ميــت الأحيــاء
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله العزيز الجليل القائل { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ } والصلاة والسلام على الرحمة المهداة الموصوف بقول الحق جل جلاله { يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ }
وبعد,
جاء عن حذيفة ابن اليمان رضي الله عنه صاحب السر أنه سُئل : ما ميت الأحياء ؟ قال : من لم يعرف المعروف بقلبه وينكر المنكر بقلبه .
وكما قال الشاعر:
ليس من مات فاستراح بميت ****** إنما الميت ميت الأحياء
قال الحسن البصري رحمه الله : صدق والله إنه يكون حي الجسد ميت القلب.
يقول ابن القيم واصفاً القلب الميت :
القلب الميت الذى لا حياة به، فهو إن أحب أحب لهواه، وإن أبغض أبغض لهواه، وإن أعطى أعطى لهواه، وإن منع منع لهواه. فهواه آثر عنده وأحب إليه من رضا مولاه. فالهوى إمامه، والشهوة قائده، والجهل سائقه، والغفلة مركبه. فهو بالفكر فى تحصيل أغراضه الدنيوية مغمور، وبسكرة الهوى وحب العاجلة مخمور. ينادى عليه إلى الله وإلى الدار الآخرة من مكان بعيد، فلا يستجيب للناصح، ويتبع كل شيطان مريد. الدنيا تسخطه وترضيه. والهوى يصمه عما سوى الباطل ويعميه.أهـ
فبما تقدم يا عبد الله تعلم عِظم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فهو حياة القلوب بل هو من أعظم اسباب خيرية هذه الأمة المحمدية , فمتى تغافلت عنه الأمة فقدت العز والتمكين وسيطر عليها الذل والمهانة , والواقع يشهد بهذا ما خلا طائفةً منصورةً وهي القائمة بأمر الله من دعوةٍ لتوحيد الله و أمرٍ بالمعروف و نهيٍ عن المنكر وإقامة شعائر الدين في أنفسهم وفيمن حولهم بما يستطعيون.
وفي صحيح مسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من رأى منكم منكراً فليغيره بيده, فإن لم يستطع فبلسانه, فإن لم يستطع فبقلبه, وذلك أضعف الإيمان».
يقول ابن تيمية رحمه الله معلقا ً:
وذلك يكون تارة بالقلب؛ وتارة باللسان؛ وتارة باليد. فأما القلب فيجب بكل حال؛ إذ لا ضرر في فعله، ومن لم يفعله فليس هو بمؤمن، كما قال النبـي صلى الله عليه وسلم: «وذلك أدنى ـ أو ـ أضعف الايمان»، وقال: «ليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل».أهـ
ونقل القرطبي في تفسيره عن ابن عطية قوله: والإجماع منعقد على أن النهي عن المنكر فرض لمن أطاقه وأمن الضرر على نفسه وعلى المسلمين؛ فإن خاف فينكر بقلبه ويهجر ذا المنكر ولا يخالطه. وقال حذاق أهل العلم: وليس من شرط الناهي أن يكون سليما عن معصية بل ينهى العصاة بعضهم بعضا.أهـ
بهذا نعرف أن إنكار المنكر متعين على كل فرد مسلم بالغ عاقل - مستقيم أو مقصر - بالإجماع ولا يسقط عن أحد بحال لأن أقله الإنكار بالقلب وصفة هذا الإنكار مفارقة مكان المنكر , ومن لم يفعل فهو الميت الحي كما قال صاحب السر , وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إذا عملت الخطيئة في الأرض كان من شهدها فكرهها أو أنكرها كمن غاب عنها ومن غاب عنها فرضيها كان كمن شهدها ". قال الألباني حديث حسن .
ويفسر هذا المعنى الشوكاني رحمه الله في فتح القدير بقوله:
إن من أخل بواجب النهي عن المنكر فقد عصى الله سبحانه وتعدى حدوده. والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أهم القواعد الإسلامية وأجل الفرائض الشرعية، ولهذا كان تاركه شريكاً لفاعل المعصية ومستحقاً لغضب الله وانتقامه كما وقع لأهل السبت، فإن الله سبحانه مسخ من لم يشاركهم في الفعل ولكن ترك الإنكار عليهم، كما مسخ المعتدين فصاروا جميعاً قردة وخنازير "إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.أهـ
ولتعلم يا عبد الله أن للشيطان نصيب في تزهيد المسلمين في الإعتناء بإنكار المنكرات , وذلك بتخويفهم تارة ًأو بالتلبيس عليهم تارةً أخرى بدعوى عدم التدخل في شئوون الآخرين وتارةً بإعتقاد البعض بما هو أوجب عليهم من هذا الأمر إما لجهلهم أو لهوى في أنفسهم مثل تجميع الناس حولهم وهذا أخطرها وأكثرها انتشاراً والله المستعان.
