البحث حول نقطتين هما:
1) ما المقصود بالعقل؟
2) ما هي الغاية الرئيسية من وجود العقل؟
____________________________________________
الحمد لله والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم أما بعد ،
فالبحث فى العلاقة بين العقل والنقل من المهام العظيمة لما يجعل نفوس المسلمين تعتقد الاعتقاد السليم الذى يسلم من الأهواء والفتن التى يتعرض لها المسلم وخصوصا فى تلك الحقبة التى تمر بها الأمة ومعنا اليوم يدور حول نقطتين هما: ماالمقصود بالعقل ؟ وما هى الغاية الرئيسية من وجود العقل؟
ولما كانت الاستدلالات على حقيقة الأمور وماهيتها ينبثق من أمرين لاثالث لهما هما مناط أى حكم يكون بالنقل والعقل،
والعقل لابد وأن يكون الصريح الذى لاتشوبه شائبة ، أو يوصف بعى أو هوى أو انحراف ،
والنقل الذى لايعتريه أى ريبة أو شكوك أ, تحريف،
أو عدم تأكد من طريق وصوله الينا من حيث الصحة والضعف،
والعقل أيضا حسب ماخلق له بحيث تكون حدوده فيما يستطاع استخدامه وفى حدود قدراته وامكاناته التى حبي الله عز وجل ابن آدم بها،
أى أيضا فيما هو من عالم المشاهدة وليس من عالم الغيب أى فيما يشاهد ويحس ويعرف ويدرك وليس فيما عنه غيبى،
لذا لابد علينا أن نسلك طريق يجعلنا نحكم على العقل هل هو صريح ليس فيه هوى أو تحريف أو مايضاد أن يكون صريح،
لذا علينا أولا معرفة ماهو العقل وأين هو من ابن آدم وما حدوده وغاية وجوده وماهى امكاناته وحدود استخدامه بحيث يكون منبثق من تحت عباءة الشرع لا ليكون هو الحكم،
لكن كيفيته لانستطيع معرفة كيفيته مثل الروح ( وما أوتيتم من العلم الا قليلا ) ،
والعقل هو في أصح الآراء : غريزة وضعها الله في قلوب الممتحنين من عباده تابعة للروح موضوعة في الجانب الغيببي من قلب الإنسان لا نعرف كيفيتها، ولكن نتعرف على وجودها ووجود أوصافها من أفعال الإنسان في ظاهر البدن، فيقال هذا عاقل إذا فعل أفعال العقلاء وهذا مجنون إذا لم يتصف بها.
قال تعالى: (أَفَلَمْ يسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلونَ بِهَا)، فالآية تدل على أن العقل موجود في القلب.
قال الثعالبي في الجواهر الحسان: (هذه الآية تقتضى أن العقل في القلب وذلك هو الحق، ولا ينكر أن للدماغ اتصالا بالقلب يوجب فساد العقل متى اختل الدماغ).
وقال القرطبى في الجامع لأحكام القرآن: (أضاف العقل إلى القلب لأنه محله كما أن السمع محل الأذن، وقد قيل: إن العقل محله الدماغ وروي ذلك عن أبي حنيفة وما أراها عنه صحيحة)
وقد أبعد ابن عاشور فى تفسيره للآية فقال:
وأطلقت القلوب على تقاسيم العقل على وجه المجاز المرسل لأن القلب هو مُفيض الدم وهو مادة الحياة على الأعضاء الرئيسية وأهمها الدماغ الذي هو عضو العقل ، ولذلك قال : { يعقلون بها } وإنما آلة العقل هي الدماغ ولكن الكلام جرَى أوله على متعارف أهل اللغة ثم أجري عقب ذلك على الحقيقة العلمية فقال : { يعقلون بها } فأشار إلى أن القلوب هي العقل .
ونزّلت عقولهم منزلة المعدوم كما نزّل سَيْرهم في الأرض منزلة المعدوم .
والزمخشرى فى الكشاف :
قوله تعالى : { أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأرض } الآية . يعني كفار مكة أفلم يسيروا في الأرض فينظروا إلى مصارع المكذبين من الأمم الخالية ، فذكر ما يتكامل به الاعتبار ، لأن الرؤية لها حظّ عظيم في الاعتبار ، وكذلك سماع الأخبار ولكن لا يكمل هذان الأمران إلا بتدبير القلب ، لأن من عاين وسمع ولم يتدبر ولم يعتبر لم ينتفع ، فلهذا قال : { فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي فِي الصدور } .
