصرفنا عن المعنى المراد لله. فإذا رفضنا نصير عندهم مشبهة مجسمة حشوية.
    فأعجب لفريق التأويل من الأشاعرة والماتريدية كيف يوجبون علينا التأويل بينما هم مختلفون مع فريق التفويض من الأشاعرة: هل يؤولون أم يفوضون؟ وكان حرياً بهم أن ينهوا هذا الخلاف بينهم قبل أن يفرضوا علينا شيئاً لم يتفقوا عليه فيما بينهم!
    والناس في التفويض على اتجاهين:
    ـ منهم من يقول: لا نعلم معاني صفات الله كما نسبه كثيرون إلى السلف، وهذا باطل، فقد قال الترمذي في سننه: « تأولت الجهمية هذه الآيات ففسروها على غير ما فسر أهل العلم وقالوا: إن معنى اليد القوة » [سنن الترمذي 3/42 تعليقاً على حديث رقم (662)]. فهذا نص صريح على أن أهل العلم كانوا يفسرون آيات وأحاديث الصفات.

    ـ بل قد رد أحمد على تأويلات الجهمية التي يحمل الأشاعرة العديد منها اليوم كما في كتابه «الرد على الجهمية» الذي أثبت الحافظ ابن حجر نسبته إليه قال فيه: « فيما تأولته من القرآن على غير تأويله » [انظر فتح الباري 13/493] فأثبت لأهل السنة تأويلاً وأثبت للجهمية تأويلات مخالفة لهم.

    ـ ويحتجون بقوله تعالى:  وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا  [آل عمران 7]. ولكن ليس من الرسوخ في العلم رفض معاني الصفات الثابت تفسيرها عن السلف مما تمتلئ به كتب التفسير كالطبري.

    ـ ومنهم من يقول: التفويض المطلوب إنما هو تفويض كيفية الصفة وليس العلم بمعناها. فقد قال أبو عبيد القاسم بن سلام: « إذا قيل كيف يضحك؟ قلنا: لا نفسر هذا، ولا سمعنا أحداً يفسره » [سير أعلام النبلاء 10/505 التمهيد 7/149]. لاحظ كيف تركز السؤال عن تفسير الكيفية.
    • وفي المراد بنفي التفسير فائدة كبيرة، فإن الله أنزل هذا القرآن للناس جميعاً وليس لأهل الجدل الذين أضلهم الله على علم. فوصف نفسه بصفات بينة واضحة المعنى والتفسير، ولا يحتاج معها إلى الخوض والجدل واستخراج المعاني الخفية ولا يلتبس فيها الحق بالباطل، وإنما يزعم الضالون أن ما أنزله الله من الصفات سبب كل التباس ومشكل، وإلا فلماذا يصف نفسه بأنه يستوي وينزل ويأتي ويقبض الأرض ويخلق آدم ويكتب التوراة بيده ويضحك ويعجب!!
    وكذلك قول السلف الصالح: « أمرّوها كما جاءت بلا كيف » وكما ذكر الحافظ ابن حجر عن طائفة من السلف والتابعين أنهم كانوا لا يشبهون ويروون هذه الأحاديث ولا يقولون كيف [فتح الباري 13: 407]. فهذه النصوص ظاهرة في النهي عن الخوض في الكيفية على النحو الذي هلك فيه أهل الكلام من الجهمية والمعتزلة والأشعرية.

    قال القرطبي: « ولم ينكر أحد من السلف استواءه على عرشه وإنما جهلوا كيفية الاستواء » [تفسير القرطبي ج 17 – 18 ص 215 – 216] أي أن العقول لا تدرك الكيفية، فبهذا تدرك أن قول السلف غير معقول بمعنى مجهول كما بينتها الروايات الأخرى.
    فالذين روي عنهم أنهم قالوا: أمروها كما جاءت من غير كيف. ثبت عنهم تفسير نصوص الصفات، مما يؤكد أن هذا القول لم يسلم هو الآخر من عبث الأشاعرة أيضاً فأوجدوا له تأويلاً باطلاً.
    وقول السلف: « أمرّوها كما جاءت » يقتضي إبقاء دلالتها على ما هي عليه، وتحذير الناس من التماس معان مخالفة للمعنى المتبادر من اللفظ، فإنها جاءت ألفاظاً دالة على معاني، فلو كانت دلالتها منتفية لكان الواجب أن يقال: أمرّوا لفظها مع اعتقاد أن الله لا يوصف بما دلت عليه حقيقة » [مجموع فتاوى ابن تيمية 15/41].

    ويؤكد هذا رسالة السنة التي رواها عبدوس بن مالك العطار عن أحمد أن من السنة: الإيمان بالقدر والتصديق بالأحاديث فيه والإيمان بها، لا يقال: لِمَ وكيف... ومثل أحاديث الرؤية… والحديث عندنا على ظاهره، كما جاء عن النبي  والكلام فيه بدعة ولكن نؤمن به كما جاء على ظاهره ولا نناظر فيه أحداً، والإيمان بالميزان يوم القيامة كما جاء » [طبقات لحنابلة 1/ 179 – 180 واللالكائي 1/156].

    وهذا القول شبيه بقوله في نصوص الرؤية كما عند الخلال: سألت أبا عبد الله عن الأحاديث التي تروى « إن الله تبارك وتعالى ينزل كل ليلة إلى السماء الدنيا » و« أن الله يُرى » و« إن الله يضع قدمه » وما أشبهه؟ فقال: نؤمن بها ونصدق بها ولا كيف ولا معنى…» [طبقات الحنابلة 1/143].
    فقوله (لا كيف) رد على المشبهة.
    وقوله (ولا معنى) رد على المعطلة الذين ينفون المعنى الصحيح بإيراد معانٍ باطلة لا سلف لهم بها.
    فالإمام أحمد يسوق الكلام في نصوص الوعيد والقدر والصفات والقيامة سوقاً واحداً، ولم يعرف عن أحمد تفويض معاني نصوص القدر والميزان والرؤية.

    ويجب فهم كلام أحمد مقيداً بموقفه الفعلي من الصفات كما يدل عليها كتابه «الرد على الجهمية» [أثبت الحافظ هذا الكتاب إلى الإمام أحمد (الفتح 13/493)]. حيث رد فيه معاني الجهمية الباطلة ولم يقف عند هذا الحد، بل بيّن المعنى الصحيح لها، ولم يقل لا معنى لها.

    إبطال مذهب التفويض
    الحجة البالغة
    ولذلك كان أول ما يُسأل عنه المفوضة السؤال الآتي:
    هل هذه الصفات التي في القرآن: ألفاظ دالة على معان أم أنها ألفاظ لا معنى لها؟
    فإذا أقروا بأنها دالة على معان يُسألون: هل علم النبي  بهذه المعاني أم جهلها؟
    فإما أن يقروا بأنه علمها فيُحاجون بالتبليغ. وإما أن يقولوا بأنه  جهل ما يليق بالله، فيقال لهم: كيف يكون النبي أعرف بالله من غيره وقد جهل بزعمكم معاني صفات الله. وعلمها إخوانكم المؤولة من الأشاعرة الذين ما تركوا صفة منها إلا أولوها!
    وقد أثر عن أحمد أنه قال: « أمروها كما جاءت » في نصوص لا علاقة لها بالصفات كقوله عن حديث: « من غشنا فليس منا » « لا أدري إلا على ما روي » وقول سفيان في حديث: « ليس منا من لطم الخدود » « من الله عز وجل العلم، وعلى الرسول البلاغ وعلينا التسليم » [انظر السنة للخلال رقم (999) و(1001)].
    وقول مالك: « الاستواء معلوم والكيف مجهول » هو الفصل، قال الذهبي: « وقول مالك هو قول أهل السنة قاطبة وهو أن كيفية الاستواء لا نعقلها بل نجهلها » [العلو للذهبي 104] مع أنه أثبت العلم بمعنى الاستواء لا الكيفية.
    * وليس للتأويل ولا للتفويض قانون ثابت يبين متى يجوز التأويل ومتى يجوز التفويض، وأهل الكلام مضطربون بين التأويل والتفويض.
    فالماتريدي يعتمد التأويل ويجزم به بلا قيد، بينما يجيزه ابن الهمام عندما تدعو إليه الحاجة، ويعتبر الزبيدي ذلك توسطاً، ويشترط ابن دقيق العيد أن يكون التأويل على مقتضى لغة العرب [إتحاف السادة المتقين 2/109 الفقه الأكبر شرح ملا قاري 36].
    في حين يبدي أبو المعين النسفي تحفظاً عليه. أما البياضي فيذهب إلى ما يسميه بالتأويل المجمل، والماتريدية من بعده خالفوه حتى إن أبا القاسم السمرقندي – وهو أشهر تلاميذ الماتريدي – رجّح التفويض مطلقاً وحرّم تفسير آيات الصفات التي يعتبرها من المتشابه بدعوى أنها تنتهي إلى التعطيل. قاله في السراج الأعظم، كذا قال ابن قطلوبغا ونسبه الناصري إلى عامة أئمة الماتريدية بإطلاق. ولكن لو كانت من المتشابه لما فسرها السلف.
    وجاء الكوثري فصرح بأن: « الذي كان عليه السلف إجراء ما ورد في الكتاب والسنة المشهورة في صفات الله على اللسان مع التنزيه بدون خوض في المعنى ومن غير تعيين المراد ». وأكد أن هذا طريق السلف [تعليق الكوثري على السيف الصقيل للسبكي ص13 وتعليقه على تبيين كذب المفتري ص28].
    غير أن الأحباش يرون هذا من الخطأ:
    فقد قال أحد رجال الحبشي (محمد الولي): « ونسبة النبي  إلى أنه دعا إلى رب يُعرف بصفات لا تُعقَل أمر عظيم لا يتخيله مسلم، فإن الجهل بالصفات يؤدي إلى الجهل بالموصوف » (مجلة منار الهدى 12/26) وهذا رد جيد من الولي الحبشي الأشعري على الكوثري الأشعري.
    أما النسفي فقد ترك للمرء مطلق الخيار: إما أن يؤول وإما أن يفوّض، بينما يرى ابن الهمام جواز التأويل عندما تدعو إليه الحاجة فيُحِلّه لأهل النظر والاستدلال ويحرمه على العوام من الناس [انظر السواد الأعظم 27 سلام الأحكم 153 النور اللامع 96 التمهيد 19 المسايرة 30، 32-33 إشارات المرام 189].
    وقال الناصري زين الدين الحلبي في حاشيته على المسايرة: « قال مشايخنا  الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى  [طه 5]، لا يعلم تأويله إلا الله وكذلك جميع المتشابهات. وهو مخالفة صريحة لشيخهم الماتريدي الذي يرى التأويل أمراً لازماً. ومخالفة أخرى لما أقره الماتريدية وعامة الأشاعرة من تأويل الاستواء بالاستيلاء كما نراه عند الحبشي الذي يجزم بأن المُقدِمَ على تفسير الاستواء بالاستيلاء لم يرتكب محظوراً ولم يصف الله بصفة نقص [الدليل القويم 38 – 39]، وهم إنما ينتابهم التردد والحيرة فتارة يقدمون التأويل، وتارة يقدمون التفويض، وتارة يخيرون المرء في الأخذ بأيهما شاء كما يفعل صاحب جوهرة التوحيد [جوهرة التوحيد 92] وهو دليل على عدم الرضا عن التأويل والاطمئنان إليه.
    ولهذا انتهى حال كثير من أئمتهم إلى الوقف والحيرة، كالجويني والرازي والغزالي، واعترفوا بخطأ الطريق التي سلكوها، وكان يسعهم ما وسع النبي والسلف، وأن يأخذوا الأمر ببساطة فيثبتوا ما أثبته الله لنفسه ويُحكموا ما تشابه عليهم ب‍  لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ  [الشّورى 11].
    • أن التفويض جاء ردة فعل عكسية ضد التأويل، وجاء كدليل على وقوع التردد والتململ النفسي والشعور بالذنب من التأويل المتعسف الذي ضاقت به الصدور ولم تطمئن إليه القلوب حتى قسَت به، وزادت به الشكوك، وقلَّ به الإيمان، ولم يرتفع به وهمُ التشبيه.
    • أن المفوض إنما يجعل آيات الصفات بمنزلة فواتح السور (حم عسق ألم طسم) التي نقول عند قراءتها: الله أعلم بمرادها.. لكن الصفات كلمات عربية ذات معانٍ بخلاف هذه الحروف المجموعة التي لا تشكل كلمة عربية ذات مدلول ومعنى. ولا فائدة من تنزيل آيات مع استبقاء معانيها عند الله من غير تنزيل. فإن إصدار كلام بدون معنى مما ينزه عنه المخلوق، فالخالق أولى بهذا التنزيه من المخلوق.
    • أنهم بذلك جهلوا السبب الذي أنزل الله لأجله هذه الصفات، فإن هذه الصفات سبب كل خير للعبد لأنه يتعرّف إلى ربه من خلالها، فمن ردّ معانيها فقد فاته الخير والعلم الذي أنزلها الله لأجله.
    ولهذا قال ابن قتيبة: « ولم ينزل الله "شيئاً" من القرآن إلا لينفع به عباده، ويدل به على معنىً أراده » [مشكل القرآن 98 – 99].
    فطلب معاني هذه الصفات على طريقة أهل الإيمان لا أهل الإلحاد ينبت التقوى في القلب، ولهذا لما كان الراسخون في العلم أعلم بالله من غيرهم كانوا أكثر خشية، وأثنى الله عليهم فقال:  إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ  [فاطر 28].
    أما هؤلاء المفوضة فإنهم يقولون: كلما جهلنا معاني الصفات كنا أكثر خشية لله.
    فأي إيمان هذا؟ وهل الجهل علم يستحق الثناء؟ وهل يكون الجهل رسوخاً في العلم؟!!
    الله يبتلينا هل نؤمن لا هل نعطل!
    • وقد زعم أهل الكلام أن الله يبتلي العباد بها، فمن أثبت الصفات على ظاهرها فقد كفر. تعالى الله عما يقول الظالمون. ويلزم من دعواهم تكفير عوام المسلمين لأنه يثبتون ولا يعرفون التأويل.
    بل العكس هو الصحيح وهو أن العباد مأمورون بإثبات ما أثبته الله لنفسه مع نفي التشبيه عنه، يؤكد ذلك قولُه تعالى:  وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ  [الأعراف 180] وصدق الله، فقد ماجت الفتن بالمؤولين وماتوا على أسوأ خاتمة كالجهم والمريسي والجعد وغيرهم. فالمثبت للصفات هو الفائز وليس المؤول لها، لأن الله لن يحاسبنا على إثبات ما أثبته هو. وإنما يحاسبنا على نفينا وتحريفنا لما أثبته.
    إذ كيف يخاطبنا بما يريد إفهامنا خلافه؟ هل هذا إلا نصب الشراك لتزل أقدام العباد ثم يحاسبهم على الزلة؟ تعالى الله عما يلزم من أقوال المعطلة!
    أفلا أُوحى إلى نبينا  أن لا نفهم ما يظهر من هذا الكفر حتى نحذر من الكفر كما حذر آدم من الاقتراب من الشجرة ولم يقل له اقترب وهو يريد منه خلاف ظاهره. أن قصة آدم تبين عظيم رحمة الله وأنه لما أراد من آدم ألا يأكل منها قال:  وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَة  [البقرة 35]، فما عصى آدم إلا وقد بين الله له بياناً واضحاً. فصفات الله أولى بهذا التحذير من التحذير من مجرد شجرة. قال ابن حزم رحمه الله: « ولا يحتج الله عز وجل إلا بما يُفهم لا بما لا يُفهم لأن الله تعالى قد تطول علينا بإسقاط الإصر عنا، ولا إصر أعظم من تكليفنا فهم ما ليس في نيتنا فهمه » [الفصل في المِلَل والنِّحَل 4/71].
    والله أنزل آياته ليختبرنا: أنؤمن بها أم لا؟ وليس ليختبرنا هل نعطلها بالتأويلات المحتملة المتضاربة المتناقضة أم لا؟ فإن الله لا يؤخر فهم الناس لتأويل كتابه إلى أن يأتي أهل الكلام وإنما يبين لهم أسباب الهدى ويبتليهم هل يؤمنون كما قال:  وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُون  [التّوبة 115]، ولو كان نزول آيات الصفات ابتلاء لنا من الله: هل نؤول أم لا. فبماذا تفسرون اختلاف تأويلاتكم عن تأويلات السلف؟!
    • أن دعوى اشتمال القرآن على آيات لا يعلم معناها إلا الله باطلة:
    فإنه يقال لهؤلاء هل تستثنون النبي  من الجهل بها؟ أم أن الجهل بها يشمله؟
    لا أعرف أحداً من الأشاعرة المفوضة استثنى من ذلك النبي  . وكفى بذلك قدحاً به.
    ثم إن الله أمر المؤمن بل والكافر بتدبر القرآن كله من غير استثناء فقال:  أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ  [النّساء 82]، فكيف يأمر الله الكفار بتدبّر القرآن وينهانا عن تدبر بعض آياته:  كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِه  [ص 29]. فجعل الله العلة من تنزيل كتابه المبارك: التدبر والتذكر. ولهذا نهى النبي  عن أن يُقرأ القرآن في أقل من ثلاثة أيام حتى لا يكون مجرد تلاوة من غير فهم. وقال: « وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم ». ففرّق بين التلاوة والمدارسة. فالتلاوة: قراءة ألفاظه. والتدارس طلب فهم المعاني.
    وإذا كان في العادة يمتنع أن يقرأ قوم كتاباً في فن من العلم كالطب والحساب ولا يطلبون شرحه، فكيف بكلام الله الذي هو عصمتهم، وبه نجاتهم وسعادتهم وقيام دينهم ودنياهم!
    • أن الله قد جعل قرآنه هيناً سهلاً للتدبر والتذكر والاتعاظ فقال:  وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ  [القمر 17]، ولو كان فيه ألفاظ لا يمكن حتى الراسخين في العلم من معرفة معانيها لم يكن ميسراً للذكر والاتعاظ والتدبر بل كان معسراً، فإن التيسير يشمل أموراً عديدة منها:
    - تيسير ألفاظه للحفظ.
    - تيسير معانيه للفهم.
    - تيسير أوامره ونواهيه للامتثال.
    • وقد وصف كتابه بأنه نور وبيان وبرهان ومبين وهدى وشفاء، بينما يعطل المفوضة هذه الصفات فيجعلونه ألغازاً يحرم حلها. وانتهى بهم الأمر إلى شك مدفون في نفوسهم تزداد القلوب به مرضاً.
    • صحيح أن الشريعة نهت عن الخوض في الآيات بالباطل لكنها لم تنه عن تعلم معانيها الحقة بل أمرت بتدبر آيات الله كلها  أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ  [النّساء 82]، فترك المفوضة التدبر المأمور به وظنوا أن الله ما أنزلها إلا للتلاوة المجردة.
    وليس من دليل على استثناء آيات الصفات من ذلك.
    • أن كلاً من التفويض والتأويل نقيض للآخر. فالتأويل يعتمد العقل ويخالف النص، والتفويض يعطل العقل ويتجاهل معاني الألفاظ التي فسَّرها النبي  والصحابة. فيقول المفوض: لا أعلم المعنى. بينما هو يعلم المعنى، فإنه يفرِّق بالضرورة بين الرحيم والعليم وبين اللطيف والمنتقم. وهذه التفرقة الضرورية التي نجدها تبطل مذهب التفويض.
    ـ ومعلوم أن عدم العلم ليس علماً بالعدم. فلو كان صادقاً في عدم عِلمه فإنه ذلك لا يعني أن ما جهله ليس معلوماً عند غيره.

    ما يلزم من التفويض
    ويلزم من التفويض:
    • أن نبينا  كان غير عالم بما أنزله الله تعالى عليه من النصوص بل يقول كلاماً لا يعقل معناه. أو علم معاني هذه الصفات لكنه كتمها، وهذا يتعارض مع قوله تعالى:  يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّك  [المائدة 67]، وقوله تعالى:  حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ  [التّوبة 128]. فلو كان حريصاً علينا لما سكت عن النصوص الموهمة للتشبيه.
    فالمفوضة أمام محظورَيْن: إما تجهيل الأنبياء والسلف باعتقاد أنهم كانوا يجهلون معاني ما أنزل الله، والله عز وجل قال:  إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ  [الزّخرف 3]، وإما اتهامهم بكتمان بيان معاني ما أنزل الله.
    • أن في القرآن آيات لا يريدنا الله أن نعقلها؟ فأي فائدة لنا من نزولها؟
    وما الحكمة من تنزيل آيات يحرم علينا أن نعقلها ونفهمها؟ والحكمة: وضع الأمور في مواضعها الصحيحة، وليس من الحكمة توجيه كلام إلى من لا يفهمه. فمخاطبة العجم بلغة العرب لا يفعلها حكيم! ومن منا يرضى أن يخاطبه أحد بلغة لا يفهمها؟
    قال تعالى:  وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيّاً  [الشّورى 7]، ثم قال بعد ذلك:  وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أَعْجَمِيّاً لَقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِي  [فصّلت 44]، فقالت المفوضة: نعم: أعجمي بما فيه من الصفات، وعربي فيما سواها.
    • أن كتاب الله لا يُهتدى به في معرفة الله لأن آيات الصفات مجرد ألفاظ لا نعلم معناها. وإنما حظنا منها أن نتعبد الله بتلاوتها فقط، فلا فرق بين الغفور والمنتقم.
    لا شك أن الله أراد بالصفات تعريف الناس بصفاته خيراً:
    فأبطل المفوضة هذا السبب، وجعلوها ألفاظاً لا معاني لها، وفوّتوا على الناس هذا الخير بذرائع واهية زعموا أن ما أنزله الله يوهم الضلالة، وأن الهدى:
    إما بتأويل تُستخرج له معاني باطلة، تُسقط هيبة الرب من القلوب.
    وإما بتفويض يمنعون به الناس من معرفة الحق ويفوّتون عليهم الخير.
    فإن ما أنزله الله على رسوله  إنما هو بيان وهدى للعالمين، وغير جائز أن يكون فيه ما لا حاجة بهم إليه، ولا أن يكون فيه ما بهم إليه حاجة ثم لا يكون بهم إلى علم تأويله سبيل... ولن يذهب علم ذلك عن علماء الأمة.

    تعليق


    • #3
      الحلقة
      (3)


      الاختلاف بين الأشعرية والماتريدية


      علامة الفرقة الناجية عند الحبشي
      قد أعطانا الحبشي وأتباعه علامة نعرف بها الفرقة الناجية من غيرها، ومن علاماتها:
       أنها لا تختلف فيما بينها في أصول العقيدة التي كان عليها الرسول  وأصحابه، وإنما تختلف في فروع الأحكام، وذلك تأسّيًا منها بالصحابة الذين لم يختلفوا في أصول العقيدة وإنما حصل الخلاف بينهم في الأحكام. قال: فهذه الفرقة تسمى لذلك (أهل السنة والجماعة). وإلى هنا نتفق مع الحبشي.

      وهذا ما قاله العز بن عبد السلام: « فأصول الدين ليس فيها مذاهب فإن الأصل واحد، والخلاف في الفروع » [طبقات السبكي 8/233 محققة].
      ولكننا نخالفه عندما يزعم أن السنة يمثلها اثنان مختلفان فيما بينهما هما أبو الحسن الأشعري وأبو منصور الماتريدي [وهذا تجاهل للإمام أحمد الذي هو أقرب إلى السنة والحديث منهما وكان له دورٌ متميز في تقرير السنة بالاتفاق ومع ذلك لم يشتق للعقيدة اسمًا مشتقًا من اسمه. ومذهب أهل السنة مذهب معروف قبل أن يخلق الله الأشعري والماتريدي].
      ولا يخفاك كلام العلماء في الأشعري كقول ابن حزم: « وأبعدهم (أي المرجئة) عن أهل السنة: أصحاب جهم بن صفوان والأشعري ». وقول ابن الجوزي: « لم يختلف الناس حتى جاء علي بن إسماعيل الأشعري فقال مرة بقول المعتزلة ثم عنّ له فادعى أن الكلام صفة قائمة بالنفس، فأوجبت دعواه هذه أن ما عندنا مخلوق » [كتاب صيد الخاطر 181 و183].
      وقد وافق الماتريدية المعتزلة القائلين بأن الله لما كلم موسى تولى تخليق كلام في الشجرة باعتراف الحبشي الذي قال بأن البيهقي زيف هذا الرأي [الدليل القويم 71].
      وكتم على الناس أن البيهقي ذكر بأن الأشعري قد استشنع هذا القول وأبطله بحجة قوية وهي أنه يلزمه أن تكون الشجرة بذلك الكلام متكلمة وأن يكون مخلوقًا من المخلوقين قال:  إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ  [الآية 14 من سورة طه] وهذا القول من الماتريدي مخالفة عظيمة لأهل السنة [الاعتقاد للبيهقي 96 تحقيق أحمد عصام الكاتب].
      ومع ذلك يزعم الحبشي « أنه ليس هناك من خلاف بين المذهب الأشعري وبين المذهب الماتريدي في أصول العقائد. وأن السنة قد تقرَّرتْ بهذين الرجلين العظيمين »[الدليل القويم 175 وهو يخفي بذلك حقيقة مهمة سطّرها الحافظ ابن عساكر وهي أن الأشعري « انتهى إلى التسليم بما كان عليه الإمام أحمد لأنه الإمام الكامل الذي أظهر الله على يديه السنة وقمع به البدعة » (تبيين كذب المفتري 15].
      وبناء على ما قال : يتقرر لدينا أن لا يكون هناك أي خلاف بين أفراد هاتين الطائفتين، وإلا فأي خلاف بينهما في أصول العقائد يكون دليلاً على:
      أنهما لا تمثلان الفرقة الناجية.
      أن السماح للفرقتين بالاختلاف في أمور العقائد هو تجويز للاجتهاد والقوم يحرمون الاجتهاد في أمور العقائد. فكثيرًا ما يقولون « لا اجتهاد في أمور العقائد ».
      الرد على ذلك :
      ولكن كيف تكون الفرقتان فرقة واحدة وناجية مع أن أحدهما (الأشاعرة) لم تنج من تبديع الأخرى (الماتريدية) لها بل وتكفيرها في بعض المسائل.

      السبكي يتبرم من تكفير الأحناف للأشاعرة
      الحقيقة أننا نجد الخلاف بين الماتريدية والأشعرية عميقًا جدًا وبينهما اختلافات كثيرة في أصول الدين لا في فروع الأحكام. كيف لا وقد تبرم السبكي من تكفير جماعة من الحنفية (الماتريدية) للشافعية وفتواهم بعدم جواز الصلاة خلفهم لأنهم أقروا قول القائل (أنا مؤمن إن شاء الله) وأن الشافعية يكفرون بذلك [فتاوى السبكي 1/53]، وحكاه المرتضى في إتحاف السادة المتقين (2/27. وكذلك نهوا عن الصلاة وراء الأشعرية لقولهم بخلق الإيمان !!!.



      أول خلافهما حول وجود الله
      وأول مسألة اختلف الماتريدية والأشاعرة حولها هي: وجود الله، هل هو عين الذات أم زائد على الذات؟ حكاه المرتضى الزبيدي عن السبكي [إتحاف السادة المتقين 2/95]. بل صار خلافًا بين الأشاعرة أنفسهم فقد قال الرازي بأن وجود الله زائد على ذاته مخالفًا بذلك الأشعري نفسه.
      فكيف يكون خلافهما فرعيًا وأول خلافهم حول وجود الله؟
      الرسائل المؤلفة حول الفرق بين الفرقتين
      ولولا وجود هذا الخلاف لما أفرد أتباع كل من الفرقتين مؤلفات تتناول أوجه الخلاف بين الفرقتين ومن بين هذه المؤلفات:
      1) قرة العين في جمع البين للسبكي.
      2) مرتضى الزبيدي في كتاب (إتحاف السادة المتقين).
      3) العقد الجوهري في الفرق بين الماتريدي والأشعري: تأليف خالد بن أحمد بن حسين النقشبندي، أثبته له الكوثري [محفوظ بدار الكتب المصرية (325) وانظر كتاب إرغام المريد في شرح النظم العتيد لتوسل المريد برجال الطريقة النقشبندية 38].
      4) رسالة في الفرق بين الأشرعية والماتريدية: عمر الهاتفي الفاروقي [المكتبة الأزهرية [393]].
      5) رسالة في الفرق بين مذهب الأشاعرة والماتريدية للشيخ يحيى بن علي بن نصوح [مكتبة ليدن بهولندة 1882].
      6) الدرر المضيئة فيما وقع فيه الخلاف [المتحف البريطاني برقم 775574] لعبد الملك بن عبد الله الجويري.
      7) نظم الفرائد وجمع الفوائد في المسائل المختلف عليها بين الأشاعرة والماتريدية للشيخ زادة (علي بن عبد الرحيم) [عبد الرحيم بن علي بن المؤيد الأماسي الرومي الحنفي الماتريدي الشهير بشيخ زادة. انظر إتحاف السادة المتقين للزبيدي 2/12].
      الروضة البهية فيما بين الأشاعرة والماتريدية لابن عذبة.
      9) إشارات المرام للبياضي: عقد فيه فصلاً ذكر فيه خمسين مسألة من مسائل النزاع بين الأشاعرة والماتريدية.

      10) رسالة في الفرق بين الماتريدي والأشعري لأحمد بن الحسين عبد الكريم الجوهري [محفوظ بدار الكتب المصرية 1/339].
      11) خلافيات الحكماء مع المتكلمين وخلافيات الأشاعرة مع الماتريدية لعبد الله بن عثمان بن موسى (مخطوط).
      أما أهم الكتب المعاصرة التي تناولت الاختلافات بين الفرقتين فهي:
      12) نشأة الأشعرية وتطورها. ألفه جلال موسى.
      13) إمام أهل السنة أبو منصور الماتريدي لعبد الفتاح المغربي.
      14) تاريخ المذاهب الإسلامية. تأليف محمد أبي زهرة.
      15) عقيدة الإسلام والإمام الماتريدي. تأليف محمد أيوب علي.
      16) مقدمة وتحقيق كتاب التوحيد للماتريدي د. فتح الله خليف.
      وهؤلاء جميعهم بين ماتريدي وأشعري معترفون بكثرة الاختلافات الواقعة في أصول العقيدة بين الفريقين لا في فروع الأحكام. وبعض هذه الخلافات أدى إلى تضليل وتسفيه بل وتكفير بين الفرقتين. حتى أننا نجد في فتاوى الكردري أن الحنفية اتفقوا على عدم جواز الصلاة خلف من يقول من الأشاعرة بأن الإيمان مخلوق بل وتكفيره [انظر نظم الفرائد وجمع الفوائد ص 43 – 44 للشيخ زادة ط: المطبعة الأدبية بمصر 1317ه‍]. ومعلوم أن الأشعرية يقولون بأن الإيمان مخلوق.
      وهناك كتب قد حسمت الخلاف بين الفريقين وأثبتت القول الموافق للحق مؤيدًا بالأدلة من الكتاب والسنة منها:
      1) كتاب الماتريدية : لأحمد الحربي.
      2) الماتريدية وموقفهم من توحيد الأسماء والصفات للشمس السلفي الأفغاني طبع في ثلاثة مجلدات.
      3) المسائل المشتركة بين أصول الفقه وأصول الدين: تأليف الدكتور محمد العروسي عبد القادر. وقد ألفيته كتابًا من أهم الكتب التي تحدثت عن مسائل الخلاف بين الأشعرية والماتريدية.


      مسائل الخلاف بين الأشعرية والماتريدية
      وبناء على براءة الحبشي ممن خالف الأشعري حيث قال شعرًا:
      شـيئان من يعذلني فيهما فهو على التحقيق مني بري
      حب أبي بكرٍ إمام الهدى ثم اعتقادي مذهب الأشعري [الدليل القويم 7]
      فيلزمه بمقتضى قوله: البراءة من الماتريدية لأنهم مخالفون للأشعري في كثير من أمور العقائد:
      [1] الماتريدي لا يفرق بين صفات الذات وبين صفات الفعل لله تعالى، فهي عنده كلها قديمة، قال: « والقول بحدوث شيء منها يؤدي إلى القول بتغير الله وهو يؤدي إلى عبادة غير الله » [التوحيد للماتريدي 53 و108 إتحاف السادة المتقين 2/158] بينما يفرق الأشعري بينهما. وقد اعترف ابن حجر المكي الهيتمي والشيخ ملا علي قاري بهذا الخلاف بين الفرقتين فقالا: « صفات الأفعال حادثة عند الأشاعرة قديمة عند الماتريدية » [فتح المبين شرح الأربعين 78 الفقه الأكبر بشرح القاري 14].
      فالخلاف في صفات الله هل هي قديمة أم مسبوقة بالعدم ليس خلافًا في الفروع لا سيما وأن الماتريدية يرون مخالفهم في هذه المسألة عابدًا لغير الله.
      وقد أشار ابن عذبة في الروضة إلى أن الماتريدية يخالفون بذلك رأي أبي حنيفة الذي نجده يوافق مذهب الأشاعرة في التفريق بين صفات الذات وصفات الفعل كما نقله عنه الطحاوي [الروضة البهية 39 لابن عذبة].
      وترتب عليه اختلافهم في أسماء الله الحسنى، فقال صاحب فيض الباري: « والأسماء الحسنى عند الأشاعرة عبارة عن الإضافات، وأما عند الماتريدية فكلها مندرجة في صفة التكوين » [فيض الباري 4/517 للشيخ أنور شاه الكشميري].
      - وترتب على هذا الاختلاف أيضاً خلاف في صفة الحكمة لله تعالى فهي أزلية بمعنى الإتقان والإحكام كما عند الماتريدي وليست كذلك عند الأشعري [اللمع للأشعري 38 نظم الفوائد 28].
      وترتب على ذلك تسوية الأشعري بين الإرادة والرضى. فالله عند الأشعرية يحب الكفر ويرضاه كفرًا معاقبًا عليه. فإن من أراد شيئًا أو شاءه فقد رضيه وأحبه، واعتبر البزدوي ذلك من جملة مخالفات الأشعري لأهل السنة (يريد الماتريدية) الذين يرون المشيئة شيئًا غير المحبة والرضا. حكاه المرتضى الزبيدي. فالماتريدية يذهبون إلى أن الإرادة لا تستلزم الرضى والمحبة [إتحاف السادة 2/176 أصول الدين للبزدوي 245 الروضة البهية 17].
      [2] ذهب الماتريدية إلى أن الواجب تحقق الحقيقة في نفسها بحيث تتنزه عن قابلية العدم. أما الأشاعرة فيرون أن الذات مقتضى الوجود [نظم الفرائد 3].
      [3] الوجوب عند الماتريدية ليس أمرًا زائدًا على الذات. وعد الأشاعرة أن الوجوب أمر اعتباري لا وجود له في الخارج [نظم الفرائد 4 إتحاف السادة المتقين 2/94].
      [4] الماتريدية لا يرون تكليف الله لعباده إلا فيما يقدرون عليه. أما الأشعري فقد أجاز على الله أن يكلف عباده ما لا يطيقونه، فلو أمر الله عبده بالجمع بين الضدين لم يكن سفهًا ولا مستحيلاً، حكاه عنه المرتضى الزبيدي وانتقده عليه. ونقل عن علماء الحنفية أنه خالف بذلك قول أبي حنيفة: « والله لا يكلف العباد ما لا يطيقون » وخالفه الاسفراييني والغزالي [إتحاف السادة المتقين 2/181-182 نظم الفرائد 25 التوحيد 221 اللمع 68 الإرشاد 236 الروضة البهية].
      وقد نقل الزبيدي عن علماء الأشاعرة بأن التكليف بما لا يطاق جائز عقلاً ممنوع شرعًا [إتحاف السادة المتقين 2/183] وقد خالف الجويني شيخه الأشعري فمنع تكليف ما لا يطاق مع أنه كان يقول به [البرهان في أصول الفقه 1/89 (فقرة 2].
      [5] الماتريدية يرون أن الله يفعل لحكمة تقتضي الفعل، بينما يرى الأشاعرة أن أفعاله تعالى على الجواز لا على اللزوم. وألزمهم الماتريدية باعتقاد جواز العبث في أفعاله تعالى [نظم الفرائد 27]. بينما ألزمهم الأشاعرة بالقول بحاجة الله للأسباب.
      [6] ذهب الماتريدية إلى امتناع أن يخلف الله وعيده ووعده، وذهب الأشاعرة إلى جواز إخلاف الله لوعيده [نظم الفرائد 29].
      [7] ذهب الماتريدية إلى أن الله لا يفعل القبيح، وقالوا: لا يجوز ما يقوله الأشاعرة من جواز تعذيب المطيعين وتخليد الأنبياء في النار، وإدخال الكافرين الجنة. وعلل الأشاعرة القول بأن الله مالك مطلق يحق له التصرف في عباده كيف يشاء حتى قالوا بجواز عفو الله عن الكافر.
      ونقل الزبيدي عن النسفي أن الأشاعرة يرون جواز تخليد الكفار في الجنة وتخليد المؤمنين في النار عقلاً وإن كان ورد الشرع بخلافه [إتحاف السادة المتقين 2/185 نظم الفرائد 30 وانظر الروضة البهية 32 – 33 إتحاف السادة المتقين 2/9].

      ولقد صرّح الفخر الرازي بقول عجيب حين تناول تفسير قوله تعالى:  إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ  [الآية 118 من سورة المائدة] وافترض السؤال التالي: كيف جاز لعيسى أن يقول: (وإن تغفر لهم). والله لا يغفر الشرك؟ قال: « يجوز على مذهبنا من الله تعالى أن يُدخَلَ الكفارَ الجنة، وأن يُدخل الزّهاد والعبّاد النار ». قال: وقوله:  إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ  [الآية 48 من سورة النّساء] نقول: إن غفرانه جائز عندنا" [التفسير الكبير للرازي ص12/ 136].
      وبعد هذا تتبجحون بأن الدليل العقلي مقدم على الدليل الشرعي، أهذا ما أنتجته عقولكم المريضة ؟
      [8] وذهب الماتريدية إلى أن العقل يدرك حسن الأشياء وقبحها وأن معرفة الله بالعقل، حتى قال الصدر في التعديل: « كل ما هو واجب عقلاً فهو حسن عقلاً، وكل ما هو حرام عقلاً فهو قبيح عقلاً ومن هنا قالوا أن العقل آلة في معرفة الله وأنه كاف في إلقاء الحجة على صاحبه وإن لم يرسل الله رسلاً. وعلى هذا فكل من لم تبلغه رسالة الأنبياء ولم يؤمن فهو كافر مخلد في النار. وخالفهم الأشاعرة في ذلك مستدلين بقوله تعالى:  وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً  [الآية 15 من سورة الإسراء]» [إتحاف السادة المتقين 2/193 نظم الفرائد 35، الروضة البهية 34-37 إشارات المرام 93] وقالوا: « "إن إرادة الله في الشرع مطلقة لا يقيدها شيء، فهو خالق الأشياء وهو خالق القبيح والحسن… ولا عبرة بأوامر العقل، إنما العبرة بأوامر الشارع الحكيم » [أصول الفقه للشيخ محمد أبي زهرة 55 المسايرة 97 لابن الهمام شرح الفقه الأكبر 137 وتأويلات أهل السنة للماتريدي 1/444 وهذا يلزم منه أن الناس لا يعرفون قبيحًا قبل ورود الشرع، وهذا باطل فالبشرية تعارفت على أمور قبيحة وجاء الشرع بتأكيد قبحها وكذلك العكس وقد قال النبي  لحكيم بن حزام: « أسلمت على ما أسلفت من خير » متفق عليه]. وترتب على هذا خلاف آخر وهو:
      [9] معرفة الله تعالى: هل هي بالعقل أم بالسمع؟ فعند الأشعري بالشرع، وأنه لا يجب إيمانٌ ولا يحرم قبل ورود الشرع. وعند الماتريدي: بالعقل.
      أما الماتريدية فكانوا في مخالفة الأشاعرة أقرب إلى قول المعتزلة بل قولهم وقول المعتزلة على السواء كما ذكر ابن عذبة، إلا أنهم يختلفون معهم في وجوب ذلك على الصبي العاقل غير البالغ: إذا مات بدون تصديق هل هو معذور أم لا؟ [الروضة البهية 34 – 37].
      [10] الماتريدية يرون وجوب الإيمان بالعقل، ولا يرون زيادة الإيمان ونقصانه. ويحرمون الاستثناء فيه ومن قال آمنت بالله إن شاء الله فهو كافر لأنه شاك في إيمانه. والإسلام والإيمان واحد [وممن قاله أبو بكر محمد الفضلي الكماري البخاري]. بينما يرى الأشاعرة وجوب الإيمان بالشرع. والإيمان يزيد وينقص ويجوز الاستثناء فيه. ولا يرونه والإسلام شيئًا واحدًا وإنما أحدهما مغاير [نظم الفرائد 39 و48 الروضة البهية 6].
      ومن تناقضات الأشاعرة أنهم ينصرون مذهب السلف في الاستثناء مع مناصرتهم لمذهب الجهمية في الإيمان، حيث حدوه بالمعرفة أو التصديق ، ولكنهم يعلقون الإيمان على ما يختم للمرء من العمل ويسمونه بالموافاة أي أن الإيمان « المعتبر هو إيمان الموافاة الواصل إلى آخر الحياة » [الفقه الأكبر شرح القاري 118 مشكل الحديث لابن فورك 188]. وهذا تناقض.
      وقد تقدم تبرم السبكي من تكفير جماعة من الحنفية (الماتريدية) للشافعية وفتواهم بعدم جواز الصلاة خلفهم لأنهم أقروا قول القائل (أنا مؤمن إن شاء الله) وأن الشافعية يكفرون بذلك [فتاوى السبكي 1/53]، وحكاه المرتضى في إتحاف السادة المتقين (2/27.
      [11] ذهب الماتريدية إلى أن الإيمان غير مخلوق. وذهب الأشاعرة إلى أنه مخلوق. قال الكردري: « قال الإمام محمد بن الفضل: من قال الإيمان مخلوق لا تجوز الصلاة خلفه. واتفقوا على أنه كافر [نظم الفرائد 43 إتحاف السادة 2/283 الفقه الأكبر 120] وبناء على ما نقله الكردري يصير الأشاعرة في نظر الماتريدية غير مسلمين فضلاً عن أن يكونوا من الفرقة الناجية!.
      وإننا لنعجب حين نجد ابن عذبة وهو يروي لنا أن أول من قال بخلق الإيمان أبو حنيفة نفسه، وأن الخلاف في هذه المسألة ناشئ بين أهل بخارى وسمرقند وكلاهما ماتريديون [الروضة البهية 71 – 75].
      [12] اتفق الماتريدية والأشعرية على الكلام النفسي ثم ما لبثوا أن اختلفوا في سماع موسى كلام الله: هل سمع كلامه القديم أم أنه سمع ما يدل على سماعه؟ فاختار الماتريدي أنه لم يسمع وحملوا نصوص السماع على أن الله خلق صوتًا في الشجرة [إتحاف السادة 2/147 نظم الفرائد 15 الروضة البهية 50 – 53] وأجاز الأشعري سماع الكلام النفسي القديم، وذكر ابن عذبة أن أبا الحسن ذكر في كتابه « الإبانة » مقالة أهل السنة والحديث في مسألة الكلام. وهذا إثبات بأن الكتاب معتمد عند القوم، وتجاهل المتأخرين له مكابرة.

      [12] ثم اختلفوا – ولا يزالون مختلفين – هل إذا كان الله متكلمًا أزلاً بمعنى أنه لم يزل آمرًا ناهيًا وهذا الأمر والنهي متعلق بمكلف معدوم سيوجَد ولم يُخلَق بعد؟ ذهب الأشعري إلى ذلك بينما خالفهم الماتريدية، ومخالفتهم للأشعري تبطل نفيهم لصفات الأفعال الإلهية [إتحاف السادة المتقين 2/149].
      [13] اتفقت الماتريدية على خلق الله لأفعال العباد ثم اختلفوا: هل لقدرة العبد تأثير؟ فإلى الأول ذهب الماتريدية وإلى الثاني جنحت الأشاعرة. ورأى الماتريدي وجود أثر القدرة للعبد في وصف الفعل، ورأى الأشعري أن كل شيء خاضع قسرًا للقدرة الإلهية المطلقة.
      واعتبر البزدوي بأن مسألة الأفعال هي من شر المسائل التي خالف بها الأشعري أهل السنة (يريد الماتريدية). وذكر ابن عذبة أن الجويني غلا في إثبات الأثر لقدرة العبد. قال: « وهذا مذهب المعتزلة » [التوحيد 243 العلم الشامخ 226 الروضة البهية 29 – 30].
      [14] واختلفوا في مسألة التكوين والمكون، فرأى الماتريدية أن التكوين صفة أزلية والمكون حادث، وهي تغاير بذلك القدرة لتساوي القدرة في جميع المخلوقات [البزدوي 69 البداية للصابوني 67 الروضة البهية 39].
      وترتب عليه اختلافهم في أسماء الله الحسنى، فقال صاحب فيض الباري: « والأسماء الحسنى عند الأشاعرة عبارة عن الإضافات، وأما عند الماتريدية فكلها مندرجة في صفة التكوين » [فيض الباري 4/517 للشيخ أنور شاه الكشميري].
      فهي عند الأشاعرة سبع وعند الماتريدية ثمانية. قال القاري: « فالصفات الأزلية عندنا ثمانية لا كما زعم الأشعري من أن الصفات الفعلية إضافات، ولا كما تفرد به بعض علماء ما وراء النهر بكون كل من الصفات الفعلية صفات حقيقية أزلية: فإنه تكثير للقدماء » [الفقه الأكبر شرح القاري 20]. أي اعتقاد بتعدد الآلهة.
      غير أن ابن الهمام قد اعترف بأن ما يدعيه الأحناف المتأخرون من أن الصفات الفعلية راجعة إلى التكوين وأنها زائدة على السبع ليس في كلام أبي حنيفة ولا متقدمي أصحابه وإنما حدث هذا القول في زمن الماتريدي [المسايرة 90]. وهذا اعتراف منه بمخالفة الماتريدية الأحناف لأبي حنيفة في العقيدة.
      أما الأشاعرة فيرون أن التكوين هو عين المكون وهو حادث. قال أبو المعين النفسي: « وقول أكثر المعتزلة وجميع النجارية والأشعرية: أن التكوين والمكون واحد قولٌ محال » [التمهيد 29 وتبصرة الأدلة 193].