يقول ابن القيم رحمه الله:
ما أكثر من يتعبد لله عز وجل بترك ما أوجب عليه، فيتخلى وينقطع عن الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، مع قدرته عليه، وبزعم أنه متقرب إلى الله تعالى بذلك، مجتمع على ربه، تارك ما لا يعنيه، فهذا من أمقت الخلق إلى الله تعالى، وأبغضهم له، مع ظنه أنه قائم بحقائق الإيمان وشرائع الإسلام وأنه من خواص أوليائه وحزبه.أهـ
ويقول رحمه الله واصفاً بعض المثبطات عن هذا الأمر : ومن مكايده - ابليس - إنه يزين لهم ترك الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر فى قالب التودد إلى الناس، وحسن الخلق معهم، متعللاً بقوله تعالى {عَلَيْكُمْ أنْفُسَكُمْ}. أهـ
وقد قام الصديق رضي الله عنه مرة خطيباً فحمد الله وأثنى عليه ثم قال يا أيها الناس إنكم تقرءون هذه الآية ( يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم ) تضعونها في غير موضعها , وإنا سمعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إن الناس إذا رأوا المنكر لا يغيرونه أوشك أن يعمهم الله بعقابه ". حديث صحيح أخرجه أهل السنن .
وعن حذيفة بن اليمان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «والذي نفسي بيده, لتأمرن بالمعروف, ولتنهون عن المنكر, أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقاباً من عنده, ثم لتدعنه فلا يستجيب لكم» خرجه الترمذي
وهناك شياطين الأنس الذين يثبطون عباد الله عن هذا الأمر ولو عُلم السبب بطل العجب, فكل صاحب معصية لا يحب أن ينفرد بفعل تلك المعصية , لذلك يزينونها لغيرهم ويحثونهم عليها حتى يجدوا من يشاركهم في جنس المعصية لا في عينها "كالزاني الذي يود أن غيره يزني؛ والسارق الذي يود أن غيره يسرق أيضاً؛ لكن في غير العين التي زنى بها أو سرقها" والله المستعان.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
وذلك أن كثيراً من أهل المنكر يحبون من يوافقهم على ما هم فيه؛ ويبغضون من لا يوافقهم، وهذا ظاهر في الديانات الفاسدة من موالاة كل قوم لموافقيهم؛ ومعاداتهم لمخالفيهم وكذلك في أمور الدنيا والشهوات.أهـ
وقد سخط الله على قوم تركوا التناهي عن المنكرات فيما بينهم , وهم اليهود أنجس خلق الله وهم الملعونون المغضوب عليهم في كتاب الله العزيز , فيجب علينا أن نحذر من مشابهة قوم ذمهم الله في قرآن يتلى الى يوم الدين قال تعالى { لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (7 كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ } .
يقول العلامة ابن سعدي رحمه الله في تفسير قوله تعالى { كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ }:
كانوا يفعلون المنكر ، ولا ينهى بعضهم بعضا . فيشترك بذلك المباشر وغيره ، الذي سكت عن النهي عن المنكر ، مع قدرته على ذلك . وذلك يدل على تهاونهم بأمر الله ، وأن معصيته خفيفة عليهم . فلو كان لديهم تعظيم لربهم ، لغاروا لمحارمه ، ولغضبوا لغضبه . وإنما كان السكوت عن المنكر ـ مع القدرة ـ موجبا للعقوبة ، لما فيه من المفاسد العظيمة.
منها : أن مجرد السكوت ، هو فعل للمعصية ، وإن لم يباشرها الساكت . فإنه ـ كما يجب اجتناب المعصية ـ فإنه يجب الإنكار على من فعل المعصية .
ومنها : ما تقدم ، أنه يدل على التهاون بالمعاصي ، وقلة الاكتراث بها .
