بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله نحمده و نستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا , من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله .
" يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون ".
" يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا و نساءا واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا ".
" يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما ".
أما بعد : فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار .
وبعد ،
فيقول الله سبحانه وتعالى " يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين".
من هذا الباب أحببت أن أكتب هذه الكلمة نصيحة لي ولمن يقرأه من عموم المسلمين لعل الله أن ينفع بها.
فكما لا يخفاكم ما للكذب من عواقب وخيمة في الدنيا والآخرة من ذلكم قول الله تعالى " أنظر كيف يفترون على الله الكذب وكفى به إثما مبينا " (النساء 50).
قال الإمام السعدي رحمه الله ({ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا } أي: ظاهرا بينا موجبا للعقوبة البليغة والعذاب الأليم.) اهـ..
وقول نبينا صلى الله عليه وسلم المتفق عليه من رواية عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وفيه "وإياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار وما يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا " .
ولست بصدد الحديث عن الكذب ههنا ، إنما أود الحديث عن المعاريض أو ما يعرف بالتورية وضوابطها الشرعية إذ أنني لاحظت ولاحظ غيري إفراط بعض الناس في استعمال المعاريض حتى في غير المواطن التي يشرع استعمالها وهذا عمل مذموم بلا شك ومن كانت هذه حاله فلا يعد من جملة الصادقين كما هو معلوم ، فالواجب التقيد بنصوص الشارع الحكيم وعدم تجاوزها لأن في ذلك مخالفة لسبيل الحق والهدى الذي دلنا عليه كتاب ربنا وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم.
حد المعاريض (التورية):
قال ابن الأثير في " النهاية في غريب الأثر" :( المَعَارِيضُ : جمعُ مِعْرَاض من التَّعْرِيض وهو خِلافُ التَّصْرِيح من القَولِ . يقال : عَرَفْت ذلك في مِعْرَاض كلامه ومِعْرَض كلامِه بحَذْفِ الألف) اهـ (ص 439 ، ج 3).
وقال صاحب (الخلاصة في علوم البلاغة):
" التورية لغةً - مصدرٌ، ورّيتُ الخبرَ توريةً: إذا سترتُه، وأظهرتُ غيره .
واصطلاحاً: هي أن يذكُرَ المتكلمُ لفظاً مفرداً له معنيان; أحدهُما قريبٌ غيرُ مقصودٍ ودلالةُ اللفظِ عليه ظاهرةُ، والآخرُ بعيدٌ مقصودٌ، ودلالةُ اللفظِ عليه خَفِيَّةٌ، فيتوهَّمُ السَّامعُ: أنه يُريدُ المعنَى القريبَ، وهو إنَّما يُريدُ المعنى البعيدَ بقرينةٍ تشيرُ إليه ولا تُظهرُه،وتسترُه عن غير المتيقظِ الفطِنِ،كقوله تعالى:(وَهُوَ الذي يَتَوَفّاكُم بالليْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بالنَّهَارِ)[ الأنعام،الآية: 60 ]، أراد بقوله جرحتم معناهُ البعيدُ، وهو ارتكابُ الذنوبِ، ولأجلِ هذا سُمِّيتِ التَّوريةُ إيهاماً وتخييلا " اهـ .
مباحث المعاريض:
يَذْكُرُ الْفُقَهَاءُ التَّعْرِيضَ فِي الأْبْوَابِ الآْتِيَةِ : فِي كِتَابِ النِّكَاحِ ، وَالْعِدَّةِ ، وَفِي الْحُدُودِ : فِي الْقَذْفِ ، وَالرُّجُوعِ عَنِ الإْقْرَارِ . وَفِي الْهُدْنَةِ : وَفِي الأْيْمَانِ فِي الْقَضَاءِ فَقَطْ .
حكمها الشرعي:
فيه تفصيل فما كانت من مظلوم يريد أن يتخلص من الظلم فهذه لاشيء فيها ، وأما التي تكون من الظالم يريد ظلم العباد فهذه محرمة لا تجوز وهي نوع من الكذب، وأما التي هي خلاف الأمرين الماضيين فتركها أحسن .