قوله : « فَتَكُونَ » منصوب على جواب الاستفهام ، وعبارة الحوفي على جواب التقرير . وقيل : على جواب النفي وقرأ مبشر بن عبيد : « فَيَكُونَ » بالياء من تحت لأن التأنيث مجازي . ومتعلق العقل محذوف أي : ما حل بالأمم السالفة . ثم قال : { قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَآ } أي : يعلمون بها ، وهذا يدل على أن العقل العلم ، وعلى أن محل العلم هو القلب ، لأنه جعل القلب آلة لهذا العقل ، فيكون القلب محلاً للعقل ، ولهذا سمي الجهل بالعمى ، لأن الجاهل لكونه متحيراً يشبه الأعمى
وابن عطية فى المحرر الوجيز
، { أفلم يسيروا في الأرض } أي في البلاد فينظروا في أحوال الأمم المكذبة المعذبة ، وهذه الآية تقتضي أن العقل في القلب وذلك هو الحق ولا ينكر أن للدماغ اتصالاً بالقلب يوجب فساد العقل متى اختل الدماغ ، { فتكون } ، نصب بالفاء في جواب الاستفهام صرف الفعل من الجزم إلى النصب ، وقوله { فإنها لا تعمى الأبصار } ، لفظ مبالغة كأنه قال : ليس العمى عمى العين وإنما العمى حق العمى عمى القلب ، ومعلوم أن الأبصار تعمى ولكن المقصد ما ذكرناه
والعقل يقوم بتحصيل المعلومات وجمعها من حواس الإنسان ثم يحللها ويصنف الحدث المرافق لها، ثم يخزنها في ذاكرة الإنسان الذي بدوره يقوم باستدعائها حسبما يشاء
العقل هو أساس الجهاز الإدراكى البشرى فهو في القلب يشبه المعالج في الكمبيوتر ، والحواس تشبه وسائل إدخال المعلومات أو إخراجها والمخ فيه ذاكرة الإنسان أو ما يشبه القرص الصلب ، والله عز وجل قد خلق الإنسان بجهاز إداركى محدود ، تحقيقا لعلة معينة ، تمثلت في الابتلاء كما قال تعالى : ( إِنَّا خَلَقْنَا الإنسان مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلنَاهُ سَمِيعاً بَصِيرا ً) (الإنسان:2) ، وقد أجريت التجارب والدراسات الحديثة ، لتقدير القيم التقريبية للحدود المعينة في المؤثرات الخارجية التي يستقبلها الجهاز الحسي والإدراكى في جسم الإنسان ، والتي يطلقون عليها في علم النفس العتبات المطلقة للحواس الخمس فوجدوا أن البصر يدرك به العقل صورة شمعة مضاءة ترى على بعد 30 ميلا في ليل مظلم صاف 290 مليميكرون ، ووجدوا أن السمع يدرك به العقل صوت دقة ساعة في ظروف هادئة تماما على بعد 20 قدما ، والتذوق يدرك به العقل ملعقة صغيرة من السكر مذابة في جالونين من الماء ، والشم يدرك به العقل نقطة عطر منتشرة في غرفة مساحتها 6 أمتار مربعة ، وحاسة اللمس يدرك جناح ذبابة يسقط على الصدغ من مسافة 1 سم تقريبا .
فإذا كان الجهاز الإدراكى في الإنسان بهذه الصورة في الدنيا فمن الصعب أن يرى ما وراء ذلك ، كالذي يحدث في القبر من عذاب أو نعيم أو يرى الملائكة أو الجن أو عالم الغيب ، أو يرى ذات الله وصفاته من باب أولى ، ومعلوم أن عدم رؤيته لهذه الأشياء لا يعنى عدم وجودها فالجن مثلا جهازه الإدراكى يختلف عن الإنسان من حيث القوة قال تعالى في وصفه : ( إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ ) (لأعراف:27) ، وموسى عليه السلام لما طلب رؤية الله لم يكن الجواب باستحالة الرؤية أو نفيها مطلقا ، ولكن النفي معلق بانتهاء الحياة الدنيا ، فإن الشيء لا يرى لسببين :
1 - خفاء المرئي وهو ممتنع في حق الله .
2- ضعف الجهاز الإدراكى للرائي .
وهذا هو شأن موسى عليه السلام ، ولذلك تجلى الله للجبل الذي يتحمل أقصى درجة ممكنة من ضوء الشمس والذي لا يتحملة الإنسان أكثر من تسع دقائق تقريبا ، قال تعالى : ( وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي ، فَلَمَّا تَجَلى رَبُّهُ لِلجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ مُوسَى صَعِقاً ، فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ المُؤْمِنِينَ ) (الأعراف:143) .