ومنها : أن ذلك يجرىء العصاة والفسقة ، على الإكثار من المعاصي ، إذا لم يردعوا عنها ، فيزداد الشر ، وتعظم المصيبة الدينية والدنيوية ، ويكون لهم الشوكة والظهور . ثم بعد ذلك ، يضعف أهل الخير ، عن مقاومة أهل الشر ، حتى لا يقدرون على ما كانوا يقدرون عليه أولا .
ومنها : أنه ـ بترك الإنكار للمنكر ـ يندرس العلم ، ويكثر الجهل . فإن المعصية ـ مع تكررها وصدورها من كثير من الأشخاص، وعدم إنكار أهل الدين والعلم لها ـ يظن أنها ليست بمعصية، وربما ظن الجاهل أنها عبادة مستحسنة . وأي مفسدة أعظم من اعتقاد ما حرم الله ، حلالا ؟ وانقلاب الحقائق على النفوس ورؤية الباطل حقا ؟
ومنها : أن بالسكوت على معصية العاصين ، ربما تزينت المعصية في صدور الناس ، واقتدى بعضهم ببعض . فالإنسان ، مولع بالاقتداء بأحزابه ، وبني جنسه .أهـ
فالفائدة من إنكار المنكرات أمر متعدي يا عبد الله , فهناك من يقتدي بك ويشتد عزمه على الإنكار وهناك من يرتدع وتكون سبباً في ارتداعه , فالواجب على كل واحد وخصوصاً من كان ظاهره الإستقامة على الدين , إذا رأى المنكر أن ينكره بما يستطيع من مراتب الإنكار الثلاثة وأقلها مفارقة مكان المنكر ولا يقر أصحاب المنكر بالجلوس معهم , فيعتقدون بإباحة ذلك المنكر أو بعدم تحريمه وذلك لإقراره بجلوسه معهم , ولكن إن أنكر عليهم علموا بأنهم متلبسون بمنكر فيرجىء لهم التوبة وتبرأ ذمة من أنكر.
قال البخاري رحمه الله في صحيحه [ باب هَلْ يَرْجِعُ إِذَا رَأَى مُنْكَرًا فِي الدَّعْوَة ] :
يقول ابن حجر رحمه الله في الفتح : جاء عن سالم بن عبد الله بن عمر قال ” أعرست في عهد أبي، فآذن أبي الناس، فكان أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه فيمن آذنا وقد ستروا بيتي ببجاد أخضر، فأقبل أبو أيوب فاطلع فرآه فقال: يا عبد الله أتسترون الجدر فقال أبي واستحيا: غلبنا عليه النساء يا أبا أيوب، فقال: من كنت أخشى عليه فلم أكن أخشى عليك، والله لا أطعم لكم طعاما، فرجع ".
وقد وقع نحو ذلك لابن عمر رضي الله عنهما فيما بعد فأنكره وأزال ذلك المنكر ولم يغادر المكان لزوال المنكر.أهـ
ومن فضائل هذا الأمر أن فيه تكفير للسيئات لمن قام به كما جاء في الصحيحين عن حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " فِتنةُ الرجُلِ في أهلهِ وَمالهِ وولدِهِ وجارهِ تُكَفِّرُها الصلاةُ والصومُ والصدَقةُ وَالأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ ".متفق عليه
ومن فضائله انتشار الخير وانحسار الفساد بين الناهين عن المنكر الآمرين بالمعروف , وكذلك من فضائله حياة قلوبهم وذلك بزيادة الإيمان فيها فتستطيع التمييز بين الحق والباطل والضار والنافع والخير والشر , فمن أراد أن يقوى إيمانه فلا يترك إنكار المنكرات وهذا مستفاد من قوله عليه الصلاة والسلام: " فليس وراء ذلك حبة خردل من إيمان ". صحيح مسلم
وختاماً نعوذ بالله من أن تمنعنا هيبة الناس من إنكار المنكرات ونعوذ بالله من أن تحيى إجسادنا وتموت قلوبنا , فنسألك اللهم قلباً سليماً يعرف المعروف وينكر المنكر ولساناً صادقاً لا يخشى فيك لومة لائم وثباتاً على الأمر وعزيمة على الرشد ولذة النظر الى وجهك الكريم في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة.