      وقد انتقد السرهندي عقيدة الأشعري لذلك فقال: « ولما لم يطلع الأشعري على حقيقة فعل الحق جل سلطانه قال بحدوث التكوين وحدوث أفعاله تعالى ولم يدر أن هذه الحادثات آثار فعله تعالى الأزلي لا نفس أفعاله » [مكتوبات الإمام الرباني 262]. وهذا اعتراف من الزبيدي بمخالفات الأشعري في العقيدة.
      [15] واختلفوا في صفة (كن) التي يخلق الله بها الأشياء، فذهب الماتريدية إلى أنها كناية عن سرعة الإيجاد فهي ليست كلمة على الحقيقة وإنما هي كلمة مجازًا. وذهب الأشعري إلى أن وجود الأشياء متعلق بكلامه الأزلي، وأن هذه الكلمة دالة عليه [التوحيد للماتريدي 49 تأويلات أهل السنة 1/218 الإبانة 25 اللمع 123 نظم الفرائد 19].
      [16] ذهب الماتريدية إلى أن التوفيق: هو التيسير والنصرة، وذهب الأشعري إلى أن التوفيق هو خلق القدرة على الطاعة [نظم الفرائد 24 – 25].
      [17] واختلفوا في السعادة والشقاوة هل تتبدلان أم لا ؟ فقال الماتريدية: إن السعيد قد يشقى والشقي قد يسعد. وسبب إجازة الماتريدي تبدل السعادة والشقاوة: لأنهما من أفعال العباد وليس في تغيرهما تغير لما كان مكتوبًا في اللوح المحفوظ. واستنكر مشايخ الحنفية مقولة من يمنعون تبدل الشقاوة والسعادة (يريدون الأشعري ومن وافقه) وذكروا أن ذلك يؤدي إلى إبطال الكتب وإرسال الرسل [نظم الفرائد 46 الإبانة 65 الروضة البهية 8 – 11] وخالفهم الأشعري فقال: إن السعيد من سعد في بطن أمه، والشقي من شقي في بطن أمه. قال الخاطري: إن الأشاعرة قالوا إن أبا بكر وعمر كانا مؤمنين في حال سجودها للصنم. وأن سحرة فرعون كانوا مؤمنين في حال حلفهم بعزته [نظم الفرائد 47]. وهذه شهادة ماتريدية على مخالفة الأشعري لكتب الله ورسله.
      [18] اتفقوا على جواز رؤية الله في الآخرة، واختلفوا في الدليل عليه فذهب الماتريدية إلى أن الدليل على ذلك سمعي مستدلاً عليه بالكتاب والسنة. أما الأشعري فيرى أن الدليل عقلي ولم يرتض بعض الأشاعرة رأي إمامهم كالرازي فانحازوا إلى رأي الماتريدية [اللمع 61 المحصل للرازي 178].
      [19] واختلفوا في صفة البقاء لله: هل هو باق ببقاء زائد على الذات أم أنه باق بذاته لا ببقاء؟ فذهب الأشعري وأكثر أصحابه إلى أن البقاء صفة زائدة على الذات. وأيده بعض الماتريدية في حين ذكر ابن عذبة مخالفة إمام الحرمين والقاضي أبي بكر لرأي الأشعري. وأرجع الآمدي في أبكار الأفكار اصل قولهما إلى المعتزلة [مقدمة د. خليف على كتاب التوحيد للماتريدي 19 الروضة البهية 66 أبكار الأفكار 1/229].

      [20] وذهب الماتريدية إلى أن صفة السمع والبصر تتعلق بما يصح أن يكون مسموعًا ومبصرًا، وذهب الأشعري إلى أنهما يتعلقان بكل موجود، يسمع ويرى في الأزل ذاته العلية ويسمع فيما لا يزال ذوات الكائنات كلها وجميع صفاتها الوجودية. ورد الشيخ علي القاري ذلك بأنه قول مجرد عن الأدلة وهو بدعة في الشريعة [نظم الفرائد 10 – 11].
      [21] واختلفوا في إيمان المقلد فاشترط الأشعري والباقلاني والإسفراييني وإمام الحرمين على المسلم أن يعرف كل مسألة بأدلتها كشرط لصحة إيمانه وإلا كان كما يصفه القشيري: « ساقطًا عن سنن النجاة، واقعًا في أسر الهلاك » [نظم الفرائد 40 – 41 . الروضة البهية 21 – 23] بينما ينكر القشيري نفسه نسبة هذا القول للأشعري مؤكدًا أن ذلك من مفتريات الكرامية على الإمام ويلاحظ كما في الروضة البهية إنكار القشيري نسبة المسائل التي لا تتناسب ومذهب والأشاعرة إلى الأشعري. ويعزو هذه النسبة إلى مفتريات الكرامية. ولكن صرح البغدادي بأن الأشعري قال عن المقلد: « خرج من الكفر لكنه لم يستحق اسم المؤمن » [أصول الدين 255 منشورات دار الآفاق – لبنان]. وهذا شبيه بالمنزلة بين المنزلتين التي قررها المعتزلة.
      وأفرط بعض الأشعرية كالقاضي ابن العربي والجويني فقالا: « يلزم المصلي عند الإحرام أن يذكر حدوث العالم وأدلته، وإثبات الأعراض، واستحالة قدم الجواهر وأدلة العلم بالصانع، وما يجب لله وما يستحيل » [الذخيرة للقرافي 2/136 ط: دار الغرب].
      [22] وأنكر الماتريدية أن يكون الله أرسل رسلاً نساء واشترطوا ذكورة النبي أما الأشاعرة فلم يروا ذكورة النبي شرطًا، بل صحت نبوة النساء عندهم بدليل قوله تعالى:  وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى  [الآية 7 من سورة القصص] [نظم الفرائد 49 – 50]. وليت شعري لِمَ لا تصح عندهم نبوة النحل وقد قال تعالى:  وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْل  [الآية 68 من سورة النّحل].
      [23] واختلفوا في القدرة: هل تصلح للضدين؟ فذهب الماتريدية إلى أنها تصلح للضدين، وذهب الأشاعرة إلى أنها لا تصلح للضدين، بل لكل منهما قدرة على حدة [نظم الفرائد 52].
      [24] واختلفوا في القضاء والقدر: فالقضاء عند الأشاعرة يرجع إلى الإرادة والقدر إلى الخلق، وعند الماتريدية هما غير الإرادة فالقضاء بمعنى الخلق والقدر بمعنى التقدير خلافًا للأشاعرة [إتحاف السادة المتقين 2/172].

      [25] واختلفوا في الأعمال التي حبطت بالردة: هل تعود بعد التوبة منها أم لا؟ فقال الماتريدية لا تعود، وخالفهم الأشاعرة فقالوا تعود .
      [26] واختلفوا في الكفار: هل يعاقبون على ترك الفروض والواجبات بجانب الكفر؟ فقال الماتريدية: يعاقبون على ترك الاعتقاد دون الفروض وقال الأشاعرة يعاقبون على ترك العبادات زيادة على عقوبة الكفر [نظم الفرائد 58].
      [27] واختلفوا في توبة اليأس : هل هي مقبولة أم لا ؟ فذهب الماتريدية إلى أنها مقبولة وأن إيمان اليأس غير مقبول. وذهب الأشاعرة إلى أن توبة اليأس لا تقبل كإيمان اليأس [نظم الفرائد 59].
      [28] وذهب الماتريدية إلى أن الشم والذوق واللمس ليسوا صفة زائدة لله بل هو نوع من العلم في حقه، بدليل أن ذلك الإدراك يهم العروض بأمور حادثة ينزه الله عنها. وذهب الأشاعرة إلى أن المماثلة تثبت بالاشتراك حتى لو اختلفا في وصف لا تثبت المماثلة. فاستنكر النسفي ذلك وقال: « لا نقول ما يقول الأشاعرة من أنه لا مماثلة إلا بالمساواة في جميع الأوصاف » [نظم الفرائد 59]. ويا ليتهم طردوا ذلك في غيره من الصفات إذن لبرءوا من مرض التعطيل.
      [29] واختلفوا في عصمة الأنبياء: فمنع الأشاعرة وقوع الكبائر من الأنبياء مطلقًا، وجوزوا عليهم الصغائر سهوًا، ومنهم من منع وقوع شيء من ذلك مطلقًا كالاسفراييني والقاضي عياض المكي [الروضة البهية 57 و62] وهم بذلك موافقون للماتريدية.
      فهذه بعض ما عند الماتريدية والأشاعرة من الخلاف عدها عبد الرحيم شيخ زادة إلى خمسين مسألة في كتابه نظم الفرائد وقد أثنى المرتضى الزبيدي على صاحب الكتاب واعتمد كتابه [إتحاف السادة المتقين 2/12].

      تعليق


      • #4
        (تابع)


        التعقيب على الزبيدي
        ثم إن الزبيدي أضاف إلى الماتريدية والأشعرية « الناجيتين » فرقة ثالثة: وهم أهل الكشف الصوفية [إتحاف السادة المتقين 2/6-7].
        فهل هما اثنتان أم ثلاثة؟!
        قال الزبيدي: « بأن القائلين بأن كل مجتهد مصيب هم جمهور المتكلمين من الأشاعرة والمعتزلة » [إتحاف السادة 6/123]. فقال كلمة الحق وجعل الأشاعرة من جملة المتكلمين المعتزلة.
        السرهندي يطعن في المذهب الأشعري
        وقد انتقد السرهندي الفاروقي مجدد الطريقة النقشبندية المذهب الماتريدي فقال: « يا ليت شعري! ماذا أراد أصحابنا الماتريدية من قولهم باستقلال العقل في بعض الأمور كإثبات وجود الصانع تعالى ووحدانيته حتى كلفوا من نشأ في شاهق الجبل وعبد الصنم بهما وإن لم تبلغه دعوة الرسول وحكموا بترك النظر فيهما بكفره وخلوده في النار، ونحن لا نفهم الحكم بالكفر والخلود في النار إلا بعد البلاغ المبين والحجة البالغة المنوطة بإرسال الرسل » [مكتوبات الإمام الرباني ص 138].
        ثم انتقد المذهب الأشعري في القدر واعتبره داخلاً في دائرة الجبر الحقيقي. واعتبر أن كثيرين من ضعيفي الهمة يحتجون بقدر الأشعري ويميلون إلى مذهبه لهذا السبب [مكتوبات الإمام الرباني 331].

        الماتريدي والمعتزلة
        وأعجب كيف يكون الماتريدي إمام أهل السنة ولم يشتهر بعلم الحديث وقد كان فلسفيًا لا صلة له بالحديث كما يظهر من كتبه لا سيما كتاب التوحيد وكتاب تأويلات أهل السنة [وبالمقارنة بين هذين الكتابين وبين رواج كتب ابن تيمية وابن القيم تجد كتب أهل البدع كالماتريدي والقشيري والسبكي والشعراني لا إقبال عليها حتى لا تكاد تعرف.
        سل السواد الأعظم: من منهم يعرف كتاب التوحيد للماتريدي والرسالة القشيرية وكتاب الرد على الكعبي وشفاء السقام. ثم سلهم عن زاد المعاد لابن القيم وعن فتاوى ابن تيمية كم يتلقفها الناس في شرق البلاد وغربها حينئذ تذكر قوله تعالى:  فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ  [الآية 17 من سورة الرّعد] ]. فأهل السنة لهم آثار تدل عليهم.
        وهو في اتباعه لعلم الكلام مخالف لشيخه أبي حنيفة الذي تراجع عنه ونهى عنه كما قال قبيصة بن عقبة: « كان الإمام أبو حنيفة رحمه الله في أول أمره يجادل أهل الأهواء حتى صار رأساً في ذلك ثم ترك الجدل ورجع إلى الفقه والسنة وصار إمامًا » [عقود الجمان 161 مناقب أبي حنيفة للمكي 53 وانظر أيضًا مناقب أبي حنيفة للكردري 137] وقال أبو حنيفة: « لا حاجة لي في علم الكلام » [تاريخ بغداد للخطيب البغدادي 13/ 333]. وكان يقول لابنه حماد: « يا حماد دع الكلام » [مناقب أبي حنيفة للمكي 183]. قال البزدوي: « ونحن نتبع أبا حنيفة فإنه إمامنا... وإنه كان يُجَوّز تعليمه وتعلّمه والتصنيف فيه ولكن في آخر عمره امتنع عن المناظرة فيه ونهى أصحابه عن المناظرة فيه » [أصول البزدوي ص 4].
        وقال زفر بن الهذيل: « ما أدركت مشيختنا زفر وأبا يوسف وأبا حنيفة ومن جالسنا وأخذنا عنهم يهمهم غير الفقه والاقتداء بمن تقدمهم » [رواه السيوطي في صون المنطق 136 عن الحسن بن زياد اللؤلؤي].
        فكيف يدعي الحبشي أن الماتريدي كان إمام أهل السنة وكتبه مشحونة بالفلسفة وعلم الكلام وقد رأيت نهي شيخه عن علم الكلام؟!
        وإن من شيوخ الماتريدي: محمد بن مقاتل الرازي قال فيه البخاري: « لأن أخرّ من السماء إلى الأرض أحب إلي من أروي شيئًا عن محمد بن مقاتل الرازي » [تهذيب التهذيب 9/471]. قال الشمس السلفي: « فبعض شيوخ الماتريدي من الضعفاء وبعضهم من المجاهيل وبعضهم من المقلدين الأجلاد والمتعصبين الأصلاب مع جلالتهم في الورع والعلم في الفقه ولا صلة لهم بالحديث وأهله » [عداء الماتريدية للعقيدة السلفية 1/226].
        لقد صدرت حول الماتريدي بحوث ورسائل كتبها أناس يعتقدون الماتريدية والأشعرية وأثنوا على الماتريدي، إلا أنهم أخذوا عليه موافقته للمعتزلة في مسائل عديدة.
        وسبب هذه الموافقة أن أهل الكلام قد انطلقوا جميعًا في مناهجهم من أصول واحدة، ورَدّوا على البدعة ببدعة. ولم يلحظوا أن أصل الانحراف ومصدره كامن في المنهج فسكتوا عنه وراحوا ينكرون الأخطاء الناتجة عنه.
        لقد أسس المعتزلة منهج علم الكلام ورتبوه، ثم جاء الأشعرية من بعدهم وأخذوا أصولهم ومناهجهم الكلامية ثم ردّوا على بعض أخطائهم ولم ينقدوا علم الكلام الذي هبط بالمعتزلة إلى مهاوي الضلال.
        يقول ابن تيمية: « وأما أهل الكلام فإن عمدتهم في الباطن ليست على القرآن والإيمان، ولكن على أصول ابتدعها شيوخهم، عليها يعتمدون في التوحيد والصفات والإيمان بالرسول، ثم ظنوا أن ما يوافقها من القرآن احتجوا به، وما خالفها تأولوه.
        فلهذا نجدهم إذا احتجوا بالقرآن والحديث لم يعتنوا بتحرير دلالتهما ولم يستقصوا ما في القرآن من ذلك المعنى، إذ كان اعتمادهم في نفس الأمر على غير ذلك. والآيات التي تخالفهم يشرعون في تأويلها شروع من قصد ردّها كيف أمكن، ليس مقصوده أن يفهم مراد الرسول، بل أن يدفع مُنازِعه عن الاحتجاج بها... [مجموع الفتاوى 13/ 58 – 59].

        ولقد قام الدكتور محمود قاسم (في مقدمته على مناهج الأدلة) بتقييم مذهب الماتريدي وانتهى إلى إنه أقرب إلى الاعتزال وأنه لا يتفق في الحقيقة مع الأشعري إلا في مسائل قليلة ليست بالجوهرية [مناهج الأدلة في عقائد الملة 18 و122].
        واستنكر محقق كتاب التوحيد (للماتريدي) في بداية الأمر [قدم تحقيق كتاب التوحيد كرسالة دكتوراه في الأزهر بمصر] ما قاله الدكتور قاسم، غير أنه عاد واعترف بهذه الحقيقة في مقدمته حيث أثبت تأثره بالمعتزلة في العديد من المسائل.
        وتتجلى أدلة الماتريدي العقلانية التي بناها على قواعد المعتزلة في مواضيع مثل: « أن الأجسام حادثة وأنها لا تخلو عن اجتماع وسكون وافتراق، وهي حوادث بالعقل والحس لأن الضدين لا يجتمعان فثبت التعاقب ». علق المحقق على ذلك قائلاً: « هذه الأدلة المستمدة من شهادة الحس والعقل عند الماتريدية نجدها عند النظام المعتزلي » [مقدمة كتاب التوحيد 31 ومقدمة كتاب مناهج الأدلة 125].
        وقد زعم الماتريدية « أن النصوص إذا كانت خلاف العقل: فإن كانت متواترة فهي وإن كانت قطعية الثبوت لكنها ظنية الدلالة، فالعقل مقدم عليها ».
        وهكذا لم تسلم السنة من مسخهم: لا آحادها ولا متواترها.
        ومن هنا أؤكد أن منهج الماتريدي في نصوص الوحي منهج فاسد باطل لأنه صريح في أن العقل أصل والشرع فرع.
        الماتريدي وتكفير المقلد
        وأنكر على الماتريدي تصدير كتاب التوحيد بفصل « إبطال التقليد » على طريقة المعتزلة إذ ذكر أن من بلغ الاحتلام ولم يعرف الله بجميع أسمائه وصفاته من طريق الاستدلال فهو كافر حلال الدم. وقد خالف السرهندي الماتريدي هذا القول [مكتوبات الإمام الرباني 293].
        قال المحقق: « فلا تخرج أقوال الماتريدي عما يقوله المعتزلة وليس بينهما اختلاف إلا في العبارة » [مقدمة كتاب التوحيد 27 – 28]. حيث تضمنت عبارة الماتريدي في « تكفير من لم يعرف الله بجميع أسمائه من طريق استدلال المتكلمين » الحكم بكفر غالبية هذه الأمة.
        وبالجملة فمسألة تكفير المقلد في العقيدة هو تقليد في العقيدة للمعتزلة، لأن القول قولهم أصلاً.
        أهل الكلام عند ابن حجر و مسألة التقليد:
        ولقد أبدى الحافظ ابن حجر استياءه من ذلك فقال: « والعجب ممن اشترط ترك التقليد من أهل الكلام ينكرون التقليد وهم أول الداعين إليه.. فآل أمرهم إلى تكفير من قلد الرسول  في معرفة الله تعالى وكفى بهذا ضلالاً، ويلزم من ذلك إلى القول بعدم إيمان أكثر المسلمين » [فتح الباري 13/ 354].
        - ونقل عن البيهقي في كتاب الاعتقاد أن غالب من أسلم من الناس في عهد النبي  لم يعرفوا إثبات الصانع وحدوث العالم عن طريق استدلال المتكلمين وذكر أن هذا لا يكون تقليدًا وإنما اتباعًا [فتح الباري 13/ 353].
        - وأثبت الحافظ أن هذا الاشتراط الذي عرفه المتكلمون إنما قلدوا به المعتزلة الذين سبقوهم إلى تكفير من لم يعرف الله عن طريق الاستدلال. قال: « وذهب أبو هاشم من المعتزلة إلى أن من لم يعرف الله بالدليل فهو كافر » [فتح الباري 13 /350].
        الاسم والمسمى
        ومن المسائل التي خاض فيها الماتريدية مسألة الاسم والمسمى حيث ذهبوا إلى أن الاسم هو المسمى وقد عد الإمام الطبري الخوض فيها من الحماقات والمتاهات [صريح السنة 26 تحقيق بدر معتوق] وكان الإمام أحمد يشق عليه هذا الخوض ويكتفي بأن الاسم للمسمى كما قال تعالى:  وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى  [الآية 180 من سورة الأعراف].
        الماتريدي وفكرة الشر
        وقد استغرب محقق كتاب التوحيد ما وجده عند الماتريدي من الاستدلال بوجود الشر في العالم كدليل على أن للكون صانعًا « ولو كان العالم من غير صانع لانتفى وجود الشر » [انظر كتاب التوحيد للماتريدي 17].
        قال المحقق: « ومن الغريب أن يختار الماتريدي فكرة الشر ليبني عليها برهانًا على وجود الله، وحتى الفلاسفة لم يخطر عندهم مثل هذا الاستدلال فأفلاطون مثلاً يتخذ من فكرتي الجمال والخير دليلاً على وجود الله [مقدمة التوحيد 34]. وحتى الدكتور المغربي الذي صنف كتاب « إمام أهل السنة والجماعة أبو منصور الماتريدي » استغرب من الماتريدي هذا الاستدلال [إمام أهل السنة والجماعة 132].
        الماتريدي وموقفه من السببية
        وعارض الدكتور عاطف العراقي موقف الماتريدي من السببية ورأى أن إنكار العلاقة بين الأسباب والمسببات مبني على المغالطة وهو إفراط في مقابل تفريط المعتزلة الذين ربطوا الأسباب بمسبباتها على وجه الضرورة من غير اعتبار لمسببها. فجاء الماتريدي وفرط في إنكار الضرورة بين الأسباب ومسبباتها لكي يثبت الحاجة إلى الله. ولا تعارض بين القدرة الإلهية المطلقة وبين القوانين الثابتة للأشياء [إمام أهل السنة والجماعة 131].
        وفي تعريف الماتريدي للإرادة يميل إلى قول النجارية من المعتزلة، إذ يعرفها بأنها صفة لكل فاعل يخرج فعله على غير سهو أو غفلة [التوحيد 286].
        وفي رده على الكعبي يذهب إلى أن من ليس بمريد بمعنى أنه ليس بمغلوب. وأن من ليس مكروهًا معناه من كان مريدًا [التوحيد 294 و 304]. ونجد الماتريدي في كتابه التوحيد يوافق المعتزلة في ربطهم بين الإرادة والعلم [التوحيد 293].
        وهنا تساءل الدكتور المغربي « هل معنى هذا الربط القول بأن الإرادة تجري مجرى العلم على النحو الذي يقول به الكعبي؟»
        على أن المؤلف المذكور لم ينس في ختام رسالته أن يعترف لنا بأنه « يجد موافقة عند الماتريدي لآراء المعتزلة مع أنه يراه إمام أهل السنة والجماعة كما عنون رسالته، وأرجع سبب هذه الموافقة إلى أخذه بالعقل إلى جانب النص » [إمام أهل السنة والجماعة 444].
        تأثره بأرسطو والفلاسفة
        بل قد أثبت المؤلف المذكور تأثر الماتريدي من بعض قواعد الجدل الآرسطي ومناهجه مثل قوله بأهمية المعرفة الحسية وصدقها بالضرورة، وأن من فقد حسًا فقد علمًا [إمام أهل السنة والجماعة 448].
        وكذلك تأثره بنظرية المثل لأفلاطون حيث رأى أن الإنسان هو العالم الصغير بمعنى أنه يوجد لكل أمر من أمور العالم الكبير مثال له في العالم الصغير، وأن الإنسان صورة العالم الصغير الذي انطوى فيه العالم الكبير أي أن الإنسان مثال وصورة من الله [التوحيد 102 تأويلات أهل السنة 1/652].
        نزعة الماتريدي العقلانية
        ويجعل من العقل أصلاً في مسائل أصول الدين وفروعه كقوله:
        والعقل سبيل معرفة حجة الرسل [تأويلات أهل السنة 3/183 التوحيد 185 تبصرة الأدلة ل 101 بحر الكلام 5، 6، 14 نثر اللآلئ 204 نظم الفرائد 35].
        والعقل سبيل إدراك معنى أوامر الله [تأويلات أهل السنة 1/499].
        والعقل إنما هو لإدراك العواقب [تأويلات أهل السنة 1/ 544].
        والعقل سبيل شكر المنعم [تأولات أهل السنة 1/ 444].
        ومع ذلك كله فقد اعترف الماتريدي بقصور العقل وأنه « مخلوق له حد كغيره من وسائل الإدراك: يعترضه ما يعترض غيره من الآفات مع غموض الأشياء واستغلاقها » [التوحيد 183 تأويلات أهل السنة 1/684].
        وحكى الشيخ زادة عن عامة مشايخ الحنفية الماتريدية أنهم يقولون أن الله لو لم يرسل الرسل لكفى حجة الله عليه بعقولهم!!! [نظم الفرائد 35]. وخالفوا بذلك صريح قول الله تعالى:  وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً  [الآية 15 من سورة الإسراء].
        وهذا متعارض مع جعل العقل أصلاً يقدمونه على الأدلة السمعية ويؤكد هذا التعارض أن ما يدافعون به الأدلة السمعية ويستعملونه في تأويلها يكون باعترافهم محتملاً لا مقطوعًا به. مثال ذلك:
        حين وجد الماتريدي آيات القرآن صريحة في رد مذهب الأحناف بعدم زيادة الإيمان ونقصه  لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَعَ إِيمَانِهِمْ  [الآية 4 من سورة الفتح]  فَزَادَهُمْ إِيمَانا  [الآية 173 من سورة آل عمران] استخدم عقلانيته على وجه الاحتمال لا على وجه اليقين فقال:
        [1] يحتمل أن تعني الزيادة هنا زيادة الحجج والبراهين!!.
        [2] يحتمل أن تكون زيادة الإيمان داعية إلى الوفاء بشروطه!!.
        [3] يحتمل أن تكون من حيث الفضيلة والكمال لا العدد والعمل!!.
        [4] يحتمل أن تكون الزيادة بمعنى قوته ونوره وزيادة ثماره!!. وهو اعتراف بزيادة الإيمان لأنه بزيادة الإيمان يزداد النور.
        [5] يحتمل أن تكون بمعنى زيادة الثبات [تأويلات أهل السنة والجماعة 1/273] والاستقامة [عاب الباحث في رسالته (أبو منصور الماتريدي 385) موقف الماتريدي من الإيمان قائلاً: « وإذا كان الإيمان لا يزيد ولا ينقص في حقيقته عند الماتريدي فعلى ذلك فقد استوينا والرسل في أصل الإيمان، فكيف صار الثواب لهم والخوف من الله أكمل »؟!]. وهذا القول تحريف ظاهر. فإن من لم يثبت على الإيمان ولم يدم عليه فقد انتقل إلى الكفر.
        وهكذا نجد عند أهل الكلام من الاحتمالات في أمور العقائد الشيء الكثير. ويصعب إحصاء المرات التي كرَّر ابن فورك في كتابه مشكل الحديث وقوله (ويحتمل).
        ومن هنا نستطيع القول بأن المتكلمين لم يوفوا بما اشترطوه وهو أن لا يتكلموا في العقائد إلا بالأدلة القطعية. هذا الشرط الذي دفعهم إلى رد أحاديث الآحاد واعتبارها ظنية مع كونها موجودة عند البخاري ومسلم اللذين تلقت الأمة أحاديثهما بالقبول.
        فالتأويل ظني الدلالة باعتراف الماتريدي [التوحيد للماتريدي 74] ومع ذلك اعتمدوه في العقائد وبكثرة. والعقل قدموه على الأدلة النقلية السمعية في العقائد، مع اعتراف الماتريدي أيضاً بقصوره. والاحتمالات تتوارد عندهم وتكثر في سبيل رد الصريح من النصوص كما رأينا مع الماتريدي في تأويل النصوص الدالة على زيادة الإيمان.
        وبهذا نخلص إلى أن من حمل هذه التناقضات وثبت عليه مشابهة المعتزلة كيف يقال بأنه رئيس أهل السنة والجماعة ؟

        الاختلاف بين الماتريدية والأشاعرة حول مهمة العقل
        لقد كان الماتريدية من أكبر المنتصرين للتحسين والتقبيح العقليين حتى أدى ذلك إلى وصفهم بمخانيث المعتزلة.
        فقد ذهب الماتريدية إلى أن العقل يدرك حسن الأشياء وقبحها وأن معرفة الله بالعقل، حتى قال الصدر في التعديل: « كل ما هو واجب عقلاً فهو حسن عقلاً، وكل ما هو حرام عقلاً فهو قبيح عقلاً » ومن هنا قالوا أن العقل آلة في معرفة الله.
        وخالفهم الأشاعرة في ذلك مستدلين بقوله تعالى:  وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً  [الآية 15 من سورة الإسراء] [نظم الفرائد 35، الروضة البهية 34 – 37 إشارات المرام 93].
        وقالوا: «... لا عبرة بأوامر العقل، إنما العبرة بأوامر الشارع الحكيم » [أصول الفقه لمحمد أبي زهرة 55 المسايرة 97 لابن الهمام شرح الفقه الأكبر 137 وتأويلات أهل السنة للماتريدي 1/ 444].
        من هي الفرقة الناجية؟
        إن هذه الخلافات العميقة بين الفرقتين لدليل على أنهما ليستا من الطائفة الناجية. فإن الفرقة الناجية ليست مركبة من فرقتين متناحرتين في العقائد، وإنما هي طائفة واحدة كما في الحديث.
        فنحن نستطيع أن نقول: إن عقيدة الشافعي وأحمد ومالك واحدة، إذ لم ينقل عنهم خلاف في العقيدة مع كثرة اختلافهم في الفروع.
        والأشعري والماتريدي إنما أتيا بعدهم. فهل كان الشافعي أشعريًا أم كان أبو حنيفة ماتريديًا؟
        وليس من سمات الفرقة الناجية تقديم العقل على النقل ولا التأويل في أسماء الله وصفاته. بل إن هذه الخلافات في ذاتها رد على الماتريدية القائلين بوجوب الإيمان بالله عقلاً وأن العقل آلة في معرفة الله فإن العقول تختلف من عقل إلى آخر. فعقول الماتريدية لم تتفق مع عقول الأشاعرة.
        وإنما تقدم الطائفة الناجية النقل على العقل من غير تعطيل لدور العقل. فلا تقدم العقل على النقل على النحو الذي مضى عليه الفلاسفة والمتكلمون والمعتزلة والأشاعرة والماتريدية.
        ولا تقدم القلب والكشف على النقل كما يفعل الصوفية والباطنية.
        إن الفرقة الناجية هي الطريق التي ثبت عليها أحمد أمام مؤولة الصفات. هي الفرقة التي أعلن الأشعري الانتهاء إليها: على طريقة أحمد كما اعترف به ابن عساكر والزبيدي بل والسبكي. وشهادة الأمة بفضل أحمد وإمامته وثباته على السنة وبروزه في الحديث قد جعل له الإمامة والقبول في الأمة.
        ولم يعرف الناس أيام الأشعري أن من أراد الحق فليكن أشعريًا، وإنما كانوا يعرفون أن من أراد الحق فليتبع طريقة أحمد بن حنبل لأنه « الإمام الكامل... الذي أبان الله به الحق وأظهر به السنة » [تبيين كذب المفتري]. ولو كان التأشعر هدى وفرقة نجاة لما ذمهم الشيخ عبد القادر الجيلاني وقرن تأويلاتهم بتأويلات المعتزلة [انظر الغنية 54 و56 و58].

        يعزفون على وتر الكثرة
        وكثيرًا ما يدق الحبشي على وتر الكثرة فيقول: « إن الأشعرية الذين هم أهل السنة يبلغ تعدادهم مئات الملايين، أما من خالفهم فهم قلة قليلة بالنسبة إليهم، وفي إندونيسيا وحدها أكثر من مئة مليون كلهم أشعريون » [منار الهدى (!) عدد 8 ص45]. وهذا دليل واه وحجة داحضة:
        الحجة الدامغة
        ونردّ على الحبشي :
        أولاً: من خلال كلمات تلميذه أسامة السيد إذ قال: « قال لي شخص: لماذا أنتم أيها الأحباش كل المجموعات الدينية ضدكم فهل تظنون أنفسكم على حق بمفردكم وهُم أهل الباطل بمجموعهم؟ فقلت له: إن الكثرة ليست مقياس الحق، لا سيما إن من تستكثر بهم مئات الملايين من المقلدة الذين لا يعرفون حقيقة المذهب الأشعري بل هم من المقلدة العوام. بل الجمهرة الغالبة للمسلمين تؤمن بهذا الدين بإجمال ولا تعرف المداخل الكلامية والقضايا العقلية التي يعتمدها أهل الكلام.
        وعلى أي حال فقد قال الفضيل بن عياض: « لا يغرنك كثرة الهالكين » [مجلة منار «الهدى» 25/74]. ولست أدري لِمَ لم يقل له: بل نحن كثرة، كما زعم شيخه؟
        ثانيًا: قال الحافظ ابن عساكر: « قد يقول قائل: إن أكثر الناس لا يقتدون بالأشعري ولا يرون مذهبه: وهم السواد الأعظم: والجواب أنه لا عبرة بكثرة العوام ولا التفات إلى الجهال الأغتام وإنما الاعتبار بأرباب العلم والاقتداء بأصحاب البصيرة والفهم وأولئك في أصحابه أكثر ممن سواهم ولهم الفضل على من عداهم، على أن الله عز وجل قال:  وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاّ قَلِيلٌ  [الآية 40 من سورة هود] وقال:  وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُور  [الآية 13 من سورة سبأ] وقال الفضيل بن عياض: « لا تستوحش طرق الهدى لقلة أهلها ولا تغترنّ بكثرة الهالكين » [تبيين كذب المفتري ص 331]. فهذا ابن عساكر يصرح بأن السواد الأعظم خلاف الأشاعرة.
        ثالثًا: متى كانت الكثرة ميزانًا بين الحق والباطل؟ بل الحق حق وإن اتبعه الأقلون، والباطل باطل وإن اتبعه الأكثرون. الحق لا يعرف بالكثرة أيها المدلس. فإن النبي يأتي يوم القيامة ومعه الرجل والرجلان، ويأتي آخر وليس معه أحد؟ وقد قال تعالى عن نوح:  وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاّ قَلِيلٌ . أما الشرك فعليه الأكثرية:  وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ  [الآية 106 من سورة يوسف].
        رابعًا: أن الله قد أخبرنا أن الكفر والشرك والإعراض كانت عليه الكثرة من الناس فقال:  وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ  [الآية 38 من سورة النّحل]  لا يُؤْمِنُونَ  [الآية 6 من سورة البقرة]  مُعْرِضُون  [الآية 83 من سورة البقرة]  لا يَشْكُرُونَ  [الآية 243 من سورة البقرة]  وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ  [الآية 49 من سورة المائدة]  فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاّ كُفُوراً  [الآية 50 من سورة الفرقان]  وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ  [الآية 103 من سورة يوسف]  فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ  [الآية 26 من سورة الحديد]  وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ  [الآية 13 من سورة سبأ]  وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّه  [الآية 116 من سورة الأنعام]. وقد قالت عائشة للنبي  : « أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم إذا كثر الخبث » [رواه البخاري (7059) ومسلم (2880)]. ولما قيل له: « أمن قلة نحن يومئذ يا رسول الله؟ قال: بل أنتم يومئذ ((كثير)) ولكنكم غثاء كغثاء السيل ».
        وأما المتمسكون بسنته  فليسوا بغثاء مهما قل عددهم فقد أثنى  عليهم فقال: « بدأ الدين غريبًا وسيعود غريبًا كما بدأ فطوبى للغرباء. فأهل الإسلام بين أكثر الناس غرباء. وأهل الإيمان بين أهل الإسلام غرباء. وأهل السنة المتميزين عن أهل البدعة والشرك غرباء.
        خامسًا: لئن كانت الكثرة ميزانًا في الحق والقلة دليلاً على الباطل فيصير دين البوذيين والنصارى بهذا الميزان الفاسد هو الدين الحق، والمسلمون على الدين الباطل لأن تعداد البوذيين أكثر من النصارى، وتعداد سكان النصارى أكثر من المسلمين.
        ثم إن مئات الملايين هؤلاء محسوبون زورًا على الأشاعرة بينهما لا يعرفون شيئًا عن الأشعري ولا تأويلات وجبر الأشعرية ولا سمعوا بالماتريدي، وإنما هم مسلمون بالفطرة، وعامة المسلمين يعتبرون أهل سنة ما تركوا على فطرهم كما أكده ابن قتيبة. بل لهذا فضّل الغزالي عقيدة العوام على المتكلمين وأكد أن « إيمان العوام أثبت من عقيدة علماء الكلام المهلهلة المتزعزعة التي تهزها رياح الشبهات مرة هكذا ومرة هكذا » [إحياء علوم الدين 1/94 والمنقذ من الضلال 17 للغزالي]. ومعلوم أن الأشاعرة علماء كلام.
        ولهذا أيضًا تمنّى الجويني حين أعلن توبته عن مذهب الأشاعرة وهو على فراش الموت أن يموت على دين عجائز نيسابور.
        أما تمسكهم بحديث « إن أمتي لا تجمع على ضلالة فإذا رأيتم اختلافًا فعليكم بالسواد الأعظم » فهذا الحديث والله أعلم ضعيف. في سنده أبو خلف الأعمى واسمه حازم بن عطاء قال الحافظ العراقي في تخريج أحاديث البيضاوي: « وقد جاء الحديث بطرق كلها فيها نظر ».
        وقال الزبيدي في الإتحاف (8/141) « وفي السند مجهول ».
        والعجيب أن الجويني وهو من كبار الأشاعرة رد هذا الحديث بحجة أنه خبر آحاد ويؤوله بأن يحتمل أن يكون معناه « أن أمته  لا ترتد إلى قيام الساعة » ثم قال: « ولا حاصل لمن يقول قد تلقته الأمة بالقبول ».
        ولا ننسى أن حديث الآحاد عندهم يبقى ظنيًا يحتمل الكذب وإن تلقته الأمة بالقبول وأجمع على تلقيه أهل العلم كما حكاه عن ابن فورك في أحد قوليه والقاضي ولم يعقب عليه [البرهان في أصول الفقه 1/379].
        والجويني لا يرى وجود دليل سمعي قطعي على حجة الإجماع - وإن كان لا ينكر الإجماع – ويرد على الشافعي احتجاجه بقوله تعالى:  وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى  [الآية 115 من سورة النّساء] ويرى أنها ليست نصاً في الموضوع وإنما تعني عنده « من أراد الكفر وتكذيب المصطفى  » [البرهان في أصول الفقه 1/435].
        وإن صح الحديث فإنه يُفهم منه الجماعة كما في الروايات الأخرى. فقد أورد له المرتضى الزبيدي زيادة فيها « قالوا: ما السواد الأعظم؟ قال: من كان على ما أنا عليه وأصحابي » [إتحاف السادة المتقين 1/ 265].
        والسواد الأعظم هم جماعة أهل السنة ومن تمسك بما كان عليه جماعة الصحابة.
        وقد قال عمرو بن ميمون: « سمعت عبد الله بن مسعود يقول: عليكم بالجماعة فإن يد الله على الجماعة. وقال لي: تدري ما الجماعة؟ قلت: لا. قال: الجماعة ما وافق الحق وإن كنت وحدك ».
        وقد اشتد نكير أبي المظفر السمعاني على أهل الكلام وسخر من طريقتهم وأكد أنهم يكفّرون من خالف طريقهم من الناس وهم السواد الأعظم [فتح الباري 13/507]. « فالمصابون بداء علم الكلام شرذمة قليلون ليسوا شيئاً » [فتح الباري 13/507].
        قال أبو شامة: « حيث جاء الأمر بلزوم الجماعة فالمراد به لزوم الحق وأتباعه وإن كان المتمسك به قليلاً والمخالف كثيرًا، لأن الحق الذي كانت عليه الجماعة الأولى من النبي  وأصحابه، ولا تنظر إلى كثرة أهل الباطل بعدهم » وقال نعيم بن حماد: « إذا فسدت الجماعة فعليك بما كانت عليه الجماعة قبل أن تفسد وإن كنت وحدك. فإنك أنت الجماعة حينئذ » [رواه اللالكائي في أصول اعتقاد السنة رقم 160 والبدع والحوادث لأبي شامة ص 29-28].
        وجاء في الميزان للشعراني « ولذا كان سفيان الثوري يقول: المراد بالسواد الأعظم هم من كان من أهل السنة والجماعة ولو واحداً ».
        وكان ابن المبارك يصف من اجتمعت فيه صفات الاتباع الكامل للكتاب والسنة بالجماعة، فتراه إذا سئل عن الجماعة قال: « أبو بكر وعمر. فإذا قيل له قد مات أبو بكر وعمر قال: أبو حمزة السكري جماعة. قال الترمذي: أبو حمزة هو محمد بن ميمون وكان شيخًا صالحًا وإنما قال هذا في حياته عندنا » [الترمذي رقم 2167].
        الجماعة الذين يدعوننا إلى الشرك إلى دعاء غير الله وطلب الغوث من الأموات ويبررون الابتداع في الدين فهؤلاء ليسوا من الجماعة، بل يليق بهم حديث النبي  : « لا تقوم الساعة حتى تلتحق قبائل من أمتي بالمشركين ويعبدون الأوثان » [رواه أبو داود بإسناد صحيح رقم (3072)].
        فسوادكم الأعظم أيها المبتدعة: رفاعية نقشبندية شاذلية قادرية سهرودية دسوقية يشرطية أشاعرة ماتريدية، خرافات وبدع وارتماء على القبور واستغاثة واستعاذة بالأموات من دون الحي الذي لا يموت. والله كلما ازددتم زاد الدين بزيادتكم غربة.

        تعليق


        • #5
          الحلقة
          (4)


          ترجمة بعض أعلام المتكلمين


          الرازي
          الفخر الرّازي محمد بن عمر (606هـ)، من أكبر الأصوليين الشافعية. وهو صاحب تفسير القرآن المشهور الذي قيل: إن فيه كل شيء إلا التفسير! قال عنه الذهبي في "ميزان الاعتدال في نقد الرجال" (5|411): «الفخر بن الخطيب صاحب التصانيف. رأس في الذكاء والعقليات، لكنه عري من الآثار (قلت: لا بارك الله في الدنيا بلا دين). وله تشكيكات على مسائل من دعائم الدين، تورث حيرة. نسأل الله أن يثبت الإيمان في قلوبنا. وله كتاب "السر المكتوم في مخاطبة النجوم": سِحرٌ صريح. فلعله تاب من تأليفه إن شاء الله تعالى». أقول: صح عنه التوبة في مرض الموت. ونحن نرجو التوبة والمغفرة له ولجميع المسلمين، لكننا نحذر من عامة كتبه التي كتبها قبل توبته. وقد أثبت الباحث الدكتور الزركان، صحة نسبة كتاب ألفه الرازي في عبادة الكواكب والنجوم والسحر.
          قال ابن خلكان في "وفيات الأعيان" (4|249): «وله التصانيف المفيدة في فنون عديدة. منها تفسير القرآن الكريم. جمع فيه كل غريب وغريبة. وهو كبيرٌ جداً، لكنه لم يكمله». قال العلامة المعلمي في مجموع رسائله (ص107): «أكمله كل من الخوبي (ت637) والقمولي (ت727)». وقال (ص134): «الأصل من هذا الكتاب –وهو القدر الذي من تصنيف الفخر الرازي– وهو من أول الكتاب إلى آخر تفسير سورة القصص، ثم من أول تفسير الصافات إلى آخر تفسير سورة الأحقاف، ثم تفسير سورة الحديد والمجادلة والحشر، ثم من أول تفسير سورة الملك إلى آخر الكتاب. وما عدا ذلك فهو من تصنيف أحمد بن خليل الخولي، وهو من التكملة المنسوبة إليه، فإن تكملته تشمل زيادة على ما ذكر تعليقا على الأصل. هذا ما ظهر لي والله أعلم».
          وقال الإمام الشاطبي في "الإفادات والإنشادات" (ص100): «حدثني الأستاذ أبو علي الزواوي عن شيخه الأستاذ الشهير بأبي عبد الله المفسّر أنه قال: إن تفسير ابن الخطيب احتوى على أربعة علوم، نقلها من أربعة كتب، مؤلفوها كلّهم معتزلة:
          1) فأصول الدين: نقلها من كتاب الدلائل لأبي الحسين.
          2) وأصول الفقه: نقلها من كتاب المعتمد لأبي الحسين أيضاً، وهو أحد نظار المعتزلة، وهو الذي كان يقول فيه بعض الشيوخ: "إذا خالف أبو الحسن البصري في مسألة، صَعُبَ الردّ عليه فيها!".
          3) والتفسير: من كتاب القاضي عبد الجبار (المعتزلي المشهور).
          4) والعربية والبيان: من "الكشّاف" للزمخشري (معتزلي مشهور)».
          فالرازي كان يذكر أقوال المعتزلة ويقررها غاية التقرير، ثم يرد عليها على طريقة الأشاعرة –المخالفين للسنة– برد هزيل. حتى قال عنه ابن حجر في "لسان الميزان" (4|427): «وكان يُعاب بإيراد الشبه الشديدة ويقصر في حلها. حتى قال بعض المغاربة: "يورد الشبه نقد، ويحلها نسيئة"». ونقل عن الإمام سراج الدين المغربي انه صنف كتاب "المآخذ" في مجلدين، بيّنَ فيهما ما في تفسير الفخر من الزيف والبهرج، وكان ينقم عليه كثيراً ويقول: «يورد شبه المخالفين في على غاية ما يكون من التحقيق، ثم يورد مذهب أهل السنة والحق على غاية من الوهاء». وقال الإمام ابن تيمية في "منهاج السنة" (5|439): «ولهذا لما صار كثير من أهل النظر –كالرازي وأمثاله– ليس عندهم إلا قول الجهمية والقدرية والفلاسفة. تجدهم في تفسير القرآن وفي سائر كتبهم يذكرون أقوالا كثيرة متعددة كلها باطلة، لا يذكرون الحق».
          وذكر ابن خليل السكوني في كتابه "الرد على الكشاف": «أن الرازي قال في كتبه في الأصول: أن "مذهب الجبر هو المذهب الصحيح"! وقال بصحة الأعراض. وسلك طريق أرسطو في دليل التمانع». ونقل عنه تلميذه التاج الأرموي أن: « أهل مصر هجروه وهموا به، فاستتر». ونقلوا عنه أنه قال: «عندي كذا وكذا مئة شبهة على القول بحدوث العالم». وذكر له ابن حجر في الميزان ضلالات عقائدية أخرى، نسأل الله السلامة. وقال عنه ابن الطباخ: «إن الفخر كان شيعياً، يُقدِّم محبة أهل البيت لمحبة الشيعة، حتى قال في بعض تصانيفه: "وكان علي شُجاعاً بخلاف غيره"». وإنما أفسد دين الرازي علم الكلام، الذي أدمن عليه وبرع به، حتى قال عنه ابن قاضي شهبة في "طبقات الشافعية" (2|65): «سلطان المتكلمين في زمانه».
          وقال الحافظ ابن حجر في لسان الميزان (4|504): «وقد مات الفخر الرازي يوم الاثنين سنة 166، وأوصى بوصية تدل على أنه حَــسُـن اعتقاده». ولنا أن نسأل: على أي عقيدة كان يدين بها الفخر الرازي؟ ثم إلى أي عقيدة انتقل؟ والجواب نعرفه من نص وصيته التي توصي بالابتعاد عن علم الكلام. قال: «يا ليتني لم أشتغل بعلم الكلام» وبكى. وقال: «لقد اختبرت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية، فلم أجدها تروي غليلاً ولا تشفي عليلاً. ورأيت أصحّ الطرق طريقةً: القرآن. أقرأ في التنزيه {والله الغني وأنتم الفقراء} وقوله تعالى: {ليس كمثله شيء} و {قل هو الله أحد}. وأقرأ في الإثبات: {الرحمن على العرش استوى} {يخافون ربهم من فوقهم} و {إليه يصعد الكلم الطيب}. وأقرأ أن الكل من الله قوله {قل كل من عند الله}».