فمن الخطأ طلب البحث عن كيفية الأمور الغيبية أو الذات الإلهية أو صفاتها في الدنيا ، لأن النواميس التي أوجدها الله في الكون لا تسمح بذلك اللهم إلا إذا حدث خرق للعادة كأن يرى بعض الرسل الملائكة أو الجنة أو النار أو بعض أمور الغيب أو ما يعجز الإنسان العادي عن إدراكه .
أما في الآخرة فالأمر مختلف تماما ، إذ أن مدركات الإنسان في الآخرة تختلف عن مدركاته في الدنيا كما صح الخبر عن رسول الله بذلك في الحديث المتفق عليه ، حيث قال : ( خلق الله آدم على صورته طوله ستون ذراعا فلما خلقه قال : اذهب فسلم على أولئك نفر من الملائكة جلوس فاستمع ما يحيونك فإنها تحيتك وتحية ذريتك ، فقـال : السلام عليكم ، فقالوا : السلام عليك ورحمة الله ، فزادوه ورحمة الله فكل من يدخل الجنة على صورة آدم فلم يزل الخلق ينقص بعد حتى الآن ) ، فالإنسان يوم القيامة على صورة آدم طوله ستون زراعا ومن أجل ذلك فإن مداركه وحواسه تتغير بالكيفية التي تناسب أمور الآخرة ، فإذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إنكم سترون ربكم عيانا ) أو ( إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته ) ، كما روى ذلك البخاري علمنا أن إدرك العين المبصرة في الدنيا وقدرتها تختلف عن إدراك العين المبصرة في الآخرة وقدرتها على الرؤية .
من أجل ذلك وجب الإيمان بالرؤية في الآخرة والتسليم بذلك لموافقته للعقل الصريح والنقل الصحيح ، وكذلك الحال في بقية الصفات فنؤمن بها ونثبتها لله دون طلب للكيفية ، أما العقل فأقصى حدوده أن يتعرف على الله ووجوده من خلال الأسباب ، فهناك عدة أمور يدرك بها العقل حقائق الأشياء ، أولها البديهيات أو الأوليات ، وذلك كالحكم على أن البعرة تدل يقينا على البعير وأن الأثر يدل يقينا على المسير ، ومن هنا كان المسلم على يقين بوجود الله من خلال إثبات وجود الخالق بدلالة المخلوقات ، وقد ثبت ذلك بحكم الأوليات أو البديهيات ، إن من أكبر المحرمات جريمة الزى ، والحكم فيها لا بد أن يقوم على مفردات يقينية ولا يبنى على أمور ظنية ، وقد بين القرآن وسائل إدراك اليقين عند الحكم على المرتكبين لها ، فمن ذلك البديهيات وارتباط العلل بالمعلولات ، كما قالت مريم للملك عندما قال لها :
( إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لأَهَبَ لكِ غُلامًا زَكِيًّا قَالتْ أَنَّى يَكُونُ لي غُلامٌ وَلمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ – بزواج - وَلمْ أَكُنْ بَغِيًّا - بزنا – لأن البديهيات تجعل العاقل يحكم حكما يقينيا بأن الولد لا يأتي إلا من طريق مشروع أو طريق ممنوع ولذلك أكد لها الملك أن ذلك واضح صحيح ، وأن حالتها استثناء وأن الله يخلق ما يشاء - قَال كَذَلكِ قَال رَبُّكِ هُوَ عَليَّ هَيِّنٌ وَلنَجْعَلهُ آيَةً للنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا – من أجل ذلك أثبت لها الخالق براءتها ، بخرق العادات وظهور المعجزات ، وأوحى إليها أنها إذا رأت من أنكر عليها ، أن تلزم الصمت وتمتنع عن الكلام ، وكل ما عليها أن تشير إلى الغلام وتقول :
( إِنِّي نَذَرْتُ للرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلنْ أُكَلمَ اليَوْمَ إِنسِيًّا فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا فَأَشَارَتْ إِليْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلمُ مَنْ كَانَ فِي المَهْدِ صَبِيًّا قَال إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتَانِي الكِتَابَ وَجَعَلنِي نَبِيًّا وَجَعَلنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا وَبَرًّا بِوَالدَتِي وَلمْ يَجْعَلنِي جَبَّارًا شَقِيًّا وَالسَّلامُ عَلي يَوْمَ وُلدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا ) ، سبحان الله أطفل صغير ينطق بهذه الكلمات ؟ ويعرف كل هذه المعلومات ، ويفهم لوازم العبارات ( إِنَّ مَثَل عِيسَى عِنْدَ اللهِ كَمَثَل آدَمَ خَلقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَال لهُ كُنْ فَيَكُونُ ) ، ( ذَلكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْل الحَقِّ الذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ مَا كَانَ للهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لهُ كُنْ فَيَكُونُ ) .