وأصلي وأسلم على نبينا وسيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم والحمد لله رب العالمين
جمعه اخوكم
ابو طارق
علي بن عمر بن عقيل
غفر الله له ولوالديه وللمؤمنين والمؤمنات
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله العزيز الجليل القائل { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ } والصلاة والسلام على الرحمة المهداة الموصوف بقول الحق جل جلاله { يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ }
وبعد,
جاء عن حذيفة ابن اليمان رضي الله عنه صاحب السر أنه سُئل : ما ميت الأحياء ؟ قال : من لم يعرف المعروف بقلبه وينكر المنكر بقلبه .
وكما قال الشاعر:
ليس من مات فاستراح بميت ****** إنما الميت ميت الأحياء
قال الحسن البصري رحمه الله : صدق والله إنه يكون حي الجسد ميت القلب.
يقول ابن القيم واصفاً القلب الميت :
القلب الميت الذى لا حياة به، فهو إن أحب أحب لهواه، وإن أبغض أبغض لهواه، وإن أعطى أعطى لهواه، وإن منع منع لهواه. فهواه آثر عنده وأحب إليه من رضا مولاه. فالهوى إمامه، والشهوة قائده، والجهل سائقه، والغفلة مركبه. فهو بالفكر فى تحصيل أغراضه الدنيوية مغمور، وبسكرة الهوى وحب العاجلة مخمور. ينادى عليه إلى الله وإلى الدار الآخرة من مكان بعيد، فلا يستجيب للناصح، ويتبع كل شيطان مريد. الدنيا تسخطه وترضيه. والهوى يصمه عما سوى الباطل ويعميه.أهـ
فبما تقدم يا عبد الله تعلم عِظم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فهو حياة القلوب بل هو من أعظم اسباب خيرية هذه الأمة المحمدية , فمتى تغافلت عنه الأمة فقدت العز والتمكين وسيطر عليها الذل والمهانة , والواقع يشهد بهذا ما خلا طائفةً منصورةً وهي القائمة بأمر الله من دعوةٍ لتوحيد الله و أمرٍ بالمعروف و نهيٍ عن المنكر وإقامة شعائر الدين في أنفسهم وفيمن حولهم بما يستطعيون.
وفي صحيح مسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من رأى منكم منكراً فليغيره بيده, فإن لم يستطع فبلسانه, فإن لم يستطع فبقلبه, وذلك أضعف الإيمان».
يقول ابن تيمية رحمه الله معلقا ً:
وذلك يكون تارة بالقلب؛ وتارة باللسان؛ وتارة باليد. فأما القلب فيجب بكل حال؛ إذ لا ضرر في فعله، ومن لم يفعله فليس هو بمؤمن، كما قال النبـي صلى الله عليه وسلم: «وذلك أدنى ـ أو ـ أضعف الايمان»، وقال: «ليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل».أهـ
ونقل القرطبي في تفسيره عن ابن عطية قوله: والإجماع منعقد على أن النهي عن المنكر فرض لمن أطاقه وأمن الضرر على نفسه وعلى المسلمين؛ فإن خاف فينكر بقلبه ويهجر ذا المنكر ولا يخالطه. وقال حذاق أهل العلم: وليس من شرط الناهي أن يكون سليما عن معصية بل ينهى العصاة بعضهم بعضا.أهـ
بهذا نعرف أن إنكار المنكر متعين على كل فرد مسلم بالغ عاقل - مستقيم أو مقصر - بالإجماع ولا يسقط عن أحد بحال لأن أقله الإنكار بالقلب وصفة هذا الإنكار مفارقة مكان المنكر , ومن لم يفعل فهو الميت الحي كما قال صاحب السر , وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إذا عملت الخطيئة في الأرض كان من شهدها فكرهها أو أنكرها كمن غاب عنها ومن غاب عنها فرضيها كان كمن شهدها ". قال الألباني حديث حسن .
ويفسر هذا المعنى الشوكاني رحمه الله في فتح القدير بقوله:
إن من أخل بواجب النهي عن المنكر فقد عصى الله سبحانه وتعدى حدوده. والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أهم القواعد الإسلامية وأجل الفرائض الشرعية، ولهذا كان تاركه شريكاً لفاعل المعصية ومستحقاً لغضب الله وانتقامه كما وقع لأهل السبت، فإن الله سبحانه مسخ من لم يشاركهم في الفعل ولكن ترك الإنكار عليهم، كما مسخ المعتدين فصاروا جميعاً قردة وخنازير "إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.أهـ
ولتعلم يا عبد الله أن للشيطان نصيب في تزهيد المسلمين في الإعتناء بإنكار المنكرات , وذلك بتخويفهم تارة ًأو بالتلبيس عليهم تارةً أخرى بدعوى عدم التدخل في شئوون الآخرين وتارةً بإعتقاد البعض بما هو أوجب عليهم من هذا الأمر إما لجهلهم أو لهوى في أنفسهم مثل تجميع الناس حولهم وهذا أخطرها وأكثرها انتشاراً والله المستعان.