          الكرخي
          عبد الله بن دلهم أبو الحسن الكرخي (ت340هـ)، من كبار الأصوليين الأحناف، وهو واضع أهم أصولهم. قال عنه الذهبي في سير أعلام النبلاء (15|427): «كان رأسا في الاعتزال». واشتهر عنه قوله: «كل آيةٍ تخالف ما عليه أصحابنا، فهي مؤوّلة أو منسوخة. وكل حديثٍ كذلك، فهو مؤوّل أو منسوخ». وهذا قمة في التعصب المذهبي المقيت.
          الجصاص
          أبو بكر الرازي الجصاص (370هـ)، تلميذ الكرخي ومن كبار الأصوليين الأحناف. وله تفسير للقرآن نصر به مذهب المعتزلة. قال الذهبي في سير أعلام النبلاء (16|341): «وقيل كان يميل إلى الاعتزال. وفي تواليفه ما يدل على ذلك، في رؤية الله وغيرها. نسأل الله السلامة». وهو يتعصب لمذهب الحنفية تعصباً ممقوتاً، يحمله على التعسف في تأويل الآيات انتصاراً لمذهبه، ويشتد في الرد على المخالفين متعنتاً في التأويل بصورةٍ تُنَفّر القراء أحياناً من متابعة القراءة لعباراته اللاذعة البعيدة عن لغة أهل العلم في مناقشة المذاهب الأخرى.
          هذا ويعتبر الكرخي والجصاص والدبوسي أقرب إلى المعتزلة منهم إلى الماتريدية. والكرخي أعظمهم ميلاً لأفكار المعتزلة، ثم الدبوسي. والجصاص وافقهم في مسائل. وهؤلاء عمدة الحنفية. كما اشتهر من الحنفية محمد بن شجاع الثلجي المعتزلي الجهمي الشهير. وكذلك عيسى بن أبان، وفيه ميل إلى الاعتزال. ولذا تجد تشابه بين اختياراتهم وبين آراء المعتزلة.
          والحقيقة أن المذهب الحنفي الحالي هو أشبه بمذهب الكرخي وليس مذهب أبي حنيفة. ذلك أن الكرخي هو المؤسس الحقيقي لأصول الفقه عند الأحناف وهي أصول أقرب لمذهب المعتزلة من مذهب أبي حنيفة. وخصوصاً القاعدة الشهيرة التي اخترعها الكرخي: «كل آية تخالف ما عليه أصحابنا فهي مؤولة أو منسوخة، وكل حديث كذلك فهو مؤول أو منسوخ» [الأصل للكرخي 152 ملحقة بتأسيس النظر للدبوسي]. ولك أن تتخيل ماذا كان سيقول ابن عباس رضي الله عنه لو سمع بهذه المقولة، وهو الذي كان يعيب على من يقلد أبي بكر وعمر! وذكر لنا أحد العلماء أن هذه المقولة علق عليها العلامة الحنفي علي القاري ما معناه: لولا أن الكرخي كان متأولاً لكفرناه.
          عموماً هناك الكثير من الأحناف من هم سلفيو العقيدة، لكن المشكلة تبقى أصول الفقه عند المذاهب الأربعة مخالفة للأئمة الأربعة ومتأثرة بنسب مختلفة بفلسفات المعتزلة. ولهذا تكثر الشذوذات الفقهية عند المتأخرين مقارنة مع الفقهاء المتقدمين. قال شيخ الإسلام: «وكذلك أهل المذاهب الأربعة وغيرها، ولاسيما وقد تلبس ببعض المقالات الأصولية وخلط هذا بهذا. فالحنبلي والشافعي والمالكي يخلط بمذهب مالك والشافعي وأحمد شيئاً من أصول الأشعرية والسالمية وغير ذلك، ويضيفه إلى مذهب مالك والشافعي وأحمد. وكذلك الحنفي يخلط بمذهب أبي حنيفة شيئاً من أصول المعتزلة والكرامية والكلابية، ويضيفه إلى مذهب أبي حنيفة».

          الشهرستاني
          أبو الفتح الشَّهْرَسْتاني (ت 548هـ) صاحب كتاب الملل والنحل. يصفه الذهبي في سير أعلام النبلاء (20|287) بقوله: شيخ أهل الكلام والحكمة، وصاحب التصانيف،ونقل عن السمعاني أنّه كان يميل إلى أهل القلاع (القرامطة) والدعوة إليهم والنصرة لطاماتهم، كما ينقل عن صاحب «التحبير» بأنّه كان إماماً أُصولياً عارفاً بالأدب وبالعلوم المهجورة. وقال ابن أرسلان في تاريخ خوارزم: عالم كيّس متعفف. ولولا ميله إلى الإلحاد وتخبطه في الاعتقاد، لكان هو الإمام، وكثيراً ما نتعجب من وفور فضله كيف مال إلى شيء لا أصل له، نعوذ بالله من الخذلان، وليس ذلك إلاّ لإعراضه عن علم الشرع، واشتغاله بظلمات الفلسفة. وقد كانت بيننا محاورات فكان يبالغ في نصرة مذاهب الفلاسفة والذب عنهم. حضرت وعظه مرات فلم يكن في ذلك قال الله و قال رسوله. فسأله سائل يوماً فقال: سائر العلماء يذكرون في مجالسهم المسائل الشرعية ويجيبون عنها بقول أبي حنيفة والشافعي، وأنت لا تفعل ذلك؟ فقال: مثلي ومثلكم كمثل بني إسرائيل يأتيهم المن والسلوى، فسألوا الثوم والبصل.

          ابن فورك
          دس السم ابن سبكتكين له من أجل ما رمي بالزندقة، كما حكى ذلك أبو الوليد الباجي.

          السهروردي
          السهروردي (ت586هـ). كان السهروردي شيعياً، وتأثر كثيراً بفسلفات أفلاطون وآراء زاردشت المجوسي. وكان يدعو إلى الشعوبية وهي الدعوة إلى تغليب الفرس على العرب. وقد كفره فقهاء دمشق وحلب، فقام صلاح الدين الأيوبي بسجنه حتى الموت. قال الذهبي عنه في سير الأعلام (21|207): «كان يتوقد ذكاء إلا أنه قليل الدين». وذكر أن فقهاء حلب كفروه، فأمر السلطان بقتله. قال ابن خلكان: «وكان يتهم بالانحلال والتعطيل، ويعتقد مذهب الأوائل (أي الفلاسفة). اشتهر ذلك عنه. وأفتى علماء حلب بقتله». قال الذهبي تعقيباً على هذا: «قلت: أحسنوا وأصابوا».

          الآمدي
          السيف الآمدي (ت631هـ)، من كبار الأصوليين عند الشافعية. قال الذهبي في "السير" (22|366) وكذلك في "تاريخ الإسلام": كان شيخنا القاضي تقي الدين سليمان بن حمزة، يحكي عن شيخه شمس الدين بن أبي عمر (ابن قدامة، صاحب الشرح الكبير) قال: «كنا نتردد إلى السيف الآمدي. فشككنا هل يصلي أم لا؟ (وهذا يدل على أنه لا يحضر الجماعات ولا يصلي أمام الناس) فتركناه حتى نام، وعلَّمْنا على رِجله بالحِبر. فبقيت العلامة نحو يومين مكانها! فعلمنا أنه ما توضأ». قال الذهبي: نسأل الله السلامة في الدين.
          وهذه المسألة ذكرها ابن حجر في اللسان (3|134)، وبحثها الشيخ عبد القادر السندي بحثاً موسعاً في كتابه "تعليقات سنية على البحوث العلمية" (193-203)، ومما قاله: «الحبر الذي كان يُستعمَل عند هؤلاء المتقدمين لم يكن من هذا النوع (المعاصر الذي تصعب إزالته)، وإنه كان يزال أثره بالسرعة الهائلة. ولذا وقع الشك عندهم من عدم إقامة الصلاة من قَبَلِ السيف الآمدي (أقول: بل وقع الشك أولاً، ثم حصل اليقين بعد حادثة الحبر). وقد نُفِيَ من دمشق لسوء اعتقاده. ثم قول الذهبي فيه: "وصح عنه أنه كان يترك الصلاة" لم يكن هذا القول مبنياً على قضية الحبر فقط، وإنما هو من باب عدم دخول الأعمال في مسمى الإيمان عند هؤلاء المرجئة والجهمية والمعتزلة».
          وقال الذهبي عنه في "المغني في الضعفاء" (1|293): «تارك للصلاة، شاكٌّ في دينه. نفوه من دمشق من أجل اعتقاده». وقال عنه في السير (22|364): «تفنن في حكمة الأوائل (الفلسفة)، فَرَقَّ دينُه واظلمَّ». وقال عنه في الميزان (3|35: «قد نفي من دمشق لسوء اعتقاده. وصَحّ عنه أنه كان يترك الصلاة. نسأل الله العافية». قلت: أجمع الصحابة على أن تارك الصلاة كافر (قلت أبوجهاد في هذا نظر كما قال الشيخ ربيع حفظه الله)، نسأل الله السلامة. قال الذهبي في السير (22|366): «قال لي شيخنا ابن تيمية: يغلب على الآمدي الحيرة والوقف، حتى أنه أورد على نفسه سؤالاً في تسلسل العلل، وزعم أنه لا يعرف عنه جواباً. ونفى صفات الصانع على ذلك. فلا يقرر في كتبه إثبات الصانع ولا حدوث العالم ولا وحدانية الله ولا النبوات ولا شيئاً من الأصول الكبار». وانظر "درء التعارض" (1|162-164) و"الصواعق المرسلة" (3|841).
          وكان تتلمذ على اليهود والنصارى في الفلسفة، فقام عليه الفقهاء ورموه بالانحلال، فكتبوا عليه محضراً. فخرج من القاهرة إلى دمشق مستخفياً. انظر "توضيح المقاصد" (2|191). ولأجل طاماته وصفه الإمام شمس الدين ابن القيم بالثور الحقير، فقال (كما في "شرح النونية" لخليل هراس 2|31):
          حَتَّى أتَى مِن أرضِ آمدَ آخراً * ثَورٌ كَبِيرٌ بَل حَقِير الشَّانِ
          قَالَ الصَّوَابُ الوَقفُ فِي ذَا كُلِّهِ * وَالشَّكُّ فِيهِ ظَاهِرُ التِّبيَانِ
          هَذَا قُصَارَى بَحثِهِ وَعُلُومِهِ * أن شَكَّ فِي الله العَظِيمِ الشَّانِ

          أبو حامد الغزالي

          قال ابن الجوزي في "المنتظم": «وذكر في كتاب "الإحياء" من الأحاديث الموضوعة وما لا يصح غير قليل. وسبب ذلك قلة معرفته بالنقل. فليته عرض تلك الأحاديث على من يعرف. وإنما نقَل نقْل حاطب ليل»، وضرب أمثلة واضحة جداً. بل إن الغزالي نفسه قد حكم على نفسه بذلك، فقال في "قانون التأويل" (ص16): «وبضاعتي في الحديث مزجاة». وقد أحرقت كتبه لأجل تهمة الزندقة في الحادثة المشهورة وطرد من مصر لأجلها وألف من بعدها كتباً سرية يخفي فيها عقائده. راجع ترجمته في كتاب الدكتور سليمان دنيا من المتأخرين وهو باحث أكاديمي وإن شئت فعد لكتب السير كلها تعرف حقيقة الغزالي.

          الجويني
          عبد الملك بن أبي محمد الجويني (419-478هـ) الملقب عند الشافعية بإمام الحرمين. يقول عنه ابن خلّكان في "وفيات الأعيان" (3|167 #37: «أعلم المتأخّرين من أصحاب الإمام الشافعي على الإطلاق (يقصد أنه أعلم الأشاعرة الشافعية)، المجمع على إمامته (يعني عند الأشاعرة)، المتفق على غزارة مادته وتفننه في العلوم من الأُصول والفروع والأدب». بل قال السبكي: «الأرض لم تخرج من لدن عهده أعرف منه بالله». ولنرى غزارة علم إمامهم الجويني هذا.
          قال الإمام ابن تيمية دقائق التفسير (2|16: عن الجويني: «لم يكن له بالصحيحين –البخاري ومسلم– وسنن أبي داود والنسائي والترمذي وأمثال هذه السنن، علمٌ أصلاً! فكيف بالموطأ ونحوه؟! وكان –مع حرصه على الاحتجاج في مسائل الخلاف في الفقه– إنما عمدته سنن أبي الحسن الدارقطني. وأبو الحسن –مع تمام إمامته في الحديث– فإنه إنما صنف هذه السنن كي يذكر فيها الأحاديث المستغربة في الفقه ويجمع طرقها (يعني أشبه بكتب العلل)، فإنها هي التي يحتاج فيها إلى مثله. فأما الأحاديث المشهورة في الصحيحين وغيرهما، فكان يستغني عنها في ذلك. فلهذا كان مجرد الاكتفاء بكتابه في هذا الحديث، يورث جهلاً عظيماً بأصول الإسلام. واعتبر ذلك بأن كتاب أبي المعالي –الذي هو نخبة عمره– "نهاية المطلب في دراية المذهب" ليس فيه حديثٌ واحدٌ معزوٌّ إلى صحيح البخاري، إلا حديث واحد في البسملة. وليس ذلك الحديث في البخاري كما ذكره!».
          ومثال آخر على جهل الجويني نجده في كتابه "الإرشاد" (ص152) يقول: «ومما تتمسك به الحشوية (!) مما روي عن النبي r أنه قال: "إن الله خلق آدم على صورته" وهذا الحديث غير مدون بالصحاح». مع العلم بأنه متفق عليه، قد أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما وهو صحيح بإجماع الأمة كلها! لذا صرح غير واحد من الحفاظ بقلة بضاعته في الحديث، منهم الحافظ ابن حجر في التلخيص الحبير. قال الحافظ (1|256): «ونقل الرافعي عن إمام الحرمين في "النهاية" أنه قال: "في قلبي من الطمأنينة في الاعتدال شيء"... وهو من المواضع العجيبة التي تقضي على هذا الإمام (الجويني) بأنه كان قليل المراجعة لكتب الحديث المشهورة، فضلاً عن غيرها. فإن ذكر الطمأنينة في الجلوس بين السجدتين ثابت في الصحيحين... وهو أيضاً في بعض كتب السنن». وقال نحو هذه العبارة في موضع آخر (2|50): «ادعى إمام الحرمين في "النهاية" أن ذكر نفي المطر لم يرد في متن الحديث. وهو دال على عدم مراجعته لكتب الحديث المشهورة، فضلاً عن غيرها». أقول: إن إمامهم الجوني قليل المراجعة لكتب الحديث المشهورة، غير مكترث بكلام رسول رب العالمين r، فكيف بمن هم دونه؟! إن هؤلاء لا يجوز أن يكونوا أئمة للمسلمين.
          وقال ابن حجر في التلخيص (2|19) عن الجويني والغزالي: «قال إمام الحرمين: "رأيت في كتاب معتمد: أن عائشة روت ذلك". وتبعه الغزالي فقال: "قيل: إن عائشة روت ذلك". وهذا دليل عدم اعتنائهما بالحديث. فكيف يقال ذلك في حديث في "سنن أبي داود" التي هي أم الأحكام؟!». وقال في موضع آخر: (1|275): «وقع لإمام الحرمين في الغزالي في "الوسيط" وهمٌ عجيب. فإنه قال: "هذا الحديث مروي في الصحاح. وإنما لم يقل به الشافعي لأنه مرسل ابن أبي مليكة لم يلق عائشة. ورواه إسماعيل بن عياش عن ابن أبي مليكة عن عروة عن عائشة، وإسماعيل سيئ الحفظ كثير الغلط فيما يرويه عن غير الشاميين، وابن أبي مليكة ليس من الشاميين". فاشتمل على أوهام عجيبة: أحدها قوله: إن ابن أبي مليكة لم يلق عائشة، وقد لقيها بلا خلاف. ثانيها: إن إسماعيل رواه عن ابن أبي مليكة، وإسماعيل إنما رواه عن ابن جريج عنه. ثالثها: إدخاله عروة بينه وبين عائشة، ولم يدخله أحد بينهما في هذا الحديث. رابعها: دعواه أنه مخرج في الصحاح، وليس هو فيها. فليته سكت». أقول: نعم، ليته سكت ولم يتكلم في فن لا يعقله.
          وهذه أيضا شهادة الإمام الحافظ الذهبي –إمام أهل الجرح والتعديل في عصره– حيث قال في السير (18|471): «كان هذا الإمام مع فرط ذكائه وإمامته في الفروع وأصول المذهب وقوة مناظرته، لا يدري الحديث كما يليق به لا متناً ولا سنداً».
          والمصيبة أن هذا الجويني –الذي كان قليل المراجعة لكتب الحديث المشهور، والذي لا يدري الحديث سنداً ولا متناً– ومع ذلك وصفه أصحابه الأشاعرة بأنه "لو ادعى اليوم النبوة، لاستغنى بكلامه هذا عن إظهار المعجزة"، على حد تعبير القشيري، كما نقله السبكي في طبقاته (5|174). فانظروا إلى تشبيه كلام الجويني بكلام الله تعالى. إذ كأن بيان الجويني وكلامه، وصل إلى درجة الإعجاز التي تثبت به النبوة. وهذا لا ينبغي أن يوصف به إلا كلام الله عز وجل. فمن اعتنى بالحديث ورد على أهل البدع، قالوا مجسم كافر! ومن جهل وتجاهل و تمادى في الجهل بالحديث والسنن النبوية، ووافق الفلاسفة الضلال، يعتبر أفضل من النبي. لأن النبي عند الأشاعرة يحتاج للمعجزة لإثبات النبوة. لكن الجويني الأشعري لو ادعى النبوة لما احتاج إلى المعجزة !
          قال بعضهم: «ومؤلف الكتاب –على جلاله قدره بين الشافعية، وكثرة مؤلفاته في الفقه وأصوله– لا خبرة له بالحديث مطلقاً. حتى تراه يقول في "البرهان" أن حديث معاذ في اجتهاد الرأي مخرج في الصحاح، وهذا خلاف الواقع لأنه لم يخرج في أحد من الصحاح، وإن كان الحديث صحيحاً عند الفقهاء... ثم هو لم يذكر في "نهاية المطلب.." التي هي أضخم مؤلفاته حديثاً واحداً ينسبه للبخاري، إلا حديث الجهر بالبسملة، وليس هو في البخاري.كما أشار إلى هذا وذاك ابن تيمية والذهبي تشهيراً له بجهله في الحديث. بل قال أبو شامة المقدسي في "المؤمل" عند ذكره استدلال أهل مذهبه بالأحاديث الضعيفة وتصرفهم في الأحاديث نقصاً وزيادة: "وما أكثره في كتب أبي المعالي وصاحبه أبي حامد (الغزالي)". وهما –كما ترى– مضرب مثل عند أبي شامة في الجهل بالحديث... فإذا كان حال ابن الجويني والغزالي هكذا، فماذا يكون حال الفخر الرازي؟!».
          ومع ذلك يصفه ابن عساكر في "التبيين" (ص27 بأنّه: «إمام الأئمّة على الإطلاق، حبر الشريعة المجمع على إمامته شرقاً وغرباً، المقر بفضله السراة والحراة، وعجماً وعرباً، من لم تر العيون مثله قبله ولا يرى بعده...».

          السبكي
          ومن علامات التحيز والتعصب والغلو عند التاج السبكي قوله عن أبيه وهو يترجم له: «إعلم أن باب مباحثه بحر لا ساحل له، بحيث سمعت بعض الفضلاء يقول: أنا أعتقد أن كل بحث يقع اليوم على وجه الأرض فهو له! أو مستمد من كلامه وتقريراته التي طبقت الأرض! وكانت دعواته تخترق السماوات السبع الطباق! وتفترق بركاتها فتملأ الآفاق! وتسترق خبر السماء! أقســـم بالله إنـه لــفـوق ما وصـفــتـه!! وإني لناطق بهذا وغالب ظني أني ما أنصفته!». إلى أن قال: «وما ساقه الله حين قبضه، إلا إلى جنة عدن! أعدت لأمثاله من المتقين الأبرار! وما عانده أحد، إلا وأخذه الله بعقوبته سريعاً! وسافر إلى مصر، وكان يَذكر أنه لا يموت إلا في مصر! وكأن الله استثناه من الآية {وما تدري نفس بأي أرض تموت} فصارت إلا السبكي! وزعم أن رجلاً رآه في المنام فسأله عما فعل الله به فقال: فتحت لي أبواب الجنة، وقال لي: ادخل، فقلت: وعزتك لا أدخل حتى يدخل كل من حضر الصلاة علي!».
          ومع هذا الغلو الشديد والشطط المقيت، نجد أن السبكي الصغير معروف بالتعصب وعدم الإنصاف. وقد قال: «ومتى كانت الحنابلة؟ وهل ارتفع للحنابلة قط رأس؟». فقال الحافظ عبد الرحمن السخاوي –رَحِمَهُ اللَّهُ– (ت 902هـ)، في "الإعلان بالتوبيخ لمن ذمّ التاريخ" (94-95 ط الرسالة) عن جملة السبكي السابقة: «وهذا من أعجب العجاب وأصعب التعصب». فهذا الحافظ السخاوي قد نص على تعصبه، مع أنه أشعري مثله. وقال قاضي عصره الحافظ عز الدين الكناني –رداً على قول السبكي–: «وكذلك والله ما ارتفع للمعطلة رأس». ثم وصف التاج السبكي بقوله: «هو رجل: قليل الأدب، عديم الإنصاف، جاهل بأهل السنة ورتبهم، يدلك على هذا كلامه».
          ولقد عامل الله السبكي بما يستحق فقد ذكر العلامة خير الدين الآلوسي: «ونقل الشيخ عبد الوهاب الشعراني في كتابه "الأجوبة المرضية": أن أهل زمانه رموه (للسبكي) بالكفر واستحلال شرب الخمر والزنا، وأنه كان يلبس الغيار والزنار بالليل ويخلعهما بالنهار! وتحزبوا عليه، وأتوا به مقيداً مغلولاً من الشام إلى مصر. وجاء معه خلائق من الشام يشهدون عليه. ثم تداركه اللطف على يد الشيخ جمال الدين الإسنوي». نسأل الله السلامة. إنظر قلادة الجواهر (ص206) وجلاء العينين (ص24) و الأعلام للزركلي (4|184). وقال الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية (14|316): «وعقد مجلس لقاضي القضاة السبكي بسبب عظائم اتهموه بها ينبو السماع عن استماعها» وتكلم قاضي القضاة جمال الدين المالكي في السبكي بعظائم وأشياء منكرة جداً، على حد تعبير ابن كثير. قلت: ورجل متعصب جداً للأشعرية لا يمكن أن يُتهم في بيئة أشعرية متعصبة (من قاضٍ أشعريٍّ) بالكفر والأشياء المنكرة، بدون أدلة. ولولا علو مكانته لدى الأشاعرة لما تواسطوا له ولما تجاهلوا تلك الأشياء المنكرة.
          قال السّبكي في "طبقاته" (4|162): «قد استقريْتُ، فلم أجد مُؤَرِّخَاً ينتحل عقيدةً، ويخلو كتابه عن الغمْزِ، ممَّنْ يحيدُ عنها. سنةُ الله في المؤرِّخين، وعادتُه في النَّقَلة، ولا حول ولا قوة إلا بحبْله المتين». أقول: زعم السبكي هذا ليبرر لنفسه الغمز بعلماء أهل السنة والطعن بهم. وما يكاد ينجو منه أحد ممن صح اعتقاده من أهل السنة والجماعة، حتى شيخه الذهبي صاحب الفضل عليه.
          فقد ترجم في "طبقاته" (9|103) لشيخه الذهبي، ومِمَّا قاله فيه: «كان شيخُنا –والحَقُّ أحَقُّ ما قِيل، والصِّدْقُ أولى مآثَره ذو السَّبيل– شديدَ المَيْلِ إلى آراء الحَنابِلة (ويقصد أهل السنة والجماعة بمختلف مذاهبهم وليس فقط الحنابلة منهم)، كثيرَ الإِزراءِ بأهل السُّنّة (ويقصد الأشاعرة!)، الذين إذا حضروا كان أبو الحسن الأشعريّ فيهم مُقَدَّمَ القَافِلة. فلذلك لا يُنْصِفُهم في التَّراجم، ولا يَصِفُهم بخَير إلا وقد رَغِم منه أنْفُ الرَّاغِم».
          قلنا: حاشا المؤرِّخ، النَّقَّاد، السني، السّلفي، الإمام الذهبي رَحِمَهُ اللَّهُ، أن يكون هذه منهجه في تورايخه: الكبيرة، والصغيرة. والسّبكي من تلاميذه، وينقل من كتابه: "سير أعلام النبلاء"، في "طبقاته"، وهو أعلم بمنهجه، فيكف يقول مثل هذا؟! نعوذ بالله من هذا الغلو في التعصب. إنَّ: "سير أعلام النبلاء" موسوعة فريدة في باب التراجم، لا يكاد يترك شيئاً من حياة المترجم –ولا سيّما الكبار– إلا وذكره. ونراه يتكلم على تراجم الرجال السّلفيين والخلفيين، وما غمز أحداً، ولا أزرا بأحدٍ، ممن خالفهم، ولو في العقيدة، وحاشاه. بل يتكلم على بدعة المبتدع، بما يليق بحاله، دون إفراطٍ، ولا تفريطٍ.
          قال الشوكاني في: "البدر الطالع" (ص 627) عن مصنفات الذهبي: «جميع مصنفاته مقبولة، مرغوب فيها. رحل الناس لأجلها، وأخذوها عنه، وتداولوها، وقرؤوها، وكتبوها في حياته، وطارت في جميع بقاع الأرض. وله فيها تعبيرات رائقة، وألفاظ رشيقة غالباً لم يسلك مسلكه فيها أهل عصره، ولا من قبلهم، ولا من بعدهم. وبالجملة: فالناس في التاريخ من أهل عصره، فمن بعدهم، عيال عليه. ولم يجمع أحد في هذا الفن كجمعه، ولا حرره كتحريره».
          يقول السبكي هذا في (2|13) في وصف شيخه الذهبي: «له علم، وديانة، عنده على "أهل السنة" تحمّل مفرط، فلا يجوز أن يُعْتَمد عليه». وهذا صريح في أن السبكي لا يعتبر شيخه الذهبي من أهل السنة، بل يعتبره من أهل البدع المتحاملين على أهل السنة! فأي عقيدة فاسدة يحملها السبكي؟ وأي حقد جهمي أسود جعله يتفوه بهذا الافتراء؟
          وقال في (2|24): «ولقد وقفت في "تاريخ" الذهبيّ على ترجمة الشيخ الموفَّق بن قُدامة الحنبليّ، والشيخ فخر الدين بن عساكر. وقد أطال تلك، وقصَّر هذه، وأتى بما لا يشك لبيب، أنَّه لم يحمله على ذلك، إلا أنَّ هذا أشعريّ وذاك حنبليّ!!». كذا زعم ولا حول ولا قوة إلا بالله. وقال في (2|25): «والذي أُفتي به: أنَّه لا يجوز الاعتماد على كلام شيخنا الذهبيّ، في ذم أشعريٍّ، ولا شكر حنبليٍّ، والله المستعان».
          فاقرأ كلام السّبكي على الحنابلة في: "طبقاته" (8|21 وما بعدها، عندما ذكر الواقعة بين الحنابلة والشافعية في عصر الملك الأشرف، ثم راجع الواقعة في: "سير أعلام النبلاء" (22|126)، لترى أي المنهجين أسلم، ومن الذي غمز مخالفه، واتهمه بـ: الابتداع، والحسد، والوشاية، والتجسيم، وتشبيه الله بخلقه.
          بل غمز السبكي الإمام الذهبي في (2|15) بأنَّه: «مطبوعٌ على قلبه، ويورِّي في يمينه، ويعتمد على هوى نفسه في تآليفه»! وهكذا فليكن أدب الأشعري مع شيخه وأستاذه. وقال في (2|22): «أما تاريخ شيخنا الذهبيّ –غفر الله له– فإنَّه على حسنه، وجمعه، مشحون بالتعصّب المفرط (!!)، لا واخذه الله. فلقد أكثر الوقيعة في أهل الدين، أعني الفقراء (يقصد القبوريين والخرافيين) الذين هم صفوة الخلق. واستطال بلسانه على كثير من أئمة الشافعيين، والحنفيين. ومال، فأفرط على "الأشاعرة". ومدح فزاد في "المجسِّمة". هذا وهو الحافظ المِدْرَه، والإمام المبجَّل. فما ظنك بعوام المؤرخين».
          وانظر: كلام السّبكي في: "الطبقات" على الحنابلة في: (2|16)، و (3|353)، و (8|237)، حيث يتهمهم ظلماً بأنهم مجسمة، ويحلون دم المخالف، والإمام أحمد منهم بريء! حتى تعلم من المتعصّب المفرط، جازاه الله بما يستحقه.
          وتأمَّل تحامله على شيخه الذهبي في: "طبقاته": (2|13)، و (2|22)، و (3|352)، و (8|8، ترى عجباً. فقد وصفه في (3|352): بـ"المسكين". وقال عنه: "فَوَيْحَه، ثم وَيْحَه" (لاحظ قلة الأدب). وخاطبه في (3|353) بكلامٍ طويل جاء فيه: «أقسم بالله يميناً بَرَّةً (لاحظ اليمين الغموس) ما بك إلا أنَّك لا تحب شيَاع اسمِه (أي: أبو الحسن الأشعري) بالخير... فسوف تقف معه بين يدي الله تعالى، يومَ يأتي وبين يديه طوائفُ العلماء من المذاهب الأربعة، والصالحين من الصوفية (!)، والجَهَابِذة الحفّاظ من المحدِّثين، وتأتي أنت تَتَكَسَّع في ظُلَم التجسيم، الذي تدَّعي أنَّك بريء منه، وأنت من أعظم الدعاة إليه. وتزعُم أنَّك تعرِف هذا الفن، وأنت لا تفهم فيه نَقِيراً، ولا قِطْمِيراً». أهكذا يخاطب التلميذ شيخه وأستاذه؟ رحم الله الأدب عند أئمة الأشاعرة.
          ومع ذلك فهو لا ينكر أن الإمام الذهبي هو أستاذه. فيقول (2|13): «وأنا قد قلت غير مرة: إنَّ الذهبيّ أستاذي، وبه تخرَّجت في علم الحديث». لكنه لا أتقن علم الحديث (كما فضحه الإمام الحافظ ابن عبد الهادي)، ولا تعلم الأدب من شيخه الحافظ الذهبي، ولا قدّر لأستاذه فضله عليه ومعروفه إليه. فنعوذ بالله من هذا الجحود والعقوق.
          ويبدوا أنَّ السبكي لم يكن هذا منهجه العاق مع أستاذه في: "طبقاته" فحسب، بل في غيرها. فتجده في كتابه: "مُعِيدُ النِّعَم ومُبِيدُ النِّقَم" (ص 74، 87)، يُسيء إلى شيخه أيضاً. وهو في نفس الوقت يكرر مقولته التي في: "الطبقات".
          ولكن صنيع السّبكي لم يقابَل برضىً من أهل العلم، فقد تجاوز حد الأدب مع شيخه الذهبي. فقد أنكَر الحافظ السخاوي على السبكي هذا الصنيع مع شيخه، وانظر كتابه: "الإعلان بالتوبيخ" (ص 76). وسأدعهما الآن أمام القاضي الشوكاني ليحكم بين الطرفين (الذهبي والسّبكي):
          قال الإمام الشوكاني، في "بدره الطالع" (ص 627) عن الإمام الحافظ الذهبي: «وقد أكثر التشنيع عليه تلميذه السّبكي، وذكر في مواضع من "طبقاته للشافعية". ولم يأت بطائل. بل غاية ما قاله: إنَّه كان إذا ترجم الظاهرية والحنابلة، أطال في تقريظهم، وإذا ترجم غيرهم من شافعي، أو حنفي لم يستوف ما يستحقه. وعندي أنَّ هذا كما قال الأول: "وتلك شكاية ظاهر عنك عارها". فإنَّ الرجل قد ملئ حبّاً للحديث، وغلب عليه، فصار الناس عنده هم أهله، وأكثر محققيهم وأكابرهم هم من كان يطيل الثناء عليه، إلا من غلب عليه التقليد، وقطع عمره في اشتغال بما لا يفيد.
          ومن جملة ما قاله السّبكي في صاحب الترجمة (2|14): "إنَّه كان إذا أخذ القلم غضب، حتى لا يدري ما يقول". وهذا باطل. فمصنفاته تشهد بخلاف هذه المقالة. وغالبها الإنصاف والذَّبّ عن الأفاضل. وإذا جرى قلمه بالوقيعة في أحد: فإنْ لم يكن من معاصريه، فهو إنَّما روى ذلك عن غيره، وإن كان من معاصريه فالغالب أنَّه لا يفعل ذلك إلا مع من يستحقّه. وإن وقع ما يخالف ذلك نادراً، فهذا شأن البشر. وكل أحد يؤخذ من قوله ويترك، إلا المعصوم. والأَهْوِيَة تختلف، والمقاصد تتباين، وربك يحكم بينهم فيما كانوا فيه يختلفون».
          انتهى حكم القاضي الشوكاني، بين الأستاذ وتلميذه. وكما رأينا، فكلامه نموذج من الإنصاف العلمي، الذي فقده السّبكي العاق، تجاه أستاذه. وكان الأولى بالسّبكي أنْ يكون هو قائل هذا الكلام، بِرَّاً بأستاذه، بدلاً من أن يَخرُج من غيره.

          النظّام
          قال ابن حزم في "طوق الحمامة" (ص101): «وقد ذكر أبو الحسين أحمد بن يحيى بن إسحاق الرويدي في كتاب "اللفظ والإصلاح": أن إبراهيم بن سيار النظام رأس المعتزلة من علو طبقته في الكلام وتمكنه وتحكمه في المعرفة تسبب إلى ما حرم الله عليه من فتى نصراني عشقه بأن وضع له كتاباً في تفضيل التثليث على التوحيد. (قال ابن حزم): فيا غوثاه، عياذك يا رب من تولج الشيطان ووقوع الخذلان».

          تعليق


          • #6
            الحلقة
            (5)


            الأشاعرة

            (من سلسلة فرق تحت المجهر لأبي جهاد وأهله)

            1. مصدر التلقي عند الأشاعرة الكتاب والسنة على مقتضى العقل.


            2. لا يثبت بالسنـة عقيـدة.


            3. المتـواتـر من السنن يجب تأويله .


            4. آحاد السنة لا يجب الاشتغـال بها حتى على سبيل التأويل .


            5. تقرأ في كتب عقيـدتهم المائة صفحة لا تجد فيها أية ولا حديثاً لكنك تجد في كل فقرة قال الحكماء أو قال المعلّم الأول أو قالت الفلاسفة.


            6. يُنكرون الربط العادي بإطلاق وأن يكون شيء يؤثر في شيء .


            7. أنكروا كل باء سببية في القرآن .


            8. كفّروا من خالفهم .


            9. ينفون قطعا أن يكون لشيء من أفعال الله علة مشتملة على حكـمة تقتضي إيجاد ذلك الفعـل أو عدمـه .


            10. يقرّرون أن أفعال السحرة والكُهّان من جنس المعجـزة .
            11. ينكرون أن يكون للعقل والفطرة دور في الحكم على الأشياء بالحسن والقبح ويقولون مردّ ذلك إلى الشرع وحده.


            12. جعلوا العقـل حاكـما في صفـات الله وفي إثبات الآخرة جعلوا العقل عاطلا وفى الرؤية جعلوه مساويا.

            13. قالوا إن لله سبـع صفـات عقلية يسمونها معاني هي الحياة والعلم والقدرة والإرادة والسمـع والبصـر والكلام .


            14. قالوا إن له سبـع صفـات أخـرى يسمونهـا معنوية وهي كونه حيا وكونه عالما وكونه قادرا وكونه مريدا وكونه سميعا وكونه بصيرا وكونه متكلما.

            15. قالوا إن العقل يقدَّم على النقل عند التعارض.


            16. العقل عندهم هو الأصل والنقل إن وافقه قُبِل وإن خالفه رد أو أوّل .

            17. قالوا إنّ تأويـل آيـات الصفات واجب يقتضيـه التنـزيـه .


            18. قالوا تأويل آيات الحشر والأحكـام كفر يخرج من الملة.


            19. لم يتعرضوا لذكر من دعـا غير الله أو استغاث به أو تحاكم إلى الطاغوت.


            20. قالوا من قال إن النار تحرق بطبعهـا كافر مشرك.


            21. قالوا من أنكر علو الله على خلقه موّحد منزّه.


            22. مذهب صوفيتهم كالغزالي في مصدر التلقي تقديم الكشف والذوق على النص وتأويل النص ليوافقه ويسمون هذا العلم اللدني جرياً على قاعدة الصوفية حدثني قلبي عن ربي.


            23. التوحيد عندهم هو نفي التثنية والتعدد بالذات ونفي التبعيض والتركيب والتجزئة أي نفي الكمية المتصلة والمنفصلة .


            24. فسروا الإله بأنه الخالق أو القادر على الاختراع.


            25. أنكروا صفات الوجه واليدين والعين لأنها تدل على التركيب والأجزاء عندهم.
            26. أول واجب عند الأشاعرة إذا بلغ الإنسان سن التكليف النظر أو القصد إلى النظر ثم الإيمان ولا تكفي المعرفة الفطرية.


            27. يعتقدون تأويل الصفات الخبرية كالوجه واليدين والعين واليمين والقدم والأصابع وصفتي العلو والاستواء .


            28. توسعوا في باب التأويل حيث شمل أكثر نصوص الإيمان خاصة فيما يتعلق بإثبات الزيادة والنقصان.


            29. في الإيمان بين المرجئة التي تقول يكفي النطق بالشهادتين دون العمل لصحة الإيمان وبين الجهمية التي تقول يكفي التصديق القلبي .
            30. رجح حسن أيوب من المعاصرين أن المصدق بقلبه ناجٍ عند الله وإن لم ينطق بالشهادتين ومال إليه البوطي.


            31. أرادوا أن يوفقوا بين الجبرية والقدرية فجاءوا بنظرية الكسب وهي في مآلها جبريـة خالصة لأنها تنفي أي قدرة للعبـد أو تأثير .


            32. مضطربون في قضية التكفير تارة يقولون لا نكفر أحداً وتارة يقولون لا نكفر إلا من كفرنا وتارة يقولون بأمور توجب التفسيق والتبديع أو بأمور لا توجب التفسيق والتبديع.


            33. يكفرون من يثبت علو الله الذاتي .


            34. يكفرون من يأخذ بظواهر النصوص .


            35. يقولون إن الأخذ بظواهر النصوص من أصول الكفر.


            36. قولهم بأن القرآن ليس كلام الله على الحقيقة ولكنه كلام الله النفسي.


            37. قولهم بأن الكتب بما فيها القرآن مخلوقة.


            38. قولهم بأن الإيمان والطاعة بتوفيق الله والكفر والمعصية بخذلانه والتوفيق خلق القدرة على الطاعة والخذلان عنده خلق القدرة على المعصية.


            39. عند بعض أصحاب الأشعري تيسير أسباب الخير هو التوفيق وضده الخذلان!!!. .


            40. قولهم بأن كل موجود يصح أن يرى والله موجود يصح أن يُرى!!!.

            41. يرون أنه لا يجوز أن تتعلق به الرؤية على جهة ومكان وصورة ومقابلة واتصال شعاع!!! .


            42. حصروا دلائل النبوة بالمعجزات التي هي الخوارق !!!.


            43. يعتقدون متفلسفين أن قدرة العبد لا تأثير لها في حدوث مقدورها ولا في صفة من صفاته وأن الله أجرى العادة بخلق مقدورها مقارناً لها فيكون الفعل خلقاً من الله وكسباً من العبد لوقوعه مقارناً لقدرته!!!.


            44. قالوا بنفي الحكمة والتعليل في أفعال الله مطلقاً.


            45. قالوا إن الله يجعل لكل نبي معجزة لأجل إثبات صدق النبي  فتناقضوا في ذلك بين ما يسمونه نفي الحكمة والغرض وبين إثبات الله للرسول المعجزة تفريقاً بينه وبين المتنبئ .


            46. التقليد طغى على تلاميذ هذه المدرسة وأصبح علم الكلام لديهم علماً متناقلاً بدون تجديد في الأسلوب .


            المرجع:
            شبهات حول بطلان منهج الأشاعرة يرد ها الشيخ :ابن عثيمين رحمه الله.
            نقض الفتوى الجماعية .
            منهج الأشاعرة في العقيدة

            تعليق


            • #7
              الحلقة
              (6)




              المعتزلة و حماقاتهم:

              (من فرق تحت المجهر لأبي جهاد وأهله)


              1. القول بأن الإنسان مختار بشكل مطلق في كل ما يفعل فهو يخلق أفعاله بنفسه .
              2. أبرز من قال ذلك غيلان الدمشقي أخذ يدعو إلى مقولته هذه في عهد عمر بن عبد العزيز حتى عهد هشام بن عبد الملك فكانت نهايته أن قتله هشام بسبب ذلك .
              3. القول بأن مرتكب الكبيرة ليس مؤمناً ولا كافراً ولكنه فاسق فهو بمنزلة بين المنزلتين هذه حاله في الدنيا أما في الآخرة فهو لا يدخل الجنة لأنه لم يعمل بعمل أهل الجنة بل هو خالد مخلد في النار ولا مانع عندهم من تسميته مسلماً باعتباره يظهر الإسلام وينطق بالشهادتين ولكنه لا يسمى مؤمناً.
              4. حرر المعتزلة مذهبهم في خمسة أصول:
              ـ التوحيد ـ العدل ـ الوعد والوعيد ـ المنزلة بين المنزلتين ـ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
              5. التوحيد برأيهم هو أن الله منزه عن الشبيه والمماثل.
              6. استحالة رؤية الله لاقتضاء ذلك نفي الصفات.
              7. الصفات ليست شيئاً غير الذات .
              8. يعدون من نفاة الصفات .
              9. القرآن مخلوق لله .
              10. نفيهم عنه سبحانه صفة الكلام.
              11. العدل برأيهم أن الله لا يخلق أفعال العباد ولا يحب الفساد بل إن العباد يفعلون ما أمروا به وينتهون عما نهوا عنه بالقدرة التي جعلها الله لهم وركبها فيهم وأنه لم يأمر إلا بما أراد ولم ينه إلا عما كره وأنه ولي كل حسنة أمر بها بريء من كل سيئة نهى عنها لم يكلفهم ما لا يطيقون ولا أراد منهم ما لا يقدرون عليه .
              12. خلطهم بين إرادة الله تعالى الكونية وإرادته الشرعية .
              13. الوعد والوعيد يعني أن يجازي الله المحسن إحساناً ويجازي المسيء سوءاً ولا يغفر لمرتكب الكبيرة إلا أن يتوب .
              14. المنزلة بين المنزلتين تعني أن مرتكب الكبيرة في منزلة بين الإيمان والكفر فليس بمؤمن ولا كافر قرر هذا واصل بن عطاء شيخ المعتزلة .
              15. يقولون بوجوب الخروج على الحاكم إذا خالف وانحرف عن الحق .
              16. الاعتماد على العقل كليًّا في الاستدلال لعقائدهم
              17. يحكمون بحسن الأشياء وقبحها عقلاً فقالوا: " المعارف كلها معقولة بالفعل واجبة بنظر العقل وشكر المنعم واجب قبل ورود السمع أي قبل إرسال الرسل والحسن والقبيح صفتان ذاتيتان للحسن والقبيح " .
              18. أوَّلوا الصفات بما يلائم عقولهم الكلية كصفات الاستواء واليد والعين وصفات المحبة والرضى والغضب والسخط
              19. المعتزلة تنفي كل الصفات لا أكثرها .
              20. طعن كبراؤهم في أكابر الصحابة وشنعوا عليهم ورموهم بالكذب
              21. زعم واصل بن عطاء: أن إحدى الطائفتين يوم الجمل فاسقة إما طائفة علي بن وعمار بن ياسر والحسن والحسين وأبي أيوب أو طائفة عائشة والزبير
              22. ردوا شهادة هؤلاء الصحابة فقالوا: لا تقبل شهادتهم .
              23. اختلاف المعتزلة فيما بينهم وتعدد طوائفهم
              24. رفضهم الإتباع بدون بحث واستقصاء وقاعدتهم التي يستندون إليها في ذلك:" كل مكلف مطالب بما يؤديه إليه اجتهاده في أصول الدين "
              25. يكفي وفق مذهبهم أن يختلف التلميذ مع شيخه في مسألة ليكون هذا التلميذ صاحب فرقة قائمة فأبو الهذيل العلاف له فرقة خالفه تلميذه النظام فكانت له فرقة فخالفه تلميذه الجاحظ فكانت له فرقة والجبائي له فرقة فخالفه ابنه أبو هاشم عبد السلام فكانت له فرقة أيضاَ وهكذا .
              26. حولوا الدين إلى مجموعة من القضايا العقلية والبراهين المنطقية وذلك لتأثرهم بالفلسفة اليونانية عامة وبالمنطق الصوري الأوسطي خاصة .
              27. استعمالهم العقل في غير مجاله في أمور غيبية مما تقع خارج الحس ولا يمكن محاكمتها محاكمة عقلية صحيحة
              28. يرجع الفكر المعتزلي في نفي الصفات إلى أصول يهودية فلسفية فالجعد بن درهم أخذ فكره عن أبان بن سمعان وأخذها أبان عن طالوت وأخذها طالوت عن خاله لبيد بن الأعصم اليهودي.
              29. مناقشات الجهم بن صفوان مع فرقة السمنية فرقة هندية تؤمن بالتناسخ أدت إلى تشكيكه في دينه وابتداعه لنفي الصفات .
              30. فكر يوحنا الدمشقي وأقواله تعد مورداً من موارد الفكر الاعتزالي إذ أنه كان يقول بالأصلح ونفي الصفات الأزلية حرية الإرادة الإنسانية .
              31. نفي القدر عند المعتزلة الذي ظهر على يد الجهني وغيلان الدمشقي قيل إنهما أخذاه عن نصراني يدعى أبو يونس سنسويه
              32. أخذ عمرو بن عبيد صاحب واصل بن عطاء فكرة نفي القدر عن معبد الجهني
              33. تأثر المعتزلة بفلاسفة اليونان في موضوع الذات والصفات
              34. أخذ العلاف هو من شيوخ المعتزلة هذه الأفكار وقال: إن الله عالم بعلم وعلمه ذاته قادر بقدرة وقدرته ذاته حي بحياة وحياته ذاته.
              35. أخذ النظام من ملاحدة الفلاسفة قوله بإبطال الجزء الذي لا يتجرأ ثم بنى عليه قوله بالطفرة أي أن الجسم يمكن أن يكون في مكان (أ) ثم يصبح في مكان (ج) دون أن يمر في (ب)
              36. أحمد بن خابط والفضل الحدثي هما من أصحاب النظام طالعا كتب الفلاسفة ومزجا الفكر الفلسفي مع الفكر النصراني مع الفكر الهندي وقالا بما يلي: 1 ـ إن المسيح هو الذي يحاسب الخلق في الآخرة. 2 ـ إن المسيح تدرع بالجسد الجسماني وهو الكلمة القديمة المتجسدة. 3 ـ القول بالتناسخ . 4 ـ حملا كل ما ورد في الخبر عن رؤية الله على رؤية العقل الأول هو أول مبتدع وهو العقل الفعال الذي منه تفيض الصور على الموجودات .
              37. منهم من يرجع فكر المعتزلة إلى الجذور الفكرية والعقدية في العراق حيث نشأ المعتزلة الذي يسكنه عدة فرق تنتهي إلى طوائف مختلفة فبعضهم ينتهي إلى الكلدان وبعضهم إلى الفرس وبعضهم نصارى وبعضهم يهود وبعضهم مجوس وقد دخل هؤلاء في الإسلام وبعضهم قد فهمه على ضوء معلوماته القديمة وخلفيته الثقافية والدينية.
              38. يحاول بعض الكتاب والمفكرين في الوقت الحاضر إحياء فكر المعتزلة من جديد وأطلقوا عليه أسماء جديدة العقلانية أو التنوير أو التجديد أو التحرر الفكري أو التطور أو المعاصرة أو التيار الديني المستنير أو اليسار الإسلامي ..
              39. قوّى هذه النزعة التأثر بالفكر الغربي العقلاني المادي
              40. حاولوا تفسير النصوص الشرعية وفق العقل الإنساني فلجأوا إلى التأويل كما لجأت المعتزلة من قبل ثم أخذوا يتلمسون في مصادر الفكر الإسلامي ما يدعم تصورهم، فوجدوا في المعتزلة بغيتهم
              41. أنكروا المعجزات المادية وما تفسير الشيخ محمد عبده لإهلاك أصحاب الفيل بوباء الحصبة أو الجدري الذي حملته الطير الأبابيل إلا من هذا القبيل .
              42. أهم مبدأ معتزلي سار عليه المتأثرون بالفكر المعتزلي الجدد هو الذي يزعم أن العقل هو الطريق الوحيد للوصول إلى الحقيقة حتى لو كانت هذه الحقيقة غيبية شرعية أي أنهم أخضعوا كل عقيدة وكل فكر للعقل البشري القاصر .
              43. محاولة تغيير الأحكام الشرعية التي ورد فيها النص اليقيني من الكتاب والسنة مثل عقوبة المرتد وفرضية الجهاد والحدود وغير ذلك فضلاً عن موضوع الحجاب وتعدد الزوجات والطلاق والإرث .. إلخ
              44. طلب أصحاب هذا الفكر إعادة النظر في ذلك كله وتحكيم العقل في هذه المواضيع
              45. من دعاة الفكر الاعتزالي الحديث سعد زغلول الذي نادى بنزع الحجاب عن المرأة المصرية وقاسم أمين مؤلف كتاب تحرير المرأة و المرأة الجديدة، ولطفي السيد الذي أطلقوا عليه: " أستاذ الجيل " وطه حسين الذي أسموه "عميد الأدب العربي " وهؤلاء كلهم أفضوا إلى ما قدموا هذا في البلاد العربية .
              46. في القارة الهندية ظهر السير أحمد خان الذي منح لقب سير من قبل الاستعمار البريطاني.