قال النووي : قال العلماء : فإن دعَت إلى ذلك مصلحة شرعيَّة راجحة على خداع المخاطب ، أو دعت إليه حاجة لا مندوحة عنها إلا بالكذب : فلا بأس بالتعريض ، فإن لم تدع إليه مصلحة ولا حاجة : فهو مكروه وليس بحرام ، فإن توصل به إلى أخذ باطل أو دفع حق فيصير حينئذ حراماً ، وهذا ضابط الباب . اهـ " الأذكار " ( ص 380 ) .
وذهب بعض العلماء إلى تحريم التعريض لغير حاجة أو مصلحة ، وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله . انظر الاختيارات ص 563 .
و أما حديث " إن في المعاريض لمندوحة عن الكذب " فهو ضعيف كما في السلسلة الضعيفة و الموضوعة ( 3/213 ) وإنما هو قول منقول عن بعض السلف.
و سئل سماحة الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله عن الحالات التي ورد ذكرها في حديث أم كلثوم وحديث أسماء بنت يزيد التي يجوز فيها الكذب، هل المراد بالكذب الكذب الحقيقي أم المعاريض والتورية؟ وإذا كان حقيقياً هل يقاس عليه مصلحة درء مفسدة؟
فأجاب رحمه الله :
الكذب في ثلاث الأولى: الحرب.
الثانية: حديث الرجل مع زوجته والعكس.
الثالثة: للإصلاح بين متخاصمين.
بعض العلماء يقول: هذا هو الكذب الصريح؛ لأن التورية تجوز في هذا وغيره.
ومنهم من يقول: إن المراد التورية كما قال إبراهيم: إنه يعتذر بأنه كذب ثلاث كذبات وهي كلها تورية، والاحتياط: ألا يقول إلا تورية، حتى في الحرب لا يقول: إلا تورية، ولذلك يقال: إن عمرو بن ود أراد المبارزة مع علي بن أبي طالب رضي الله عنه، والمبارزة: إذا التقى الصفان طلبوا المبارزة، رجل منكم يبرز لرجل منا؛ لأنه إذا غلب أحدهما حصلت الذلة لأصحابه، لما خرج عمرو بن ود ليبارز علي بن أبي طالب ، و علي بن أبي طالب معروف بالذكاء رضي الله عنه صاح به، وقال: ما خرجت لأبارز رجلين، ما الذي حصل؟ عمرو بن ود التفت يحسب أن معه أحداً، يحسب أن أحداً لحقه، فلما التفت ضربه علي بن أبي طالب على رقبته وخلصه، هذه تورية طيبة وفي الحرب. كذلك الإصلاح بين الناس، إذا رأيت اثنين متخاصمين تصلح بينهما تقول: لا والله لا يذكرك إلا بخير وما أشبه ذلك وتنوي شيئاً آخر.
أما حديث الرجل مع زوجته فاحذر أن تكذب عليها، لا تكذب عليها، لا تقل: والله أنا اشتريت الثوب هذا بألف ريال وهو بعشرين ريالاً، وتسأل عن قيمته في السوق وهو بعشرة ريالات، ماذا يصير؟ مشكلة، يحصل الضد، فلا تكذب عليها، احذر هذا، لا بأس أن تقول: إني أحبك وأنتِ غالية عليَّ وما أشبه ذلك، وهي كذلك أيضاً، وأيضاً لا تحدثها بهذا، لو حدثتها بهذا الحديث لأخذته بظاهره ثم صارت كل يوم تكذب عليك، فالظاهر لي والله أعلم: أن المراد بذلك التورية وأن الكذب الصريح لا يجوز إلا عند الضرورة القصوى.