يقول ابن القيم رحمه الله:
ما أكثر من يتعبد لله عز وجل بترك ما أوجب عليه، فيتخلى وينقطع عن الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، مع قدرته عليه، وبزعم أنه متقرب إلى الله تعالى بذلك، مجتمع على ربه، تارك ما لا يعنيه، فهذا من أمقت الخلق إلى الله تعالى، وأبغضهم له، مع ظنه أنه قائم بحقائق الإيمان وشرائع الإسلام وأنه من خواص أوليائه وحزبه.أهـ
ويقول رحمه الله واصفاً بعض المثبطات عن هذا الأمر : ومن مكايده - ابليس - إنه يزين لهم ترك الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر فى قالب التودد إلى الناس، وحسن الخلق معهم، متعللاً بقوله تعالى {عَلَيْكُمْ أنْفُسَكُمْ}. أهـ
وقد قام الصديق رضي الله عنه مرة خطيباً فحمد الله وأثنى عليه ثم قال يا أيها الناس إنكم تقرءون هذه الآية ( يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم ) تضعونها في غير موضعها , وإنا سمعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إن الناس إذا رأوا المنكر لا يغيرونه أوشك أن يعمهم الله بعقابه ". حديث صحيح أخرجه أهل السنن .
وعن حذيفة بن اليمان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «والذي نفسي بيده, لتأمرن بالمعروف, ولتنهون عن المنكر, أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقاباً من عنده, ثم لتدعنه فلا يستجيب لكم» خرجه الترمذي
وهناك شياطين الأنس الذين يثبطون عباد الله عن هذا الأمر ولو عُلم السبب بطل العجب, فكل صاحب معصية لا يحب أن ينفرد بفعل تلك المعصية , لذلك يزينونها لغيرهم ويحثونهم عليها حتى يجدوا من يشاركهم في جنس المعصية لا في عينها "كالزاني الذي يود أن غيره يزني؛ والسارق الذي يود أن غيره يسرق أيضاً؛ لكن في غير العين التي زنى بها أو سرقها" والله المستعان.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
وذلك أن كثيراً من أهل المنكر يحبون من يوافقهم على ما هم فيه؛ ويبغضون من لا يوافقهم، وهذا ظاهر في الديانات الفاسدة من موالاة كل قوم لموافقيهم؛ ومعاداتهم لمخالفيهم وكذلك في أمور الدنيا والشهوات.أهـ
وقد سخط الله على قوم تركوا التناهي عن المنكرات فيما بينهم , وهم اليهود أنجس خلق الله وهم الملعونون المغضوب عليهم في كتاب الله العزيز , فيجب علينا أن نحذر من مشابهة قوم ذمهم الله في قرآن يتلى الى يوم الدين قال تعالى { لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (7 كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ } .
يقول العلامة ابن سعدي رحمه الله في تفسير قوله تعالى { كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ }:
كانوا يفعلون المنكر ، ولا ينهى بعضهم بعضا . فيشترك بذلك المباشر وغيره ، الذي سكت عن النهي عن المنكر ، مع قدرته على ذلك . وذلك يدل على تهاونهم بأمر الله ، وأن معصيته خفيفة عليهم . فلو كان لديهم تعظيم لربهم ، لغاروا لمحارمه ، ولغضبوا لغضبه . وإنما كان السكوت عن المنكر ـ مع القدرة ـ موجبا للعقوبة ، لما فيه من المفاسد العظيمة.
منها : أن مجرد السكوت ، هو فعل للمعصية ، وإن لم يباشرها الساكت . فإنه ـ كما يجب اجتناب المعصية ـ فإنه يجب الإنكار على من فعل المعصية .
ومنها : ما تقدم ، أنه يدل على التهاون بالمعاصي ، وقلة الاكتراث بها .