فالله عز وجل قادر على أن يعلم الناس ما يشاء ، فيدركون بأبصارهم ما هو تحت الأرض وفوق السماء ، كما قال سبحانه وتعالى : ( وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلمِهِ إِلا بِمَا شَاءَ ) البقرة ، ولكنه من حكمته جعل جهاز الإدراك في الإنسان محدودا ، وجعل باب الإطلاع على الغيب بالعقل وحده مسدودا ، لكي تكون الحياة نوعا من أنواع الابتلاءات ، ويكون أهل العلم بين الناس درجات ، فآيات القرآن أثبتت للإنسان جهازا للإدراك شاملا متكاملا أساسه في القلب ، أول مهامه إدراك الأشياء ومعرفة الأسماء ، وتمييز خصائصها والتعرف على أوصافها ، يقول الله تعالى : ( أَفَلمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلكِنْ تَعْمَى القُلُوبُ التِي فِي الصُّدُورِ ) وقال أيضاً: ( وَلقَدْ ذَرَأْنَا لجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنْ الجِنِّ وَالإِنسِ لهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلئِكَ كَالأَنْعَامِ بَل هُمْ أَضَلُّ أُوْلئِكَ هُمْ الغَافِلُونَ ) ، فالبديهيات من أبرز الأمور العقلية في الدلالة على وجود الخالق .
ومن الأمور التي يدرك بها العقل حقائق الأشياء المحسوسات ، وقد جعلها الله وسيلة من وسائل الإثبات ، في الحكم على الزانيات المومسات فقال : ( وَالذِينَ يَرْمُونَ المُحْصَنَاتِ ثُمَّ لمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلدَةً وَلا تَقْبَلُوا لهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلئِكَ هُمْ الفَاسِقُونَ إِلا الذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلكَ وَأَصْلحُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ – جاء في الصحيح عَنْ عَبْدِ اللهِ بن مسعود أنه قَال : كنَّا ليْلةَ الجُمُعَةِ فِي المَسْجِدِ إِذْ جَاءَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ فَقَال : لوْ أَنَّ رَجُلًا وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلًا فَتَكَلمَ جَلدْتُمُوهُ ، أَوْ قَتَل قَتَلتُمُوهُ ، وَإِنْ سَكَتَ سَكَتَ عَلى غَيْظٍ ، وَاللهِ لأَسْأَلنَّ عَنْهُ رَسُول اللهِ صَلى اللهم عَليْهِ وَسَلمَ ، فَلمَّا كَانَ مِنَ الغَدِ أَتَى رَسُول اللهِ صَلى اللهم عَليْهِ وَسَلمَ فَسَأَلهُ ، فَقَال يا رسول الله : لوْ أَنَّ رَجُلًا وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلًا فَتَكَلمَ جَلدْتُمُوهُ أَوْ قَتَل قَتَلتُمُوهُ أَوْ سَكَتَ سَكَتَ عَلى غَيْظٍ ، فنزل قول الله تعالى :
( وَالذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلمْ يَكُنْ لهُمْ شُهَدَاءُ إِلا أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللهِ إِنَّهُ لمِنْ الصَّادِقِينَ وَالخَامِسَةُ أَنَّ لعْنَةَ اللهِ عَليْهِ إِنْ كَانَ مِنْ الكَاذِبِينَ وَيَدْرَأُ عَنْهَا العَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللهِ إِنَّهُ لمِنْ الكَاذِبِينَ وَالخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللهِ عَليْهَا إِنْ كَانَ مِنْ الصَّادِقِينَ ) .
وقد أمر الله عبادة باستخدام المحسوسات التي هى من مكونات الجهاز الإدراكى في النظر إلى الإبداع الكونى ، والتأمل في خلق السماوات والتفكر في سائر المخلوقات ، ( إِنَّ فِي خَلقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ الليْل وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولي الأَلبَابِ الذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ) .