              المرجع:
              *كاشف الطوائف والنحل: المعتزلة.

              تعليق


              • #8
                الحلقة
                (7)


                المنتقى من"موقف ابن تيمية من الأشاعرة"
                (رسالة دكتوراه)

                أبو جهاد سمير الجزائري

                ضرب المثل بنعيم أهل الجنة، وبالروح:
                وهذان المثلان يكثر ورودهما في مناقشات شيخ الإسلام للأشاعرة ولغيرهم، وفي بيانه للمنهج الحق في الصفات، البعيد عن التأويل والتفويض والتمثيل والتشبيه.
                يقول شيخ الإسلام مستدلاً لهذه المسألة: "بل أبلغ من ذلك أن الله أخبر أن في الجنة من المطاعم والمشارب والملابس والمناكح ما ذكره في كتابه، كما أخبر أن فيها لبنا، وعسلا، وخمراً، ولحما، وحريرا، وذهباً، وفضة، وحورا، وقصورا، ونحو ذلك، وقد قال ابن عباس: "ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسماء"، فتلك الحقائق التي في الآخرة ليست مماثلة لهذه الحقائق التي في الدنيا، وإن كانت مشابهة لها من بعض الوجوه، والاسم يتناولها حقيقة، ومعلوم أن الخالق أبعد عن مشابهة المخلوق، فكيف يجوز أن يظن أن فيما أثبته الله تعالى من أسمائه وصفاته مماثلاً لمخلوقاته وأن يقال: ليس ذلك بحقيقة، وهل يكون أحق بهذه الأسماء الحسنى والصفات العليا من رب السموات والأرض؟ مع أن مباينته للمخلوقات أعظم من مباينة كل مخلوق".
                وفي موضع آخر شرح ذلك فقال: "إنه يعلم الإنسان أنه حي عليم قدير سميع بصير متكلم، فيتوصل بذلك إلى أن يفهم ما أخبر الله به عن نفسه من أنه حي عليم قدير سميع بصير متكلم، فإنه لو لم يتصور لهذه المعاني من نفسه ونظره إليه لم يمكن أ، يفهم ما غابه عنه، كما أنه لو لا تصوره لما في الدنيا من العسل واللبن والماء والخمر والحرير والذهب والفضة، لما أمكنه أ، يتصور ما أخبر به من ذلك من الغيب، لكن لا يلزم أن يكون الغيب مثل الشهادة فقد قال ابن عباس… "وذكر قوله السابق، وشرح الفرق بين نعيم الجنة والدنيا وأن نعيم الجنة لا يفسد ولا يتغير، ثم قال: "فإذا كان ذلك المخلوق يوافق ذلك المخلوق في الاسم، وبينهما قدر مشترك وتشابه، علم به معنى ما خوطبنا به، مع أن الحقيقة ليست مثل الحقيقة، فالخالق جل جلاله أبعد عن مماثلة مخلوقاته، مما في الجنة لما في الدنيا.
                فإذا وصف نفسه بأنه حي عليم سميع بصير قدير، لم يلزم أن يكون مماثلاً لخلقه، إذ كان بعدها عن مماثلة خلقه أعظم من بعد مماثلة كل مخلوق لكل مخلوق…".
                وهذا المثل واضح جدا، مبين للمسألة، وقد وفق شيخ الإسلام في عرضه وشرحه، وهو مما يسلم به مؤولة الصفات، لأنهم يثبتون البعث والجنة والنار، وقد سبق في موضوع تسلط الفلاسفة والقرامطة على المتكلمين بيان أن هؤلاء الملاحدة وصموهم بالتناقض لكونهم أولوا نصوص الصفات ولم يؤولوا نصوص المعاد والجنة والنار ، ومعلوم أن الملاحدة طردوا الأمرين نفيا، وأهل السنة طردوهما إثباتا، وهؤلاء تناقضوا، وشيخ الإسلام حينما يضرب هذا المثل – مثل نعيم الجنة – كأنه يريد أن يقرن بين مسألة دلالة النصوص وأنها واحدة في الصفات والمعاد، - وقد شرحها في عرضه لتسلط الملاحدة – ومسألة ما يفهم من النصوص، وأن نصوص النعيم إذا كانت تفهم لأنها تشبه نعيم الدنيا مع ما بينهما من الاختلاف في الحقيقة والكيفية، فكذلك نصوص الصفات تفهم وتعلم ولا تقتضي موافقتها في الاسم لصفات العباد أن تكون مثلها أو مشابهة لها.
                وكذلك مثل الروح، فإنها "إذا كانت موجودة، حية، عالمة، قادرة، سميعة بصيرة، تصعد وتنزل، وتذهب وتجيء، ونحو لك من الصفات، والعقول قاصرة عن تكييفها وتحديدها؛ لأنهم لم يشاهدوا لها نظيرا، والشيء إنما تدرك حقيقته، إما بمشاهدته، أو بمشاهدة نظيره، فإذا كانت الروح متصفة بهذه الصفات مع عدم مماثلتها لما يشاهد من المخلوقات، فالخالق أولى بمباينته لمخلوقاته، مع اتصافه بما يستحقه من أسمائه وصفاته، وأهل العقول أعجز عن أن يحدوه أو يكيفوه منهم عن أن يحدوا الروح أو يكيفوها…".
                ومثل الروح كثيراً ما يسوقه شيخ الإسلام لنفي اشتراط معرفة كيفية الصفات لإثباتها، وخاصة في مثل صفة الاستواء والنزول والمجئ، وقد أوضح شيخ الإسلام هذا المثل أيما إيضاح في مناسبات عديدة.

                تعليق


                • #9
                  الحلقة
                  ( 8 )


                  هل الصفة هي الموصوف أو غيره؟:

                  هذه المسألة شبيهة بمسألة: هل الاسم هو المسمى أو غيره، وكل ذلك من الألفاظ المجملة التي كان للسلف – رحمهم الله – فيها موقف واضح محدد، وهو أنه لا ينبغي إطلاق النفي ولا الإثبات، بل لا بد من الاستفصال.


                  والمهم هنا قبل عرض الخلاف في ذلك وبيان الراجح، توضيح منشأ بحث هذه المسألة، أي مسألة هل الصفة هي الموصوف أو غيره، والتي يعبر عنها أحيانا بالقول: هل الصفات هي الذات أو غيرها، والذي يظهر أن ذلك نشأن من خلال ردود أهل الكلام على النصاري:



                  أ‌- فالنصارى قالوا: إن كلمة الله التي بها خلق كل شيء تجسدت بإنسان، فكان من ردود أهل الإسلام عليهم – لبيان باطلهم – أن بينوا تهافت قولهم: إن كلمة الله بها خلق كل شيء، لأن الخالق هو الله، وهو خلق الأشياء بقوله "كن" وهو كلامه، فالخالق لم يخلق به الأشياء، فالكلام الذي به خلقت الأشياء ليس هو الخالق لها، بل به خلق الأشياء، فضلال هؤلاء أنهم جعلوا الكلمة هي الخالق. والكلمة مجرد الصفة، والصفة ليست خالقة، وإن كانت الصفة مع الموصوف فهذا هو الخالق، ليس هو المخلوق به، والفرق بين الخالق للسموات والأرض والكلمة التي بها خلقت السموات والأرض أمر ظاهر معروف، كالفرق بين القدرة والقادر…([1]) فهؤلاء النصارى جعلوا الصفة غير الموصوف، وجعلوها خالقة، بل جعلوها حلت في أحد المخلوقات.

                  ب‌- وكان من آثار مناقشة أهل الكلام – وخاصة المعتزلة – للنصارى أن تطرقوا لهذا الموضوع كثيرا، فنشأت شبهة تعدد القدماء، وأن إثبات صفة لله يلزم منه أن تكون قديمة، وإذا كانت غير الموصوف لزم تعدد القدماء، فظنوا – أي المعتزلة – أن تحقيق التوحيد، والخلوص من شرك النصارى لا يتم إلا بنفي جميع الصفات عن الله تعالى وبنوا ذلك على:

                  - أن الصفة غير الموصوف، وغير الذات.

                  - وأن الصفة لله لا بد أن تكون قديمة.
                  والنتيجة أن إثبات الصفات لله يلزم منه تعدد القدماء، وهو باطل ([2]).

                  والعجيب أن هؤلاء المعتزلة – وهم أرباب الكلام والبحث في المعقولات – لم تستوعب عقولهم أن الذات لا يمكن أن تنفك عن صفاتها، ومن ثم فلا شبهة ولا تعدد.

                  ج- فلما جاءت الأشعرية وغيرهم اهتموا ببحث هذه المسألة، وصاروا يستخدمون عبارات معينة عن بيان قدم الذات والصفات، كأن يقولوا: الرب قديم، وصفته قديمة، ولا يقولون: الرب وصفاته قديمان لما في العطف والتثنية من الإشعار بالتغاير، أو يقولون: الرب بصفاته قديم، وهكذا. كما بينوا أن الصفات لا يقال هي الذات ولا غيره، حذرا من هذه الشبهة التي وقع فيها المعتزلة.

                  وخلاصة الأقوال في الصفة هل هي الموصوف أو غيره هي:

                  1- قول من يقول: الصفة غير الموصوف، أو الصفات غير الذات، وهذا قول المعتزلة والكرامية، والمعتزلة تنفي الصفات، والكرامية تثبتها ([3]).

                  2- قول من يفرق بين الأمرين، ولا يجمع بينهما ،فيقول : أنا أقول مفرقا : أن الصفة ليست هي الموصوف وأقول :إنها ليست غير الموصوف ولكن لا أجمع بين السلبين فأقول: ليست الموصوف ولا غيره، لأن الجمع بين النفي فيه من الإيهام ما ليس في التفريق، وهذا قول أبي الحسن الأشعري، الذي يقول على هذا: الموصوف قديم، والصفة قديمة، ولا يقول عند الجمع: قديمان، كما لا يقال عند الجمع: لا هو الموصوف ولا غيره ([4]).

                  3- جاء بعد الأشعري من الأشاعرة من يجوز الجمع بين السلبين، وصاروا يقولون: ليست الصفة هي الموصوف ولا غيره، كما صاروا يجوزون إطلاق القول بإثبات قديمين، وصار هؤلاء يردون على المعتزلة الذين قالوا لهم يلزم من ذلك إثبات قديمين بعد ردود منها "أن كونهما قديمين لا يوجب تماثلهما كالسواد والبياض اشتركا في كونهما مخالفين للجوهر، ومع هذا لا يجب تماثلهما وأنه ليس معنى القديم معنى الإله… ولأن النبي محدث وصفاته محدثة، وليس إذا كان الموصوف نبيا وجب أن يكون صفاته أنبياء لكونهما محدثة، كذلك لا يجب إذا كانت الصفات قديمة والموصوف بها قديما أن تكون آلهة لكونهما قديمة"([5])، وهذا قول الباقلاني ([6])، والقاضي أبي يعلى ([7]).

                  4- أن هذا الكلام فيه إجمال، وأن لفظ "الغير" فيه إجمال، ومن ثم فلا بد من التفصيل، وهؤلاء لا يقولون عن الصفة: إنها الموصوف ولا يقولون: إنها غيره، ولا يقولون: ليست هي الموصوف ولا غيره. ويلاحظ أن المقصود ليست إثبات قول ثالث كما هو قول الباقلاني والقاضي أبي يعلى الذين قالوا ليست الصفة هي الموصوف ولا غيره – فإن هذا قول ثالث، بل المقصود أنه لا ينبغي الإطلاق: نفيا وإثباتا، وهم تركوا إطلاق اللفظين لما في ذلك من الإجمال.
                  وهذا قول جمهور أهل السنة، كالإمام أحمد وغيره، كما أنه قول ابن كلاب ([8]).

                  وهؤلاء قالوا: لفظ "الغير" فيه إجمال:

                  - فقد يراد به المباين المنفصل، ويعبر عنه بأن الغيرين ما جاز وجود أحدهما وعدمه، أو ما جاز مفارقة أحدهما الآخر بزمان أو مكان أو وجود.

                  - وقد يراد بالغير ما ليس هو عين الشيء، ويعبر بأنه ما جاز العلم بأحدهما دون الآخر ([9]).
                  وهناك فرق بين الأمرين، وعلى هذا فيفصل الأمر:

                  1- فإذا قيل: هل الصفات هي الموصوف أو غيره؟ قيل: إن أريد بالغير الأول، وهو ما جاز مفارقة أحدهما الآخر، فليست الصفة غير الموصوف، وإن أريد بالغير المعنى الثاني – وهو ما جاز العلم بأحدهما دون الآخر – فالصفة غير الموصوف.

                  فمن قال: إن الصفة هي الموصوف، قاصد بذلك أنها ليست غيره بالمعنى الأول للفظ الغير، فقوله صحيح، وكذا إن قال: الصفة غير الموصوف قاصداً بالغير المعنى الثاني فكلامه صحيح أيضاً. وعكس الأمرين باطل، والسلف يقولون بهذا التفصيل، ومن المعلوم أن الموصوف لا تنفك عنه صفاته.

                  2- وإذا قيل: هل الصفات زائدة على الذات، أو هل الصفات هي الذات أو غيرها؟ قالوا: إن أريد بالذات المجردة التي يقر بها نفاة الصفات فالصفات زائدة عليها، وهي غير الذات، وإن أريد بالذات الذات الموجودة في الخارج فتلك لا تكون موجودة إلا بصفاتها اللازمة والصفات ليست زائدة على الذات، ولا غيرها بهذا المعنى.

                  ومن ذلك يتضح خطأ وصواب من أطلق القول بأن الصفات غير الذات أو هي الذات ([10])، على حسب ما في لفظ الغير، الذات من الإجمال.

                  وبذلك يتبين أرجحية مذهب السلف حين لم يطلقوا الأمرين في ذلك، بل فصلوا واستفصلوا عن المراد، فإن كان حقا قبلوه وإن كان باطلا ردوده ([11]).







                  ([1]) انظر: الجواب الصحيح (2/266، 292، 3/54-44).



                  ([2]) انظر: تفصيل مذهب المعتزلة في المحيط بالتكليف (ص: 177) وما بعدها، ط مصر، وشرح الأصول الخمسة (ص: 195-197)، والمختصر في أصول الدين (1/182-183) ضمن رسائل العدل والتوحيد.



                  ([3]) انظر: مجموع الفتاوى (3/336).



                  ([4]) انظر: الرسائل إلى أهل الثغر (ص: 70-71) [وقد نسب إليه ابن فورك في المجرد ص: 38، أنه يقول: لا يقال لصفاته هي هو ولا غيره] وانظر أيضاً: الرسالة الأكملية – مجموع الفتاوى (6/96)، وجواب أهل العلم والإيمان – مجموع الفتاوى (17/160)، ودرء التعارض (5/49).



                  ([5]) درء التعارض (5/50)، وقارن بالتدمرية (ص: 11 – المحققة -.



                  ([6]) انظر التمهيد (ص: 206-207، 210-212)، ورسالة الحرة [المطبوعة باسم الإنصاف] (ص: 3.



                  ([7]) انظر: المعتمد (ص:46).



                  ([8]) انظر: جواب أهل العلم والإيمان ( 17/159-160 17/159-160)، ودرء التعارض (2/270، 5/49)، وانظر: مقالات الأشعري (ص: 169-170) – ريتر -.



                  ([9]) انظر: درء التعارض (1/281)، وجواب أهل العلم والإيمان – مجموع الفتاوى ( 17/160-161 17/160-161)، والمسألة المصرية في القرآن – مجموع الفتاوى (12/170)، والسبعينية (ص: 96-97) – ط الكردي -.



                  ([10]) لشيخ الإسلام ملاحظة دقيقة هنا، وهي أنه يجب أ، يفرق بين قول القائل: إن الصفات غير الذات وقوله: إنها غير الله، لأن لفظ "الذات" يشعر بمغايرته للصفة، بخلاف اسم "الله" تعالى فإنه متضمن لصفات كماله، وعلى ذلك فإنه لا يقال: إن الصفات غير الله، لما في ذلك من الإيهام. أما القول إنها غير الذات فقد يكون صحيحاً، لما في التعبير بالذات من الإشعار بأن المقصود بالذات المجردة دون صفاتها. انظر: الجواب الصحيح (3/30، والصفدية (1/108-109)، ودرء التعارض (10/72).



                  ([11]) انظر في هذه المسألة: التسعينية (ص: 108-109)، والدرء (2/230-231، 3/ 20-25، 5/37-50، 338، 9/136، 10/120، 231، 235).

                  تعليق


                  • #10
                    الحلقة
                    (9)


                    الأشاعرة



                    الحمد لله و الصلاة والسلام على رسول الله
                    هذا كتيب إختصرته من كتاب "تأكيد المسلمات السلفية في نقض الفتوى الجماعية بأن الأشاعرة من الفرقة المرضية" فأسأل الله جل و علا أن يغفر لي و لزوجتي و لكل المسلمين ما تقدم و ما تأخر من ذنوبنا وأن يدخلنا برحمته في عباده الصالحين انه ولي ذلك و القادر عليه.



                    أبو جهاد سمير الجزائري




                    مقدمة:

                    إليك شيئاً من معتقد الأشاعرة على وجه الاختصار :
                    1- أن الإيمان هو التصديق فلا يرون عمل الجوارح من الإيمان ولا يرون كفراً يكون بالجوارح .
                    2- أنهم جبرية في باب القدر فلا يثبتون إلا الإرادة الكونية دون الإرادة الشرعية ، فليس للعبد عندهم قدرة ولا يثبتون إلا الاستطاعة والقدرة المقارنة للعمل دون ما قبله .
                    3- لا يثبتون لأفعال الله علة ولا حكمة والعياذ بالله .
                    4- لا يثبتون شيئاً من الصفات الفعلية .
                    5- الأشاعرة الذين هم من بعد أبي المعالي الجويني أنكروا علو الله على خلقه بذاته .
                    6- لا يثبتون من صفات المعاني إلا سبعاً أو أكثر وعمدتهم في الإثبات العقل ثم هم في الصفات السبع نفسها لا يثبتونها كما يثبتها أهل السنة .
                    7- معنى كلمة التوحيد لا إله إلا الله راجع إلى توحيد الربوبية فلا يعرفون توحيد الألوهية كما فسر الباقلاني كلمة التوحيد بمعنى الربوبية .
                    8- مآل قولهم في كلام الله أن القرآن مخلوق كما أفاده أحد أئمة الأشاعرة المتأخرين الرازي .
                    9- يتوسعون في الكرامة فيجعلون كرامة الأنبياء ممكنة للأولياء .
                    10- يقررون رؤية الله إلى غير جهة ومآل قولهم إنكار الرؤية .
                    11- أن العقل لا يحسن ولا يقبح .
                    12- أنه لا يصح إسلام أحد بعد التكليف إلا أن يشك ثم أول واجب عليه النظر كما قال أبو المعالي الجويني .
                    إلى آخر ما عندهم من اعتقادات بدعية .
                    إذا تبين شيء من معتقد الأشاعرة فالواحدة مما تقدم تكفي في تبديعهم وإخراجهم من أهل السنة والفرقة الناجية إلى عموم الاثنتين والسبعين فرقة المسلمة الضالة لأن ما ذكرت من المؤاخذات العقدية هي مؤاخذات كلية .
                    العلماء الذين قرروا بأن الأشاعرة مبتدعة من الفرق الهالكة

                    قد نص غير واحد من أهل العلم على أن الأشاعرة مبتدعة ، ومعنى هذا أنهم ليسوا من أهل السنة ، وعليه فلا يكونون من الفرقة الناجية الطائفة المنصورة :
                    1-إمام أهل السنة الإمام أحمد فقد بدع الكلابية وشدد عليهم وهم كالأشاعرة الأوائل قال الإمام ابن تيمية في درء تعارض العقل والنقل (2/6): (وأما الحارث المحاسبي فكان ينتسب إلى قول ابن كلاب، ولهذا أمر أحمد بهجره، وكان أحمد يحذر عن ابن كلاب وأتباعه) .
                    وقال في الفتاوى (12/368: (والإمام أحمد بن حنبل وغيره من أئمة السنة كانوا يحذرون عن هذا الأصل الذي أحدثه ابن كلاب ويحذرون عن أصحابه.وهذا هو سبب تحذير الإمام أحمد عن الحارث المحاسبي ونحوه من الكلابية) وقال في كتابه الاستقامة (1/105):والكلابية هم مشايخ الأشعرية فإن أبا الحسن الأشعري إنما اقتدى بطريقة أبي محمد بن كلاب وابن كلاب كان أقرب إلى السلف زمنا وطريقة وقد جمع أبو بكر بن فورك شيخ القشيري كلام ابن كلاب والأشعري وبين اتفاقهما في الأصول ولكن لم يكن كلام أبي عبد الرحمن السلمي قد انتشر بعد فإنه انتشر في أثناء المائة الرابعة لما ظهرت كتب القاضي أبي بكر بن الباقلانى ونحوه ا.هـ وقال كما في الفتاوى(12/17:وأما قوله وقوم نحوا إلى أنه-أي القرآن- قديم لا بصوت ولا حرف إلا معنى قائم بذات الله وهم الأشعرية فهذا صحيح ولكن هذا القول أول من قاله فى الإسلام عبدالله بن كلاب فان السلف والأئمة كانوا يثبتون لله تعالى ما يقوم به من الصفات والأفعال المتعلقة بمشيئته وقدرته والجهمية تنكر هذا وهذا فوافق ابن كلاب السلف على القول بقيام الصفات القديمة وأنكر أن يقوم به شيء يتعلق بمشيئته وقدرته وجاء أبو الحسن الأشعرى بعده وكان تلميذا لأبى على الجبائى المعتزلى ثم إنه رجع عن مقالة المعتزلة وبين تناقضهم في مواضع كثيرة وبالغ في مخالفتهم في مسائل القدر والإيمان والوعد والوعيد حتى نسبوه بذلك إلى قول المرجئة والجبرية والواقفة وسلك في الصفات طريقة ابن كلاب وهذا القول في القرآن هو قول ابن كلاب في الأصل وهو قول من اتبعه كالأشعرى وغيره ا.هـ


                    وقال كما في الفتاوى (17/149) : كالكلابية و من اتبعهم من الأشعرية و غيرهم ا.هـ


                    وقال الإمام أبو بكر ابن خزيمة كما في سير أعلام النبلاء(14/380) لما قال له أبو علي الثقفي : (ما الذي أنكرت أيها الأستاذ من مذاهبنا حتى نرجع عنه؟
                    قال: ميلكم إلى مذهب الكلابية، فقد كان أحمد بن حنبل من أشد الناس على عبد الله بن سعيد بن كلاب، وعلى أصحابه مثل الحارث وغيره ا.هـ
                    قال الإمام ابن تيمية في شرح الأصفهانية (ص107-10، : فإن كثيراً من متأخري أصحاب الأشعري خرجوا عن قوله إلى قول المعتزلة أو الجهمية أو الفلاسفة) وقال في الدرء (7/97) : وهذا الكلام في الأصل-أي تقديم العقل على النقل- هو من قول الجهمية المعتزلة وأمثالهم وليس من قول الأشعري وأئمة أصحابه وإنما تلقاه عن المعتزلة متأخرو الأشعرية لما مالوا إلى نوع التجهم بل الفلسفة وفارقوا قول الأشعري وأئمة أصحابه الذين لم يكونوا يقرون بمخالفة النقل للعقل بل انتصبوا لإقامة أدلة عقلية توافق السمع ولهذا أثبت الأشعري الصفات الخبرية بالسمع وأثبت بالعقل الصفات العقلية التي تعلم بالعقل والسمع فلم يثبت بالعقل ما جعله معارضاً للسمع بل ما جعله معاضداً له وأثبت بالسمع ما عجز عنه العقل ا.هـ
                    - الإمام أبو نصر السجزي إذ وصف الأشاعرة بأنهم متكلمون وفرقة محدثة وأنهم أشد ضرراً من المعتزلة فقال:(فكل مدع للسنة يجب أن يطالب بالنقل الصحيح بما يقوله، فإن أتى بذلك علم صدقه، وقبل قوله، وإن لم يتمكن من نقل ما يقوله عن السلف، عُلم أنه محدث زائغ، وأنه لا يستحق أن يصغا إليه أو يناظر في قوله، وخصومنا المتكلمون معلوم منهم أجمع اجتناب النقل والقول به بل تمحينهم لأهله ظاهر، ونفورهم عنهم بين، وكتبهم عارية عن إسناد بل يقولون: قال الأشعري، وقال ابن كلاب، وقال القلانسي، وقال الجبائي...ومعلوم أن القائل بما ثبت من طريق النقل الصحيح عن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يسمى محدثاً بل يسمى سنياً متبعاً، وأن من قال في نفسه قولاً وزعم أنه مقتضى عقله، وأن الحديث المخالف له لا ينبغي أن يلتفت إليه، لكونه من أخبار الآحاد، وهي لا توجب علماً، وعقله موجب للعلم يستحق أن يسمى محدثاً مبتدعاً ، مخالفاً، ومن كان له أدنى تحصيل أمكنه أن يفرق بيننا وبين مخالفينا بتأمل هذا الفصل في أول وهلة، ويعلم أن أهل السنة نحن دونهم، وأن المبتدعة خصومنا دوننا) انظر: الرد على من أنكر الحرف والصوت (ص100-101) .
                    -ثم قال ص222- 223 -: (ثم بلي أهل السنة بعد هؤلاء؛ بقوم يدعون أنهم من أهل الاتباع، وضررهم أكثر من ضرر المعتزلة وغيرهم وهم أبو محمد بن كلاب وأبو العباس القلانسي، وأبو الحسن الأشعري ...وفي وقتنا أبو بكر الباقلاني ببغداد وأبو إسحاق الإسفرائني وأبوبكر بن فورك بخراسان فهؤلاء يردون على المعتزلة بعض أقاويلهم ويردون على أهل الأثر أكثر مما ردوه على المعتزلة - ثم قال : وكلّهم أئمّةُ ضَلالة يدعونَ النّاسَ إلى مخالفةِ السّنةِ وتركِ الحديث »....) وبين - رحمه الله- وجه كونهم أشد من المعتزلة فقال ص177-178: ( لأن المعتزلة قد أظهرت مذهبها ولم تستقف ولم تُمَوِّه.بل قالت: إن الله بذاته في كل مكان وإنه غير مرئي، وإنه لا سمع له ولا بصر ولا علم ولا قدرة ولا قوة ... فعرف أكثر المسلمين مذهبهم وتجنبوهم وعدوهم أعداء. والكلابية، والأشعرية قد أظهروا الرد على المعتزلة والذب عن السنة وأهلها، وقالوا في القرآن وسائر الصفات ما ذكرنا بعضه ا.هـ .
                    3- الإمام محمد بن احمد بن خويز منداد المصري المالكي - رحمه الله- ، فقد روى عنه ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله (2/96): أنه قال في كتاب الشهادات في تأويل قول مالك: لا تجوز شهادة أهل البدع والأهواء قال : أهل الأهواء عند مالك وسائر أصحابنا هم أهل الكلام، فكل متكلم فهو من أهل الأهواء والبدع أشعرياً كان أو غير أشعري، ولا تقبل له شهادة في الإسلام أبداً، ويهجر ويؤدب على بدعته فإن تمادى عليها استتيب منها )
                    4- ابن قدامة-رحمه الله- فقد نص على أنهم مبتدعة فقال في كتاب المناظرة في القرآن ص35 : ولا نعرف في أهل البدع طائفة يكتمون مقالتهم ولا يتجاسرون على إظهارها إلا الزنادقة والأشعرية ا.هـ
                    وقال في كتاب تحريم النظر في كتب الكلام ص42 : وقال أحمد بن إسحاق المالكي أهل الأهواء والبدع عند أصحابنا هم أهل الكلام فكل متكلم من أهل الأهواء والبدع أشعرياً كان أو غير أشعري لا تقبل له شهادة ويهجر ويؤدب على بدعته فإن تمادى عليها استتيب منها ا.هـ
                    5- أبو حامد الإسفرائني /
                    قال ابن تيمية في درء التعارض (2/96) : قال الشيخ أبو الحسن: وكان الشيخ أبو حامد الإسفرايني شديد الإنكار على الباقلاني وأصحاب الكلام قال ولم يزل الأئمة الشافعية يأنفون ويستنكفون أن ينسبوا إلى الأشعري ويتبرؤن مما بنى الأشعري مذهبه عليه وينهون أصحابهم وأحبابهم عن الحوم حواليه على ما سمعت عدة من المشايخ والأئمة منهم الحافظ المؤتمن بن أحمد بن على الساجي يقولون سمعنا جماعة من المشايخ الثقات قالوا كان الشيخ أبو حامد أحمد بن أبي طاهر الإسفرايني إمام الأئمة الذي طبق الأرض علمًا وأصحابا إذا سعى إلى الجمعة من قطعية الكرج إلى جامع المنصور يدخل الرباط المعروف بالزوزي المحاذي للجامع ويقبل على من حضر ويقول اشهدوا على بأن القرآن كلام الله غير مخلوق كما قاله الإمام ابن حنبل لا كما يقوله الباقلاني وتكرر ذلك منه جمعات فقيل له في ذلك فقال حتى ينتشر في الناس وفي أهل الصلاح ويشيع الخبر في أهل البلاد أني بريء مما هم عليه يعني الأشعرية وبريء من مذهب ابي بكر بن الباقلاني فإن جماعة من المتفقهة الغرباء يدخلون على الباقلاني خفية ويقرؤون عليه فيفتنون بمذهبه فإذا رجعوا إلى بلادهم أظهروا بدعتهم لا محالة فيظن ظان أنهم منى تعلموه قبله وأنا ما قلته وأنا بريء من مذهب البلاقلاني وعقيدته .
                    قال الشيخ أبو الحسن الكرجي وسمعت شيخي الإمام أبا منصور الفقيه الأصبهاني يقول سمعت شيخنا الأمام أبا بكر الزاذقاني يقول كنت في درس الشيخ أبي حامد الإسفرايني وكان ينهي أصحابه عن الكلام وعن الدخول على الباقلاني فبلغه أن نفراً من أصحابه يدخلون عليه خفية لقراءة الكلام فظن أني معهم ومنهم وذكر قصة قال في آخرها إن الشيخ أبا حامد قال لي: يا بني قد بلغني أنك تدخل على هذا الرجل - يعني الباقلاني - فإياك وإياه فإنه مبتدع ؛ يدعو الناس إلى الضلالة ، وإلا فلا تحضر مجلسي فقلت: أنا عائذ بالله مما قيل وتائب إليه، واشهدوا علي أني لا أدخل إليه . قال الشيخ أبو الحسن وسمعت الفقيه الإمام أبا منصور سعد بن علي العجلي يقول: سمعت عدة من المشايخ والأئمة ببغداد أظن الشيخ أبا إسحاق الشيرازي أحدهم قالوا : كان أبو بكر الباقلانى يخرج إلى الحمام متبرقعاً خوفاً من الشيخ أبي حامد الإسفرايني قال أبو الحسن: ومعروف شدة الشيخ أبي حامد على أهل الكلام حتى ميز أصول فقه الشافعي من أصول الأشعري . وعلقه عنه أبو بكر الزاذاقاني ، وهو عندي وبه اقتدى الشيخ أبو اسحاق الشيرازي في كتابيه اللمع والتبصرة حتى لو وافق قول الأشعري وجها لأصحابنا ميزه ، وقال: هو قول بعض أصحابنا وبه قالت الأشعرية ولم يعدهم من أصحاب الشافعي استنكفوا منهم ومن مذهبهم في أصول الفقه فضلاً عن أصول الدين.
                    قلت: هذا المنقول عن الشيخ أبي حامد وأمثاله من أئمة أصحاب الشافعي ، أصحاب الوجوه معروف في كتبهم المصنفة في أصول الفقه وغيرها ، وقد ذكر الشيخ أبو حامد والقاضي أبو الطيب وأبو إسحاق الشيرازي وغير واحد بينوا مخالفة الشافعي وغيره من الأئمة لقول ابن كلاب والأشعري في مسألة الكلام التي امتاز بها ابن كلاب والأشعري عن غيرهما وإلا فسائر المسائل ليس لابن كلاب والأشعري بها اختصاص ا.هـ
                    6- أبو إسماعيل عبد الله بن محمد الأنصاري .
                    ذكر السبكي في طبقاته (4/272) أنه ذكر في كتابه ذم الكلام أنه كان يلعن أبا الحسن الأشعري , وأنه ترك الرواية عن شيخه القاضي أبي بكر الحيري لكونه أشعرياً ا.هـ
                    وقال ابن تيمية كما في مجموع الفتاوى(14/354) : كأبي إسماعيل الأنصاري الهروي صاحب كتاب ذم الكلام فإنه من المبالغين في ذم الجهمية لنفيهم الصفات و له كتاب تكفير الجهمية و يبالغ في ذم الأشعرية مع أنهم من أقرب هذه الطوائف إلى السنة و الحديث و ربما كان يلعنهم وقد قال له بعض الناس: بحضرة نظام الملك أتلعن الأشعرية ؟ فقال: ألعن من يقول ليس في السموات إله و لا في المصحف قرآن و لا في القبر نبي و قام من عنده مغضباً ا.هـ

                    7- محمد بن عبد الملك بن محمد بن عمر بن محمد الكرجي أبو الحسن الشافعي.
                    تقدم نقل ابن تيمية كلامه عن الأشعرية وقد نقل له السبكي في طبقاته(6/144) أبياتاً في ذم الأشعرية فقال-رحمه الله- :
                    وخبث مقال الأشعري تخنث يضاهي تلويه تلوي الشغازب
                    يزين هذا الأشعري مقاله ويقشبه بالسم ياشر قاشب
                    فينفي تفاصيلاً ويثبت جملة كناقصه من بعد شد الذوائب
                    يؤول آيات الصفات برأيه فجرأته في الدين جرأة خارب

                    8-القحطاني في نونية الرائعة إذ قال :
                    يا أشعرية يا أسافلة الورى يا عمي يا صم بلا آذان
                    أني لأبغضنكم وأبغض حزبكم بغضا أقل قليله أضغاني
                    لو كنت أعمى المقتلتين لسرني كيلا يرى إنسانكم إنساني
                    وقال :
                    يا أشعرية يا جميع من ادعى بدعاً وأهواء بلا برهان
                    جاءتكم سنية مأمونة من شاعر ذرب اللسان معان


                    9- الإمام ابن تيمية-رحمه الله- قد بين أنهم مبتدعة بطرق؛ منها أنه نص على ذلك فقال كما في مجموع الفتاوى (2/50) : كما يقوله بعض المبتدعة الأشعرية من أن حروفه ابتداء جبرائيل أو محمد مضاهاة منهم فى نصف قولهم لمن قال انه قول البشر من مشركى العرب ممن يزعم أنه أنشأه بفضله وقوة نفسه ا.هـ
                    ومنها أنه جعلهم من المتكلمين وبجعله لهم من المتكلمين أخرجهم من أهل السنة إلى أهل البدع فقال في الدرء (6/183) : وأهل الكلام من الأشعرية وغيرهم ا.هـ
                    وفي أكثر من موضع يذكر أنهم أقرب إلى أهل السنة من غيرهم فهذا يدل على أنهم ليسوا منهم قال في مجموع الفتاوى (6/55): ( و أما الأشعرية فلا يرون السيف موافقة لأهل الحديث ، وهم في الجملة أقرب المتكلمين إلى مذهب أهل السنة والحديث . . )
                    وقد نقل في الدرء (6/221) كلام أبي الْوَلِيدِ بن رُشْدٍ الْمَالِكِيُّ في كِتَابِهِ الْمُسَمَّى بالكشف عن مَنَاهِجِ الْأَدِلَّةِ والمثل الذي ضربه لخطورة التأويل ثم قال أبو الوليد: وهذه حال الفرق الحادثة في هذه الشريعة وذلك أن كل فرقة منهم تأولت في الشريعة تاويلا غير التأويل الذي تأولته الفرقة الأخرى وزعمت أنه الذي قصد صاحب الشرع حتى تمزق الشرع كل ممزق وبعد جدا عن موضوعه الأول ولما علم صلى الله عليه وسلم أن مثل هذا يعرض ولا بد في شريعته قال :ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة يعني بالواحدة التي سلكت ظاهر الشرع ولم تؤوله تأويلا صرحت به للناس .
                    قال: وأنت إذا تأملت ما عرض في هذه الشريعة في هذا الوقت من الفساد العارض فيها من قبل التأويل تبينت أن هذا المثال صحيح فأول من غير هذا الدواء الأعظم هم الخوارج ثم المعتزلة بعدهم ثم الأشعرية ثم الصوفية ثم جاء أبو حامد فطم الوادي على القرى ا.هـ
                    فأبو الوليد بن رشد يقرر أن الأشاعرة من عموم الفرق الاثنتين والسبعين الضالة وأقره الإمام ابن تيمية على هذا ولم يعترض عليه .
                    10-الإمام ابن القيم -رحمه الله-فقد نقل كلام أبي الْوَلِيدِ بن رُشْدٍ الْمَالِكِيُّ المتقدم في كِتَابِهِ الْمُسَمَّى بالكشف عن مَنَاهِجِ الْأَدِلَّةِ والمثل الذي ضربه لخطورة التأويل كما في الإعلام (4/254) والصواعق المرسلة (2/417) وأقره ولم يخالفه مثل شيخه ابن تيمية .
                    11- الشيخ العلامة من أئمة الدعوة النجدية السلفية سليمان بن سحمان -رحمه الله- فقد رد على السفاريني قوله في لوامع الأنوار: إن الأشاعرة والماتردية من الفرقة الناجية كما قال هؤلاء المفتون فقال: (هذا مصانعة من المصنف- رحمه الله تعالى- في إدخاله الأشعرية والماتريدية في أهل السنة والجماعة، فكيف يكون من أهل السنة والجماعة من لا يثبت علو الرب سبحانه فوق سماواته، واستواءه على عرشه ويقول: حروف القرآن مخلوقة، وإن الله لا يتكلم بحرف ولا صوت، ولا يثبت رؤية المؤمنين ربهم في الجنة بأبصارهم، فهم يقرون بالرؤية ويفسرونها بزيادة علم يخلقه الله في قلب الرائي. ويقول: الإيمان مجرد التصديق وغير ذلك من أقوالهم المعروفة المخالفة لما عليه أهل السنة والجماعة) لوامع الأنوار البهية (1/73)
                    12- الشيخ العلامة من أئمة الدعوة النجدية السلفية عبدالله بن عبدالرحمن أبا بطين - رحمه الله- فقد رد على السفاريني قوله في لوامع الأنوار: إن الأشاعرة والماتردية من الفرقة الناجية كما قال هؤلاء المفتون فقال : (تقسيم أهل السنة إلى ثلاث فرق فيه نظر، فالحق الذي لا ريب فيه أن أهل السنة فرقة واحدة، وهي الفرقة الناجية التي بينها النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم حين سئل عنها بقوله: (هي الجماعة)، وفي رواية: (من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي)، أو (من كان على ما أنا عليه وأصحابي). وبهذا عرف أنهم المجتمعون على ما كان عليه النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأصحابه ولا يكونون سوى فرقة واحدة. والمؤلف نفسه يرحمه الله لما ذكر في المقدمة هذا الحديث، قال في النظم:
                    وليس هذا النص جزماً يعتبر في فرقة إلا على أهل الأثر
                    يعني بذلك: الأثرية. وبهذا عرف أن أهل السنة والجماعة هم فرقة واحدة الأثرية والله أعلم) المصدر السابق (1/73) .
                    31- الإمام المحدث محمد ناصر الدين الألباني -رحمه الله- في السلسلة الصحيحة(6/285) حيث قال: (فإن ما أنا فيه من الاشتغال بالمشروع العظيم - تقريب السنة بين يدي الأمة - الذي يشغلني عنه في كثير من الأحيان ردود تنشر في رسائل و كتب و مجلات من بعض أعداء السنة من المتمذهبة و الأشاعرة و المتصوفة و غيرهم ، ففي هذا الانشغال ما يغنيني عن الرد على المحبين الناشئين ، فضلا عن غيرهم . و الله المستعان ، و عليه التكلان) ا.هـ
                    14-الإمام الفقيه محمد بن صالح العثيمين-رحمه الله-في شرحه للواسطية استدرك في أولها على السفاريني لما جعل الأشاعرة والماتردية من الفرقة الناجية وبين أن الفرقة الناجية واحدة وهم أهل الحديث أهل السنة دون الأشعرية والماتردية وقال (2/372) أيضاً:أن الأشاعرة والماتردية ونحوهم ليسوا من أهل السنة والجماعة ا.هـ
                    15-شيخنا العلامة صالح الفوزان -حفظه الله- سئل : أحسن الله إليكم صاحب الفضيلة وهذا سائل يقول : هل الأشاعرة والماتريدية يعدون من أهل السنة والجماعة ؟
                    الجواب :
                    لا يعدون .
                    لم يعدهم أحد من أهل السنة والجماعة قط .
                    لكن هم يسمون أنفسهم من أهل السنة وهم ليس من أهل السنة ا.هـ


                    مصادر التلقي عند الأشاعرة

                    إن من المهم معرفة مصادر التلقي عند الأشاعرة من كتب أئمتهم ليعرف مدى ضلالهم وبعدهم عن السنة التي يدعون انتسابهم إليها ، وإن بعد الأشاعرة عن أهل السنة في التأصيل كبعض مصادر التلقي أدى بهم إلى بعد كبير في التطبيق كما تقدم ذكر مختصر عقائدهم البدعية وإليك ذكر مصادرهم:


                    المصدر الأول/عندهم أن الأدلة السمعية المتواترة وهي القرآن والأحاديث المتواترة دون أحاديث الآحاد فإنه لا يحتج بها في العقائد :
                    قال الرازي في أساس التقديس ص 168: أما التمسك بخبر الواحد في معرفة الله تعالى فغير جائز ا.هـ ثم ذكر أوجهاً لتقوية ما ذهب إليه ، ومنها أن أخبار الآحاد ظنية ، وما كان كذلك فلا يجوز التمسك به لقوله تعالى ( إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً )
                    وقد رد أئمة السنة على هذا الأصل ، وأطالوا النفس في ذلك ، ومن أحسن ما رأيت ما ذكر الإمام ابن القيم في مختصر الصواعق من أن خبر الواحد يفيد العلم وأنه حجة في باب العقائد وغيرها . إليك كلامه مرتباً مجموعاً في نقاط :
                    الأولى/ أنه فعل الصحابة وطريقتهم فإنهم كانوا يجزمون بخبر الواحد ، قال ابن القيم في مختصر الصواعق ص456: من هذا إخبار الصحابة بعضهم بعضاً فإنهم كانوا يجزمون بما يحدث به أحدهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولم يقل أحد منهم لمن حدثه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خبرك خبر واحد ولا يفيد العلم حتى يتواتر ، وتوقف من توقف منهم حتى عضده آخر منهم لا يدل على رد خبر الواحد عن كونه خبر واحد ، وإنما كان يستثبت أحياناً نادرة جداً إذا استخبر . ولم يكن أحد من الصحابة ولا أهل الإسلام بعدهم يشكون فيما يخبر به أبو بكر الصديق عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا عمر ولا عثمان ولا علي ولا عبدالله بن مسعود وأبي بن كعب وأبو ذر ومعاذ بن جبل وعبادة بن الصامت وعبدالله بن عمر وأمثالهم من الصحابة ، بل كانوا لا يشكون في خبر أبي هريرة مع تفرده بكثير من الحديث ، ولم يقل له أحد منهم يوماً واحداً من الدهر: خبرك خبر واحد لا يفيد العلم ، وكان حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أجل في صدورهم من أن يقابل بذلك ، وكان المخبر لهم أجل في أعينهم وأصدق عندهم من أن يقولوا له مثل ذلك . وكان أحدهم إذا روى لغيره حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصفات تلقاه بالقبول واعتقد تلك الصفة به على القطع واليقين ، كما اعتقد رؤية الرب وتكليمه ونداءه يوم القيامة لعباده بالصوت الذي يسمعه البعيد كما يسمعه القريب ، ونزوله إلى سماء الدنيا كل ليلة ، وضحكه وفرحه وإمساك سماواته على إصبع من أصابع يده وإثبات القدم له . من سمع هذه الأحاديث ممن حدث بها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو عن صاحب اعتقد ثبوت مقتضاها بمجرد سماعها من العدل الصادق ، ولم يرتب فيها حتى أنهم ربما تثبتوا في بعض أحاديث الأحكام حتى يستظهروا بآخر كما استظهر عمر رضي الله عنه برواية محمد بن مسلمة على رواية المغيرة بن شعبة في توريث الجدة ، ولم يطلب أحد منهم الاستظهار في رواية أحاديث الصفات البتة ، بل كانوا أعظم مبادرة إلى قبولها وتصديقها والجزم بمقتضاها ، وإثبات الصفات بها من المخبر لهم بها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومن له أدنى إلمام بالسنة والتفات إليها يعلم ذلك ولولا وضوح الأمر في ذلك لذكرنا أكثر من مائة موضع . فهذا الذي اعتمده نفاة العلم عن أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم خرقوا به إجماع الصخابة المعلوم بالضرورة وإجماع التابعين وإجماع أئمة الإسلام ، ووافقوا به المعتزلة والجهمية والرافضة والخوارج الذين انتهكوا هذه الحرمة ، وتبعهم بعض الأصوليين والفقهاء ، وإلا فلا يعرف لهم سلف من الأئمة بذلك ، بل صرح الأئمة بخلاف قولهم ا.هـ ومن هدي الصحابة العملي في ذلك ما ذكره ابن القيم إذ قال : إن المسلمين لما أخبرهم الواحد وهم بقباء في صلاة الصبح أن القبلة قد حولت إلى الكعبة قبلوا خبره وتركوا الحجة التي كانوا عليها واستداروا إلى القبلة ، ولم ينكر عليهم رسول الله صلى اله عيه وسلم ، بل شكروا على ذلك وكانوا على أمر مقطوع به من القبلة الأولى ، فلولا حصول العلم لهم بخبر الواحد لم يتركوا المقطوع به المعلوم لخبر لا يفيد العلم ، وغاية ما يقال فيه أنه خبر اقترنته قرينة ، وكثير منهم يقول: لا يفيد العلم بقرينة ولا غيرها ، وهذا في غاية المكابرة ومعلوم أن قرينة تلقي الأمة له بالقبول وروايته قرناً بعد قرن من غير نكير من أقوى القرائن وأظهرها ، فأي قرينة فرضتها كانت تلك أقوى منها ا.هـ

                    الثانية/ أن كل مسألة فقهية طلبية تتضمن حكماً خبرياً وهو اعتقادي ، قال ابن القيم في مختصر الصواعق ص 489: فما الفرق بين باب الطلب وباب الخبر بحيث يحتج بها في أحدهما دون الآخر ، وهذا التفريق باطل بإجماع الأمة ، فإنها لم تزل تحتج بهذه الأحاديث في الخبريات العلميات كما تحتج بها في الطلبيات العمليات ، ولا سيما والأحكام العملية تتضمن الخبر عن الله بأنه شرع كذا وأوجبه ورضيه ديناً ، بشرعه ودينه راجع إلى أ.سمائه وصفاته ، ولم تزل الصحابة والتابعون وتابعوهم وأهل الحديث والسنة يحتجون بهذه الأخبار في مسائل الصفات والقدر والأسماء والأحكام ، ولم ينقل عن أحد منهم البتة أنه جوز الاحتجاج بها في مسائل الأحكام دون الإخبار عن الله وأسمائه وصفاته . فأين سلف المفرقين بين البابين ، نعم سلفهم بعض متأخري المتكلمين الذين لا عناية لهم بما جاء عن الله ورسوله وأصحابه ، بل يصدون القلوب عن الاهتداء في هذا الباب بالكتاب والسنة وأقوال الصحابة ، ويحيلون على آراء المتكلمين ، وقواعد المتكلفين ا.هـ
                    الثالثة/ أن الله تعالى قال ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا) وفي القراءة الأخرى ( فتثبتوا ) وهذا يدل على الجزم بقبول خبر الواحد أنه لا يحتاج إلى التثبت ، ولو كان خبره لا يفيد العلم لأمر بالتثبت حتى يحصل العلم ومما يدل عليه أيضاً أن السلف الصالح وأئمة الإسلام لم يزالوا يقولون: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا وفعل كذا ، وأمر بكذا ونهى عن كذا . وهذا معلوم في كلامهم بالضرورة . وفي صحيح البخاري قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في عدة مواضع وكثير من أحاديث الصحابة يقول فيها أحدهم: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإنما سمعه من صحابي غيره ، وهذه شهادة من القائل وجزم على رسول الله صلى الله عليه وسلم بما نسبه إليه من قول أو فعل ، فلو كان خبر الواحد لا يفيد العلم لكان شاهداً على رسول الله صلى الله عليه وسلم بغير علم .
                    الرابعة/ إن أهل العلم بالحديث لم يزالوا يقولون صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك جزم منهم بأنه قاله ، ولم يكن مرادهم ما قاله بعض المتأخرين إن المراد بالصحة صحة السند لا صحة المتن ، بل هذا مراد من زعم أن أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تفيد العلم ، وإنما كان مرادهم صحة الإضافة إليه ، وأنه قال كما كانوا يجزمون بقولهم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر ونهى وفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وحيث كان يقع لهم الوهم في ذلك يقولون يذكر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويروى عنه ونحو ذلك ، ومن له خبرة بالحديث يفرق بين قول أحدهم هذا الحديث صحيح ، وبين قوله إسناده صحيح ، فالأول جزم بصحة نسبته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والثاني شهادة بصحة سنده ، وقد يكون فيه علة أو شذوذ فيكون سنده صحيحاً ، ولا يحكمون أنه صحيح في نفسه .
                    الخامسة/ قوله تعالى ( وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) والطائفة تقع على الواحد فما فوقه ، فأخبر أن الطائفة تنذر قومهم إذا رجعوا إليهم والإنذار والإعلام بما يفيد العلم ، وقوله: لعلهم يحذرون ، نظير قولهم في آياته المتلوة والمشهودة ( لعلهم يتفكرون . لعلهم يتقون . لعلهم يهتدون ) وهو سبحانه إنما يذكر ذلك فيما يحصل العلم لا فيما يفيد العلم .
                    السادسة/ قوله ( وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ) أي لا تتبعه ولا تعمل به ، ولم يزل المسلمون من عهد الصحابة يقفون أخبار الآحاد ويعملون بها ويثبتون لله تعالى بها الصفات ، فلو كانت لا تفيد علماً لكان الصحابة والتابعون وتابعوهم وأئمة الإسلام كلهم قد قفوا ما ليس لهم به علم .
                    السابعة/ قوله تعالى ( فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) فأمر من لم يعلم أن يسأل أهل الذكر وهم أولو الكتاب والعلم ، ولولا أن أخبارهم تفيد العلم لم يأمر بسؤال من لا يفيد خبره علماً ، وهو سبحانه لم يقل سلوا عدد التواتر ، بل أمر بسؤال أهل الذكر مطلقاً ، فلو كان واحداً لكان سؤاله وجوابه كافياً .
                    الثامنة/ قوله تعالى ( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ ) وقال ( وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (( بلغوا عني )) وقال لأصحابه في الجمع الأعظم يوم عرفة (( أنتم مسؤولون عني فماذا أنتم قائلون؟)) قالوا: نشهد أنك بلغت وأديت ونصحت . ومعلوم أن البلاغ هو الذي تقوم به الحجة على المبلغ ويحصل به العلم ، فلو كان خبر الواحد لا يحصل به العلم لم يقع به التبليغ الذي تقوم به حجة الله على العبد ، فإن الحجة إنما تقوم بما يحصل به العلم . وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرسل الواحد من أصحابه يبلغ عنه فتقوم الحجة على من بلغه ، وكذلك قامت حجته علينا بما بلغنا العدول الثقات من أقواله وأفعاله وسنته ، ولو لم يفد العلم لم تقم علينا بذلك حجة ، ولا على من بلغه واحد أو اثنان أو ثلاثة أو أربعة أو دون عدد التواتر ، وهذا من أبطل الباطل .
                    فيلزم من قال إن أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تفيد العلم أحد أمرين: إما أن يقول: إن الرسول لم يبلغ غير القرآن وما رواه عنه عدد التواتر ، وما سوى ذلك لم تقم به حجة ولا تبليغ ، وإما أن يقول: إن الحجة والبلاغ حاصلان بما لا يوجب علماً ولا يقتضي عملاً ، وإذا بطل هذان الأمران بطل القول بأن أخباره صلى الله عليه وسلم التي رواها الثقات العدول الحفاظ وتلقتها الأمة بالقبول لا تفيد علماً ، وهذا ظاهر لا خفاء به .
                    التاسعة/ قوله تعالى ( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) وقوله ( وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ ) وجه الاستدلال أنه تعالى أخبر أنه جعل هذه الأمة عدولاً خياراً ليشهدوا على الناس بأن رسلهم قد بلغوهم عن الله رسالته وأدوا عليهم ذلك ، وهذا يتناول شهادتهم على الأمم الماضية وشهادتهم على أهل عصرهم ومن بعدهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرهم بكذا ونهاهم عن كذا ، فهم حجة الله على من خالف رسول الله ، وزعم أنه لم يأتهم من الله ما تقوم به عليه الحجة ، وتشهد هذه الأمة الوسط عليه بأن حجة الله بالرسل قامت عليه ، ويشهد كل واحد بانفراده بما وصل إليه من العلم الذي كان به أهل الشهادة ، فلو كانت أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تفيد العلم لم يشهد به الشاهد ولم تقم به الحجة على المشهود عليه .