وأنقل هنا كلام الشيخ محمد ناصر الدين الألباني حول حديث " رخص النبي صلى الله عليه وسلم من الكذب في ثلاث : في الحرب و في الإصلاح بين الناس و قول الرجل لامرأته . ( و في رواية ) : و حديث الرجل امرأته و حديث المرأة زوجها " .
" بعد أن فرغنا من تحقيق القول في صحة الحديث و دفع إعلاله بالإدراج أنقل إلى القارئ الكريم ما ذكره النووي رحمه الله في شرح الحديث : " قال القاضي لا خلاف في جواز الكذب في هذه الصور و اختلفوا في المراد بالكذب المباح فيها ما هو ؟ فقالت طائفة : هو على إطلاقه و أجازوا قول ما لم يكن في هذه المواضيع للمصلحة و قالوا : الكذب المذموم ما فيه مضرة و احتجوا بقول إبراهيم صلى الله عليه وسلم : *( بل فعله كبيرهم )* و *( إني سقيم )* و قوله " إنها أختي " ، و قول منادي يوسف صلى الله عليه وسلم *( أيتها العير إنكم لسارقون )* . قالوا : و لا خلاف أنه لو قصد ظالم قتل رجل هو عنده مختف وجب عليه الكذب في أنه لا يعلم أين هو . و قال آخرون منهم الطبري : لا يجوز الكذب في شيء أصلا ، قالوا : و ما جاء من الإباحة في هذا المراد به التورية و استعمال المعاريض لا صريح الكذب مثل أن يعد زوجته أن يحسن إليها و يكسوها كذا و ينوي : إن قدر الله ذلك .
و حاصله أن يأتي بكلمات محتملة يفهم المخاطب منها ما يطيب قلبه و إذا سعى في الإصلاح نقل عن هؤلاء إلى هؤلاء كلاما جميلا و من هؤلاء إلى هؤلاء كذلك وورى ، و كذا في الحرب بأن يقول لعدوه : مات إمامكم الأعظم و ينوي إمامهم في الأزمان الماضية أو غدا يأتينا مدد . أي طعام و نحوه ، هذا من المعاريض المباحة ، فكل هذا جائز . و تأولوا في قصة إبراهيم و يوسف و ما جاء من هذا على المعاريض و الله أعلم " .
قلت : و لا يخفى على البصير أن قول الطائفة الأولى هو الأرجح و الأليق بظواهر هذه الأحاديث و تأويلها بما تأولته الطائفة الأخرى من حملها على المعاريض مما لا يخفى بعده ، لاسيما في الكذب في الحرب . فإنه أوضح من أن يحتاج إلى التدليل على جوازه و لذلك قال الحافظ في " الفتح " ( 6 / 119 ) : " قال النووي : الظاهر إباحة حقيقة الكذب في الأمور الثلاثة لكن التعريض أولى . و قال ابن العربي : " الكذب في الحرب من المستثنى الجائز بالنص رفقا بالمسلمين لحاجتهم إليه و ليس للعقل فيه مجال و لو كان تحريم الكذب بالعقل ما انقلب حلالا " انتهى . و يقويه ما أخرجه أحمد و ابن حبان من حديث أنس في قصة الحجاج بن علاط الذي أخرجه النسائي و صححه الحاكم في استئذانه النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول عنه ما شاء لمصلحته في استخلاص ماله من أهل مكة و إذن النبي صلى الله عليه وسلم و إخباره لأهل مكة أن أهل خيبر هزموا المسلمين و غير ذلك مما هو مشهور فيه " اهـ .
وهذه بعض الأسئلة التي وجهت لسماحة الشيخ صالح بن فوزان الفوزان حفظه الله :
1- فضيلة الشيخ ، هل التورية سبب في ألا يكتب الشخص عند الله صديقا؟
2- أحسن الله إليكم صاحب الفضيلة وهذا سائل يقول هل هذا حديث أو في معناه إن في المعاريض لمندوحة عن الكذب ؟
وفي الختام نسأل الله أن يعيننا على أنفسنا وأن يجنبنا الكذب وما يؤدي إليه وأن يجعلنا من عباده الصادقين وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.