وقال تعالى : ( أَفَلمْ يَنْظُرُوا إِلى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لهَا مِنْ فُرُوجٍ وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُل زَوْجٍ بَهِيجٍ تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لكُل عَبْدٍ مُنِيبٍ وَنَزَّلنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الحَصِيدِ وَالنَّخْل بَاسِقَاتٍ لهَا طَلعٌ نَضِيدٌ رِزْقًا للعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلدَةً مَيْتًا كَذَلكَ الخُرُوجُ ) ق/6: 11 ، وقال أيضاً: ( أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلى الإِبِل كَيْفَ خُلقَتْ وَإِلى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ وَإِلى الجِبَال كَيْفَ نُصِبَتْ وَإِلى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ) الغاشية/171:21 .
والحق سبحانه وتعالى يدعوا عباده إلى النظر في آياتة الكونية ، والمخلوقات المرئية ، بما في ذلك النفس البشرية ، فهى في حقيقتها صفحات كونية وأدلة عقلية في كتاب الله الكونى ، ودور الإنسان الذي أمر الله به في القرآن هو التفكر والاعتبار والنظر في الآثار ، فالأثر يدل على المسير والبعرة تدل على البعير ، سماء ذات أبراج وأرض ذات فجاج ألا تدل على اللطيف الخبير ، فدور العقل هنا البحث في المخلوقات وما فيها من حكم وآيات ، فإن المفعولات دالة على الأفعال ، والأفعال دالة على الصفات ، فالمفعول يدل على الفاعل ، والمخلوق يدل على الخالق ، وذلك يدل باللزوم على وجود الله وقدرته وعلمه ومشيئته .
ثم ما في المخلوقات من أنواع التغييرات ، وما فيها من تنوع في الأشكال والجمال والحسن والكمال ، يدل على وجود إرادة للحق في إدارة الملك ، كما أن ما فيها من المصالح والغايات والحكم البينات الواضحات ، يدل على حكمته وإتقان صنعته ، وغير ذلك مما دعانا الله تعالى إلى النظر فيه فقال سبحانه تعالى : ( إِنَّ فِي خَلقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ الليْل وَالنَّهَارِ وَالفُلكِ التِي تَجْرِي فِي البَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَل اللهُ مِنْ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُل دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ المُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) البقرة/164 .
ومن الأمور التي يدرك بها العقل حقائق الأشياء أيضا المتواترات : كعلمنا بوجود مكة والمدينة ، فإن العلم بوجودهما علم يقيني ، وكذلك بعثة النبي العلم بها علم يقينى ، لما ورد فيها من تواتر الأخبار وحملة الآثار ، وقد اتفق علماء الحديث على أن الأحاديث المتواترة تدل على اليقين وهى التي رواها جمع يستحيل اتفاقهم على الكذب عن جمع آخر يستحيل اتفاقهم على الكذب إلى نهاية الإسناد إلى رسول الله صَلى الله عَليْهِ وَسَلمَ .
ومن الأمور التي يدرك بها العقل حقائق الأشياء التجريبيات وقد يعبر عنها باطراد العادات ، وذلك مثل حكمك بأن النار محرقة وأن الشمس مشرقة ، وأن الماء ينزل من السماء فيحي الأرض بعد موتها ، فهي سنن وعادات وتجربة وممارسات ، ولذلك حذرنا الله من العصيان ، بما حدث لأعدائه في سالف الزمان ، كان مصيرهم الخسف والمسخ والصيحة والنبران فقال تعالى :
( قَدْ خَلتْ مِنْ قَبْلكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المُكَذِّبِينَ آل عمران ) وقال : ( قُل للذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لهُمْ مَا قَدْ سَلفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلينَ ) ( فَهَل يَنْظُرُونَ إِلا سُنَّةَ الأَوَّلينَ فَلنْ تَجِدَ لسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلا وَلنْ تَجِدَ لسُنَّةِ اللهِ تَحْوِيلا ) ، وفي الحديث ( لا يُلدَغُ المُؤْمِنُ مِنْ جُحْرٍ وَاحِدٍ مَرَّتَيْنِ ) .
وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ أن رَسُولُ اللهِ صَلى الله عَليْهِ وَسَلمَ قَال : ( إِنَّ الصِّدْقَ بِرٌّ وَإِنَّ البِرَّ يَهْدِي إِلى الجَنَّةِ وَإِنَّ العَبْدَ ليَتَحَرَّى الصِّدْقَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ صِدِّيقًا وَإِنَّ الكَذِبَ فُجُورٌ وَإِنَّ الفُجُورَ يَهْدِي إِلى النَّارِ وَإِنَّ العَبْدَ ليَتَحَرَّى الكَذِبَ حَتَّى يُكْتَبَ كَذَّابًا ) ، فغاية ما للعقل النظر في الأسباب والتعرف على دلالتها ، ولا يجوز للإنسان أن يتجاوز ذلك كما قال تعالى : ( وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالبَصَرَ وَالفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً )
ما هي الغاية الرئيسية من وجود العقل؟ معرفة الإنسان بما ينفعه ويضره، وكيف يحصِّل الخير الأعلى ويدفع عن نفسه الشر الأدنى ويحقق لنفسه الأفضل دائما
أى بحيث يستطيع النجاة والبعد عن الوقوع فى الكفر والبدع التى تستوجب العذاب وان يستطيع أن يصل الى الجنة بالاخلاص والاتباع أى بفعل المأمورات والانتهاء عن النواهى.
الا انه هناك الكثيرون من الناس يفعلون ما يضرهم ، ويقال عنهم بأنهم عقلاء.
نقول: هذا عقل نسبي ، لأن أعقل الناس قد يكونون ممن يُضرب بهم المثل في العلم ، ولكن تسمع قول الله تبارك وتعالى فيهم : (تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ . قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ . وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ ) (الملك:8-10) ، فهؤلاء كان لهم عقول ، ولكن لم يُميزوا بين الضرر والنفع ، لأن الله تبارك وتعالى لمَّا أوجد العقل فينا أراد منا أن نُميز بين ما ينفعنا وما يضرنا ، والإشكال الذي يحدث هو في قِصر النظر إلى النفع والضرر ، فتجد من يرى أن الخير الذي سيعود عليه هو أن يستمتع بالحياة بمجموعة من المتع .
والحمد لله والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
1) ما المقصود بالعقل؟
2) ما هي الغاية الرئيسية من وجود العقل؟
____________________________________________
الحمد لله والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم أما بعد ،
فالبحث فى العلاقة بين العقل والنقل من المهام العظيمة لما يجعل نفوس المسلمين تعتقد الاعتقاد السليم الذى يسلم من الأهواء والفتن التى يتعرض لها المسلم وخصوصا فى تلك الحقبة التى تمر بها الأمة ومعنا اليوم يدور حول نقطتين هما: ماالمقصود بالعقل ؟ وما هى الغاية الرئيسية من وجود العقل؟
ولما كانت الاستدلالات على حقيقة الأمور وماهيتها ينبثق من أمرين لاثالث لهما هما مناط أى حكم يكون بالنقل والعقل،
والعقل لابد وأن يكون الصريح الذى لاتشوبه شائبة ، أو يوصف بعى أو هوى أو انحراف ،
والنقل الذى لايعتريه أى ريبة أو شكوك أ, تحريف،
أو عدم تأكد من طريق وصوله الينا من حيث الصحة والضعف،
والعقل أيضا حسب ماخلق له بحيث تكون حدوده فيما يستطاع استخدامه وفى حدود قدراته وامكاناته التى حبي الله عز وجل ابن آدم بها،
أى أيضا فيما هو من عالم المشاهدة وليس من عالم الغيب أى فيما يشاهد ويحس ويعرف ويدرك وليس فيما عنه غيبى،
لذا لابد علينا أن نسلك طريق يجعلنا نحكم على العقل هل هو صريح ليس فيه هوى أو تحريف أو مايضاد أن يكون صريح،
لذا علينا أولا معرفة ماهو العقل وأين هو من ابن آدم وما حدوده وغاية وجوده وماهى امكاناته وحدود استخدامه بحيث يكون منبثق من تحت عباءة الشرع لا ليكون هو الحكم،
لكن كيفيته لانستطيع معرفة كيفيته مثل الروح ( وما أوتيتم من العلم الا قليلا ) ،
والعقل هو في أصح الآراء : غريزة وضعها الله في قلوب الممتحنين من عباده تابعة للروح موضوعة في الجانب الغيببي من قلب الإنسان لا نعرف كيفيتها، ولكن نتعرف على وجودها ووجود أوصافها من أفعال الإنسان في ظاهر البدن، فيقال هذا عاقل إذا فعل أفعال العقلاء وهذا مجنون إذا لم يتصف بها.
قال تعالى: (أَفَلَمْ يسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلونَ بِهَا)، فالآية تدل على أن العقل موجود في القلب.
قال الثعالبي في الجواهر الحسان: (هذه الآية تقتضى أن العقل في القلب وذلك هو الحق، ولا ينكر أن للدماغ اتصالا بالقلب يوجب فساد العقل متى اختل الدماغ).