                    تعليق


                    • #11
                      (تابع)

                      العاشرة/ قوله تعالى ( وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ) وهذه الأخبار التي رواها الثقات الحفاظ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إما أن تكون حقاً أو باطلاً أو مشكوكاً فيها ، لا يدري هل هي حق أو باطل . فإن كانت باطلاً أو مشكوكاً فيها وجب اطراحها وأن لا يلتفت إليها ، وهذا انسلاخ من الإسلام بالكلية . وإن كانت حقاً فيجب الشهادة بها على البت أنها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان الشاهد بذلك شاهداً بالحق وهو يعلم صحة المشهود به .
                      الحادية عشرة/ قول النبي صلى الله عليه وسلم على مثلها (( فاشهدوا )) أشار إلى الشمس ولم يزل الصحابة والتابعون وأئمة الحديث يشهدون عليه صلى الله عليه وسلم على القطع أنه قال كذا ، وأمر به ونهى عنه وفعله لما بلغهم إياه الواحد والاثنان والثلاثة فيقولون: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا ، وحرم كذا وأباح كذا ، وهذه شهادة جازمة يعلمون أن المشهود به كالشمس في الوضوح ، ولا ريب أن كل من له التفات إلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم واعتناء بها يشهد شهادة جازمة أن المؤمنين يرون بهم ربهم عياناً يوم القيامة ، وأن قوماً من أهل التوحيد يدخلون النار ثم يخرجون منها بالشفاعة وأن الصراط حق ، وتكليم الله لعباده يوم القيامة كذلك ، وأن الولاء لمن أعتق ، إلى أضعاف أضعاف ذلك ، بل يشهد بكل خبر صحيح متلقى بالقبول لم ينكره أهل الحديث شهادة لا يشك فيها .
                      الثانية عشرة/ إن هؤلاء المنكرين لإفادة أخبار النبي صلى الله عليه وسلم العلم يشهدون شهادة جازمة قاطعة على أئمتهم بمذاهبهم وأقوالهم أنهم قالوا ، ولو قيل لهم إنها لم تصح عنهم لأنكروا ذلك غاية الإنكار ، وتعجبوا من جهل قائله ، ومعلوم أن تلك المذاهب لم يروها عنهم إلا الواحد والاثنان والثلاثة ونحوهم ، لم يروها عنهم عدد التواتر . وهذا معلوم يقيناً . فكيف حصل لهم العلم الضروري والمقارب للضروري بأن أئمتهم ومن قلدوهم دينهم أفتوا بكذا وذهبوا إلى كذا ، ويحصل لهم العلم بما أخبر به أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب وسائر الصحابة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا بما رواه عنهم التابعون وشاع في الأمة وذاع ، وتعددت طرقه وتنوعت ، وكان حرصه عليه أعظم بكثير من حرص أولئك على أقوال متبوعيهم ؟ إن هذا لهو العجب العجاب .
                      وهذا وإن لم يكن نفسه دليلاً يلزمهم أحد أمرين: إما أن يقولوا أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم وفتاواه وأقضيته تفيد العلم ، وإما أن يقولوا إنهم لا علم لهم بصحة شيء مما نقل عن أئمتهم ، وأن النقول عنهم لا تفيد علماً ، وأما أن يكون ذلك مفيداً للعلم بصحته عن أئمتهم دون المنقول عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو من أبين الباطل .
                      الثالثة عشرة/ قوله تعالى ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ ) ووجه الاستدلال أن هذا أمر لكل مؤمن بلغته دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى يوم القيامة . ودعوته نوعان: مواجهة ونوع بواسطة المبلغ وهو مأمور بإجابة الدعوتين في الحالتين ، وقد علم أن حياته في تلك الدعوة والاستجابة لها ، ومن الممتنع أن يأمره الله تعالى بالإجابة لما لا يفيد علماً ، أو يحييه بما لا يفيد علماً أو يتوعده على ترك الاستجابة لما لا يفيد علماً بأنه إن لم يفعل عاقبه ، وحال بينه وبين قلبه .
                      الرابعة عشرة/ قوله تعالى ( فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) وهذا يعم كل مخالف بلغه أمره صلى الله عليه وسلم إلى يوم القيامة ، ولو كان ما بلغه لم يفده علماً لما كان متعرضاً بمخالفة ما لا يفيد علماً للفتنة والعذاب الأليم ، فإن هذا إنما يكون بعد قيام الحجة القاطعة التي لا يبقى معها لمخالف أمره عذر .
                      الخامسة عشرة/ قوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ ) إلى قوله ( وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) ووجه الاستدلال أنه أمر أن يرد ما تنازع فيه إلى الله ورسوله ، والرد إلى الله هو الرد إلى كتابه ، والرد إلى رسوله هو الرد إليه في حياته وإلى سنته بعد وفاته . فلولا أن المردود إليه يفيد العلم وفصل النزاع لم يكن في الرد إليه فائدة ، إذ كيف يرد حكم المتنازع فيه إلى ما لا يفيد علماً البتة ولا يدرى حق هو أم باطل؟ وهذا برهان قاطع بحمد الله ، فلهذا قال من زعم أن أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تفيد علماً ؛ إنا نرد ما تنازعنا فيه إلى العقول والآراء والأقيسة فإنها تفيد العلم .
                      السادسة عشرة/ قوله تعالى (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ ) إلى قوله ( أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) ووجه الاستدلال أن كل ما حكم به رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو مما أنزل الله ، وهو ذكر من الله أنزله على رسوله ، وقد تكفل سبحانه بحفظه ، فلو جاز على حكمه الكذب والغلط والسهو من الرواة ، ولم يقم دليل على غلطه وسهو ناقله لسقط حكم ضمان الله وكفالته لحفظه ، وهذا من أعظم الباطل ، ونحن لا ندعي عصمة الرواة ، بل نقول: إن الراوي إذا كذب أو غلط أو سها فلا بد أن يقوم دليل على ذلك ، ولابد أن يكون في الأمة من يعرف كذبه وغلطه ليتم حفظه لحججه وأدلته ، ولا تلتبس بما ليس منها ، فإنه من حكم الجاهلية بخلاف من زعم أنه يجوز أن تكون كل هذه الأخبار والأحكام المنقولة إلينا آحاداً كذباً على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وغايتها أن تكون كما قاله من لا علم عنده إن نظن إلا ظنا ، وما نحن بستيقنين .
                      السابعة عشرة/ ما احتج به الشافعي نفسه فقال: أخبرنا سفيان عن عبدالملك بن عمير عن أبيه عن عبدالله بن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (( نضر الله عبداً سمع مقالتي فحفظها ووعاها وأداها ، فرب حامل فقه إلى غير فقيه ، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه ، ثلاث لا يغل عليهن قلب مسلم: إخلاص العمل لله ، والنصيحة للمسلمين ، ولزوم جماعتهم . فإن دعوتهم تحيط من ورائهم )) . قال الشافعي: فلما ندب رسول الله صلى الله عيه وسلم إلى استماع مقالته وحفظها وأدائها أمر أن يؤديها ولو واحد ، دل على أنه لا يأمر من يؤدي عنه إلا ما تقوم به الحجة على من أدى إليه ؛ لأنه إنما يؤدي عنه حلال يؤتى ، وحرام يجتنب وحد يقام ومال يؤخذ ويعطى ، ونصيحة في دين ودنيا ، ودل على أنه قد يحمل الفقه غير الفقيه يكون له حافظاً ولا يكون فيه فقيهاً ، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بلزوم جماعة المسلمين مما يحتج به في أن إجماع المسلمين لازم . انتهى . والمقصود أن خبر الواحد العدل لو لم يفد علماً لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا يقبل من أدى إليه إلا من عدد التواتر الذي لا يحصل العلم إلا بخبرهم ، ولم يدع للحامل المؤدي وإن كان واحداً ؛ لأن ما حمله لا يفيد العلم ، فلم يفعل ما يستحق الدعاء وحده إلا بانضمامه إلى أهل التواتر ، وهذا خلاف ما اقتضاه الحديث . ومعلوم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما ندب إلى ذلك وحث عليه وأمر به لتقوم الحجة على من أدى إليه ، فلو لم يفد العلم لم يكن فيه حجة.
                      الثامنة عشرة/ حديث أبي رافع الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (( لا ألفين أحداً منكم متكئاً على أريكته يأتيه الأمر من أمري يقول: لا ندري ما هذا ، بيننا وبينكم القرآن ، ألا وإني أوتيت الكتاب ومثله معه )) ووجه الاستدلال أن هذا نهي عام لكل من بلغه حديث صحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخالفه أو يقول لا أقبل إلا القرآن ، بل هو أمر لازم ، وفرض حتم بقبول أخباره وسننه ، وإعلام منه صلى الله عليه وسلم أنه من الله أوحاها إليه ، فلو لم تفد علماً لقال: من بلغته إنها أخبار آحاد لا تفيد علماً فلا يلزمني قبول ما لا علم لي بصحته ، والله تعالى لم يكلفني العلم بما لم أعلم صحته ولا اعتقاده ، بل هذا بعينه هو الذي حذر منه رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته ونهاهم عنه ، ولما علم أن في هذه الأمة من يقول حذرهم منه ، فإن القائل إن أخباره لا تفيد العلم هكذا يقول سواه لا ندري ما هذه الأحاديث ، وكان سلف هؤلاء يقولون بيننا وبينكم القرآن وخلفهم يقولون: بيننا وبينكم أدلة العقول ، وقد صرحوا بذلك وقالوا: نقدم العقول على هذه الأحاديث ، آحادها ومتواترها ، ونقدم الأقيسة عليها .
                      التاسعة عشرة/ ما رواه مالك عن إسحاق بن عبدالله بن أبي طلحة عن أنس بن مالك قال: كنت أسقي أبا عبيدة بن الجراح وأبا طلحة الأنصاري وأبي بن كعب شراباً من فضيخ ، فجاءهم آت فقال: إن الخمر قد حرمت ، فقال أبو طلحة: قم يا أنس إلى هذه الجرار فاكسرها ، فقمت إلى مهراس لنا فضربتها بأسفلها حتى كسرتها . ووجه الاستدلال أن أبا طلحة أقدم على قبول خبر التحريم حيث ثبت به التحريم لما كان حلالاً ، وهو يمكنه أن يسمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم شفاها ، وأكد ذلك القبول بإتلاف الإناء وما فيه ، وهو مال ، وما كان ليقدم على إتلاف المال بخبر من لا يفيده خبره العلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ورسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنبه ، فقام خبر ذلك الآتي عنده وعند من معه مقام السماع من رسول الله صلى الله عليه وسلم بحيث لم يشكوا ولم يرتابوا في صدقه ، والمتكلفون يقولون إن مثل ذلك الخبر لا يفيد العلم لا بقرينة ولا بغير قرينة .
                      العشرون/ إن خبر الواحد لو لم يفد العلم لم يثبت به الصحابة التحليل والتحريم والإباحة والفروض ، ويجعل ذلك ديناً يدان به في الأرض إلى آخر الدهر . فهذا الصديق رضي الله عنه زاد في الفروض التي في القرآن فرض الجدة وجعله شريعة مستمرة إلى يوم القيامة بخبر محمد بن مسلمة والمغيرة بن شعبة فقط ، وجعل حكم ذلك الخبر في إثبات هذا الفرض حكم نص القرآن في إثبات فرض الأم ، ثم اتفق الصحابة والمسلمون بعدهم على إثباته بخبر الواحد . وأثبت عمر بن الخطاب بخبر حمل ابن مالك دية الجنين وجعلها فرضاً لازماً للأمة ، وأثبت ميراث المرأة من دية زوجها بخبر الضحاك بن سفيان الكلابي وحده ، وصار ذلك شرعاً مستمراً إلى يوم القيامة . وأثبت شريعة عامة في حق المجوس بخبر عبدالرحمن بن عوف وحده . وأثبت عثمان بن عفان شريعة عامة في سكنى المتوفى عنها بخبر قريعة بنت مالك وحدها ، وهذا أكثر من أن يذكر ، بل هو إجماع معلوم منهم ، ولا يقال على هذا إنما يدل على العمل بخبر الواحد في الظنيات ، ونحن لا ننكر ذلك لأنا قد قدمنا أنهم أجمعوا على قبوله والعمل بموجبه ، ولو جاز أن يكون كذباً أو غلطاً في نفس الأمر لكانت الأمة مجمعة على قبول الخطأ والعمل به ، وهذا قدح في الدين والأمة .
                      الحادية والعشرون/ إن الرسل صلوات الله وسلامه عليهم كانوا يقبلون خبر الواحد ويقطعون بمضمونه ، فقبله موسى من الذي جاء من أقصى المدينة قائلاًَ له: إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك ، فجزم بخبره وخرج هارباً من المدينة ، وقبل خبر بنت صاحب مدين لما قالت: إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا ، وقبل خبر أبيها في قوله: هذه ابنتي وتزوجتها بخبره .
                      وقبل يوسف الصديق خبر الرسول الذي جاءه من عند الملك وقال: ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة . وقبل النبي صلى الله عليه وسلم خبر الآحاد الذين كانوا يخبرونه بنقض عهد المعاهدين له وغزاهم بخبرهم ، واستباح دماءهم وأموالهم وسبي ذراريهم . ورسل الله صلواته وسلامه عليهم لم يرتبوا على تلك الأخبار أحكامها ، وهم يجوزون أن تكون كذباً وغلطاً ، وكذلك الأمة لم تثبت الشرائع العامة الكلية بأخبار الآحاد ، وهم يجوزون أن يكون كذباً على رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفس الأمر ، ولم يخبروا عن الرب تبارك وتعالى في أسمائه وصفاته وأفعاله بما لا علم لهم به ، بل يجوز أن يكون كذباً وخطأ في نفس الأمر ، هذا مما يقطع ببطلانه كل عالم مستبصر .
                      الثانية والعشرون/ إن خبر العدل الواحد المتلقى بالقبول لو لم يفد العلم لم تجز الشهادة على الله ورسوله بمضمونه ، ومن المعلوم المتيقن أن الأمة من عهد الصحابة إلى الآن لم تزل تشهد على الله وعلى رسوله بمضمون هذه الأخبار جازمين بالشهادة في تصانيفهم وخطابهم ، فيقولون شرع الله كذا وكذا على لسان رسوله صلى الله ، فلو لم يكونوا عالمين بصدق تلك الأخبار جازمين بها لكانوا قد شهدوا بغير علم وكانت شهادة زور ، وقولاً على الله ورسوله بغير علم ، ولعمر الله هذا حقيقة قولهم ، وهم أولى بشهادة الزور من سادات الأمة وعلمائها .

                      المصدر الثاني / تقديم العقل على النقل ، وجعل العقل هو الأصل والنقل هو التبع ، هذا فيما يعتبرونه من النقل وهو القرآن والأحاديث المتواترة دون أحاديث الآحاد كما تقدم .
                      ذكر هذا الأصل الرازي في مواطن من كتبه مثل : أساس التقديس، والمطالب العالية، ولباب الأربعين، ونهاية العقول، لكن ليعلم أنه لم ينفرد به فهو موجود عند أسلافه من المعتزلة والأشاعرة كالجويني في الارشاد ص359 لكن غاية ما من فعله أنه ينظر ويقعد. وإليك نص هذا القانون الكلي : قال في أساس التقديس ص172-173 :
                      [ اعلم أن الدلائل القطعية إذا قامت على ثبوت شيء، ثم وجدنا أدلة نقلية يشعر ظاهرها بخلاف ذلك فهناك لا يخلو الحال من أحد أمور أربعة إما أن يصدق مقتضى العقل والنقل فيلزم تصديق النقيضين وهو محال. وإما أن تكذب الظواهر النقلية، وتصدق الظواهر العقلية. وإما أن تصدق الظواهر النقلية وتكذب الظواهر النقلية وذلك باطل، لأنه لا يمكننا أن نعرف صحة الظواهر النقلية إلا إذا عرفنا بالدلائل العقلية إثبات الصانع وصفاته وكيفية دلالة المعجزة على صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم وظهور المعجزات على يد محمد صلى الله عليه وسلم. ولو صار القدح في الدلائل العقلية القطعية صار العقل متهماً غير مقبول القول، ولو كان كذلك لخرج عن أن يكون مقبول القول في هذه الأصول، وإذا لم تثبت هذه الأصول خرجت الدلائل النقلية عن كونها مفيدة. فثبت أن القدح في العقل لتصحيح النقل يفضي إلى القدح في العقل والنقل معاً وأنه باطل. ولما بطلت الأقسام الأربعة لم يبق إلا أن يقطع بمقتضى الدلائل العقلية القاطعة بأن هذه الدلائل النقلية : إما أن يقال : إنها غير صحيحة، إلا أن المراد منها غير ظواهرها ؛ ثم إن جوزنا التأويل اشتغلنا على سبيل التبرع بذكر تلك التأويلات على التفصيل، وإن لم يجز التأويل فوضنا العلم بها إلى الله تعالى. فهذا هو القانون الكلي المرجوع إليه في جميع المتشابهات، وبالله التوفيق ا.هـ.
                      فهنا أربع احتمالات : إما أن يصدقهما وهذا لا يصح لأنهما متناقضان، أو يكذبهما وهذا لا يصح لأنهما متناقضان، وإما أن يقدم النقل وهذا لا يصح على قوله لأن العقل أصل في معرفة النقل، وإما أن يقدم العقل وهذا هو الصحيح. وقد أطال ابن تيمية الرد على هذا القانون كما في كتاب درء تعارض العقل والنقل، وابن القيم في كتاب الصواعق المرسلة.
                      وخلاصة الأدلة في نقض هذا القانون الكلي ما يلي : -
                      1- القطعي مقدم على الظني عند التعارض سواء كان عقلياً أو سمعيا ً، وليس هناك دليل يدل على أن كل عقلي قطعي وكل سمعي ظني بل متى ما كان أحدهما قطعياً قدم على الآخر فمن ثم يتبين أن القسمة الرباعية على وجه الحصر خطأ، بل يزاد أمر خامس وهو أنه تارة يقدم العقلي إذا كان قطعياً وتارة النقلي إذا كان قطعياً.
                      2- قولهم : قدم العقل لأنه أصل النقل غير صحيح، إذ يقال : هل يريدون بذلك أن العقل أصل في ثبوت النقل في نفس الأمر، أو أصل في علمنا بالصحة ؟ أما الأول قطعاً أنه خطأ غير مراد إذ عدم العلم بالشيء لا يدل على العدم. أما إن أرادوا أنه أصل في علمنا بالصحة، فيقال لهم ماذا تريدون بالعقل أتعنون به القدرة الغريزية التي فينا أم العلوم المستفادة بهذه القوة الغريزية ولا شك أن القوة الغريزية غير مرادة لأنها ليست علماً يتصور، فلم يبق إلا العلوم المستفادة ومن المعلوم أن هذه العلوم المستفادة منه ما ليس له صلة بالسمعيات كالحساب ومنه ما له صلة وهو صدق الرسول و ثبوت نبوته فمن ثم يعلم أن قول العقل أصل النقل خطأ.
                      3- من أقر بالنبوة لن يجعلها معارضة بل سيقدمها، وإلا فهو مكذب للنبوة لأنه سيقدم العقل على خبر النبي وهذا تكذيب للنبي الذي هو تكذيب به.
                      4- بين - رحمه الله - أنهم سموا الأدلة بغير اسمها فقالوا : عقلي وسمعي والصواب أن يقولوا : شرعي وغير شرعي لأن الأدلة الشرعية منها ما هو سمعي، ومنها ما هو عقلي، ومنها ما هو عقلي وسمعي في آن واحد، فكأن هؤلاء يقولون نقدم الدليل البدعي على الدليل الشرعي، وهذا كفر، لأن واقعه معارضة خبر الرسول بخبر غير الرسول صلى الله عليه وسلم.
                      5- أن العقول تتفاوت في إدراكها ومعرفتها بل عقل الرجل الواحد يتفاوت فكيف بعقول الناس. وصدق الله القائل : (وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً). وقال مطرف بن الشخير : لو كانت هذه الأهواء هوى واحداً، لقال قائل : الحق فيه. فلما تشعبت فاختلفت عرف كل ذي عقل أن الحق لا يتفرق.
                      6- لا نسلِّم أصلاً بوجود التعارض، لأن الشرع يأمر بالحق، والعقل الصحيح يدل على الحق وما يدلان على الحق لا يتعارض إلا إذا كان في أحدهما خطأ، لذا قال تعالى (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ )

                      المصدر الثالث /أنه لا بد من تأويل نصوص الأسماء والصفات لأن ظاهرها التشبيه وهو كفر .
                      قال السنوسي في كتابه ( شرح عقيدة أهل التوحيد الكبرى ص 502) وأما من زعم أن الطريق بدأ إلى معرفة الحق الكتاب والسنة ويحرم ما سواهما ، فالرد عليه أن حجيتهما لا تعرف إلا بالنظر العقلي ، وأيضاً فقد وقعت فيهما ظواهر من اعتقدها على ظاهرها كفر عند جماعة وابتدع ا.هـ
                      وقال أيضاً : أصول الكفر ستة .. - ثم عد خمسة وقال - سادساً : التمسك في أصول العقائد بمجرد ظواهر الكتاب والسنة من غير عرضها على البراهين العقلية والقواطع الشرعية ، للجهل بأدلة العقول ، وعدم الارتباط بأساليب العرب . والتمسك في أصول العقائد بمجرد ظواهر الكتاب والسنة من غير بصيرة في العقل هو أصل ضلالة الحشوية فقالوا بالتشبيه والتجسيم والجهة عملاً بظاهر قوله تعالى ( الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) ( أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ ) ( لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ) ونحوها ا.هـ

                      قال في متن الجوهرة الأشعري :
                      وكل نص أوهم التشبيها أوله أو فوض ورم تنزيها
                      وقال الباجوري في شرحه للجوهرة ص 149: والمراد من التشبيه - في هذا الموطن - المشابهة للحوادث ، ومحل الشبهة أن ظاهر النصوص يوهم أن لله تعالى مكاناً أو جارحة ا.هـ
                      وقد مشى على هذا الأصل عملياً ابن فورك في كتابه مشكل الحديث فقال في عدة مواضع : ذكر خبر مما يقتضي التأويل ويوهم ظاهره التشبيه .
                      وهذا الأصل فاسد وقد رده أئمة الإسلام منهم الإمام ابن تيمية إذ قال في مجموع الفتاوى (3/43): فإن كان القائل يعتقد أن ظاهرها التمثيل بصفات المخلوقين أو ما هو من خصائصهم فلا ريب أن هذا غير مراد ولكن السلف والأئمة لم يكونوا يسمون هذا ظاهرها ولا يرتضون أن يكون ظاهرالقرآن والحديث كفرا وباطلا والله سبحانه وتعالى أعلم وأحكم من ان يكون كلامه الذى وصف به نفسه لا يظهر منه إلا ما هو كفر أو ضلال والذين يجعلون ظاهرها ذلك يغلطون من وجهين:
                      تارة يجعلون المعنى الفاسد ظاهر اللفظ حتى يجعلوه محتاجا إلى تأويل يخالف الظاهر ولا يكون كذلك وتارة يردون المعنى الحق الذى هو ظاهر اللفظ لاعتقادهم أنه باطل ا.هـ
                      وقال الأمين الشنقيطي في تفسيره الأضواء (2/285): اعلم أولاً أنه غلط في خلق لا يحصى كثرة من المتأخرين فزعموا أن الظاهر المتبادر السابق إلى الفهم من معنى الاستواء واليد مثلا في الآيات القرآنية هو مشابهة صفات الحوادث وقالوا يجب علينا أن نصرفه عن ظاهره إجماعاً لأن اعتقاد ظاهره كفر لأن من شبه الخالق بالمخلوق فهو كافر ولا يخفى على أدنى عاقل أن حقيقة معنى هذا القول أن الله وصف نفسه في كتابه بما ظاهره المتبادر منه السابق إلى الفهم الكفر بالله والقول فيه بما لا يليق به جل وعلا ، والنبي  الذي قيل له ( وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ) لم يبين حرفاً واحداً من ذلك مع إجماع من يعتد به من العلماء على أنه  لا يجوز في حقه تأخير البيان عن وقت الحاجة إليه وأحرى في العقائد ولا سيما ما ظاهره المتبادر منه الكفر والضلال المبين حتى جاء هؤلاء الجهلة من المتأخرين فزعموا أن الله أطلق على نفسه الوصف بما ظاهره المتبادر منه لا يليق والنبي  كتم أن ذلك الظاهر المتبادر كفر وضلال يجب صرف اللفظ عنه وكل هذا من تلقاء أنفسهم من غير اعتماد على كتاب أو سنة سُبْحَانَكَ هَاذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ
                      ولا يخفى أن هذا القول من أكبر الضلال ومن أعظم الافتراء على الله جل وعلا ورسوله  والحق الذي لا يشك فيه أدنى عاقل أن كل وصف وصف الله به نفسه أو وصفه به رسوله  .
                      فظاهره المتبادر منه السابق إلى فهم من في قلبه شيء من الإيمان هو التنزيه التام عن مشابهة شيء من صفات الحوادث ، فبمجرد إضافة الصفة إليه جل وعلا يتبادر إلى الفهم أنه لا مناسبة بين تلك الصفة الموصوف بها الخالق وبين شيء من صفات المخلوقين وهل ينكر عاقل أن السابق إلى الفهم المتبادر لكل عاقل هو منافاة الخالق للمخلوق في ذاته وجميع صفاته لا والله لا ينكر ذلك إلا مكابر ا.هـ
                      وقد رد هذا الأصل البدعي ونقضه شيخنا العلامة محمد بن صالح العثيمين -رحمه الله- في كتابه القواعد المثلى ص40 من خمسة أوجه ضمنها تدليلات شرعية وعقلية ولوازم لا محيص ولا محيد عنها .



                      الفرق بين الأشاعرة المتأخرين وأبي الحسن الأشعري

                      ينتسب الأشاعرة في الاعتقاد إلى أبي الحسن الأشعري ، وواقع الحال يكذب هذه النسبة ويبين الفرق بين أبي الحسن الأشعري والأشاعرة ، وقبل أن أشرع في ذكر بعض الفروق العقدية بين أبي الحسن الأشعري والأشاعرة إليك شيئاً من كلام أبي الحسن الأشعري به يتبين حقيقة اعتقاده :
                      قال - رحمه الله - في كتابه مقالات الإسلاميين (1/345) مبيناً عقيدة أهل السنة والجماعة أهل الحديث بياناً مجملاً مع التصريح بأنه يعتقده ويدين الله به : هذه حكاية جملة قول أصحاب الحديث وأهل السنة :
                      جملة ما عليه أهل الحديث والسنة : الإقرار بالله وملائكته وكتبه ورسله ، وما جاء من عند الله وما رواه الثقات عن رسول الله  لا يردون من ذلك شيئا وأن الله سبحانه إله واحد فرد صمد لا اله غيره لم يتخذ صاحبة ولا ولداً وأن محمدا عبده ورسوله وأن الجنة حق وأن النار حق وان الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور .
                      وان الله سبحانه على عرشه كما قال ( الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) وأن له يدين بلا كيف كما قال ( خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ) وكما قال ( بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ ) وأن له عينين بلا كيف كما قال ( تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا) وأن له وجها كما قال ( وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ) - ثم قال - ويقرون بأن الإيمان قول وعمل ، يزيد وينقص - ثم قال -
                      ويصدقون بالأحاديث التي جاءت عن رسول الله  أن الله سبحانه ينزل إلى السماء الدنيا فيقول هل من مستغفر؟ كما جاء في الحديث عن رسول الله  ويأخذون بالكتاب والسنة كما قال الله عز وجل ( فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ) ويرون اتباع من سلف من أئمة الدين وأن لا يبتدعوا في دينهم ما لم يأذن به الله - ثم قال - وبكل ما ذكرنا من قولهم نقول واليه نذهب وما توفيقنا إلا بالله وهو حسبنا ونعم الوكيل وبه نستعين وعليه نتوكل واليه المصير ا.هـ
                      وقال في رسالته لأهل الثغر ص210: وأجمعوا على إثبات حياة الله عز وجل لم يزل بها حيا وعلما لم يزل به عالما وقدرة لم يزل بها قادرا وكلاما لم يزل به متكلما وإرادة لم يزل بها مريدا وسمعا وبصرا لم يزل به سميعا بصيرا وقال : وأجمعوا على أنه عز وجل يسمع ويرى وأن له تعالى يدين مبسوطتين وأن الأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه من غير أن يكون جوارحا وأن يديه تعالى غير نعمته
                      وقد دل على ذلك تشريفه لآدم عليه السلام حيث خلقه بيده وتقريعه لإبليس على الاستكبار عن السجود مع ما شرفه به بقوله ( ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي )
                      وقال : وأجمعوا على أنه عز وجل يجيء يوم القيامة والملك صفا صفا لعرض الأمم وحسابها وعقابها وثوابها فيغفر لمن يشاء من المذنبين ويعذب منهم من يشاء
                      وقال: وأنه تعالى فوق سمواته على عرشه دون أرضه وقد دل على ذلك بقوله ( أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض ) وقال ( إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه )وقال ( الرحمن على العرش استوى ) وليس استواؤه على العرش استيلاء كما قال أهل القدر لأنه عز وجل لم يزل مستوليا على كل شيء ا.هـ
                      وقال في الإبانة ص20 : قولنا الذي نقول به وديانتنا التي ندين بها التمسك بكتاب الله ربنا عز وجل وبسنة نبينا محمد  وما روى عن السادة الصحابة والتابعين وأئمة الحديث ونحن بذلك معتصمون وبما كان يقول به أبو عبدالله أحمد بن محمد بن حنبل نضر الله وجهه ورفع درجته وأجزل مثوبته قائلون ولما خالف قوله مخالفون لأنه الإمام الفاضل والرئيس الكامل الذي أبان الله به الحق ودفع به الضلال وأوضح به المنهاج وقمع به بدع المبتدعين وزيع الزائغين وشك الشاكين فرحمة الله عليه من إمام مقدم وجليل معظم وكبير مفهم- ثم قال- وأن له سبحانه وجها بلا كيف كما قال ( ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام )
                      وأن له سبحانه يدين بلا كيف كما قال سبحانه ( خلقت بيدي )
                      وكما قال ( بل يداه مبسوطتان )
                      وأن له سبحانه عينين بلا كيف كما قال سبحانه ( تجري بأعيننا ) ا.هـ
                      مما تقدم يتضح الفرق الكبير بين معتقد أبي الحسن الأشعري ومعتقد الأشاعرة الذي سبق ذكر شيء منه ، ومزيداً على ما تقدم فإن الأشاعرة لا يثبتون اليدين لله بل يؤولون اليد بالنعمة . قال ابن فورك في مشكل الحديث وبيانه ص 188: واعلم أنه ليس ينكر استعمال لفظ اليد على معنى النعمة ، وكذلك استعماله على معنى الملك والقدرة ا.هـ
                      وهذا التأويل قد أنكره أبو الحسن الأشعري بعينه كما تقدم .
                      ولا يثبت الأشاعرة المجيء لله حقيقة بل يؤولونه كما قال الرازي في أساس التقديس ص 103: المراد هل ينظرون إلا أن تأتيهم آيات الله ، فجعل مجيء آيات الله مجيئاً له على التفخيم لشأن الآيات ، كما يقال: جاء الملك إذا جاء جيش عظيم من جهته . أو يكون المراد : هل ينظرون إلا أن يأتيهم أمر الله ... أما قوله ( وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً) إما وجاء أمر ربك ، أو جاء قهر ربك . كما يقال : جاءنا الملك القاهر إذا جاء عسكره ، أو جاء ظهور معرفة الله تعالى بالضرورة في ذلك اليوم ، فصار ذلك جارياً مجرى مجيئه وظهوره ا.هـ
                      ولا يثبت الأشاعرة الاستواء بل يؤولونه بالاستيلاء ، قال الرازي كما في أساس التقديس ص 156 والآمدي كما في غاية المرام ص141: إن معنى الاستواء : الاستيلاء والقهر ونفاذ القدر وجريان الأحكام الإلهية ا.هـ وهذا التأويل قد أنكره أيضاً أبو الحسن الأشعري بعينه كما تقدم .
                      ولا يثبت الأشاعرة الوجه لله بل يتأولونه بالذات ، قال البغدادي في أصول الدين ص 110: والصحيح عندنا أن وجهه ذاته ا.هـ
                      وتأول الأشاعرة العينين فقال الجويني في الإرشاد ص155: المراد منها البصر . وقال البغدادي في أصول الدين ص109: المراد منها الرؤية والعلم . وقال الرازي في أساس التقديس ص121: المراد منها العناية والحراسة ا.هـ

                      مما تقدم يتبين لك براءة أبي الحسن الأشعري من كثير من التأويلات التي أصبحت من مسلمات الاعتقاد عند الأشاعرة ، و سلفهم فيها المعتزلة الذين يعلن الأشاعرة في كتبهم تبديعهم وعداءهم ، قال الإمام ابن تيمية في الفتاوى (12/203): فمن قال أن الأشعري كان ينفيها وأن له في تأويلها قولين فقد افترى عليه ، ولكن هذا فعل طائفة من متأخري أصحابه كأبي المعالي ونحوه ، فان هؤلاء أدخلوا في مذهبه أشياء من أصول المعتزلة ا.هـ
                      وقال في مجموع الفتاوى (5/23): وهذه التأويلات الموجودة اليوم بأيدي الناس مثل أكثر التأويلات التي ذكرها أبو بكر بن فورك في كتاب التأويلات وذكرها أبو عبد الله محمد بن عمر الرازي في كتابه الذي سماه ( تأسيس التقديس ) ويوجد كثير منها في كلام خلق كثير غير هؤلاء مثل أبى على الجبائي وعبدالجبار بن أحمد الهمدانى وأبى الحسين البصري وأبى الوفاء بن عقيل وأبى حامد الغزالى وغيرهم هي بعينها تأويلات بشر المريسي التي ذكرها في كتابه وإن كان قد يوجد في كلام بعض هؤلاء رد التأويل وإبطاله أيضا ولهم كلام حسن في أشياء .
                      فإنما بينت أن عين تأويلاتهم هي عين تأويلات بشر المريسي ويدل على ذلك كتاب الرد الذي صنفه عثمان بن سعيد الدارمي أحد الأئمة المشاهير في زمان البخاري صنف كتابا سماه ( رد عثمان بن سعيد على الكاذب العنيد فيما افترى على الله في التوحيد ) حكى فيه هذه التأويلات بأعيانها عن بشر المريسي بكلام يقتضى أن المريسى أقعد بها وأعلم بالمنقول والمعقول من هؤلاء المتأخرين الذين اتصلت إليهم من جهته وجهة غيره ثم رد ذلك عثمان بن سعيد بكلام إذا طالعه العاقل الذكى علم حقيقة ما كان عليه السلف وتبين له ظهور الحجة لطريقهم وضعف حجة من خالفهم ،ثم إذا رأى الأئمة أئمة الهدى قد أجمعوا على ذم المريسية وأكثرهم كفروهم أو ضللوهم وعلم أن هذا القول الساري في هؤلاء المتأخرين هو مذهب المريسي تبين الهدى لمن يريد الله هدايته ولا حول ولا قوة إلا بالله ا.هـ
                      فهلا اعتبر بهذا أشاعرة اليوم وتركوا هذه التأويلات الاعتزالية ، ورجعوا إلى ما عليه السلف الصالح متبعين في ذلك أبا الحسن الأشعري الذي أعلن رجوعه إلى مذهب السلف كما تقدم نقله معرضين عن كل من خالف منهج السلف سواء كان أبا الحسن الأشعري أو غيره في تفصيل ما عليه السلف .
                      و سبحانك اللهم و بحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك و أتوب إليك.


                      وكتبه أفقر خلق الله إلى عفوه
                      أبوجهاد سمير الجزائري

                      تعليق


                      • #12
                        الحلقة
                        (10)


                        المنتقى من"موقف ابن تيمية من الأشاعرة"
                        (رسالة دكتوراه)

                        الحلقة (3):
                        لأبي جهاد سمير الجزائري
                        الصفات التي نفاها الأشاعرة أو تأولوها:


                        سبق في بداية الفصل تفصيل أقوال الأشاعرة في الصفات التي نفوها أو أولوها، مع بيان الفرق بين متقدميهم ومتأخريهم في هذا الباب:
                        1- فقد تبين أن جميع الأشاعرة ينفون الصفات الاختيارية عن الله وأنه لا فرق في ذلك بين متقدميهم ومتأخريهم.
                        2- كما أن أقوالهم في كلام الله والقرآن مرتبطة بهذه المسألة.
                        3- كما تبين أن الصفات الخبرية أثبتها المتقدمون وتأولها المتأخرون.
                        4- وكذا العلو والاستواء.
                        والذي استقر عليه المذهب الأشعري تأويل ماعدا الصفات السبع التي أثبتوها ( )، وقد كان جل اهتمام شيخ الإسلام منصباً على هؤلاء، وكثيرا ما يرد عليهم بأقوال شيوخهم المتقدمين، كما هو واضح في منهجه.
                        وخطة هذا المبحث يمكن عرضها من خلال المسائل التالية:
                        المسألة الأولى: بيان حجج الأشاعرة العامة على ما نفوه من الصفات والعلو، وبيان مناقشة شيخ الإسلام لهذه الحجج.
                        المسألة الثانية: بيان القواعد العامة في ردود شيخ الإسلام على الأشاعرة فيما نفوه من الصفات. ثم مناقشتهم تفصيلا في:
                        المسألة الثالثة: الصفات الإختيارية [ومسألة حلول الحوادث].
                        المسألة الرابعة: الصفات الخبرية.
                        المسألة الخامسة: العلو.
                        المسألة السادسة: كلام الله.
                        ويلاحظ أن بعض هذه المناقشات ستتم الإحالة – منها – على ما سبق ذكره في الفصول والمباحث السابقة.

                        المسألة الأولى: حجج الأشاعرة العامة على ما نفوه من الصفات والعلو، ومناقشتها:

                        لم يكن نفي الأشاعرة لبعض الصفات أو للعلو بناء على موقفهم من نص من نصوص الصفات أو العلو، رأوا أنه لا بد من تأويله، أو أن دلالته غير واضحة، أو غير ذلك من الأمور المتعلقة بتفاصيل الأدلة، وإنما كان نفيهم لذلك وتأويله بناء على أدلة عقلية رأوا أنها دالة على وجوب النفي، وضرورة اللجوء إلى التأويل، ثم أثر تصحيحهم لهذه الأدلة العقلية على موقفهم من الأدلة والنصوص مفصلة.
                        ويمكن عرض أدلتهم كما يلي:

                        أولاً: أدلتهم وحججهم العقلية:

                        وقد ذكر شيخ الإسلام أن جماع أدلتهم حجتان أو ثلاث ( ):
                        أ‌- حجة الأعراض، والاستدلال بها على حدوث الموصوف بها أو ببعضها كالحركة والسكون، وهذه الحجة مبنية على أن ما لا يخلو من الحوادث فهو حادث، وعلى امتناع حوادث لا أول لها. وهذا هو دليل حدوث الأجسام الذي سبق توضيحه ( ).
                        فهؤلاء نفوا الصفات الاختيارية عن الله تعالى بناء على أن إثبات ذلك يقتضي أن يكون الموصوف جسما، وهذا ممتنع لأن الدليل على إثبات الصانع إنما هو حدوث الأجسام، ولو أثبت الله الصفات لاقتضى ذلك أن جسم قديم، فلا يكون كل جسم حادثا فيبطل دليل إثبات حدوث العالم والعلم بالصانع ( ).
                        ب‌- حجة التجسيم والتركيب، حيث زعموا أن إثبات بعض الصفات كالوجه واليدين، أو الإستواء، أو العلو، أو النزول، أو غيرها، يلزم منه التجسيم، أو التركيب، وبنوا نفي الجسم على أن الأجسام متماثلة فيلزم من إثباتها أن يكون الله مثل الأجسام. كما بنوا نفي التركيب على أنه لا بد له من مركب، وعلى أن المركب مفتقر إلى جزئه.
                        وأصل هذه الشبهة – شبهة التركيب – جاء من عند الفلاسفة والمعتزلة الذين قالوا: إن إثبات الصفات كالسمع والبصر والكلام والقدرة يلزم منه أن يكون مركبا من الذات والصفات ( ).
                        ج‌- حجة الاختصاص، وخلاصتها أنهم قالوا: إن أجزاء العالم مفتقرة إلى ما يخصصها بما لها من الصفات الجائزة لها، وكل ما كان كذلك فهو محدث. وبنوا ذلك إما على تناهي الأجسام وأنه لا بد لها من شكل معين ومقدار معين، أو على اجتماع الأجسام وافتراقها بناء على مسألة الجواهر الفرد. وقالوا كل ما كان مفتقرا إلى المخصص فهو محدث، فالأجسام والجواهر حادثة ( ). ثم قال هؤلاء إن اختصاص الباري بالقدر والحد يقتضي مخصصا، واختصاصه بالجهة يقتضي مخصصا، وهذا باطل.
                        فهذه الحجج الثلاث مبنية على نفي الجسم، وهناك حجة رابعة لا تبني عليه وهي حجة الكمال والنقصان وسيأتي بيانها – إن شاء الله – في مسألة الصفات الاختيارية التي تقوم بالله، أو ما يسمى بحلول الحوادث، لأن هذه الحجة خاصة بها.