ومنها : أن ذلك يجرىء العصاة والفسقة ، على الإكثار من المعاصي ، إذا لم يردعوا عنها ، فيزداد الشر ، وتعظم المصيبة الدينية والدنيوية ، ويكون لهم الشوكة والظهور . ثم بعد ذلك ، يضعف أهل الخير ، عن مقاومة أهل الشر ، حتى لا يقدرون على ما كانوا يقدرون عليه أولا .
ومنها : أنه ـ بترك الإنكار للمنكر ـ يندرس العلم ، ويكثر الجهل . فإن المعصية ـ مع تكررها وصدورها من كثير من الأشخاص، وعدم إنكار أهل الدين والعلم لها ـ يظن أنها ليست بمعصية، وربما ظن الجاهل أنها عبادة مستحسنة . وأي مفسدة أعظم من اعتقاد ما حرم الله ، حلالا ؟ وانقلاب الحقائق على النفوس ورؤية الباطل حقا ؟
ومنها : أن بالسكوت على معصية العاصين ، ربما تزينت المعصية في صدور الناس ، واقتدى بعضهم ببعض . فالإنسان ، مولع بالاقتداء بأحزابه ، وبني جنسه .أهـ
فالفائدة من إنكار المنكرات أمر متعدي يا عبد الله , فهناك من يقتدي بك ويشتد عزمه على الإنكار وهناك من يرتدع وتكون سبباً في ارتداعه , فالواجب على كل واحد وخصوصاً من كان ظاهره الإستقامة على الدين , إذا رأى المنكر أن ينكره بما يستطيع من مراتب الإنكار الثلاثة وأقلها مفارقة مكان المنكر ولا يقر أصحاب المنكر بالجلوس معهم , فيعتقدون بإباحة ذلك المنكر أو بعدم تحريمه وذلك لإقراره بجلوسه معهم , ولكن إن أنكر عليهم علموا بأنهم متلبسون بمنكر فيرجىء لهم التوبة وتبرأ ذمة من أنكر.
قال البخاري رحمه الله في صحيحه [ باب هَلْ يَرْجِعُ إِذَا رَأَى مُنْكَرًا فِي الدَّعْوَة ] :
يقول ابن حجر رحمه الله في الفتح : جاء عن سالم بن عبد الله بن عمر قال ” أعرست في عهد أبي، فآذن أبي الناس، فكان أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه فيمن آذنا وقد ستروا بيتي ببجاد أخضر، فأقبل أبو أيوب فاطلع فرآه فقال: يا عبد الله أتسترون الجدر فقال أبي واستحيا: غلبنا عليه النساء يا أبا أيوب، فقال: من كنت أخشى عليه فلم أكن أخشى عليك، والله لا أطعم لكم طعاما، فرجع ".
وقد وقع نحو ذلك لابن عمر رضي الله عنهما فيما بعد فأنكره وأزال ذلك المنكر ولم يغادر المكان لزوال المنكر.أهـ
ومن فضائل هذا الأمر أن فيه تكفير للسيئات لمن قام به كما جاء في الصحيحين عن حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " فِتنةُ الرجُلِ في أهلهِ وَمالهِ وولدِهِ وجارهِ تُكَفِّرُها الصلاةُ والصومُ والصدَقةُ وَالأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ ".متفق عليه
ومن فضائله انتشار الخير وانحسار الفساد بين الناهين عن المنكر الآمرين بالمعروف , وكذلك من فضائله حياة قلوبهم وذلك بزيادة الإيمان فيها فتستطيع التمييز بين الحق والباطل والضار والنافع والخير والشر , فمن أراد أن يقوى إيمانه فلا يترك إنكار المنكرات وهذا مستفاد من قوله عليه الصلاة والسلام: " فليس وراء ذلك حبة خردل من إيمان ". صحيح مسلم
وختاماً نعوذ بالله من أن تمنعنا هيبة الناس من إنكار المنكرات ونعوذ بالله من أن تحيى إجسادنا وتموت قلوبنا , فنسألك اللهم قلباً سليماً يعرف المعروف وينكر المنكر ولساناً صادقاً لا يخشى فيك لومة لائم وثباتاً على الأمر وعزيمة على الرشد ولذة النظر الى وجهك الكريم في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة.
وأصلي وأسلم على نبينا وسيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم والحمد لله رب العالمين
جمعه اخوكم
ابو طارق
علي بن عمر بن عقيل
غفر الله له ولوالديه وللمؤمنين والمؤمنات
تعليق