وقال القرطبى في الجامع لأحكام القرآن: (أضاف العقل إلى القلب لأنه محله كما أن السمع محل الأذن، وقد قيل: إن العقل محله الدماغ وروي ذلك عن أبي حنيفة وما أراها عنه صحيحة)
وقد أبعد ابن عاشور فى تفسيره للآية فقال:
وأطلقت القلوب على تقاسيم العقل على وجه المجاز المرسل لأن القلب هو مُفيض الدم وهو مادة الحياة على الأعضاء الرئيسية وأهمها الدماغ الذي هو عضو العقل ، ولذلك قال : { يعقلون بها } وإنما آلة العقل هي الدماغ ولكن الكلام جرَى أوله على متعارف أهل اللغة ثم أجري عقب ذلك على الحقيقة العلمية فقال : { يعقلون بها } فأشار إلى أن القلوب هي العقل .
ونزّلت عقولهم منزلة المعدوم كما نزّل سَيْرهم في الأرض منزلة المعدوم .
والزمخشرى فى الكشاف :
قوله تعالى : { أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأرض } الآية . يعني كفار مكة أفلم يسيروا في الأرض فينظروا إلى مصارع المكذبين من الأمم الخالية ، فذكر ما يتكامل به الاعتبار ، لأن الرؤية لها حظّ عظيم في الاعتبار ، وكذلك سماع الأخبار ولكن لا يكمل هذان الأمران إلا بتدبير القلب ، لأن من عاين وسمع ولم يتدبر ولم يعتبر لم ينتفع ، فلهذا قال : { فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي فِي الصدور } .
قوله : « فَتَكُونَ » منصوب على جواب الاستفهام ، وعبارة الحوفي على جواب التقرير . وقيل : على جواب النفي وقرأ مبشر بن عبيد : « فَيَكُونَ » بالياء من تحت لأن التأنيث مجازي . ومتعلق العقل محذوف أي : ما حل بالأمم السالفة . ثم قال : { قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَآ } أي : يعلمون بها ، وهذا يدل على أن العقل العلم ، وعلى أن محل العلم هو القلب ، لأنه جعل القلب آلة لهذا العقل ، فيكون القلب محلاً للعقل ، ولهذا سمي الجهل بالعمى ، لأن الجاهل لكونه متحيراً يشبه الأعمى
وابن عطية فى المحرر الوجيز
، { أفلم يسيروا في الأرض } أي في البلاد فينظروا في أحوال الأمم المكذبة المعذبة ، وهذه الآية تقتضي أن العقل في القلب وذلك هو الحق ولا ينكر أن للدماغ اتصالاً بالقلب يوجب فساد العقل متى اختل الدماغ ، { فتكون } ، نصب بالفاء في جواب الاستفهام صرف الفعل من الجزم إلى النصب ، وقوله { فإنها لا تعمى الأبصار } ، لفظ مبالغة كأنه قال : ليس العمى عمى العين وإنما العمى حق العمى عمى القلب ، ومعلوم أن الأبصار تعمى ولكن المقصد ما ذكرناه
والعقل يقوم بتحصيل المعلومات وجمعها من حواس الإنسان ثم يحللها ويصنف الحدث المرافق لها، ثم يخزنها في ذاكرة الإنسان الذي بدوره يقوم باستدعائها حسبما يشاء
العقل هو أساس الجهاز الإدراكى البشرى فهو في القلب يشبه المعالج في الكمبيوتر ، والحواس تشبه وسائل إدخال المعلومات أو إخراجها والمخ فيه ذاكرة الإنسان أو ما يشبه القرص الصلب ، والله عز وجل قد خلق الإنسان بجهاز إداركى محدود ، تحقيقا لعلة معينة ، تمثلت في الابتلاء كما قال تعالى : ( إِنَّا خَلَقْنَا الإنسان مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلنَاهُ سَمِيعاً بَصِيرا ً) (الإنسان:2) ، وقد أجريت التجارب والدراسات الحديثة ، لتقدير القيم التقريبية للحدود المعينة في المؤثرات الخارجية التي يستقبلها الجهاز الحسي والإدراكى في جسم الإنسان ، والتي يطلقون عليها في علم النفس العتبات المطلقة للحواس الخمس فوجدوا أن البصر يدرك به العقل صورة شمعة مضاءة ترى على بعد 30 ميلا في ليل مظلم صاف 290 مليميكرون ، ووجدوا أن السمع يدرك به العقل صوت دقة ساعة في ظروف هادئة تماما على بعد 20 قدما ، والتذوق يدرك به العقل ملعقة صغيرة من السكر مذابة في جالونين من الماء ، والشم يدرك به العقل نقطة عطر منتشرة في غرفة مساحتها 6 أمتار مربعة ، وحاسة اللمس يدرك جناح ذبابة يسقط على الصدغ من مسافة 1 سم تقريبا .