                        ثانياً: موقفهم من أدلة السمع المثبتة للصفات:

                        وقد بنوا ذلك على أدلتهم العقلية، السابقة، حيث إنهم قالوا بتقديم العقل على السمع عند التعارض، ومن ثم كان خلاصة موقفهم من الأدلة السمعية التي جاءت بإثبات الصفات التي نفوها أو أولوها:
                        أ‌- من ناحية الثبوت – قالوا عن أخبار الآحاد إنها لا يحتج بها في العقيدة.
                        ب‌- من ناحية الدلالة – وذلك في مثل دلالة القرآن – الذي لا يشك أحد في ثبوته – أو الحديث عند من يرى الاحتجاج به في العقائد – فقد قالوا فيها إنها من المتشابه، وحينئذ فسبيلها أحد أمرين:
                        - إما التفويض.
                        - أو التأويل عن طريق المجاز وغيره.
                        هذه خلاصة حججهم العامة في باب الصفات، وهي كما يلاحظ بنيت على أدلة العقول، وتشبيه الله بخلقه، حيث صاروا يحكمون عليه تعالى وعلى صفاته بما يحكمون به على مخلوقاته، فأدى بهم هذا التشبيه إلى التعطيل.

                        مناقشة هذه الأدلة:

                        أولاً: مناقشة الأدلة العقلية:

                        الدليل الأول: دليل الأعراض وحدوث الأجسام:

                        أما دليل الأعراض وحدوث الأجسام، فقد سبق بيان فساده، وبطلان مقدماته، وأن كثيرا من الأشاعرة من المتقدمين كالأشعري، والمتأخرين كالرازي بينوا أن هذا الدليل لم تدع إليه الرسل وأن ثبات حدوث العالم لا يتوقف عليه، كما سبق الرد عليهم في استدلالهم بقصة إبراهيم الخليل وقوله: ]لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ[ (الأنعام: من الآية76)( ).

                        الدليل الثاني: دليل التركيب والتجسيم ( ):

                        وأما دليل التركيب والتجسيم، فهو من أشهر أدلتهم وأكثرها دورانا في كتبهم، وقد بين شيخ الإسلام بطلان حجتهم من خلال الوجوه التالية:

                        1- أن لفظ الجسم والتركيب فيه إجمال، وهذا الإجمال هو الذي أوقع هؤلاء في التخبط والاضطراب، والإجمال – كما يرى شيخ الإسلام – كثيرا ما يكون سببا في قول الباطل أو رد الحق، لذلك كان من أصول منهجه ومناقشاته بيان الإجمال في المصطلحات والألفاظ.
                        ومن ذلك لفظ "الجسم" و"المركب" هنا، القائل: إن إثبات الصفات، أو إثبات الاستواء أول العلو أو النزول أو الوجه أو اليدين وغيرها، يلزم منه التجسيم، أو التركيب.
                        يقال له: ما تعني بالتجسيم أو التركيب، لأن هناك أقوالاً عديدة في كل منهما:
                        فالجسم فيه أقوال:
                        - في اللغة هو البدن والجسد.
                        - وعند أهل الكلام: قيل: هو المركب من الجوهر الفرد، إما جوهران أو أربعة، أو ستة، أو ثمانية، أو ستة عشر، أو اثنان وثلاثون.
                        - وقيل: هو المركب من المادة والصورة، كما تقوله الفلاسفة.
                        - وقيل: هو الموجود أو القائم بنفسه، أو ما يمكن أن يشار عليه.
                        ولكثرة مناقشات شيخ الإسلام لهذا الإجمال في الجسم فيمكن اختيار النص التالي له، والإشارة في الحاشية إلى المواضع الأخرى التي ذكر فيها هذا الكلام أو نحوه، فإنه قال بعد أن ذكر الأقوال في الجسم: "إذا قال القائل: إن الباري تعالى جسم. قيل له: أتريد أنه مركب من الأجزاء كالذي كان متفرقا فركب؟ أو أنه يقبل التفريق، سواء قيل: اجتمع بنفسه، أو جمعه غيره؟ أو أنه من جنس شيء من المخلوقات؟ أو أنه مركب من المادة والصورة؟ أو من الجواهر المنفردة؟
                        فإن قال هذا. قيل: هذا باطل.
                        وإن قال: أريد به أنه موجود أو قائم بنفسه… أو أنه موصوف بالصفات، أو أنه يرى في الآخرة، أو أنه يمكن رؤيته، أو أنه مباين للعالم، فوقه، ونحو هذه المعاني الثابتة بالشرع والعقل.
                        قيل له: هذه معان صحيحة، ولكن اطلاق هذا اللفظ على هذا بدعة في الشرع، مخالف للغة، فاللفظ إذا حمل المعنى والحق والباطل لم يطلق، بل يجب أن يكون اللفظ مثبتا للحق نافياً للباطل.
                        وإذا ( ) قال: ليس بجسم.
                        قيل: أتريد بذلك أنه لم يركبه غيره، ولم يكن أجزاء متفرقة فركب، أو أنه لا يقبل التفريق والتجزئة كالذي ينفصل بعضه عن بعض؟ أو أنه ليس مركبا من الجواهر المنفردة، ولا من المادة والصورة، ونحو هذه المعاني.
                        أو تريد به شيئاً يستلزم نفي اتصافه بحيث لا يرى، ولا يتكلم بكلام يقوم به، ولا يباين خلقه، ولا يصعد إليه شيء، ولا ينزل منه شيء، ولا تعرج إليه الملائكة ولا الرسول، ولا ترفع إليه الأيدي، ولا يعلو على شيء، ولا يدنو منه شيء، ولا هو داخل العالم ولا خارجه، ولا مباين ولا محايث له، ونحو ذلك من المعاني السلبية التي لا يعقل أن يتصف بها إلا المعدوم.
                        فإن قال: أردت الأول:
                        قيل: المعنى صحيح، لكن المطلقون لهذا النفي أدخلوا فيه هذه المعاني السلبية، ويجعلون ما يوصف به من صفات الكمال الثبوتية مستلزمة لكونه جسما، فكل ما يذكر من الأمور الوجودية يقولون: هذا تجسيم، ولا ينتفى ما يسمونه تجسميا إلا بالتعطيل المحض؛ ولهذا كل من نفى شيئاً له قال لمن أثبته: إنه مجسم: فغلاة النفاة من الجهمية والباطنية يقولون لمن أثبت له الأسماء الحسنى: إنه مجسم. ومثبتة الأسماء دون الصفات من المعتزلة ونحوهم يقولون لمن أثبت الصفات: إنه مجسم. ومثبتة الصفات دون ما يقوم به من الأفعال الاختيارية [كالأشاعرة] يقولون لمن أثبت ذلك: إنه مجسم، وكذلك سائر النفاة.
                        وكل من نفى ما أثبته الله ورسوله بناء على أن إثباته تجسيم يلزمه فيما أثبته ( )…"( ).
                        والتفصيل في الأمور المجملة ومنها الجسم هو منهج السلف رحمهم الله تعالى، مع ترجيحهم عدم إطلاق الألفاظ والمصطلحات غير الواردة في الشرع ( ).
                        أما القول بأن الجسم مركب من المادة والصورة فهذا قول الفلاسفة وقد رده جمهور العلماء بما فيهم الأشاعرة.
                        وأما القول بأن الجسم ما ركب من جوهرين، وأن الأجسام تنتهي إلى جزء لا يتجزأ وهو الجوهر الفرد، فهذا قول جمهور الأشاعرة، وقد أبطله بعض أعلامهم – كما سبق – ( ) كما أبطله وناقشته شيخ الإسلام، وبين أن الراجح أن الأجسام تنتهي إلى الإستحالة، أي تستحيل إلى أجسام أخرى كما هو مفصل في مواضع عديدة من كتبه ( ).

                        أما "التركيب" ففيه إجمال أيضاً:
                        فالفلاسفة جعلوه خمسة أنواع: التركيب من الوجود والماهية، والتركيب من العام والخاص، والتركيب من الذات والصفات، وتركيب الجسم من الجواهر المفردة، أو من المادة والصورة ( ).
                        أما المعاني الأخرى للمركب:
                        - فقيل هو ما ركبه غيره، كما قال تعالى: ]فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ[ (الانفطار:، ويقال: ركبت الباب، وهذا هو معنى المركب في اللغة.
                        وقد يقال: المركب: ما كان مفترقا فركبه غيره، كما تركب المصنوعات من الأطعمة والثياب والأبنية، وهذا قريب من السابق.
                        - وقد يقال: المركب ماله أبعاض مختلفة كأعضاء الإنسان، وإخلاطه، وإن خلق ذلك مجتمعا.
                        - وقد يقال المركب: ما يقبل التفريق والانفصال وإن كان شيئا بسيطا كالماء.
                        - وقد يقال المركب: ما يعلم منه شيء دون شيء، كما يعلم كونه قادرا، قبل أن يعلم كونه سميعا بصيرا ( ).
                        ويلاحظ ما بين الجسم والمركب من تداخل.
                        وحينئذ فمن نفى الصفات لأجل شبهة التركيب يقال له: ما تعني بالتركيب؟ إن كنت تقصد به ما ركبه غيره، أو ما كان مفترقا فاجتمع أو ما يمكن تفريق بعضه عن بعضن فلا ريب أن هذا باطل والله منزه عنه.
                        أما إن كنت تقصد به ما تميز منه شيء عن شيء، كتميز العلم عن القدرة، وتميز ما يرىمما لا يرى، ونحو ذلك، أو ما ركب من الوجود والماهية، أو من الذات وصفاتها، فهذا حق، لكن تسمية هذا تركيبا إنما هو اصطلاح اصطلحوا عليه ليس موافقا للغة العرب، وإذا كان مثل هذا مركبا فما من موجود إلا ولا بد أن يعلم منه شيء دون شيء، والجسم الذي له صفات لا يعرف في اللغة إطلاق كونه مركبا، فإن التفاحة التي لها لون وطعم وريح، لا يعرف في اللغة إطلاق كونها مركبة من لونها وطعمها وريحها، كما لا يعلم في اللغة القول: إن الإنسان مركب من الطول والعرض، أو من حياته ونطقه…( )
                        فحجة الأشاعرة وغيرهم صارت مبنية على مثل هذه الألفاظ المجملة.
                        والتزام الألفاظ الشرعية، مع الإستفصال عن الإجمال الواقع في المصطلحات الحادثة، هو منهج السلف،وهو المذهب الحق.
                        2- إن شبهة التركيب والتجسيم التي اعتمدها جميع النفاة للصفات، سوءا كانوا نفاة لها كلها كالفلاسفة والمعتزلة، أو نفاة لبعضها كالأشاعرة – قد طعن كل فريق في أدلة الفريق الآخر عليها.
                        وهذا المنهج في الرد المبني على إثبات ردود الخصوم بعضهم على بعض ونقض كل طائفة حجج الطائفة الأخرى – هو منهج فريد، تميز به شيخ الإسلام وقد كان لما حباه الله من إطلاع واسع، وحافظة قوية، وسرعة في البديهة أثر في استحضار الأقوال والنصوص، والاحتجاج بها في مواضعها.
                        ومن الأمثلة على ردود بعض من يحتج بالتجسيم أو التركيب على بعض:
                        أ‌- أن الغزالي رد على الفلاسفة لما احتجوا بالتركيب على نفي الصفات وقالوا: متى أثبتنا معنى يزيد على مطلق الوجود كان تركيبا، وجعلوا التركيب خمسة أنواع – وقد تقدمت – فرد عليهم وقال: "ومع هذا فإنهم يقولون في الباري تعالى: إنه مبدأ، وأول، وموجود، وجوهر، وواحد، وقديم، وباق، وعالم، وعقل، وعاقل، ومعقول، وفاعل، وخالق، ومريد، وقادر، وحي، وعاشق، ومعشوق، ولذيذ،ومتلذذ،وجواد، وخير محض، فزعموا أن كل ذلك عبارة عن معنى واحد، لا كثرة فيه وهذا من العجائب"( ).
                        وقال أيضاً: "وبم عرفتم استحالة الكثرة من هذا الوجه، وأنتم مخالفون من كافة المسلمين سوى المعتزلة، فما البرهان عليه؟ فإن قول القائل: الكثرة محالة في واجب الوجود، مع كون الذات الموصوفة واحدة، يرجع إلى أنه تستحيل كثرة الصفات،وفيه النزاع، وليست استحالة معلومة بالضرورة، فلا بد من البرهان"( ). وانظر بقية كلام الغزالي، وتعليق شيخ الإسلام عليه ( ).
                        ولما ذكر الغزالي حجة الفلاسفة في نفي التركيب وأنهم قالوا: "إذا أثبتم ذاتا وصفة، وحلولا للصفة بالذات فهو تركيب، وكل تركيب يحتاج إلى مركب؛ ولذلك لم يجز أن يكون الأول جسما لأنه مركب" – قال الغزالي - : "قلنا: قول القائل: كل تركيب يحتاج إلى مركب، كقوله: كل موجود يحتاج إلى موجد – فيقال له: الأول موجود قديم، لا علة له ولا موجد، فكذلك يقال: هو موصوف قديم، العلة لذاته ولا صفاته، ولا لقيام صفته بذاته…"( )، وقد اعترض ابن رشد على كلام الغزالي في تهافت التهافت ونقله شيخ الإسلام ورد على ابن رشد وانتصر لأبي حامد في رده على الفلاسفة ( )، ثم قال مخاطبا ابن رشد: "وهذه الطريق هي التي سلكها أبو حامد في مناظرته إخوانك، وهي طريق صحيحة، وقد تبين أن ما ذكره أبو حامد عن احتجاجهم بلفظ "المركب" جواب صحيح"( ).
                        وهذه الحجة التي ردها الغزالي وهي أن المركب لا بد له من مركب هي حجة متأخرى الأشعرية على ما نفوه من الصفات والعلو.
                        ب‌- كما أن الغزالي رد على الفلاسفة في مسألة الجسم،وبين أنه لا دليل لهم على نفيه ( ) إلا بالاستدلال على حدوث الجسم، ثم إن الغزالي والأشعري وغيرهما قد بينوا فساد ما احتجت به المعتزلة على حدوث الأجسام، والرازي أيضاً بين فساد هذا الدليل في المباحث الشرقية والمطالب العالية ( )، وبذلك يتبين أنه لا دليل للفلاسفة على نفي الجسم مطلقاً.
                        يقول الغزالي في رده على الفلاسفة: "مسألة في تعجيزهم عن إقامة الدليل على أن الأول ليس بجسم، فنقول: هذا وإنما يستقيم لمن يرى أن الجسم حادث، من حيث إنه لا يخلو من الحوادث، وكل حادث فيفتقر إلى محدث، فأما أنتم إذا عقلتم جسما قديما، لا أول لوجوده، مع أنه لا يخلو من الحوادث، فلم يمتنع أ، يكون الأول جسما، إما الشمس وإما الفلك الأقصى، وإما غيره" ثم ذكر حجتهم وردها فقال: "فإن قيل: لأن الجسم لا يكون إلا مركبا منقسما إلى جزأين، بالكمية، وإلى الهيولي والصورة بالقسمة المعنوية، وإلى أوصاف يختص بها لا محالة حتى يباين سائر الأجسام وإلا فالأجسام متساوية في أنها أجسام، وواجب الوجود واحد لا يقبل القسمة بهذه الوجوه كلها.
                        قلنا: وقد أبطلنا هذا عليكم [أي في مسألة التركيب السابقة] وبينا أنه لا دليل لكم عليه، سوى أن المجتمع إذا افتقر بعض أجزائه إلى البعض كان معلولا، وقد تكلمنا عليه، وبينا أنه إذا لم يبعد تقدير موجود لا موجد ( ) له، لم يبعد تقدير مركب لا مركب له، وتقدير موجودات لا موجد لها"( ).
                        فالغزالي بين أنه لا دليل للفلاسفة على نفي الجسم، ثم هو وأصحابه بينوا أن دليلهم المشهور على نفي الجسم دليل فاسد.
                        ومن خلال الأمثلة السابقة يتبين كيف أن مسألة التجسيم أو التركيب عند هؤلاء ليست من الأمور العقلية الثابتة والمستقرة الواضحة – ولذلك يرد بعضهم على بعض، بل يتناقض الواحد منهم في كلامه – وإنما هي شبه تلقفوها عن أسلافهم من الفلاسفة والمعتزلة، وصاروا يحتجون بها على ما يريدون نفيه من العلو أو الصفات.

                        أما حجج الأشاعرة على نفي الجسم:

                        فإن شيخ الإسلام قد بين أولا ما في ذلك من الإجمال والاشتباه، وأن النزاع بين مثبتيه ونفاته من ناحية اللفظ،ومن ناحية المعنى.

                        أما من ناحية اللفظ:

                        فقد رد شيخ الإسلام على الآمدي وغيره حين منعوا من إطلاق لفظ الجسم والجواهر، مع أنهم يطلقون أيضاً لفظ: قديم، وواجب الوجود، وذات، وغيرها مما لم يرد به الشرع، فكما أنه من نازع الأشعري في إثبات قدم الباري أو وجوب وجوده، قال رادا عليه مخبرا عما يستحقه: إن الله قديم واجب الوجود، فكذلك بعض مثبتة الصفات، إذا نفي أحد الصفات عن الله ضمن نفيه للجسم أو الجوهر فإنه يقول رادا عليه: إنه جسم أو جوهر.
                        وهذا مثل لفظ قديم، وواجب الوجود، وذات. سواء بسواء.

                        وإذا كان الأمر كذلك كان الأولى أن يكون الفيصل في ذلك التزام ما أورده الشارع في الصفات، والسكوت عما سكت عنه، والتفريق في الأسماء الحسنى بين ما يخبر عنه، وما يدع به ( ).

                        وأما من ناحية المعنى:

                        فإن النزاع بين مثبتة الجوهر والجسم، ونفاته يقع في ثلاثة أشياء:

                        الأولى: في تماثل الأجسام والجواهر، على قولين. فمن قال إنها متماثلة، قال كل من قال بها قال بالتجسيم. ومن قال إنها غير متماثلة لم يلزمه ذلك.
                        فالذين ألزموا من قال بالتجسيم بأنهم مشبهة بناء على اعتقادهم أن الأجسام متماثلة. لكن هذا لا يلزم أولئك لأنهم يقولون إنها غير متماثلة، ولا يجوز إلزامهم بما لم يلتزموه.

                        والثاني: أنهم تنازعوا في مسمى الجسم – كما سبق – وكل من فسر الجسم بتفسير – ككونه مركبا من المادة والصورة، أو من الجواهر المفردة – ألزم من قال بالجسم بالتفسير الذي قصده هو، لكن خصمه ينفي هذا المعنى الذي فسر به الجسم كما ينفي اللزوم الذي ألزمه به. بل قد يكون في المجسمة من يقول: إنه جسم مركب من الجواهر المنفردة، ويقول لا دليل على نفي ذلك ولا على امتناعه.

                        الثالث: وهناك نزاع في أمور أخرى، مثل كونه تعالى فوق العالم، أو كونه ذا قدر، أو كونه متصفا بصفات قائمة به. فنفاتها يقولون لا تقوم هذه إلا بجسم، والمعارضون لهم من المثبتة ينازعونهم في انتفاء هذا المعنى الذي سموه جسما، وهم إما أن يقولوا: لا يلزم منها التجسيم، أو يقولوا بها وإن لزم التجسيم ( ).

                        وقد ذكر شيخ الإسلام أدلة الآمدي الثانية على نفي الجسم والجوهر – أربعة للجسم وأربعة للجوهر – وناقشها كلها وبين ما فيها من الفساد ( ). وذكر في الوجه الرابع من الأوجه المختصة بالجسم ما يتعلق بذلك من التركيب، وذكر وجهين في ذلك ناقشهما أيضاً شيخ الإسلام ( )، مبينا أن استلزام الذات للوازمها من الصفات لازم لجميع الطوائف، متفلسفة، ومعتزلة وأشاعرة، سواء سمى ذلك تركيباً أو لم يسم، أو سمي افتقاراً أو لم يسم ( ).

                        تعليق


                        • #13
                          (تابع)

                          1- ومن حجج نفاة التركيب المشهورة:
                          أن المركب مفتقر إلى جزئه، وهو محال على الله، وقد بين شيخ الإسلام ما في لفظ "الافتقار" من الإجمال فقال: "ولفظ الافتقار هنا. أن أريد به افتقار المعلول إلى علته كان باطلا، وإن أريد به افتقار المشروط إلى شرطه – فهذا تلازم من الجانبين، وليس ذلك ممتنعا. والواجب بنفسه يمتنع أن يكون مفتقرا إلى ما هو خارج عن نفسه، فأما ما كان صفة لازمة لذاته، وهو داخل في مسمى اسمه فقول القائل: إنه مفتقر إليها، كقوله: إنه مفتقر إلى نفسه، فإن القائل إذا قال: دعوت الله، أو عبدت الله، كان اسم "الله" متناولا للذات المتصفة بصفاتها، ليس اسم "الله" اسما للذات مجردة من صفاتها اللازمة لها.

                          وحقيقة ذلك أن لا تكون نفسه إلا بنفسه، ولا تكون ذات إلا بصفاته، ولا تكون نفسه إلا بما هو داخل في مسمى اسمها، وهذا حق. ولكن قول القائل: إن هذا افتقار إلى غيره، تلبيس، فإن ذلك يشرع أنه مفتقر إلى ما هو منفصل عنه، وهذا باطل ( ) ولفظ الافتقار مثل لفظ الغير، ومثل لفظ الانقسام والجزء والتحيز وغيرها كلها ألفاظ مجملة، محتملة للحق والباطل. وتسمية الحق باسم الباطل لا ينبغي أن يؤدي إلى ترك الحق، بل لا بد من الاستفصال ( ).

                          2- والذين يدعون أن في إثبات العلو أو الوجه واليدين تركيبا، يرد عليهم بأنه يلزمهم التركيب فيما أثبتوه من الصفات كالحياة والعلم، يقول شيخ الإسلام: "فإن قال من أثبت هذه الصفات التي هي فينا أعراض كالحياة والعلم والقدرة، ولم يثبت ما هو فينا أبعاض كاليد والقدم: هذه أجزاء وأبعاض تستلزم التركيب والتجسيم.

                          قيل له: وتلك أعراض تستلزم التجسيم والتركيب العقلي، كما استلزمت هذه عندك التركيب الحسي، فإن أثبت تلك على وجه لا تكون أعراضا، أو تسميتها أعراضا لا يمنع ثبوتها، قيل له: وأثبت هذه على وجه لا تكون تركيبا وأبعاضا، أو تسميتها تركيبا وأبعاضا لا يمنع ثبوتها.

                          فإن قيل:
                          هذه لا يعقل منها إلا الأجزاء. قيل له: وتلك لا يعقل منها إلا الأعراض.
                          فإن قال:
                          العرض مالا يبقى وصفات الرب باقية.
                          قيل:
                          والبعض ما جاز انفصاله عن الجملة، وذلك في حق الله محال، فمفارقة الصفات القديمة مستحيلة في حق الله تعالى مطلقا، والمخلوق يجوز أن تفارقه أعراضه وأبعاضه.
                          فإن قال: ذلك تجسيم، والتجسيم منتف. قيل: وهذا تجسيم، والتجسيم منتف".

                          وهذا منهج – في الإلزام – قوي، كثيرا ما يستخدمه شيخ الإسلام مع نفاة بعض الصفات خاصة.
                          ومما سبق يتبين أن أدلة هؤلاء على نفي التجسيم والتركيب – وإدخالهم في مسمى ذلك علو الله وصفاته، أو بعضها – هي أدلة عقلية فاسدة، ومن أظهر الأدلة على فسادها طعنهم فيها، وطعن بعضهم في أدلة بعض.
                          ويكفي في بيان فسادها مخالفتها لنصوص الكتاب والسنة التي دلت وتواترت على إثبات علو الله وصفاته اللائقة به، ولكن هؤلاء الأشاعرة – لخوضهم في علوم الفلسفة والكلام وثقتهم فيها – ظنوا أن مثل هذه الشبه الباهتة الهزيلة صحيحة، فقدموها على نصوص الوحي الواضحة.


                          وإذا كان هؤلاء المتكلمون قد استدلوا على حدوث الأجسام بقصة الخليل، وقوله: لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (الأنعام: من الآية76) – وقد سبق الرد على استدلالهم بها بالتفصيل – فإن منهم من احتج أيضاً على نفي التجسيم – وأنه لازم للاستواء على العرش – بقوله تعالى في قصة موسى والسامري حيث قال تعالى: وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً (لأعراف: من الآية14، وقالوا في احتجاجهم بها: ذم الله من اتخذ إلها جسدا، والجسد هو الجسم، فيكون الله قد ذم من اتخذ إلها هو جسم، وإثبات هذه الصفات – كالاستواء وغيره – يستلزم أن يكون جسما، وهذا منتف بهذا الدليل الشرعي ( ).
                          وقد رد شيخ الإسلام على هذا الاستدلال من عشرة أوجه، منها:
                          أ‌- أن هذا إنما دل على نفي أن يكون جسدا، والجسم في اصطلاح نفاة الصفات أعم من الجسد. وذكر شيخ الإسلام تفصيلات لغوية، وبين أنه لا دليل لهم في ذلك، وهو على كل تقدير من الألفاظ المجملة ولا بد من الاستفصال فيها.
                          ب‌- أن الله منزه أن يكون من جنس شيء من المخلوقات، من بني آدم أو من الحيوانات أو غيرها، والله تعالى ذكر أن العجل كان جسدا بمعنى أنه لا حياة فيه – وقد قيل إنه خار خورة – والمقصود أنه كان مسلوب الحياة والحركة، وهذا أشد في النقص. ولو أخرج لهم عجلا كسائر العجول، أو آدميا أو فرسا حيا لكان أيضا له بدن وجسم، ولكانت الفتنة به أشد.
                          ت‌- أن الله تعالى قال: أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً (لأعراف: من الآية14 "فلم يذكر فيما عابه كونه ذا جسد، ولكن ذكر فيما عابه به أنه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلا، ولو كان مجرد كونه ذا بدن عيبا ونقصا لذكر ذلك، فعلم أن الآية تدل على نقص حجة من يحتج بها على أن كون الشيء ذا بدن عيبا ونقصا. وهذه الحجة تطير احتجاجهم بالأقوال فإنهم غيروا معناه في اللغة، وجعلوه الحركة، فظنوا أن إبراهيم احتج بذلك على كونه ليس رب العالمين، ولو كان كما ذكروه لكان حجة عليهم لا لهم"( ).
                          ث‌- أن الله ذكر أن العجل كان جسدا، وأن له خوارا، والخوار هو الصوت، وخوار الثور صوته، فلو كان الصوت لبيان نقصه لذكره مع الجسد، ولبطل الاستدلال بآخر الآية وهي قوله أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ ، فإن تكليمه لو كلمهم لكان بصوت يسمعونه.
                          فعلم أن التصويت لم يكن صفة نقص فكذلك ذكر الجسد. فصارت الآية دالة على نقيض قولهم. وهذا واضح.
                          ج‌- "أن الله تعالى ذكر عن الخليل –  - أنه قال: يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً (مريم: من الآية42)، وقال تعالى: هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ * أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ * قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (الشعراء: من الآية 72-74) فاحتج على نفي إلهيتها بكونها لا تسمع ولا تبصر ولا تنفع ولا تضر، مع كون كل منهما له بدن وجسم، سواء كان حجراً أو غيره.
                          فلو كان مجرد هذا الاحتجاج كافياً لذكره إبراهيم الخليل وغيره من الأنبياء عليهم أفضل الصلاة والسلام، بل إنما احتجوا بمثل ما احتج الله به من نفي صفات الكمال عنها: كالتكلم والقدرة والحركة وغير ذلك ( )".
                          و‌- "أنه إذا كان كل جسم جسدا، وكل ما عبد من دون الله تعالى من الشمس والقمر و الكواكب والأوثان وغير ذلك: أجساما، وهي أجساد فإن كان الله ذكر هذا في العجل لينفي به عنه الإلهية: لزم أن يطرد هذا الدليل في جميع المعبودات. ومعلوم أن الله لم يذكر هذا في غير العجل، [إنما]( ) ذكر كونه جسدا لبيان سبب إفتتانهم به، لا أنه جعل ذلك هو الحجة عليهم، بل احتج عليهم بكونه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلا"( ).
                          ي‌- أن أدلة الكتاب والسنة على إثبات العلو والاستواء أكثر من أن تحصر، ودلالتها على ذلك جلية بينة مفهومة، وحينئذ فيقال:
                          - إن كان إثبات هذا يستلزم أن الله جسم وجسد، لم يمكن دفع موجب هذه النصوص بما ذكر من قصة العجل، لأن ليس فيها أن كونه جسداً هو النقص الذي عابه الله وجعله مانعا من إلهيته.
                          - وإن كان إثبات الاستواء والعلو لا يستلزم أن يكون الله جسدا أو جسما، بطل أصل استدلالهم على أن إثباتهم يقتضي التجسيم ( ).

                          مناقشة موقفهم من أدلة السمع المثبتة للصفات:

                          سبق بيان أن الأشاعرة لما اعتمدوا الأصول العقلية، قدموها على أدلة السمع، وتلخص موقفهم من أدلة السمع المثبتة للصفات بأمرين:
                          أحدهما: من ناحية الثبوت، حيث طعنوا في أدلة أخبار الآحاد، وجواز الاحتجاج بها في العقائد.
                          وثانيهما: من ناحية الدلالة – وذلك في مثل القرآن الذي لا شك في ثبوته – جعلوا نصوص العلو والصفات التي نفوها، من المتشابه، ومن ثم فسبيلها عندهم: إما التأويل، أو التفويض.
                          أما مسألة أخبار الآحادث فقد سبق مناقشتها في المنهج العام في الرد على الأشاعرة، وبيان الخطأ والضلال والتناقض الذي وقعوا فيه حين قالوا إن أخبار الآحاد المتلقاة بالقبول لا تفيد العلم ولا يحتج بها في العقائد ( ).
                          أما مسألة المتشابه والتأويل والتفويض، فيمكن مناقشتها من خلال الفروع التالية:
                          الفرع الأول: معنى المتشابه، وهل الصفات أو بعضها منه؟:
                          مما يلاحظ أن أهل الكلام – وفيهم الأشاعرة – مع اهتمامهم بالعقل وأدلته، وتقديمها على أدلة السمع عند التعارض، إلا أنهم يحاولون أن يجدوا لبعض أصولهم العقلية ومنطلقاتهم الكلامية، أدلة من السمع، وقد سبق ذكر مثالين على ذلك:
                          أحدهما: استدلالهم على دليل حدوث الأجسام – الذي كان سببا في كثير من ضلالات المتكلمين في الصفات – استدلالهم عليه بقصة الخليل وقوله: لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (الأنعام: من الآية76) وقد سبق مناقشة هذا الدليل ( ).
                          والثاني: احتجاجهم على نفي العلو وبعض الصفات بنفي التجسيم، وقد استدلوا على نفيه بقوله تعالى في قصة موسى وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوَار (لأعراف: من الآية14. وقد سبق قبل قليل مناقشة هذا الاستدلال.
                          وفي هذه المسألة يرد مثال ثالث على هذا المنهج الذي أرادوا أن يدعموا به مذهبهم في الصفات أو بعضها؛ وذلك أنهم كثيرا ما يحتجون على تأويلهم للصفات، أو تفويضهم لها بأنها من المتشابه، ويستدلون على ذلك بالآية المشهورة من سورة آل عمران، وهي قوله تعالى: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (آل عمران:7)، ويبنون احتجاجهم بها على أن الصفات من المتشابه، ويقررون ذلك بأمرين:
                          إما بالإستدلال بها على أن مذهب السلف هو التفويض الكامل، الشامل للمعنى وللكيفية، وذلك عند ردهم على من يثبت الصفات ويحتج بما تواتر من إثبات السلف – رحمهم الله – لها. فيحتجون بهذه الآية على قراءة الوقف على "إلا الله". وهذا التفويض الذي جعلوه مذهبا للسلف يقصدون منه أنهم – أي السلف – جعلوا هذه الصفات من المتشابه، وأثبتوها ألفاظ مجردة لا تدل على معان ولا يفهم منها شيء. وهدفهم النهائي من ذلك أن يجعلوا تأويلهم للصفات وصرفها عن ظواهرها اللائقة بالله، موافقا ضمنا لما يدعونه من تفويض السلف، إذ على كلا الحالتين لا تدل النصوص على الصفات اللائقة بجلال الله وعظمته.
                          وإما – وهذا هو الأمر الثاني – أن يستدلوا بالآية على جواز التأويل – الذي هو عند المتأخرين صرف اللفظ من الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح – ويقولون: إن الراسخين في العلم يعلمون تأويل المتشابهات – ومنها على زعمهم الصفات – وهذا على قراءة مجاهد وغيره بعطف – (والراسخون في العلم) على ما قبله.
                          والمحكم والمتشابه من مباحث علوم القرآن المشهورة، وقد تعددت الأقوال بتحديد المقصود بالمحكم والمتشابه المذكورين في آية عمران ( ).
                          أما الإحكام العام الذي دل عليه مثل قوله تعالى: الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُه (هود: من الآية1)، والتشابه العام الذي دل عليه مثل قوله تعالى: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِي (الزمر: من الآية23). فهو شامل لجميع القرآن، لأن القرآن كله محكم، ويشبه بعضه بعضا في ذلك. وهذان المعنيان لم يخالف فيهما أحد.
                          ومسألة المحكم والمتشابه اكتسبت أهمية خاصة عند كثير من المتأخرين، لما دخل فيهما من موضوعات مهمة كانت مثار خلاف وجدل بين العلماء.
                          والملاحظ أن ما كتبه الفخر الرازي في تفسيره ( ) ، وفي كتابه أساس التقديس ( ) حول المحكم والمتشابه وما يتعلق بهما – أصبح مرجعا أساسا لكثير ممن أتى بعده، وإن كان قد سبق إلى ذلك بعض الأشاعرة ( ) والمعتزلة ( ).
                          وليس المقصود تتبع مباحث المحكم والمتشابه، لأن هذه لها مناسبات أخرى، وإنما المقصود بيان أن أهم الأمور التي ركز عليها الرازي في ذلك أربعة أمور:
                          1- أنه لا بد من قانون أصلي لمعرفة المحكم والمتشابه، ثم بين أنه لا يجوز ترك الظاهر الذي دل عليه الآية والخبر إلا بدليل منفصل، ثم ذكر أن هذا الدليل المنفصل إما لفظي وإما عقلي.
                          أما الدليل اللفظي المنفصل فإذا عارض دليلا آخر فليس ترك أحدهما لإبقاء الآخر أولى من العكس. ثم رد الرازي على زعم أن الدليل اللفظي قد يكون قاطعا فيجب تقديمه لذلك: بأن "الدلائل اللفظية لا تكون قطعية لأنها موقوفة على نقل اللغات، ونقل وجوه النحو والتصريف، وعلى عدم الإشتراك، والمجاز، والتخصيص، والإضمار، وعدم المعارض النقلي والعقلي. وكل واحد من هذه المقدمات مظنونة، والموقوف على المظنون أولى أن يكون مظنونا، فثبت أن شيئا من الدلائل اللفظية لا يمكن أن يكون قطعياً ( ). كما رد على من قال إن أحد الظاهرين أقوى فيعول عليه بأنه "على هذا التقدير يصير ترك أحد الظاهرين لتقرير الظاهر الثاني مقدمة ظنية، والظنون لا يجوز التعويل عليها في المسائل العقلية القطعية"( ).
                          ولما أبطل التعويل على الدليل اللفظي عول على الدليل العقلي المنفصل فقال: "فثبت بما ذكرنا أن صرف اللفظ عن ظاهره إلى معناه المرجوح لا يجوز إلا عند قيام الدليل العقلي القاطع على أن ظاهره محال ممتنع، فإذا حصل هذا المعنى فعند ذلك يجب على المكلف أن يقطع بأن مراد الله تعالى من هذا اللفظ ليس ما أشعر به ظاهره. ومن لم يجوزه فوض علمه إلى الله تعالى"( ).
                          وخلاصة رأي الرازي أن الآية والخبر تصير متشابهة ويجب عدم اعتقاد ظاهرها بتأويل أو تفويض – إذا عارضها الدليل العقلي القاطع.
                          2- ومن الأمور التي ركز عليها الرازي إدخاله الصفات في المتشابه، ومعلوم أن كتابه "أساس التقديس" خصصه لمناقشات نصوص الصفات وتأويلها، وقد ناقش فيه بإسهاب موضوع المحكم والمتشابه ناصرا مذهبه الذي سار عليه.
                          3- ومن الأمور التي ذكرها أن الحكمة من إنزال المتشابه مراعاة أحوال العوام في أول أمرهم فيخاطبون بما يدل على التجسيم والتحيز والجهة لأن ذلك يناسب ما تخيلوه وتوهموه. فهذا الذي يخاطبون به من باب المتشابهات، ثم يكشف لهم آخر الأمر استحالة هذه الأمور، الذي هو المحكمات ( ).
                          4- أنه قرر مذهب السلف بقوله: "حاصل هذا المذهب أن هذه المتشابهات يجب القطع فيها بأن مراد الله تعالى منها شيء غير ظواهرها، ثم يجب تفويض معناها إلى الله تعالى، ولا يجوز الخوض في تفسيرها" ثم قرر مذهب المتكلمين بقوله: "وقال جمهور المتكلمين: بل يجب الخوض في تأويل تلك المتشابهات"( ). ثم لما ذكر حجج مذهب السلف من الوقف على قوله وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ (آل عمران: من الآية7)، وإجماع الصحابة على عدم التأويل، قال عن المتكلمين أن حجتهم: "أن القرآن يجب أن يكون مفهوما، ولا سبيل إليه في الآيات ( ) المتشابهة إلا بذكر التأويلات فكان المصير غليه حتما"( ).
                          وقد تكلم الرازي في تفسيره ( ) بمثل ما في أساس التقديس وزيادة، ومن ثم تأثر به – في هذه الأمور الأربعة وغيرها – من جاء بعده ( ).
                          ومن المؤسف حقا أن أحد الباحثين أفرد موضوع المتشابه في كتاب مستقل رجح فيه منهج المتكلمين والمعتزلة بشكل خاص، واعتمد في نقوله وأقواله على ما كتبه الغزالي في الجام العوام، وما كتبه الرازي، وعبدالجبار الهمذاني. ولم يحقق القول في مذهب السلف، بل ركز على أن مذهبهم هو التفويض ورد على شيخ الإسلام في ذلك ( ). وقد حوى الكتاب – تقليدا من صاحبه للكوثري – كثير من الحقد والسخرية بأئمة أهل السنة وكتبهم، ونال شيخ الإسلام من ذلك حظ وافر ( ).
                          وقد ناقش شيخ الإسلام موضوع المحكم والمتشابه، ورد على الرازي وغيره ممن غلط في جعل الصفات من المتشابه، أو جعل ما خالف العقل فهو متشابه، أو غير ذلك من الأمور التي خاض فيها أهل الكلام. وما كتبه شيخ الإسلام في ذلك كثير، وأهمه ما ذكره في ثلاثة من كتبه:
                          أحدها: ما ذكره في نقضه لأساس التقديس للرازي – وقد يسمى كتاب الرازي تأسيس التقديس – وقد أطال شيخ الإسلام في ذلك، وناقش الرازي في كل ما كتبه، على طريقته في استيعاب مناقضة فصول هذا الكتاب،ولكن – للأسف الشديد – انتهت المخطوطة الموجودة قبل إتمام مباحث هذا الموضوع ( ).
                          الثاني: في تفسير سورة الإخلاص، وقد بلغت مباحث المحكم والمتشابه فيها أكثر من ستين صفحة ( ).
                          الثالث: في الرسالة التي أفردها في هذا الموضوع بعنوان: الإكليل في المتشابه والتأويل ( ).
                          وخلاصة منهج شيخ الإسلام وهدفه من هذه المناقشة الدفاع عن عقيدة السلف في الأسماء والصفات وغيرها والرد على المتكلمين الذين جعلوا من مسائل المحكم والمتشابه مدخلا لتأويل نصوص الصفات وتحريفها لتوافق عقائدهم وأصولهم الفاسدة، ويمكن تلخيص منهجه من خلال الأمور التالية:
                          الأمر الأول: تحقيق مسألة: هل يجوز أن يشتمل القرآن على ما لا يعلم معناه؟:
                          وهي مسألة مهمة تبني عليها مسألة المتشابه، ولذلك أطال شيخ الإسلام الكلام حولها، خاصة في تعليقه أو مناقشته للرازي، الذي ذكر هذه المسألة في أساسه قبل حديثه عن المتشابه فقال ذاكرا الخلاف فيها: "اعلم أن كثيرا من الفقهاء والمحدثين والصوفية يجوزون ذلك.والمتكلمون ينكرونه" ( ). ثم ذكر حجج المتكلمين الكثيرة، أعقبها بذكر حجج مخالفيهم، ثم قال: "هذا ما عندي من كلام الفريقين في هذا الباب وبالله التوفيق"( ).
                          وقد رجح شيخ الإسلام أدلة من يقول إنه لا يجوز أن يكون في القرآن مالا سبيل لنا إلى العلم به، وزاد على الأدلة التي أوردها الرازي أدلة أخرى كثيرة ( )، وإن كان قد تعقبه في بعض أدلته – مثل بعض الأدلة العقلية التي أوردها – لأنها لا تتفق مع أصوله الاشعرية ( ). وشيخ الإسلام هنا لا يعارض استدلاله وإنما يبين تناقضه.
                          يقول شيخ الإسلام بعد ذكره لهذه الحجج – ردا على الرازي "هذه الحجج كما أنها دالة على فساد قول من قال: إن في القرآن ما لا سبيل لأحد إلى فهمه، بل معرفة معناه، فهي أيضاً دالة على فساد قول هؤلاء المتكلمين، نفاة الصفات أو بعضها، فهي حجة على فساد قول الطائفتين، وذلك أن هؤلاء النفاة يقولون: إن التوحيد الحق الذي يستحقه الله تعالى ويجب أن يعرف به ويمتنع وصفه بنقيضه ليس هو في القرآن، ولم يدل عليه القرآن. ودلالة الخطاب المعروفة، وهو كون الرب ليس بداخل العالم ولا خارجه، ولا يشار إليه ولا يقرب من شيء ولا يقرب من شيء، ولا يصعد إليه شيء، ولا ينزل منه شيء، ولا يحجب العباد عنه شيء، ولا عنده شيء دون شيء، بل جميع الأشياء سواء، ولا يحتجب عنهم بشيء، وأنواع ذلك، فمن المعلوم أن القرآن لم يدل على شيء من ذلك، ولا بينه، بل إنما دل على نقيضهن وهو إثبات الصفات [التي] ( ) تدل على أنه يقرب من غيره ويدنو إليه، ويقرب العبد منه ويدنيه إليه،، و انه عالي على جميع الأشياء، وفوقها، وأنه ينزل منه كلامه، وتنزل الملائكة من عنده وتعرج إليه، وأمثال ذلك، وهم متفقون على أن ظاهر القرآن إنما يدل على الإثبات الذي هو عندهم تجسيم باطل بل كفر. وغيرهم يقول: بل دلالة القرآن على ذلك نصوص صريحة، بل ذلك معلوم بالاضطرار من القرآن والرسول"( ).
                          وهؤلاء المتكلمون النفاة أرادوا أن يتوصلوا بقولهم الذي وافقهم عليه شيخ الإسلام – إلى تأويل النصوص إلى معان أخرى باطلة – وقد احتجوا بالآية وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ (آل عمران: من الآية7) على قراءة العطف وفسروا التأويل الذي يعلمه الراسخون في العلم بأنه صرف اللفظ من الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح. وهذا خطأ عظيم لأن التأويل الذي يعلمه الراسخون في العلم – على قراءة الوصل – هو التفسير، وهذا قد لا يعلمه بعض الناس لكن الراسخين في العلم يعلمونه، "فمن قال إن القرآن يجوز أن يشتمل على ما لا سبيل لبعض الناس إلى العلم به فقد أصاب، وذلك لعجزه، لا عن نقص في دلالة القرآن، فكثير من الناس لا سبيل له إلى أن يعلم كثيرا من العلوم كالطب والنجوم والتفسير والحديث، وإن كان غيره يعلم ذلك، وإن أراد أنه لا سبيل لأحد إلى معرفة تفسيره فقط غلط.وإن قال: لا سبيل لأحد إلى معرفة حقيقته وكيفيته وهيئته ونحو ذلك فقد أصاب، فينبغي أن يعرف الفصل في هذا الباب حتى يظهر الخطأ من الصواب"( ).
                          وقد أوضح شيخ الإسلام قبل ذلك ما في قول القائل: ما لا سبيل لنا إلى العلم به من الإجمال ( ).
                          بقى الكلام في أدلة الفريق الثاني المجوزين لوجود مالا سبيل لنا إلى العلم به، وقد ساق الرازي أدلتهم، ثم سكت عن الترجيح بين القولين، ولذلك رد عليه شيخ الإسلام قائلاً: "قلت: ذكر القولين ولم يرجح أحدهما، ولم يذكر جواب أحدهما عن حجة الآخرين فبقيت المسألة على الوقف والحيرة والشك. وكذلك لما ذكر بعد هذا تقرير قول من جزم بالتأويل، فإنه هنا ذكر الخلاف في جواز ورود ما أمكن فهم معناه، وهناك ذكر قول من أوجب وقوع ذلك وجزم بالتأويل، وقد ذكر حجة كل قوم، ولم يذكر لهم جواباً عن حجة الآخرين ( ) فبقيت المسألة مما تكافأت فيها الأدلة [عنده]( )، وأما في تفسيره فرجح المنع من التأويل، كما رجح أبو المعالي في آخر قوليه، وكما رجحه أبو حامد في آخر قوله"( )، ثم نقل كلام الرازي في تفسيره ( ) وسبب هذه الحيرة والتوقف عند الرازي – كما يرى شيخ الإسلام – "أن كلا القولين اللذين حكاهما عن المتكلمين و عن السلف قول باطل. والذي حكاه عن السلف ليس قولهم ولا قول أحد منهم، ولا يعرف عن أحد من الصحابة والتابعين"( ).
                          وبهذا يتبين أن خلاصة رأي شيخ الإسلام أنه لا بدل لكل ما أنزل الله تعالى من معنى يمكن فهمه، وليس هناك فرق بين آيات الصفات وآيات الأحكام. وكثير من الصحابة والتابعين كانوا يعلمون تفسير القرآن، ولا توجد آية ليس لهم فيها تفسير يوضح معناها. وتفسيرهم وفهمهم للنصوص هو الذي يرجع إليه عند الاختلاف. أما ما يدعيه أصحاب التأويلات المحرفة من تأويلاتهم هي المعاني الصحيحة للآيات التي أولوها، فهذا خطأ منهم ( ).
                          وفي رسالة الإكليل بين شيخ الإسلام "أن الصحابة والتابعين لم يمتنع أحد منهم عن تفسير آية من كتاب الله، ولا قال هذه من المتشابه الذي لا يعلم معناه، وقال قط أحد من سلف الأمة ولا من الأئمة المتبوعين: إن في القرآن آيات لا يعلم معناها ولا يفهمها رسول الله  ولا أهل العلم والإيمان جميعهم، وإنما قد ينفون علم بعض ذلك عن بعض الناس، وهذا لا ريب فيه"، ثم بين سبب الكلام في هذه المسألة فقال: "وإنما وضع هذه المسألة المتأخرون من الطوائف بسبب الكلام في آيات الصفات وآيات القدر وغير ذلك، فلقبوها: "هل يجوز أو يشتمل القرآن على مالا يعلم معناه، [وأنا]( ) تعبدنا بتلاوة حروفه بلا فهم" فجوز ذكر طوائف متمسكين بظاهر الآية، وبأن الله يمتحن عباده بما شاء. ومنعها طوائف ليتوصلوا بذلك إلى تأويلاتهم الفاسدة التي هي تحريف الكلم عن مواضعه.
                          والغالب على كل الطائفتين الخطأ، أولئك يقصرون في فهم القرآن بمنزلة من قبل فيه: وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيّ (البقرة: من الآية7، وهؤلاء معتدون بمنزلة الذين يحرفون الكلم عن مواضعه.."( ).
                          وهذه مشكلة المتكلمين دائما يظنون أن قول هذه الطائفة – وقد يكون لها وجود – هو مذهب السلف، وهو ما يعبرون عنه بالتفويض وهذا من الأخطاء الكبرى التي انتشرت وارتكب في حق السلف، وهم منها برآء.
                          بقيت الإشارة إلى أن الرازي لما لم يرجح بين القولين حول مسألة اشتمال القرآن على ما لا سبيل لنا إلى العلم به – انتقده شيخ الإسلام على توقفه وحيرته وشكه ثم رد على أدلة المجوزين التي أوردها الرازي وسكت عنها. وأهم هذه الأدلة:
                          أ‌- قوله تعالى: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ (آل عمران: من الآية7) والوقف لازم.
                          ب‌- الحروف المقطعة المذكور أوائل السور.
                          ت‌- خبر: "أن من العلم كهيئة المكنون لا يعلمها إلا العلماء بالله…"( ).
                          وخلاصة ردود شيخ الإسلام عليها كما يلي:
                          أ‌- أما الآية فقد بين أن فيها قراءتين مشهورتين، قال: "ونحن نسلم قراءة من قرأ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّه، لكن من أين لهم أن التأويل الذي لا يعلمه إلا الله هو المعنى الذي عني به المتكلم، وهو مدلول اللفظ الذي قصد المخاطب إفهام المخاطب إياه. وهو سبحانه وتعالى لم يقل وما يعلم معناه إلا الله، ولا قال وما يعلم تفسيره إلا الله، ولا قال وما يعلم مدلوله ومفهومه إلا الله، ولا ما دل عليه إلا الله. قال: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ ولفظ التأويل له في القرآن معنى، وفي عرف كثير من السلف وأهل التفسير معنى، وفي اصطلاح كثير من المتأخرين له معنى، وبسبب تعدد الإصطلاحات والأوضاع فيه حصل اشتراك غلط بسببه كثير من فهم القرآن وغيره"( )، وبعد كلام طويل حول التأويل وأنواعه قال: "وإذا عرف معنى لفظ التأويل ظهر فساد احتجاج هؤلاء بقوله تعالى: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّه فإن التأويل الذي لا يعلمه إلا الله ليس هو أن لا يفهم أحد من اللفظ، بل يفهمونه وإن كان تأويله لا يعلمه إلا الله"( )، ثم ذكر عددا من أقوال السلف في الآية تبطل حجة هؤلاء ثم قال: "فابن اسحاق ذكر مثل ابن عباس والضحاك وغيرهم الذين يقولون بالقراءتين.يقولون: له تأويل لا يعلمه إلا الله، وتأويل يعلمه الراسخون، وكذلك عامة أهل العربية الذين قالوا ما يعلم تأويله إلا الله،كالفراء وأبي عبيد وثعلب وابن الأنباري، هم يتكلمون في متشابه القرآن كله وفي تفسيره [و] ( ) معناه. [و]( ) ليس في القرآن آية قالوا لا يعلم أحد تفسيرها ومعناها، فيجب أ، يكون التأويل الذي اختص الله به عندهم غير ما تكلموا فيه من تفسير الآيات المتشابهة. وقوله تعالى: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ قد ( ) يقال فيه إن المنفي هو عموم السلب لا سلب العموم، أي وما يعلم جميع التأويل إلا الله، وأما بعضه فيعلمه الراسخون كما قال ابن عباس: "وتفسير يعلمه العلماء، وتفسير لا يعلمه إلا الله، من ادعى علمه فهو كاذب"( )، فقول الجمهور هو القراءة الصحيحة، وهو أنه لا يعلم غير الله جميع التأويل، كقوله: وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ(المدثر: من الآية31) أي مجموعهم، وإلا فكثير من الناس يعلم بعض جنود ربنا. وبكل حال تفسيره [و]( ) معناه ليس داخلا في التأويل الذي اختص الله به سواء سمي تأويلاً أو لم يسم"( ).
                          والخلاصة أن قراءة الوقف على (إلا الله) لها وجهان:
                          - اما أن يكون المقصود بالتأويل الحقيقة التي تؤول إليها الأمور.
                          - أو يكون المقصود به جميع التأويل الذي هو التفسير، ويدل له قول ابن عباس حيث صرح بأن من التفسير ما لا يعلمه إلا الله، كما أوضح ذلك شيخ الإسلام، وبهذا – مع الكلام الذي سيأتي عن الحروف المقطعة أوائل السور – يظهر الجواب عما استشكله الشنقيطي في هذا المقام والله أعلم ( ).
                          ب‌- أما الحروف المقطعة أوائل السبور فقد أجاب شيخ الإسلام عن دعوى أنه من المتشابه بعدة أجوبة:
                          أحدها: "أن هذه ليست كلاما منظوما فلا يدخل في مسمى الآيات، وعامة أهل مكة والمدينة والبصرة لا يعدون ذلك آية، ولكن الكوفيون يعدونها آية، وبكل حال فهي أسماء حروف ينطق بها غير معربة، مثل ما ينطق بألف، باء، تاء، وبأسماء العدد، واحد، اثنان، ثلاثة…"( ).
                          الثاني: أن السلف قد تكلموا في معانيها، وكلامهم في ذلك كثير مشهور، وقد ساق شيخ الإسلام بعض أقوالهم ( ).
                          الثالث: "أن يقال: نحن نسلم أن كثيراً من الناس وأكثرهم لا يعرفون معنى كثير من القرآن، فإذا قيل: إن أكثر الناس لا يعرفون معنى حروف الهجاء التي في أوائل السور فهذا صحيح، لا نزاع فيه، وإن قيل: إن أحدا من الناس لا يعرف ذلك وإن الرسول نفسه لم يكن يعرف ذلك، فمن أين لهم هذا؟ فهذا النفي لا بد له من دليل"( ).
                          ث‌- أما حديث "إن من العلم كهيئة المكنون…" فليس له إسناد يقوم به، وعلى تقدير صحته فهو حجة عليهم لأن فيه أن أهل العلم بالله يعلمونه ( ).
                          وبهذا يتبين ضعف حجة هؤلاء الذين يجوزون أن يكون في كلام الله مالا سبيل لنا إلى العلم به، ولذلك قال شيخ الإسلام في تفسير سورة الإخلاص ما يعتبر تلخيصاً لما سبق: "والمقصود هنا أنه لا يجوز أن يكون الله أنزل كلاما لا معنى له، ولا يجوز أن يكون الرسول  وجميع الأمة لا يعلمون معناه كما يقول ذلك من يقوله من المتأخرين، وهذا القول يجب القطع بأنه خطأ، سواء كان مع هذا تأويل القرآن لا يعلمه الراسخون، أو كان للتأويل معنيان: يعلمون أحدهما، ولا يعلمون الآخر، وإذا دار الأمر بين القول بأن الرسول كان لا يعلم معنى المتشابه من القرآن، وبين أن يقال: الراسخون في العلم يعلمون، كان هذا الإثبات خيراً من ذلك النفي، فإن معنى الدلائل الكثيرة من الكتاب والسنة وأقوال السلف على أن جميع القرآن مما يمكن علمه وفهمه وتدبره، وهذا مما يجب القطع به…"( ) وقد قال كثير من السلف إنهم يعلمون تأويل القرآن، وهذا معروف مشهور ( ).
                          الأمر الثاني: من أمور بيان شيخ الإسلام في مسألة المحكم والمتشابه أنه إذا تبين رجحان قول من قال: إن كلام الله يمكن معرفة تفسيره والعلم به، وإنه ليس هناك في كلام الله ما لا سبيل لنا إلى العلم به – فما المقصود بالمتشابه المذكورة في آية آل عمران؟
                          يذكر شيخ الإسلام أن في ذلك قولين:
                          أحدهما: أنها آيات بعينها تتشابه على كل الناس.
                          والثاني: وهو الصحيح، أن التشابه أمر نسبي، فقد يتشابه عند هذا مالا يتشابه عند غيره، ولكن ثم آيات محكمات لا تشابه فيها على أحد. وتلك المتشابهات إذا عرف معناها صارت غير متشابهة، بل القول كله محكم كما قال: أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ (هود: من الآية1)( ).
                          وقد أطال شيخ الإسلام في تقرير هذا الذي رجحه وصححه، وذكر له أدلة كثيرة من الكتاب والسنة، مدللا على وقوعه ووجوده عند بعض الناس ( )، وهذا التشابه النسبي أو الإضافي ليس له ضابط فهو من جنس الاعتقادات الفاسدة، ولذلك تعددت التأويلات وتفاوتت فالفلاسفة والباطنية لهم تأويلات لنصوص الكتاب، والجهمية والمعتزلة يبطلون تأويلات الفلاسفة والباطنية ويجعلون الآيات التي أولوها تأويلات قرمطية وفلسفية – آيات محكمة، لكنهم يؤولون نصوصا أخرى يقولون إنها متشابهة، والأشاعرة يقولون إن هذه الآيات التي أولها المعتزلة هي آيات محكمة لا يجوز تأويلها، ثم يتأولون آيات أخرى. وهكذا. فكل طائفة تدعي أن المحكم ما وافق قولها والمتشابه ما خالفه ( ).
                          والإمام أحمد – رحمه الله – ألف رسالته المشهورة في الرد على الزنادقة والجهمية فيما شكت فيه من متشابه القرآن وتأولته على غير تأويله ( )، ثم إنه لما رد على هؤلاء في استدلالاتهم الباطلة، لم يقل هذه الآيات من المتشابه وسكت عنها، وإنما رد عليهم وبين أحكامها، وفسرها، وذمهم على أنهم تأولوها على غير تأويلها الصحيح ( ).
                          وهذا الترجيح الذي رجحه شيخ الإسلام في المتشابه مبنى على الأمر السابق وهو أن القرآن مما يعلم معناه، وأن آياته ليس فيها ما لا سبيل إلى العلم به.

                          تعليق


                          • #14
                            الحلقة
                            (11)


                            المنتقى من"موقف ابن تيمية من الأشاعرة"
                            (رسالة دكتوراه)

                            لأبي جهاد الجزائري

                            هل ما خالف الدليل العقلي هو المتشابه


                            سبق في بداية هذه المسألة – مسألة المحكم والمتشابه – ذكر أن من حجج الرازي الذي قصد بها دعم مذهب الأشاعرة، أنه لا يجوز ترك ظاهر النص إلا بدليل، ثم ذكر أن الدلائل اللفظية لا تكون قطعية لأنها موقوفة على عشرة أمور. ولذلك عول على الدليل العقلي وأن ما خالفه فهو من المتشابه ويجب تأويله بما يوافقه.


                            ومسألة العقل والنقل سبق الحديث عنها، وتبين أن القول بتعارضهما، أو تقديم العقل عند توهم التعارض بينه وبين الشرع، من أعظم الباطل. وقد رد شيخ الإسلام على كلام الرازي السابق – حول التعويل على الدليل العقلي لتمييز المحكم من المتشابه وأن الأدلة اللفظية ليست قطعية – من وجوه عديدة ( )، تعقب فيها عبارات الرازي التي أوردها في أساسه وبين فيها خطأه وتناقضه، مبينا أن كلامه هذا يؤدي إلى عدم الاستدلال بالسمع أصلا – وهو ما صرح به في بعض كتبه – لأن الاحتجاج به موقوف عنده على نفي المعارض العقلي ( )، ولذلك يقول شيخ الإسلام في أحد الأوجه: "إنك صرحت هنا وفي غير هذا الموضع أن شيئا من الدلائل اللفظية لا يفيد العلم، وحينئذ فالظاهر سواء عارضه دليل عقلي أو لم يعارضه لا يحصل به علم عندك، فإذا أقر الظاهر فإنما يفيد عندك الظن، [و]( ) الظن لا يجوز التمثيل به في الأصول، فكل آية دلت على مسألة أصولية لا يجوز الاحتجاج بها عندك، بل يجب أن يكون من المتشابه، وعلى هذا فليس القرآن في هذا الباب منقسما عندك إلى محكم ومتشابه، ومع هذا أنه ( ) مناقض لما تقرره فهو مخالف لصريح القرآن والسنة والإجماع، وهو باطل عقلاً وشرعاً"( ).


                            على أن قول الرازي مناقض لنص آية المتشابه لأن الله سبحانه وتعالى أخبر أن من الكتاب آيات محكمات هن الأصل الذي يبنى ويرد إليه المتشابه، والرازي جعل الأصل الذي يرد إليه: العقل، بل إنه جعل القرآن كله محكمه ومتشابهه يرد إلى هذا الأصل وما خالفه فهو متشابه ( ).
                            وهذه الأدلة العقلية التي يعول عليها الرازي وأصحابه، والتي أولوا من أجلها نصوص الصفات التي دل عليها القرآن هي "أقوال باطلة لا تفيد عند التحقيق لا علما ولا ظنا، بل جهلا مركباً"( ).
                            والقول بأن الدلائل اللفظية لا تفيد القطع هو من أعظم السفسطة، ولذلك لا يعرف هذا القول عن طائفة معينة معروفة من طوائف بني آدم لأنه يؤدي إلى القدح بلغة التخاطب بين الناس التي بها يكلم بعضهم بعضا ويفهم بعضهم عن بعض، وعامة أمور وأحوال بني آدم مبنية على هذا، من بداية تمييز الطفل وفهمه عن والديه، إلى آخر أمور البيع والشراء والنكاح والطلاق وقضاء مختلف الحوائج، ووصف بعضهم لما جرى لبعض… الخ"ثم إذا كان هذا البيان والدلالة موجوداً في كلام العامة الذين لا يعدون من أهل العلم، فأهل العلم أولى بأن يبينوا مرادهم، وبأن يفهم مرادهم من خطابهم، وإذا كان هذا في العلماء الذين ليسوا بأنبياء، والأنبياء أولى إذا كلموا الخلق وخاطبوهم أن يبينوا مرادهم، وأن يفهم الناس ما بينوه بكلامهم، ثم رب العالمين أولى أن يكون كلامه أحسن الكلام وأتمه بيانا، وقد قال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ (ابراهيم: من الآية4)( ).


                            ودعوى الرازي أن دلائل القرآن موقوفة على عشرة مقدمات ظنية باطل من وجوه ( )، ولو كان كما زعم لما صار القرآن نورا وهدى وإذا كان بعض الناس قد يحتاج لبعض هذه المقدمات لفهم بعض الآيات – وهذا مما لا ينكر لأنه قد يوجد من هو حديث عهد بالإسلام أن نشأ ببادية بعيدة – إلا أن تعميم ذلك لجميع الناس ولعموم الآيات هو من أظهر البهتان ( ).


                            وقول الرازي أن المعول عليه في تحديد المتشابه مخالفة دليل العقل أدى به إلى مقالته الأخرى الباطلة حين ذكر من حكم إنزال المتشابه مخاطبة العوام بما يناسبهم مما ظاهره التجسيم والتشبيه، ليناسب ما توهموه أو تخيلوه، وإنه يجب أن يكشف لهم في النهاية عن أحكام هذه الآيات بتأويلها بما يوافق العقول، يقول شيخ الإسلام عن الرازي، إنه "جعل هو المتشابه ما خالف الدليل العقلي، والمحكم ما لم يخالف الدليل العقلي، فجعل الإحكام هو عدم المعارض العقلي، لا صفة في الخطاب ، ولهذا استقر أمره على أن جميع الأدلة السمعية القولية متشابهة لا يحتج بشيء منها في العمليات، فلم يبق على قوله لنا آيات محكمات وهن أم الكتاب بحيث يرد المتشابه إليها ولكن المردود إليه هو العقلي، فما وافقه أو لم يخالفه فهو المحكم، وما خالفه فهو المتشابه، وهذا من أعظم الالحاد في أسماء الله تعالى وآياته، ولهذا استقر قوله في هذا الكتاب ( ) على رأى الملاحدة الذين يقولون إنه أخبر العوام بما يعلم أنه باطل لكون عقولهم لا تقبل الحق، فخاطبهم بالتجسيم ( ) مع علمه أنه باطل، وهذا مما احتج به الملاحدة على هؤلاء في المعاد، وقالوا خاطبهم أيضاً بالمعاد كما خاطبهم بالتجسيم، وهؤلاء جعلوا الفرق أن المعاد علم بالاضطرار من دين الرسول"( ).
                            وهذه المسألة الأخيرة هي مسألة تسلط الفلاسفة والقرامطة على المتكلمين وقد سبق توضيحها في المنهج العام ( ).


                            الأمر الرابع: أن الصفات ليست من المتشابه:
                            شيخ الإسلام ناقش هذه المسألة – التي وقع فيها بعض الحنابلة أيضاً – حيث أدخلوا أسماء الله وصفاته – أو بعض ذلك في المتشابه، وبعضهم أعتقد أن ذلك هو المتشابه الذي استأثر الله بعلم تأويله – وقد جاءت مناقشة شيخ الإسلام لمن توهم ذلك من المتكلمين وغيرهم من خلال وجهين:
                            أحدهما: مناقضة من قال: إن الصفات من المتشابه، وإنه لا يفهم معناه، يقول شيخ الإسلام: "نقول: أما الدليل على بطلان ذلك فإن ما أعلم عن أحد من سلف الأمة ولا من الأئمة، لا أحمد بن حنبل ولا غيره أنه جعل ذلك من المتشابه الداخل في هذه الآية، ونفي أن يعلم أحد معناه وجعلوا أسماء الله وصفاته بمنزلة الكلام الأعجمي الذي لا يفهم، ولا قالوا إن الله ينزل كلاما لا يفهم أحد معناه، وإنما قالوا كلمات لها معان صحيحة، قالوا في أحاديث الصفات: "تمر كما جاءت"، ونهوا عن تأويلات الجهمية – وردوها وأبطلوها – التي مضمونها تعطيل النصوص عما دلت عليه. ونصوص أحمد والأئمة قبله بينة في أنهم كانوا يبطلون تأويلات الجهمية ويقرون النصوص على ما دلت عليه من معناها، ويفهمون منها بعض ما دلت عليه، كما يفهمون ذلك في سائر نصوص الوعد والوعيد والفضائل وغير ذلك، وأحمد قد قال في غير أحاديث الصفات: تمر كما جاءت…"( ) وسيأتي مزيد إيضاح لكلام الإمام أحمد عن الحديث عن مسألة "التفويض".


                            والسلف رحمهم الله تواتر عنهم الرد في تأويلات أهل الكلام، التي هي صرف للنصوص عن ظاهرها إلى ما يخالف ظاهرها، ثم إنهم – رحمهم الله – أثبتوا هذه الصفات ولم يتوقفوا فيها. فكيف يقال إنها عندهم من المتشابه؟( ).


                            ومن أدلة شيخ الإسلام على أن الصفات ليست من المتشابه الذي لا يعلم معناه قوله بعد إيراد عدد كبير من نصوص الأسماء والصفات: "فيقال لمن ادعى هذه أنه متشابه لا يعلم معناه: أتقول هذا في جميع ما سمي الله ووصف به نفسه، أم في البعض؟ فإن قلت: هذا في الجميع كان هذا عنادا ظاهراً وجحداً لما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام، بل كفر صريح، فإنا نفهم من قوله: إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (لأنفال: من الآية75) معنى، ونفهم من قوله: إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (البقرة: من الآية20) معنى ليس هو الأول، ونفهم من قوله: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ (لأعراف: من الآية156) معنى ونفهم من قوله: إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (ابراهيم: من الآية47) معنى، وصبيان المسلمين، بل كل عاقل فيهم يفهم هذا"( )، ثم رد على من زعم أن أسماء الله أعلام جامدة كبعض من ابتدع من أهل المغرب، ولعله يقصد ابن حزم ( ). وقد سبقت الإشارة إلى هذا في مبحث الأسماء في الفصل السابق.
                            والثاني: إنه لو قيل: إن الصفات من المتشابه، أو فيها ما هو من المتشابه، كما نقل عن الإمام أحمد تسمية ما استدل به الجهمية النفاة متشابها – فيقال "الذي في القرآن لأنه لا يعلم تأويله إلا الله، إما المتشابه، وإما الكتاب كله… ونفي علم تأويله ليس نفي علم معناه كما قدمناه ( ) في القيامة وأمور القيامة، وهذا الوجه قوى إن ثبت حديث ابن إسحاق في وفد نجران أنهم احتجوا على النبي  بقوله (إنا) و(نحن) ونحو ذلك ( )، ويؤيده أيضا أنه قد ثبت أن في القرآن متشابها وهو ما يحتمل معنيين، وفي مسائل الصفات ما هو من هذا الباب كما أن ذلك في مسائل المعاد وأولى، فإن نفي المتشابه بين الله وخلقه أعظم من نفي المتشابه بين موعود الجنة وموجود الدنيا.


                            وإنما نكتة الجواب هو ما قدمناه أولا أن نفي علم التأويل ليس نفيا لعلم المعنى"( )، ثم زاده شيخ الإسلام تقريراً وشرحا بشواهد الكتاب والسنة وكلام الصحابة وسائر السلف والأئمة الذين تكلموا في نصوص الصفات وغيرها، وفسروها بما يوافق دلالاتها وبيانها، وحرص عبدالله بن مسعود على تعلم التفسير، ودعاء النبي  لابن عباس، وتعلم جميع الصحابة التفسير مع التلاوة، وأقوال الأئمة، كل ذلك أدلة واضحة لمن هداه الله على إثباتهم للصفات التي دلت عليها النصوص، مع نفي العلم بالكيفية.


                            وبهذا يتبين أنه على القول بأن الصفات ليست من المتشابه مطلقا، أو القول بأنها من المتشابه – بالمعنى السابق – ليس لأهل الكلام ولا لغيرهم دليل على زعمهم.


                            التأويل والمجاز:


                            بين التأويل والمجاز علاقة واضحة ( )، ويجمعهما أنهما صارا مطية لكثير من الفرق الضالة في تعاملها مع النصوص لتوافق ما لديهما من اعتقادات فاسدة، والذين بحثوا في هذين الموضعين – من منطلق لغوي – وجدوا أن الكلام فيهما نشأ وترعرع في أحضان أهل الكلام من المعتزلة والباطنية وغيرهم ( )، وفي العصر الحاضر كثيرا ما ينطلق دعاة الاستغراب والفكر العقلاني المتمرد على الإسلام وتراثه، باسم الحداثة أو غيرها، كثيرا ما ينطلق هؤلاء من مبدأ "التأويل"( ).
                            ولأهمية موضوع التأويل والمجاز في علاقتهما بالعقيدة اهتم شيه الإسلام في بيان القول فيهما، دفاعا عن عقيدة السلف، وردا على أهل البدع،وتبعه على ذلك تلميذه ابن القيم إلى أفرد لموضوع التأويل مباحث مطولة في مقدمة كتابه "الصواعق المرسلة"( )، ثم لما ذكر الطواغيت الأربعة جعل منها طاغوت المجاز ( ).
                            وقد سبق عند الكلام عن المحكم والمتشابه عرض بعض القضايا المتعلقة بالتأويل، وبقيت بعض المسائل التي تحتاج إلى بيان، ونقد عرض لها شيخ الإسلام ومنها:
                            - التأويل في مصطلح المتأخرين. وتعارض ذلك مع فهم السلف له.
                            - القرائن المتصلة بالخطاب التي توضح أن النص ليس على ظاهره هل هو تأويل؟.
                            - ما هو الذي يؤول والذي لا يؤول، وتناقض المتكلمين في ذلك.
                            - هل قال الإمام أحمد بالتأويل؟:
                            - الحقيقة والمجاز.


                            ويمكن مناقشتها من خلال الأمور التالية:


                            الأمر الأول: التأويل ومعانيه:


                            ابتدع المتأخرون معنى للتأويل لم يكن معروفاً عند السلف من الصحابة والتابعين وتابعيهم، وقالوا: هو صرف اللفظ من الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح، ثم فسروا التأويل الوارد في آية آل عمران: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ (آل عمران: من الآية7) بهذا المصطلح الذي أحدثوه، ومن ثم أضفوا الشرعية على تأويلاتهم لنصوص الصفات أو بعضها.


                            وقد أولى شيخ الإسلام هذه المسألة اهتماما كبيراً، وعرض لها في مناسبات عديدة من كتبه، وانطلق في ذلك من بيان التأويل الواردة في الكتاب والسنة وأقوال السلف، حيث أوضح من خلال التتبع الدقيق لموارد لفظة "التأويل" في الكتاب والسنة وأقوال الصحابة، وأئمة السلف ( )، وانتهى من ذلك إلى أن التأويل ورد عندهم بمعنيين:
                            أحدهما: أنه بمعنى المرجع والمصير، والحقيقة التي يؤول إليها الشيء.
                            والثاني: أنه بمعنى التفسير ( ).


                            أما المعنى الثالث الذي اصطلح عليه المتأخرون وهو صرف اللفظ من الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح، فليس معروفا عندهم، يقول شيخ الإسلام بعد ذكر المعاني السابقة: "والمقصود هنا أن السلف كان أكثرهم يقف عند قوله: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّه بناء على أن التأويل هو الحقيقة التي استأثر الله بعلمها، لا يعلمها إلا هو، وطائفة كمجاهد وابن قتيبة ( ) وغيرهما قالوا: بل الراسخون يعلمون التأويل، ومرادهم بالتأويل المعنى الثاني وهو التفسير، فليس بين القولين تناقض في المعنى.


                            وأما التأويل بمعنى صرف اللفظ عن مفهومه إلى غير مفهومه فهذا لم يكن هوالمراد بلفظ التأويل في كلام السلف، اللهم إلا أنه إذا علم أن المتكلم أراد المعنى الذي يقال إنه خلاف الظاهر جعلوه من التأويل الذي هو التفسير، لكونه تفسيراً للكلام وبيانا لمراد المتكلم به، أو جعلوه من النوع الآخر الذي هو الحقيقة الثابتة في نفس الأمر التي استأثر الله بعلمها لكونه مندرجاً في ذلك لا لكونه مخالفا للظاهر.
                            وكان السلف ينكرون التأويلات التي تخرج الكلام عن مراد الله ورسوله التي هي من نوع تحريف الكلم عن مواضعه، فكانوا ينكرون التأويل الباطل الذي هو التفسير الباطل، كما ننكر قول من فسر كلام المتكلم بخلاف مراده…"( ).


                            وقد أراد شيخ الإسلام من هذا الكلام. تقرير عدة أمور:


                            1- أنه لا يجوز حمل النصوص على مصطلح حادث، بل لا بد من الرجوع أولا إلى الاستعمالات الواردة لهذا اللفظ وقت النزول. ولفظ التأويل لم يرد في الكتاب والسنة وأقوال الصحابة إلا بهذين المعنيين، فحمل لفظ التأويل – في آية آل عمران – على غيرهما باطل.


                            2- أن القراءتين الواردتين في الآية صحيحتان ( )، ولا تعارض بينهما، وكل قراءة محمولة على معنى من معاني التأويل الوارد. ففي قراءة الوقف على لفظ الجلالة – وهي قراءة الجمهور – يكون معنى التأويل حقيقة الشيء في قراءة الوصل يكون معناه التفسير.



                            3- أن التأويل هو بيان مراد المتكلم، وليس هو بيان ما يحتمله اللفظ في اللغة ( )، ولذلك فقد يوجد في كلام السلف تفسير الآية على خلاف ظاهرها – مما قد يقال بأنه صرف للفظ عن ظاهره – ولكن هذا من باب بيان مراد المتكلم وتفسير كلامه، بضم النظائر إلى بعضها، وتفسير بعض النصوص بنصوص أخرى، توضح المراد منها، وتزيل ما قد يشتبه منها على بعض الناس: وشيخ الإسلام كثيراً ما يركز على "أن الرسول بلغ البلاغ المبين، وبين مراده، وأن كل ما في القرآن والحديث من لفظ يقال فيه إنه يحتاج إلى التأويل الاصطلاحي الخاص الذي هو صرف اللفظ عن ظاهره، فلا بد أن يكون الرسول قد بين مراده بذلك اللفظ بخطاب آخر، لا يجوز عليه أن يتكلم بالكلام الذي مفهومه ومدلوله باطل، ويسكت عن بيان المراد بالحق، ولا يجوز أن يريد من الخلق أن يفهموا من كلامه ما لم يبينه لهم ويدلهم عليه لا مكان معرفة ذلك بعقولهم، وأن هذا قدح في الرسول الذي بلغ البلاغ المبين الذي هدى الله به العباد وأخرجهم به من الظلمات إلى النور، وفرق الله به بين الحق والباطل، وبين الهدى والضلال، وبين الرشاد والغي، وبين أولياء الله وأعدائه، وبين ما يستحقه الرب من الأسماء والصفات وما ينزه عنه من ذلك. فمن زعم أنه تكلم بما لا يدل إلا على الباطل، لا على الحق ولم يبين مراده، وإنه أراد بذلك اللفظ المعنى الذي ليس بباطل، وأحال الناس في معرفة المراد على ما يعلم من غير جهته بآرائهم فقد قدح بالرسول"( ).


                            وأهل الكلام الباطل ينظرون إلى النص بحد ذاته، ويعملون فيه آراءهم واجتهاداتهم ومسلماتهم العقلية، دون أن ينظروا إلى مراد المتكلم وقصده من هذا الكلام، ودون أن يرجعوا إلى النصوص الأخرى التي قد تكون نصا في بيان المراد.


                            ولذلك فإنهم حين يلحظون من كلامهم غلوا في صرف الألفاظ والنصوص عن معانيها، أو يوجه إليهم استشكال وتساؤل عن أسباب هذا التأويل – الذي هو في الحقيقة تحريف وتعطيل – يلجأون إلى جواب غير مقنع – وإخاله غير مقنع لهم أنفسهم لكنهم اضطروا إليه – وهو قولهم أن فائدة إنزال النصوص المثبتة للصفات اجتهاد أهل العلم في صرفها عن مقتضاها بالأدلة المعارضة لها، لتنال النفوس الثواب، وتنهض إلى التفكر والاستدلال بالأدلة العقلية.
                            وعليه فالهدى والنور والبيان الذي جاء به الكتاب والسنة لا يتم إلا بتحريف نصوصهما بما يوافق معقولات الفلاسفة والجهمية وأهل البدع والكلام والباطل!، وقد ضرب شيخ الإسلام لذلك بمثال، أطال في شرحه ( ).
                            والخلاصة أن الأقوال في التأويل، وفي تفسير آية آل عمران على كلا القراءتين، ليس في ذلك كله ما يبرر مذهب النفاة الذين حرفوا كثير من النصوص باسم "التأويل"( ).


                            الأمر الثاني:
                            القرائن المتصلة بالخطاب التي تدل على أن النص ليس على ظاهره هل يعتبر تأويلا؟ وما الشيء الذي يؤول والذي لا يؤول؟
                            هذه المسألة من المسائل التي كثر الخوض فيها دون ضابط أو منهج صحيح، ولذلك ضل فيها طائفتان:


                            طائفة:
                            ظنت أنه إذا كان بعض نصوص الصفات ليس على ظاهره، مثل حديث: عبدي مرضت ( )، ونحوه، فهو دليل على جواز التأويل لكل نص وارد في الصفات دل ظاهره على التشبيه أو خالف المعقول مثلا، ولو كان ثبوته ودلالته قطعيين – وهذا قول طوائف أهل الكلام – مع تفاوتهم في ذلك - .


                            وطائفة:
                            عكست الأمر فظنت إنه إذا كان لا يجوز التأويل في نصوص الصفات، فكذلك النصوص الأخرى يجب حملها على ظاهرها، ولو دلت القرائن على أن هذا الظاهر الفاسد منتف،وهؤلاء كثيرا ما يخلطون بين الأحاديث الصحيحة والموضوعة.


                            وكل من الطائفتين لم توفق إلى الحق والصواب، بل وقع في البدعة وخالف النصوص الدالة على إثبات الصفات لله من غير تمثيل ولا تعطيل.
                            وسبب ذلك أنهم لم يفرقوا في النصوص بين ما هو من الصفات وما ليس منها، وإنما خلطوا الأمر إما إثباتاً أو نفياً وتعطيلاً.


                            وقد اهتم شيخ الإسلام بهذا الأمر، وميز تمييزا واضحا بين النصوص الدالة على الصفات، والنصوص التي ليست منها، إما لعدم ثبوتها، أو لأن القرائن دلت على أنها ليست من الصفات.


                            بل قد قال شيخ الإسلام جازماً:
                            "وأما الذي أقوله الآن وأكتبه – وإن كنت لم أكتبه فيما تقدم من أجوبتي، وإنما أقوله في كثير من المجالس – أن جميع ما في القرآن من آيات الصفات فليس عن الصحابة اختلاف في تأويلها. وقد طالعت التفاسير المنقولة عن الصحابة وما رووه من الحديث، ووقفت من ذلك على ما شاء الله تعالى من الكتب الكبار والصغار أكثر من مئة تفسير، فلم أجد – إلى ساعتي هذه – عن أحد من الصحاب أنه تأول شيئاً من آيات الصفات أو أحاديث الصفات بخلاف مقتضاها المفهوم المعروف"( ).


                            فالشأن أن تكون من آيات الصفات أو أحاديث الصفات، أما النصوص الأخرى التي قد تدل على الصفة، لكن ليست نصا فيها، فخلاف علماء أهل السنة فيها لا يجعل قول من لم يثبت بها صفة دليلا على تأويل الصفات، لأن النص نفسه ليس صريحا في ذلك.


                            وقد أورد شيخ الإسلام عددا من الأمثلة على ذلك، وقبل إيراد نماذج منها يحسن ذكر ما قاله في مقدمة أحدها، فقد أورد – رحمه الله – مسألة قربه تعالى من عباده، والخلاف في ذلك، ثم قال: "وإذا كان قرب عباده من نفسه، وقربه منهم، ليس ممتنعا عند الجماهير من السلف وأتباعهم من أهل الحديث، والفقهاء، والصوفية، وأهل الكلام، لم يجب أن يتأول كل نص فيه ذكر ربه من جهة امتناع القرب عليه، ولا يلزم من جواز القرب عليه أن يكون كل موضع ذكر فيه قربه يراد به قربه بنفسه، بل يبقى هذا من الأمور الجائزة، وينظر في النص الوارد، فإن دل على هذا حمل عليه، وإن دل على هذا حمل عليه، كما تقدم في لفظ الإتيان والمجيء: إن ( ) كان في موضع قد دل عندهم على أنه هو يأتي، ففي موضع آخر دل على أنه يأتي بعذابه، كما في قوله تعالى: فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِد (النحل: من الآية26) وقوله تعالى: فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا (الحشر: من الآية2).


                            فتدبر هذا؛ فإنه كثير ما يغلط الناس في هذا الموضع، إذا تنازع النفاة والمثبتة في صفة، ودلالة نص عليها: يريد المريد أن يجعل ذلك اللفظ – حيث ورد – دالا على الصفة وظاهرا فيها. ثم يقول النافي:وهناك لم تدل على الصفة فلا تدل هنا. وقد يقول بعض المثبتة: دلت هنا على الصفة فتكون دالة هناك، بل لما رأوا بعض النصوص تدل على الصفة، جعلوا كل آية فيها ما يتوهمون أنه يضاف إلى الله تعالى – إضافة صفة – من آيات الصفات، كقوله تعالى: فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ (الزمر: من الآية56).


                            وهذا يقع فيه طوائف من المثبتة والنفاة، وهذا من أكبر الغلط؛ فإن الدلالة في كل موضع بحسب سياقه، وما يحف به من القرائن اللفظية والحالية، وهذا موجود في أمر المخلوقين، يراد بألفاظ الصفات منهم في مواضع كثيرة غير الصفات"( )، ثم ذكر مثالين نافعين لذلك.


                            وبعد هذه المقدمة نعود إلى ما ذكره من أمثلة من الكتاب وأمثلة من السنة:


                            أولاً:
                            أمثلة من الكتاب:


                            1- قال الله تعالى: فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ (البقرة: من الآية115)، ويقول شيخ الإسلام عن صفة الوجه: "لما كان إثبات هذه الصفة مذهب أهل الحديث، والمتكلمة الصفاتية من الكلابية، والأشعرية، والكرامية، وكان نفيها مذهب الجهمية من المعتزلة وغيرهم، ومذهب بعض الصفاتية من الأشعرية وغيرهم، صار بعض الناس من الطائفتين كلما قرأ آية فيها ذكر الوجه جعلها من موارد النزاع، فالمثبت يجعلها من الصفات التي لا تتأول بالصرف، والنافي يرى أنه إذا قام الدليل على أنه ليست صفة فكذلك غيرها، مثال ذلك قوله تعالى: وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ (البقرة: من الآية115) أدخلها في آيات الصفات طوائف من المثبتة والنفاة، حتى عدها أولئك – كابن خزيمة – مما يقرر إثبات الصفة ( )، وجعل [النفاة]( ) تفسيرها بغير الصفة حجة لهم في موارد النزاع"( ).
                            ثم ذكر قصته في المناظرة التي عقدت له فقال: "ولهذا لما اجتمعنا في المجلس المعقود – وكنت قد قلت: أمهلت كل من خالفني ثلاث سنين إن جاء بحرف واحد عن السلف يخالف شيئاً مما ذكرته كانت له الحجة، وفعلت وفعلت، وجعل المعارضون يفتشون الكتب فظفروا بما ذكره البيهقي في كتاب "الأسماء والصفات" في قوله تعالى: وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ (البقرة: من الآية115)، فإنه ذكر عن مجاهد والشافعي أن المراد: قبلة الله ( ) – فقال أحد كبرائهم – ( ) في المجلس الثاني – قد أحضرت نقلا عن السلف بالتأويل، فوقع في قلبي ما أعد، فقلت: لعلك قد ذكرت ما روى في قوله تعالى: وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّه قال: نعم، قلت: المراد بها قبلة الله، فقال: قد تأولها مجاهد والشافعي وهما من السلف. ولم يكن هذا السؤال يرد علي، فإنه لم يكن شيء مما ناظروني فيه صفة الوجه، ولا أثبتها ( )، لكن طلبوها من حيث الجملة، وكلامي كان مقيداً كما في الأجوبة، فلم أر احقاقهم في هذا المقام، بل قلت: هذه الآية ليست من آيات الصفات أصلا، ولا تندرج في عموم قول من يقول: لا تؤول آيات الصفات. قال: أليس فيها ذكر الوجه؟ فلما قلت: المراد بها قبلة الله، قال: أليست هذه من آيات الصفات؟ قلت: لا، ليست من موارد النزاع، فإني إنما أسلم أن المراد بالوجه – هنا – القبلة، فإن الوجه هو الجهة في لغة العرب، يقال: قصدت هذا الوجه، وسافرت إلى هذا الوجه، أي: إلى هذه الجهة…" – وبعد أن زاد هذا شرحاً، قال: في كلام مهم جدا: "ولكن من الناس من يسلم أن المراد بذلك جهة الله، أي قبلة الله، ولكن يقول: هذه الآية تدل على الصفة وعلى أن العبد يستقبل ربه… ويقول: إن الآية دلت على المعنيين، فهذا شيء آخر ليس هذا موضعه. والغرض أنه إذا قيل: فثم قبلة الله، لم يكن هذا من التأويل المتنازع فيه الذي ينكره منكروا تأويل آيات الصفات، ولا هو مما يستدل به عليهم المثبتة، فإن هذا المعنى صحيح في نفسه، والآية دالة عليه، وإن كانت دالة على ثبوت صفة فذاك شيء آخر، ويبقى دلالة [قوله]( ) فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ على فثم قبلة الله، هل هو من باب تسمية القبلة وجها باعتبار أن الوجه والجهة واحد؟ أو باعتبار أن من استقبل وجه الله فقد استقبل قبلة الله؟ فهذا فيه بحوث أخرى، ليس هذا موضعها"( ).


                            وفي نقض التأسيس أشار إلى ما ذكره هنا، مع زيادة في الشرح والتوضيح، وقال في أثناء ذلك: "فهذا القول ليس عندنا من باب التأويل الذي هو مخالفة الظاهر أصلاً، وليس المقصود نصر هذا القول، بل بيان توجيهه وأن قائليه من السلف لم يكونوا من نفاة الصفة، ولا ممن يقول: ظاهر الآية ممتنع…"( )، ثم ذكر ثلاث احتمالات في هذه الآية:


                            أحدها:
                            أنها دالة على الصفة، وحينئذ تقر على ظاهرها، ولا محذور فيه، ومن يقول بهذا لا يقول إن وجه الله هو نفسه في الأجسام المستقبلة ولا يقول هذا أحد من أهل السنة، و"ثم" إشارة إلى البعيد.


                            والثاني:
                            أن ظاهرها أن الذي ثم هو القبلة المخلوقة فقط، وفي هذه لا تكون الآية مصروفة عن ظاهرها، وتوجيه ذلك أن "ثم" إشارة إلى مكان موجود، والله تعالى فوق العالم ليس هو في جوف الأمكنة.


                            والثالث:
                            أن يقال ظاهرها يحتمل الأمرين، وحينئذ فقول مجاهد لا ينافي ذلك ( ).
                            ولكن ما الذي يرجحه شيخ الإسلام – مع قوله إن قول مجاهد "فثم قبلة الله" ليس تأويلا ولا حجة فيه للنفاة؟، سبق قبل قليل نقل قوله في مجموع الفتاوى: "ولكن من الناس من يسلم أن المراد بذلك جهة الله أي قبلة الله، ولكن يقول: هذه الآية تدل على الصفة…"، وزاده في نقض التأسيس بيانا فقال في أحد وجوه الرد على الرازي: "الوجه الثالث: أن يقال: بل هذه الآية دلت على الصفة كغيرها، وذلك هو ظاهر الخطاب وليست مصروفة عن ظاهرها، وإن كانت مع ذلك دالة على استقبال قبلة مخلوقة، ونجزم بذلك فلا نسلم أنها مصروفة عن ظاهرها،ولفظ "الوجه" هو صفة الله، فما الدليل على وجوب تأويلها، وقوله فَثَمَّ وَجْهُ اللَّه فيه الإشارة إلى وجه الله بأنه ثم، والله تعالى يشار إليه كما تقدم تقرير هذا"( ).


                            ويجب أن لا يغيب عن البال – في خضم هذه المناقشات – أن الخلاف ليس في إثبات صفة "الوجه" لله تعالى، لأن هذه الصفة ثابتة بنصوص أخرى صريحة قطعية، لا مجال فيها لأي احتمال – وقد أثبتها متقدمو أئمة الأشاعرة – ولكن الكلام هنا يدور حول أحد النصوص الواردة وهو قوله تعالى: فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ هل هو دال على الصفة أم لا؟.


                            والخلاصة أن دلالة مثل هذه الآية محتملة، وهي لا تخالف النصوص الأخرى المثبتة لصفة الوجه، وليس فيما قاله مجاهد – تفسيرا لها – حجة للنفاة على جواز التأويل، وسواء دلت على الصفة أو لم تدل فليس للنفاة فيها حجة أصلا.


                            2- ومن الأمثلة أيضاً قوله تعالى: أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ (الزمر: من الآية56)، يقول شيخ الإسلام في معرض رده على الرازي – الذي يذكر بعض النصوص التي تحتاج إلى تأويل، ويحتج بها على جواز التأويل : "يقال: من أين في ظاهر القرآن إثبات جنب واحد صفة لله، ومن المعلوم أن هذا لا يثبته جميع مثبتة الصفات الخبرية، بل كثير منهم ينفون ذلك، بل ينفون قول أحد منهم بذلك ( )"، ثم نقل كلام الدارمي في نقضه على المريسي – ورده عليه في احتجاجه بهذه الآية – وأنه قال: "وادعى المعارض زورا على قوم أنهم يقولون في تفسير قوله الله تعالى: يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّه (الزمر: من الآية56) قال: يعنون بذلك الجنب [الذي]( ) هو العضو، وليس على ما يتوهمونه


                            3- قال: فيقال لهذا المعارض: ما أرخص الكذب عندك، وأخفه على لسانك، فإن كنت صادقا في دعواك فأشر بها إلى أحد من بني آدم قاله، وإلا فلم تشنع بالكذب على قوم هم أعلم بالتفسير منك، وأبصر بتأويل كتاب الله منك ومن إمامك؟، إنما تفسيرها عندهم: تحسر الكافرين على ما فرطوا في الإيمان والفضائل التي تدعو إلى ذات الله، واختاروا عليها الكفر والسخرية بأولياء الله فسماهم الساخرين ( )، فهذا تفسير الجنب عندهم، فمن أنبأك أنهم قالوا: جنب من الجنوب، فإنه لا يجهل ( ) هذا المعنى كثير من عوام المسلمين فضلا عن علمائهم…"( )، ثم عقب شيخ الإسلام بتوجيه آخر يدل على أنها ليست صفة، ونقل كلام ابن بطة والقاضي أبي يعلي ( ).


                            وقد عقب شيخ الإسلام على ما مضى – رادا على الرازي الذي زعم أن ظاهر القرآن يلزم منه أن لله جنبا واحدا عليه أيد كثيرة… ( ) فقال: "وأين في ظاهر القرآن أنه ليس لله جنب واحد بمعنى الشق، ولكن قد يقال: القرآن فيه إثبات جنب الله تعالى، وفيه إثبات التفريط فيه، فثبوت نوع من التوسع والتجوز فيما جعل فيه لا يوجب ثبوت التوسع والتجوز فيه كما في قوله تعالى: بِيَدِهِ الْمُلْكُ (الملك: من الآية1)، فإن هناك شيئين: اليد ( ) وكون الملك فيها، ولهذا تنازعوا في إثبات ذلك صفة لله"( ).
                            وما أشار إليه شيخ الإسلام من صفة "اليد" أوضحه في مكان آخر فقال رادا على نفاة هذه الصفة: "ومن ذلك أنهم إذا قالوا: بيده الملك، أو عملته يداك، فهما شيئان، أحدهم: إثبات اليد، والثاني: إضافة الملك والعمل إليها. والثاني يقع فيه التجوز كثيراً، أما الأول فإنهم لا يطلقون هذا الكلام إلا لجنس له "يد" حقيقة، ولا يقولون: يد الهوى، ولا يد الماء، فهب أن قوله: بيده الملك، قد علم منه أن المراد بقدرته، لكن لا يتجوز بذلك إلا لمن له يد حقيقة"( ).


                            ولعله اتضح معنى قوله في نص – نقض التأسيس – عن قوله بِيَدِهِ الْمُلْك : "ولهذا تنازعوا في إثبات ذلك صفة لله" أن المقصود بذلك أن من قال إن المراد بذلك بقدرته قد لا يحتج بهذه الآية على إثبات هذه الصفة لله، ولكن ها هنا أمران:


                            أحدهما:
                            أن إثبات صفة اليدين قد دلت عليه أدلة قطعية، لا مجال فيها لأي تأويل.


                            الثاني:
                            أن قوله بِيَدِهِ الْمُلْك وإن قيل إن معناه بقدرته، إلا أن الآية تدل على إثبات اليد لله، لأنه لا يتجوز بذلك إلا لمن له يد حقيقة.


                            والخلاصة أن آية عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّه من قال إن المقصود هو التحسر على التفريط في الإيمان والأعمال الصالحة، فليس قوله هذا تأويلاً لصفة من الصفات، حتى يكون حجة لنفاة الصفات. وكذلك من أثبت بهذه الآية الصفة، فإنه أثبت صفة الجنب لله، وأثبت التفريط فيه، مثل قوله: بِيَدِهِ الْمُلْك، وقال: إنه لا يتجوز بذلك إلا لمن له جنب. والله أعلم.


                            4- ومن الأمثلة قوله تعالى: يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ (القلم: من الآية42) فإن الصحابة والتابعين قد تنازعوا في هذه الآية، هل المقصود بها الكشف عن الشدة، أو المراد أن الرب تعالى يكشف عن ساقه، "ولم تتنازع الصحابة والتابعون فيما ذكر من آيات الصفات إلا في هذه الآية، بخلاف قوله لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَي (صّ: من الآية75)، وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ (الرحمن: من الآية27) ونحو ذلك، فإنه لم يتنازع فيه الصحابة والتابعون، وذلك أنه ليس في ظاهر القرآن أن ذلك صفة لله تعالى لأنه قال يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاق ولم يقل عن ساق الله، ولا قال يكشف الرب عن ساقه، وإنما ذكر ساقا نكرة غير معرفة ولا مضافة، وهذا اللفظ بمجرده لا يدل على أنها ساق الله، والذين جعلوا ذلك من صفات الله تعالى أثبتوه بالحديث الصحيح المفسر للقرآن، وهو حديث أبي سعيد الخدري المخرج في الصحيحين الذي قال فيه: "فيكشف الرب عن ساقه"( )، وقد يقال أن ظاهر القرآن يدل على ذلك من جهة أنه أخبر أنه يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود، والسجود لا يصلح إلا لله، فعلم أنه هو الكاشف عن ساقه، وأيضاً فحمل ذلك على الشدة لا يصح، لأن المستعمل في الشدة أن يقال كشف الله الشدة، أي أزالها، كما قال فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ ( )(الزخرف:50) وقال: فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ ( ) إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوه (لأعراف: من الآية135) وقال: وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (المؤمنون:75)، وإذا كان المعروف من ذلك في اللغة أنه يقال: كشف الشدة: أي أزالها، فلفظ الآية يُكْشَفُ عَنْ سَاق وهذا يراد به الإظهار والإبانة"( ).


                            وشيخ الإسلام يرجح دلالة الآية على الصفة، خاصة مع دلالة الحديث الواضحة، ومع ذلك فمن قال من السلف إن المراد بها الكشف عن الشدة، فليس قولهم تأويلا، ثم إنهم يثبتون هذه الصفة بالحديث الصحيح، فلو كان قصدهم التأويل – لذات التأويل – كما يدعي النفاة، لكان تأويلهم للحديث أولى، لكن لما أنهم لم يفرقوا بين دلالة الكتاب والسنة الصحيحة على إثبات الصفات، أثبتوا هذه الصفة بالسنة مع ترجيحهم إن الآية لها معنى آخر. فالنتيجة واحدة.

                            تعليق


                            • #15
                              الحلقة
                              (12)


                              المنتقى من"موقف ابن تيمية من الأشاعرة"
                              (رسالة دكتوراه)

                              لأبي جهاد الجزائري

                              ثانياً:
                              أمثلة السنة:

                              من الأصول الفاسدة التي بنى عليها النفاة من أصحاب التأويل الذين أوجبوه وقالوا إنه صرف اللفظ من الإحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح – قولهم إنهم لا بد من تأويل بعض الظواهر، مثل قوله: عبدي مرضت فلم تعدني، ومثل الحجر الأسود يمين الله في الأرض، وغيرهما، ثم زعمهم أن أي نص خالف رأيهم أو مذهبهم هو من هذا الباب وإنه يحتاج إلى تأويل،
                              فهم بين أمرين:
                              1- أما أن يجعلوا المعنى الفاسد ظاهر اللفظ.
                              2- أو يردون المعنى الحق الذي هو ظاهر اللفظ لاعتقادهم أنه باطل.
                              والثاني مثل تأويلهم لكثير من نصوص الصفات الصريحة، كقوله تعالى: وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّك (الرحمن: من الآية27)، وقوله: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَي (صّ: من الآية75) وقوله  "يضع عليها قدمه" ( ) أي النار، حيث زعموا أن هذه النصوص الواضحة الصريحة القاطعة لا تدل على صفة، ويجب تأويلها.

                              أما الأول – وهو الشاهد هنا – فقد ذكر شيخ الإسلام عدة أمثلة يمكن الإشارة إلى بعضها باختصار:

                              1- حديث: عبدي مرضت فلم تعدني… جعت فلم تطعمني ( )، فظن هؤلاء النفاة أن ظاهر الحديث أن الله تعالى هو الذي مرض وهو الذي جاع فجعلوا هذا المعنى الفاسد ظاهر اللفظ، وعلى كلامهم يكون ظاهر كلام الله ورسوله كفرا والحادا. ثم قالوا لا بد فيه من التأويل.

                              وقد بين شيخ الإسلام غلط هؤلاء وقال: "أما النصوص التي يزعمون أن ظاهرها كفر، فإذا تدبرت النصوص وجدتها قد بينت المراد، وأزالت الشبهة، فإن الحديث الصحيح لفظه: عبدي مرضت فلم تعدني، فيقول: كيف أعودك وأنت رب العالمين؟ فيقول: أما علمت أن عبدي فلانا مرض فلو عدته لوجدتني عنده"، فنفس ألفاظ الحديث نصوص في أن الله لا يمرض وإنما الذي مرض عبده المؤمن. ومثل هذا لا يقال: ظاهره أن الله يمرض فيحتاج إلى تأويل؛ لأن اللفظ إذا قرن به ما يبين معناه، كان ذلك هو ظاهره، كاللفظ العام إذا قرن به استثناء أو غاية أو صفة كقوله: فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَاما (العنكبوت: من الآية14) وقوله: فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْن (النساء: من الآية92) ونحو ذلك، فإن الناس متفقون على أنه حينئذ ليس ظاهره ألفا كاملة، ولا شهرين سواء كانا متفرقين أو متتابعين.

                              "فهذا الحديث قد قرن به الرسول بيانه، وفسر معناه، فلم يبق في ظاهره ما يدل على باطل، ولا يحتاج إلى معارضة بعقل ولا تأويل يصرف به ظاهره إلى باطنه بغير دليل شرعي، فأما أن يقال: إن في كلام الله ورسوله ما ظاهره كفر والحاد من غير بيان من الله ورسوله لما يزيل الفساد ويبين المراد، فهذا هو الذي تقول أعداء الرسل، الذين كفروا من المشركين وأهل الكتاب، وهو الذي لا يوجد في كلام الله أبداً"( ).
                              وكثيراً ما يورد شيخ الإسلام هذا المثال، ولذلك بين المراد منه في مناسبات متعددة ( ).

                              2- قوله  : "الحجر الأسود يمين الله في الأرض"( ) – فقد زعم الغزالي والرازي أن هذا من الأحاديث التي تأولها الإمام أحمد ( )، - وسيأتي إن شاء الله مناقشة هذا -، وقد بين شيخ الإسلام أن هذا الحديث ليس فيه حجة لمن يدعي جواز التأويل، يقول: "أما قوله: الحجر الأسود يمين الله في الأرض، فإن هذا ليس بثابت عن النبي  بل قد روه عن ابن عباس، ولم يقل أحمد قط إن هذا الحديث عن النبي  وإنه يتأول، بل هذا الحديث سواء كان عن ابن عباس أو كان مرفوعا فلفظه نص صريح لا يحتاج إلى تأويل، فإن لفظه: الحجر الأسود يمين الله في الأرض فمن استلمه وقبله، فكأنما صافح الله وقبل يده، وتسمية هذا تأويلا أبعد من تسميته الحديث الذي فيه: "جعت"، وذلك أنه يمين في الأرض، فقوله: "في الأرض"، متصل بالكلام مظهر لمعناه، فدل بطريق النص أنه ليس هو يمين الله الذي هو صفة له حيث قال: في الأرض، كما لو قال الأمير مخاطبا للقوم في جاسوس له: هذا عيني عندكم، فإن هذا نص في أنه جاسوسه الذي هو يمنزلة عينه، ليس هو نفس عينه التي هي صفة، فكيف يجوز أن يقال إن هذا متأول مصروف عن ظاهره، وهو نص في المعنى الصحيح لا يحتمل الباطل، فضلا عن أن يكون ظاهره باطلا.

                              وأيضا فإنه قال: من استلمه وقبله فكأنما صافح الله وقبل يده، فجعل المستلم له كأنما صافح الله تعالى، ولم يقل فقد صافح الله، والمشبه ليس هو المشبه به، بل ذلك نص في المغايرة بينهما، فكيف يقال: إنه مصروف عن ظاهره،وهو نص في المعنى الصحيح، بل تأويل هذا الحديث – لو كان مما يقبل التأويل – أن يجعل الحجر عين يمين الله، وهو الكفر الصريح الذي فروا منه" ( )، ثم نقل شيخ الإسلام كلام الدارمي حوله ( )، وكلام القاضي أبي يعلي ( ) – مع أنه انتقده فيما ذكره من تأويلات أخرى بعيدة، حيث أبطلها إلا واحدا ( ).
                              فالحديث لا يحتاج إلى تأويل كما زعم النفاة، وقد بين ذلك شيخ الإسلام بوضوح ( ).
                              3- حديث "إني لأجد نفس – بفتح الفاء – الرحمن من قبل اليمن"( )، وهو أيضا من الأحاديث التي ذكر الغزالي والرازي أن الإمام أحمد تأولها، يقول شيخ الإسلام بعد نقله كلام القاضي أبي يعلي وغيره حول معنى هذا الحديث ( )، "فهذا كلام القاضي أبي يعلى، وما ذكره فيه من كلام غيره، وقد بين أنه إ نما تأول الخبر لأن في الخبر نفسه ما دل على صحة التأويل، ومثل هذا لا نزاع فيه، فإنه إذا كان في الحديث الواحد متصلا به ما يبين معناه فذلك مثل التخصيص المتصل، ومثل هذا لا يقال فيه إنه خلاف الظاهر، بل ذلك هو الظاهر بلا نزاع بين الناس، ولهذا يقبل مثل ذلك في الإقرار والطلاق والعتاق والنذر واليمين وغيره ذلك…"( )، ومعنى الحديث إني أجد تفريج الله عن نبيه ما كان فيه من أذى المشركين، والرسول كثيراً ما يمدح أهل اليمن ( ). وقوله "من قبل اليمن" يبين مقصود الحديث، لأنه ليس لليمن اختصاص بصفات الله تعالى حتى يظن ذلك ( ).
                              وقد ذكر شيخ الإسلام نماذج وأحاديث أخرى ( )، وهي أحاديث واضحة الدلالة، مفهومة المعنى، لا تحتاج إلى تأويل، لأنه لا يتبادر إلى الذهن فيها أي معنى من المعاني الفاسدة التي ظنها هؤلاء.

                              وأهل السنة والجماعة يثبتون الصفات الواردة التي دلت عليها عشرات النصوص من الكتاب والسنة، ولا يفرقون، بينها، وهذا معروف متواتر سطرته كتب أهل السنة المتعددة، وقد أثبتوا جميع الصفات ومنها ما نفاه متأخرو الأشعرية – كالاستواء، والعلو، والنزول، والمجيء، والإتيان، والوجه، واليدين، والعين، والقدم، واليمين، والأصابع، وغيرها مما ثبت بالنصوص الواردة.

                              أما تلك الأحاديث – التي ظن النفاة أن ظاهرها يدل على معنى فاسد ويجب تأويلها – فلم يفهم منها أهل السنة إلا المعنى الحق الذي دل عليه النص بقرائنه الواضحة، وما اختلف فيه أهل السنة فهو من هذا الباب لأن بعضهم يرى أن القرائن تدل على أن القصد الصفة، وبعضهم يرى أنها تدل على معنى آخر، ولذلك لما ثبتت صفة "الساق" في الحديث أثبتها أهل السنة، وإن كانوا مختلفين حول دلالة الآية عليها، وهذا هو الذي يوضح الفرق بين منهج السلف، ومنهج المبتدعة من أهل الكلام.

                              وقد بين شيخ الإسلام أن هؤلاء النفاة أدى بهم منهجهم إلى كثير من الاضطراب والتناقض، فقال: "ولهذا لما لم يكن لهم قانون قويم، وصراط مستقيم في النصوص، لم يوجد أحد منهم يمكنه التفريق بين النصوص التي تحتاج إلى تأويل، والتي لا تحتاج إليه، إلا بما يرجع إلى نفس المتأول، المستمع للخطاب، لا بما يرجع إلى نفس المتكلم بالخطاب
                              فنجد من ظهر له تناقض أقوال أهل الكلام والفلسفة – كأبي حامد وأمثاله، ممن يظنون أن في طريق التصفية نيل مطلوبهم – يعولون في هذا الباب على ذوقهم وكشفهم فيقولون: إن ما عرفته بنور بصيرتك فقرره، وما لم تعرفه فأوله ( ).

                              ومن ظن أن في كلام المتكلمين ما يهدي إلى الحق، يقول: ما ناقض دلالة العقل وجب تأويله، وإلا فلا.

                              ثم المعتزلي – والمتفلسف الذي يوافقه – يقول: إن العقل يمنع إثبات الصفات، وإمكان الرؤية.
                              ويقول المتفلسف الدهري: إنه يمنع إثبات معاد الأبدان، وإثبات أكل وشرب في الآخرة، ونحو ذلك.

                              فهؤلاء، مع تناقضهم، لا يجعلون الرسول نصب نفسه في خطابه دليلا يفرق به بين الحق والباطل، والهدى والضلال، بل يجعلون الفارق هو ما يختلف باختلاف الناس من أذواقهم وعقولهم، ومعلوم أن هذا نسبة للرسول إلى التلبيس وعدم البيان، بل إلى كتمان الحق وإضلال الخلق، بل إلى التكلم بكلام لا يعرف حقه من باطله، ولهذا كان حقيقة أمرهم الإعراض عن الكتاب والرسول، فلا يستفيدون من كتاب الله وسنة رسوله شيئا من معرفة صفات الله تعالى نفيا وإثباتا، وإنما دلالته عندهم في العمليات – أو بعضها – مع أنهم متفقون على أن مقصوده العدل بين الناس وإصلاح دنياهم"( ).

                              والغزالي ذكر تطور تأويل نصوص السمع عند المعتزلة والفلاسفة وغيرهم في أمور المعاد واليوم الآخر والصفات، وقد نقل شيخ الإسلام كلامه، وبين أنه حجة عليه، كما رد عليه تعويله على الكشف والمشاهدة ( ).

                              الأمر الثالث: هل قال الإمام أحمد بالتأويل؟"

                              القول بأن الإمام أحمد قال بالتأويل تلقفته طائفتان:

                              إحداهما:
                              طائفة من الحنابلة الذين مالوا إلى شيء من بدع أهل الكلام، حيث جعلوا مثل هذا النقل عن الإمام أحمد حجة لهم في مخالفتهم لما هو مشهور عن جمهور أصحابه المتبعين لمذهب السلف.

                              والأخرى:
                              طائفة من الأشاعرة وغيرهم، ليستدلوا بمثل هذا النقل على صحة مذهبهم في تأويل بعض الصفات، وأنهم مخالفين لمذهب السلف.
                              والذي
                              روي عن الإمام أحمد في هذه المسألة لا يتعدى أحد نقلين:

                              أحدهما:

                              ما نقله الغزالي – في معرض حديثه عن الإمام أحمد ومنعه من التأويل – قال الغزالي: "سمعت بعض أصحابه يقول: إنه حسم باب التأويل إلا لثلاثة ألفاظ:
                              قوله  : الحجر الأسود يمين الله في أرضه ( )،
                              وقوله  : قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن"( )، وقوله  : إني لأجد نفس الرحمن من جانب اليمن ( ).."( ) وقد نقل الرازي هذا عن الغزالي مع تبديل في أحد الأحاديث ( ).

                              الثاني:
                              ما نقله حنبل في المحنة، عن الإمام أحمد، يقول: احتجوا علي يوم المناظرة، فقالوا: تجيء يوم القيامة سورة البقرة، وتجيء سورة تبارك؟
                              قال: فقلت لهم: إنما هو الثواب، قال الله جل ذكره: وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً (الفجر:22)، وإنما تأتي قدرته، القرآن أمثال ومواعظ، وأمر ونهي،وكذا وكذا"( )،
                              وأحال القاضي أبو يعلي في أبطال التأويلات على رواية حنبل فقال: "وقد قال أحمد في رواية حنبل في قوله وَجَاءَ رَبُّكَ قال قدرته"( ). ونقل هذه الرواية عن القاضي أبي يعلي بعض الحنابلة، منهم ابن الجوزي في تفسيره ( )، وفي كتابه الباز الأشهب ( ) – الذي نصر فيه مذهب أهل التعطيل - ، كما نسبه البيهقي إلى الإمام أحمد ( ).

                              والعجيب أن هؤلاء المعطلة – يعظم عندهم مثل هذين النقلين – مع ما فيهما من كلام كما سيأتي – وأما النصوص المتواترة المشتهرة عن الإمام أحمد في إثبات الصفات، والرد على الجهمية وأتباعهم، والتحذير من الخوض في علم الكلام وتأويل الصفات – فهذه لا حجة فيها عندهم على مذهب هذا الإمام الموافق لمذهب السلف، وغاية ما يقولون فيها أن الإمام أحمد إنما أراد بها التفويض!.

                              ومع ذلك فلا حجة لهم فيما نقلوه عن هذا الإمام، وبيان ذلك كما يلي:
                              أما النقل الأول – الذي ذكره الغزالي والرازي – فقد قال فيه شيخ الإسلام "هذه الحكاية كذب على أحمد، لم ينقلها أحد عنه بإسناد، ولا يعرف أحد من أصحابه نقل ذلك عنه، وهذا الحنبلي الذي ذكر عنه أبو حامد مجهول لا يعرف لا علمه بما قال، ولا صدقه فيما قال"( )،
                              والدليل على ذلك اختلاف نقل الرازي عن نقل الغزالي، وله احتمالان:
                              أن يكون الرازي غلط في النقل عن الغزالي، أو أن الغزالي نقل في كتاب آخر – غير الأحياء – خلاف ما ذكره في الإحياء، قال شيخ الإسلام: "وعلى التقديرين فيعلم أن هذا النقل الذي نقله غير مضبوط"( ).
                              وقال أيضاً عن الغزالي، وعدم علمه بالحديث وشهادته على نفسه بأن بضاعته فيه مزجاة: "ولهذا في كتبه من المنقولات المكذوبة الموضوعة ما شاء الله، مع أن تلك الأبواب يكون فيها من الأحاديث الصحيحة ما فيه كفاية وشفاء، ومن ذلك هذا النقل الذي نقله عن أحمد، فإنه نقله عن مجهول لا يعرف، وذلك المجهول أرسله إرسالا عن أحمد، ولا يتنازع من يعرف أحمد وكلامه أن هذا كذب مفتري عليه، ونصوصه المنقولة عنه بنقل الاثبات والمتواتر عنه يرد هذا الهذيان الذي نقله عنه…"( ).

                              ثم إن هذه الأحاديث التي أوردها الغزالي والرازي ليس فيها ما يوجب التأويل؛ لأن دلالتها واضحة، فزعمهم أنها – أو غيرها من الأحاديث – بحاجة إلى التأويل، أو أن الإمام أحمد قد تأولها، لا يفيدهم شيئاً في هذا الباب ولهذا ناقش شيخ الإسلام هذه الأحاديث وغيرها، وبينا ما فيها، وقد سبق قبل قليل نقل كلامه فيها.
                              وخلاصة القول:
                              1- أن هذا النقل غير صحيح، ولم يورده أحد في مسائل وكلام الإمام أحمد.
                              2- أن النقول الكثيرة عن الإمام أحمد تدل على إثباته ومنعه من التأويل.
                              3- أن هذه الأحاديث لا حجة فيها لهم، لأن ما فهموه من الظواهر الفاسدة، قد دلت النصوص نفسها على أنه غير وارد.
                              أما النقل الثاني:
                              الذي أورده حنبل في سياق المحنة، فقد ذكر شيخ الإسلام أن الحنابلة اختلفوا في هذه الرواية على خمس طرق:

                              1- "قال قو: غلط حنبل في نقل الرواية، وحنبل له مفاريد ينفرد بها من الروايات في الفقه، والجماهير يرون خلافه.
                              وقد اختلف الأصحاب في مفاريد حنبل التي خالفه فيها الجمهور، هل تثبت روايته؟ على طريقين، فالخلال وصاحبه قد ينكرانها، ويثبتها غيرهما كابن حامد.
                              2- وقال قوم منهم: إنما قال ذلك إلزاماً للمنازعين له، فإنهم يتأولون مجيء الرب بمجيء أمره، قال: فكذلك قولوا: مجيء كلامه ثوابه. وهذا قريب.
                              3- وقال قوم منهم: بل هذه الرواية ثابتة في تأويل ما جاء من جنس الحركة والإتيان والنزول، فيتأول على هذه الرواية بالقصد والعمد لذلك، وهذه طريقة ابن الزاغوني وغيره.
                              4- وقال قوم: بل يتأول بمجيء ثوابه. وهؤلاء جعلوا الرواية في جنس الحركة، دون بقية الصفات.
                              5- وقال قوم منهم ابن عقيل وابن الجوزي: بل يتعدى الحكم من هذه الصفة إلى سائر الصفات التي تخالف ظاهرها، للدليل الموجب مخالف الظاهر"( ).

                              ويلاحظ أن الأقوال الثلاثة الأخيرة تصحح نسبة التأويل إلى الإمام أحمد، وتجعل ذلك حجة لها على مذهبها المائل إلى الأشاعرة كما هو قول ابن الزاغوني وغيره، أو ما هو أشد غلوا منهم في التعطيل والنفي كما هو المشهور من مذهب ابن عقيل وابن الجوزي.

                              وقد نفي شيخ الإسلام بشكل قاطع ما نسب إلى الإمام أحمد من التأويل وقال: "لا ريب أن المنقول المتواتر عن أحمد يناقض هذه الرواية، ويبين إنه لا يقول إن الرب يجيء ويأتي وينزل أمره، بل هو ينكر على من يقول ذلك ( )"
                              وقال: "والصواب أن جميع هذه التأويلات مبتدعة، لم يقل أحد من الصحابة شيئاً منها ولا أحد من التابعين لهم بإحسان، وهي خلاف المعروف المتواتر عن أئمة السنة والحديث، أحمد بن حنبل وغيره من أئمة السنة"( ).
                              وهذه رسائل وأقوال الإمام أحمد مشهورة معروفة، وما من مسألة من مسائل أصول الدين إلا وله فيها كلام، ولم يرد فيها ما يخالف مذهب السلف، ولذلك عده الناس إماما لأهل السنة بسبب ما ابتلى به من المخالفين من أهل الأهواء الذين ناظرهم وبين بطلان أقوالهم، وهو في ذلك متبع لمن قبله من أئمة السلف ( ).

                              وإذا كان هذا هو المتواتر عن الإمام أحمد فلا بد من النظر إلى رواية حنبل – في المحنة – على أنها رواية فردة خالفت المشهور عنه، ولهذا قال القاضي أبو يعلى بعد ذكره لرواية حنبل، وتغليط ابن شاقلا له: "وقد قال أحمد في رواية أبي طالب، هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ (البقرة: من الآية210)، وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً (الفجر:22) من قال إن الله لا يرى فقد كفر، وظاهر هذا أن أحمد أثبت مجيء ذاته لأنه احتج بذلك على جوازه رؤيته، وإنما يحتج بذلك على جواز رؤيته إذا كان الإتيان والمجيء مضافا إلى الذات"( ).
                              وخلاصة الجواب عن رواية حنبل – في المحنة - :

                              1- اما أن يقال هذه من مفاريده وقد خالفت المتواتر والمشهور عنه.
                              2- وعلى فرض ثبوت هذه الرواية فيقال: أن الإمام قال هذا إلزاماً لخصومه وقد قال شيخ الإسلام على هذا الاحتمال: "وهذا قريب"( ).
                              وشرحه في موضع آخر فقال: "ومنهم من قال: بل أحمد قال ذلك على سبيل الإلزام لهم، يقول: إذا كان أخبر عن نفسه بالمجيء والإتيان، ولم يكن ذلك دليلا على أنه مخلوق، بل تأولتم ذلك على أنه جاء أمره، فكذلك قولوا: جاء ثواب القرآن، لا أنه نفسه هو الجائي، فإن التأويل هنا ألزم، فإن المراد هنا الإخبار بثواب قارئ القرآن، وثوابه عمل له، لم يقصد به الإخبار عن نفس القرآن.

                              فإذا كان الرب قد أخبر بمجيء نفسه، ثم تأولتم ذلك بأمره، فإذا أخبر بمجيء قراءة القرآن فلأن تتأولوا ذلك بمجيء ثوابه بطريق الأولى والأحرى.
                              وإذا قاله على سبيل الإلزام لم يلزم أن يكون موافقا لهم عليه، وهو لا يحتاج إلى أن يلتزم هذا؛ فإن هذا الحديث له نظائر كثيرة في مجيء أعمال العباد، والمراد مجيء قراءة القارئ التي هي عمله، وأعمال العباد مخلوقة، وثوابها مخلوق، ولهذا قال أحمد وغيره من السلف: إنه يجيء ثواب القرآن ( )، والثواب إنما يقع على أعمال العباد، لا على صفات الرب وأفعاله"( ).
                              والخلاصة:
                              1- أن هذا مخالف لما تواتر عن الإمام أحمد من المنع من التأويل.
                              2- أن حنبل تفرد بهذه الرواية.
                              3- وعلى فرض صحته فالإمام قالها إلزاما لخصومه المعتزلة ( ).
                              هذه خلاصة مباحث "التأويل" تبين سلامة منهج أهل السنة في الصفات، كما شرحه شيخ الإسلام ورد على المجيزين للتأويل، ولا شك أن هذا الباب لما فتحه المتكلمون – وقد يكون عند بعضهم عن حسن نية – ولج منه أهل الإلحاد من القرامطة والباطنية والفلاسفة وغيرهم ليتوصلوا به إلى تعطيل الشرائع، والأمر والنهي، وإنكار المعاد وما فيه، وهذا وحده كاف لوجود سد هذا الباب الخطير.

                              ويمكن ذكر نموذج واحد لمقالات هؤلاء الذين فتحوا باب التأويل، يقول شيخ الإسلام:
                              "ولهذا قال كثير منهم – كأبي الحسين البصري، ومن تبعه كالرازي والآمدي وابن الحاجب – أن الأمة إذا اختلفت في تأويل الآية على قولين، جاز لمن بعدهم أحداث قول ثالث، بخلاف ما إذا اختلفوا في الأحكام على قولين.
                              فجوزوا أن تكون الأمة مجتمعة على الضلال في تفسير القرآن والحديث وأن يكون الله أنزل الآية، وأراد بها معنى لم يفهمه الصحابة والتابعون، ولكن قالوا: إن الله أراد معنى آخروهم لو تصوروا هذه المقالة لم يقولوا إن هذا فإن أصلهم أن الأمة لا تجتمع على ضلالة"( ).
                              ومن تدبر هذا وأمثاله عرف ما فيه وماله من آثار.


                              قاعدة:
                              القول في بعض الصفات كالقول في البعض الآخر:
                              هذا الأصل أو هذه القاعدة – من أعظم الأصول والقواعد في باب الأسماء والصفات، ومن أهمها في بيان تناقض الخصوم من أهل الكلام – على مختلف طبقاتهم ودرجاتهم في هذا الباب – كما أنها مشتملة على جوانب عظيمة في إقناع من يتردد في صحة مذهب السلف، أو يخالطه شك أو شبهة مما ينثره أهل الكلام في كتبهم ومقالاتهم.
                              وهذه القاعدة لم يفصل القول فيها أحد – فيما أعلم – قبل شيخ الإسلام، وإن كان قد ألمح إليها بعض الأشاعرة – إحساساً منه بالتناقض – أو بعض أهل السنة اقتناعا منه بتناقض خصومه –، أما الكلام فيها بهذه القوة والوضوح والإقناع فقد كان مما وفق الله هذا الإمام إليه، وهو سبحانه وتعالى المتفضل على عباده بما يشاء، فله الحمد والمنة.



                              وقبل الدخول في تفاصيل هذا الأصل – أو هذه القاعدة – يمكن إجمال ما اشتملت عليه من الأصول والقواعد بما يلي:
                              1- أن من نفى بعض الصفات وأثبت البعض الآخر، لزمه فيما أثبته نظير ما يلزمه فيما نفاه.
                              2- أن عدم الدليل المعين لا يستلزم عدم المدلول المعين، لأنه قد يكون ثبت بدليل آخر غير هذا الدليل.
                              3- أن كل من أول صفة لزمه فيما أوله نظير ما أظن أنه يلزمه فيما فر منه.
                              4- أن دلالة السمع والعقل على الصفات واحدة:
                              أ‌- فإذا كان السمع قد دل على الصفات السبع، فقد دل أيضا على غيرها، ووجه الدلالة وقوة النص واحدة.
                              ب‌- وإذا دل العقل على الصفات السبع، فيمكن أن يدل العقل على غيرها، مما ينفيه هؤلاء.
                              5- أنه يقال للأشعري نظير ما يقوله هو للمعتزلي في مسألة الأسماء.
                              6- أن هذا الأصل يمكن أن يرد به على جميع النفاة:
                              أ‌- الأشعري الذي يثبت بعض الصفات دون بعض.
                              ب‌- والمعتزلي الذي يثبت الأسماء وينفي الصفات.
                              ت‌- والجهمي الذي ينفي الأسماء والصفات ولكن يقر بأن الله شيء وأنه موجود.
                              ث‌- والغلاة: الذين يسلبون النقيضين.
                              وقد استخدم شيخ الإسلام هذا الأصل في الرد على هؤلاء جميعا، وبين تناقضهم.
                              وبالنسبة للأشاعرة – الذين هم مدار هذا البحث – فيمكن بيان منهجه في تقرير هذا الأصل بذكر أحد ردوده العامة، ثم ذكر عدد من الأمثلة التي أوردها شيخ الإسلام في مناقشته لهم معتمداً على الأصل:
                              سبق – في مبحث الأسماء – أن الأشاعرة وإن أثبتوا أسماء الله بإجمال، إلا أنهم يتأولون – في بعض هذه الأسماء – ما تدل عليه من الصفات، فمثلا يثبتون من أسماء تعالى: الرحيم، والعلي، والودود، ولكنهم حينما يفسرونها يتأولونها كما يتأولون صفة الرحمة، والعلو، والمحبة، وغيرها. أما العليم والقدير فلا يتأولونه، كذلك هم في الصفات يثبتون السمع والبصر والكلام والإرادة، ويتأولون غيرها كالرحمة والرضا والغضب وغيرها.
                              فشيخ الإسلام بين تناقضهم في ذلك كله فقال: "من أقر بفهم بعض معنى الأسماء والصفات دون بعض، فيقال له: ما الفرق بين ما أثبته وبين ما نفيته، أو أمسكت عن إثباته ونفيه؟ فإن الفرق:
                              - إما أن يكون من جهة السمع.
                              - أو من جهة العقل بأن أحد المعنيين يجوز أو يجب إثباته دون الآخر. وكلا الوجهين باطل بأكثر المواضع:
                              أما الأول: فدلالة القرآن على أنه: رحمن، رحيم، ودود، سميع، بصير، علي، عظيم، كدلالته على أنه: عليم، قدير، ليس بينهما فرق من جهة النص، وكذلك ذكره لرحمته،ومحبته، وعلوه، مثل ذكره لمشيئته وإرادته.
                              وأما الثاني: فيقال من أثبت شيئا ونفى آخر: لم نفيت مثلا حقيقة رحمته، ومحبته، وأعدت ذلك إلى إرادته؟.
                              فإن قال: لأن المفهوم من الرحمة رقة تمتنع على الله.
                              قيل له: والمعنى المفهوم من الإرادة في حقنا هي ميل يمتنع على الله.
                              فإن قال: إرادته ليست من جنس إرادة خلقه.
                              قيل له: ورحمته ليست من جنس رحمة خلقه، وكذلك محبته.
                              وإن قال – وهو حقيقة قوله - : لم أثبت الإرادة وغيرها بالسمع، وإنما أثبت العلم والقدرة والإرادة بالعقل، وكذلك السمع والبصر والكلام – على أحد الطريقتين – ؛ لأن العقل دل على القدرة، والإحكام دل على العلم، والتخصيص دل على الإرادة.
                              قيل له: الجواب من ثلاثة أوجه:
                              أحدها: أن الأنعام، والإحسان، وكشف الضر، دل أيضا على الرحمة، كدلالة التخصيص على الإرادة. والتقريب والإدناء وأنواع التخصيص التي لا تكون إلا من المحب، تدل على المحبة، ومطلق التخصيص يدل على الإرادة، وأما التخصيص بالإنعام فتخصيص خاص، والتخصيص بالتقريب والاصطفاء تقريب خاص. وما سلكه في مسلك الإرادة يسلك في مثل هذا.
                              الثاني: يقال له: هب أن العقل لا يدل على هذا، فإنه لا ينفيه إلا بمثل ما ينفي به الإرادة. والسمع دليل مستقل بنفسه، بل الطمأنينة إليه في هذه المضايق أعظم، ودلالته أتم. فلأي شيء نفيت مدلوله، أو توقفت، وأعدت هذه الصفات كلها إلا الإرادة، مع أن النصوص لم تفرق؟ فلا يذكر حجة إلا عورض بمثلها في إثباته الإرادة زيادة على الفعل".
                              ثم ذكر شيخ الإسلام نموذجاً لما يمكن أن يكون من مناقشة بين الأشعري والجهمي المعتزلي الذي ينكر صفة الإرادة فقال:
                              "الثالث: يقال له [أي للأشعري] إذا قال الجهمي [والمعتزلي]: الإرادة لا معنى لها إلا عدم الإكراه، أو نفس الفعل والأمر به، وزعم أن إثبات إرادة تقتضي محذورا – إن قال بقدمها، ومحذورا إن قال بحدوثها ( )…
                              كان جوابه [أي جواب الأشعري للمعتزلي الجهمي]: أن ما ادعى إحالته من ثبوت الصفات ليس بمحال، والنص قد دل عليها، والعقل أيضا. فإذا أخذ الخصم [أي المعتزلي] ينازع في دلالة النص أو العقل جعله مسفسطا أو مقرمطا [أي حكم الأشعري على المعتزلي بذلك]. [فيقول أهل السنة للأشعري:] وهذا بعينه موجود في الرحمة، والمحبة،…".
                              وقد أكمل شيخ الإسلام المناقشة لبيان بطلان مذهب المعتزلة والجهمية وغيرهم، ثم ذكر كلاما مجملا مهما، فقال:
                              "ونكتة هذا الكلام: أن غالب من نفى وأثبت شيئا مما دل عليه الكتاب والسنة، لابد أن يثبت الشيء لقيام المقتضي وانتفاء المانع، وينفي الشيء لوجود المانع، أو لعدم المقتضى، أو يتوقف إذا لم يكن له عنده مقتض ولا مانع:
                              فبين له أن المقتضى فيما نفاه قائم، كما أنه فيما أثبته قائم، إما من كل وجه، أو من وجه يجب به الإثبات، فإن كان المقتضى هناك حقا فكذلك هنا، وإلا فدرء ذاك المقتضى من جنس درء هذا.
                              وأما المانع فيبين أن المانع الذي تخيله فيما نفاه من جنس المانع الذي تخيله فيما أثبته؛ فإذا كان ذلك المانع المستحيل موجودا على التقديرين لم ينج من محذوره بإثبات أحدهما ونفي الآخر، فإنه إن كان حقا نفاهما، وإن كان باطلا لم ينف واحد منهما، فعليه أن يسوي بين الأمرين في الإثبات والنفي، ولا سبيل إلى النفي فتعين الإثبات.
                              فهذه نكتة الإلزام لمن أثبت شيئاً وما من أحد إلا ولا بد أن يثبت شيئاً، أو يجب عليه إثباته".
                              ثم ضرب شيخ الإسلام مثالا في الرد على متأخري الأشعرية – سبق نقله عند الكلام على شبهة التركيب -.
                              وبعد هذه المقدمة العامة يمكن ذكر نماذج من تطبيق شيخ الإسلام لهذا الأصل في ردوده ومناقشاته للأشاعرة، ومنها:
                              1- إذا كان التجسيم لازما لبعض الصفات فهو لازم للصفات التي أثبتموها، وبالعكس، أي إذا لم يكن التجسيم لازما للصفات التي أثبتموها، فلا يلزم في الصفات التي نفيتموها، وهكذا. والنتيجة أنكم إما أن تثبتوا جميع الصفات لأنها لا تستلزم التجسيم، أو تنفوها كلها لا ستلزامها التجسيم.
                              وهذا وارد في جميع الصفات التي نفاها متأخرو الأشاعرة كصفة الرضا، والغضب، والرحمة، والوجه، واليد، والاستواء، والمجيء وغير ذلك.
                              وقد بدأ شيخ الإسلام في تقرير هذا بأن المعتزلة والجهمية والقرامطة والباطنية ومن وافقهم من الفلاسفة، يقولون: "إذا قلتم: إن القرآن غير مخلوق، وإن لله تعالى علماً، وقدرة، وإرادة، فقد قلتم بالتجسيم؛ فإنه قد قاد دليل العقل على أن هذا يدل على التجسيم؛ لأن هذه معاني لا تقوم بنفسها، لا تقوم إلا بغيرها، سواء سميت صفاتا أو أعراضا، أو غير ذلك، قالوا: ونحن لا نعقل قيام المعنى إلا بجسم، فإثبات معنى يقوم بغير جسم غير معقول".
                              هذه خلاصة شبهة واستدلال نفاة جميع الصفات، دون تفريق بين صفات المعاني وغيرها.
                              وحينئذ فإن الأشعري سيرد عليهم بإثباتهم لأسماء الله وعدم استلزامها للتجسيم، فكذلك هذه الصفات التي أثبتها. فهو يقولك "بل هذه المعاني يمكن قيامها بغير جسم ما أن عندنا وعندكم إثبات عالم، قادر، ليس بجسم"( ).
                              وهذا جواب صحيح، ولذلك فالمثبت لجميع الصفات الواردة سيقول للأشعري معلقا على جوابه السابق لنفاة جميع الصفات: "الرضا، الغضب، والوجه، واليد، والاستواء والمجيء [وغيرها كذلك] ، فأثبتوا هذه الصفات أيضا، وقولوا: إنها تقوم بغير جسم".
                              وحينئذ سيعترض الأشاعرة قائلين: "لا يعقل رضا وغضب إلا ما يقوم بقلب هو جسم، ولا نعقل وجها ويدا إلا ما هو بعض من جسم".
                              حينئذ فيجيبهم أهل السنة بقوله: "ولا نعقل علما إلا ما هو قائم بجسم، ولا قدرة إلا ما هو قائم بجسم، ولا نعقل سمعا وبصرا وكلاما إلا ما هو قائم بجسم، فلم فرقتم بين المتماثلين؟
                              وقلتم:
                              إن هذه يمكن قيامها بغير جسم، وهذه لا يمكن قيامها إلا بجسم، وهما في المعقول سواء".
                              وهذا مما لا محيد للأشاعرة عنه، لأنه لا فرق بين ما نفوه وما أثبتوه، وقد صاغها شيخ الإسلام في مكان آخر بعبارة أخرى فقال: "إن من نفى شيئاً من الصفات لكون إثباته تجسيما وتشبيها، يقول له المثبت: قولي فيما أثبته من الصفات والأسماء كقولك فيما أثبته من ذلك، فإن تنازعا في الصفات الخبرية، أو العلو، أو الرؤية أو نحو ذلك وقال له النافي: هذا يستلزم التجسيم والتشبيه؛ لأنه لا يعقل ما هو كذلك إلا الجسم، قال المثبت: لا يعقل ما له حياة وعلم وقدرة وسمع وبصر وكلام وإرادة إلا ما هو جسم، فإذا جاز لك أن تثبت هذه الصفات وتقول:الموصوف بها ليس بجسم، جاز لي مثل ما جاز لك من إثبات تلك الصفات مع أن الموصوف بها ليس بجسم، فإذن جاز أن يثبت مسمى بهذه الأسماء ليس بجسم. فإن قال له: هذه معان وتلك أبعاض.
                              قال له: الرضا والغضب والحب والبغض معا، واليد والوجه – وإن كان بعضا – فالسمع والبصر والكلام أعراض لا تقوم إلا بجسم، فإن جاز لك إثباتها مع أنها ليست أعراضها ومحلها ليس بجسم، جاز لي أن أثبت هذه مع أنها ليست أبعاضا".
                              ولأن الأشاعرة يعترضون ويقولون: الغضب هو غليان دم القلب لطلب الإنتقام، والوجه هو ذو الأنف والشفتين واللسان والخد، أو نحو ذلك".
                              فيجيبهم المثبتة بقولهم: "إن كنتم تريدون غضب العبد ووجه العبد، فوزانه أن يقال لكم: ولا يعقل بصر إلا ما كان بشحمه، ولا سمع إلا ما كان بصماخ، ولا كلاما إلا ما كان بشفتين ولسان، ولا إرادة إلا ما كان لاجتلاب منفعة أو استدفاع مضرة، وأنتم تثبتون لله السمع والبصر والكلام والإرادة على خلاف صفات العبد، فإن كان ما تثبتونه مماثلا لصفات العبد لزمكم التمثيل في الجميع، وإن كنتم تثبتونه على الوجه اللائق بجلال الله تعالى من غير مماثلة بصفات المخلوقات، فأثبتوا الجميع على هذا الوجه المحدود، ولا فرق بين صفة وصفة، فإن ما نفيتموه من الصفات فيه نظير ما أثبتموه.
                              فإما أن تعطلوا الجميع، وهو ممتنع، وإما أن تمثلوه بالمخلوقات وهو ممتنع، وإما أن تثبتوا الجميع على وجه يختص به لا يماثله فيه غيره، وحينئذ فلا فرق بين صفة وصفة، فالفرق بينهما بإثبات أحدهما ونفي الآخر فرارا من التشبيه والتجسيم قول باطل، يتضمن الفرق بين المتماثلين، والتناقض في المقالتين".
                              ولا تحتاج هذه المناقشة إلى تعليق، لأن التناقض واضح في تفريقهم بين ما يلزم منه تجسيم وتشبيه وبين ما لا يلزم منه ذلك، لأن هذه الصفات كلها يتصف بها المخلوق، فإن لزم في بعضها التشبيه لزم في الباقي، وإن لم يلزم في بعضها لم يلزم في الباقي.
                              ولذلك فإن الأشاعرة يرجعون في التفريق إلى دليل العقل، فيقولون: ما دل عليه العقل وجب إثباته، وما لم يدل عليه العقل فيجب نفيه، أو على الأقل التوقف فيه.
                              يقول الأشعري – معللا تفريقه بين إثبات الصفات السبع ونفي ما عداها - : "تلك الصفات أثبتها بالعقل، لأن الفعل الحادث دل على القدرة، والتخصيص دل على الإرادة، والإحكام دل على العلم، وهذه الصفات مستلزمة للحياة، والحي لا يخلو عن السمع والبصر والكلام، أو ضد ذلك".
                              وهناك يذكر شيخ الإسلام أن لسائر أهل الإثبات أجوبة:
                              أحدها: أن عدم الدليل المعين لا يستلزم عدم المدلول المعين، وهذا مبني على مسألة واضحة جدا يقر بها كل عاقل، وهي أن عدم العلم ليس علما بالعدم ، فعدم علمي بوجود كتاب، أو مدينة من المدن المغمورة، أو وجود شخص ما – لا يعني أن هذه الأمور غير موجودة، بل قد تكون موجودة وقد يكون علمها غيري، فعدم علمي بها ليس علما بعدمها، وهذا لو أنكره إنسان لعد من أجهل الناس.
                              ولذلك فإنه يقال لهؤلاء الأشاعرة:
                              عدم الدليل المعين، الذي هو دليل العقل،والذي قلتم إنه لم يدل على ما عدا الصفات السبع، لا يستلزم عدم المدلول المعين الذي هو باقي الصفات، "فهب أن ما سلكته من الدليل العقلي لا يثبت ذلك، فإنه لا ينفيه، وليس لك أن تنفيه بغير دليل، لأن النافي عليه الدليل كما على المثبت".
                              الثاني:
                              أن يقال: إذا كان دليل العقل لم يثبت هذه الصفات، - وعدم إثباته لها ليس دليلاً على نفيها – فإن هناك دليلاً آخر دل عليها، وهو دليل السمع "ولم يعارض ذلك معارض عقلي ولا سمعي، فيجب إثبات ما أثبته الدليل السالم عن المعارض المقاوم".
                              وهذا الوجه الثاني مترتب على الوجه الأول، ولذلك جمع بينهما في وجه واحد في التدمرية، وأفردهما عن بعض في مجموع الفتاوى.
                              الثالث:
                              "أن يقال: يمكن إثبات هذه الصفات بنظير ما أثبت به تلك من العقليات، فيقال: نفع العباد بالإحسان إليهم يدل على الرحمة كدلالة التخصيص على المشيئة، وإكرام الطائعين يدل على محبتهم، وعقاب الكافرين يدل على بغضهم، كما قد ثبت بالشاهد والخبر من إكرام أوليائه وعقاب أعدائه، والغايات المحمودة في معقولاته ومأموراته – وهي ما تنتهي إليه معقولاته ومأموراته من العواقب الحميدة – تدل على حكمته البالغة كما يدل التخصيص على المشيئة وأولى، لقوة العلة الغائبة، ولهذا كان ما في القرآن من بيان ما في مخلوقاته من النعم والحكم أعظم مما في القرآن من بيان ما فيها من الدلالة على محض المشيئة".
                              لا فرق بين استدلالهم بالعقل على الإرادة والعلم، وبين الاستدلال غيرهم به على الحب والبغض، والحكمة والرحمة وغيرها.
                              وهذه الوجوه الثلاثة مبينة أن احتجاجهم بدليل العقل على الصفات السبع لا يدل على نفي ما عداها من الصفات الثابتة. ولكن لو عاد الأشعري وقال:
                              صحيح أنني أثبت هذه الصفات بالعقل، ولكني أيضاً نفيت ما عداها بالعقل لأنها تستلزم التجسيم. وحينئذ يعود الكلام إلى ما ذكر أولا في بداية هذه المناقشة ويقال له: "القول في هذه الصفات التي تنفيها كالقول في الصفات التي أثبتها، فإن كن هذا مستلزما للتجسيم فكذلك الآخر، وإن لم يكن مستلزما للتجسيم فكذلك الآخر"، فدعواه التفريق بينهما باطل وهو متناقض كما تقدم.

                              تعليق

                              يعمل...
                              X