فإذا كان الجهاز الإدراكى في الإنسان بهذه الصورة في الدنيا فمن الصعب أن يرى ما وراء ذلك ، كالذي يحدث في القبر من عذاب أو نعيم أو يرى الملائكة أو الجن أو عالم الغيب ، أو يرى ذات الله وصفاته من باب أولى ، ومعلوم أن عدم رؤيته لهذه الأشياء لا يعنى عدم وجودها فالجن مثلا جهازه الإدراكى يختلف عن الإنسان من حيث القوة قال تعالى في وصفه : ( إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ ) (لأعراف:27) ، وموسى عليه السلام لما طلب رؤية الله لم يكن الجواب باستحالة الرؤية أو نفيها مطلقا ، ولكن النفي معلق بانتهاء الحياة الدنيا ، فإن الشيء لا يرى لسببين :
1 - خفاء المرئي وهو ممتنع في حق الله .
2- ضعف الجهاز الإدراكى للرائي .
وهذا هو شأن موسى عليه السلام ، ولذلك تجلى الله للجبل الذي يتحمل أقصى درجة ممكنة من ضوء الشمس والذي لا يتحملة الإنسان أكثر من تسع دقائق تقريبا ، قال تعالى : ( وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي ، فَلَمَّا تَجَلى رَبُّهُ لِلجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ مُوسَى صَعِقاً ، فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ المُؤْمِنِينَ ) (الأعراف:143) .
فمن الخطأ طلب البحث عن كيفية الأمور الغيبية أو الذات الإلهية أو صفاتها في الدنيا ، لأن النواميس التي أوجدها الله في الكون لا تسمح بذلك اللهم إلا إذا حدث خرق للعادة كأن يرى بعض الرسل الملائكة أو الجنة أو النار أو بعض أمور الغيب أو ما يعجز الإنسان العادي عن إدراكه .
أما في الآخرة فالأمر مختلف تماما ، إذ أن مدركات الإنسان في الآخرة تختلف عن مدركاته في الدنيا كما صح الخبر عن رسول الله بذلك في الحديث المتفق عليه ، حيث قال : ( خلق الله آدم على صورته طوله ستون ذراعا فلما خلقه قال : اذهب فسلم على أولئك نفر من الملائكة جلوس فاستمع ما يحيونك فإنها تحيتك وتحية ذريتك ، فقـال : السلام عليكم ، فقالوا : السلام عليك ورحمة الله ، فزادوه ورحمة الله فكل من يدخل الجنة على صورة آدم فلم يزل الخلق ينقص بعد حتى الآن ) ، فالإنسان يوم القيامة على صورة آدم طوله ستون زراعا ومن أجل ذلك فإن مداركه وحواسه تتغير بالكيفية التي تناسب أمور الآخرة ، فإذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إنكم سترون ربكم عيانا ) أو ( إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته ) ، كما روى ذلك البخاري علمنا أن إدرك العين المبصرة في الدنيا وقدرتها تختلف عن إدراك العين المبصرة في الآخرة وقدرتها على الرؤية .
من أجل ذلك وجب الإيمان بالرؤية في الآخرة والتسليم بذلك لموافقته للعقل الصريح والنقل الصحيح ، وكذلك الحال في بقية الصفات فنؤمن بها ونثبتها لله دون طلب للكيفية ، أما العقل فأقصى حدوده أن يتعرف على الله ووجوده من خلال الأسباب ، فهناك عدة أمور يدرك بها العقل حقائق الأشياء ، أولها البديهيات أو الأوليات ، وذلك كالحكم على أن البعرة تدل يقينا على البعير وأن الأثر يدل يقينا على المسير ، ومن هنا كان المسلم على يقين بوجود الله من خلال إثبات وجود الخالق بدلالة المخلوقات ، وقد ثبت ذلك بحكم الأوليات أو البديهيات ، إن من أكبر المحرمات جريمة الزى ، والحكم فيها لا بد أن يقوم على مفردات يقينية ولا يبنى على أمور ظنية ، وقد بين القرآن وسائل إدراك اليقين عند الحكم على المرتكبين لها ، فمن ذلك البديهيات وارتباط العلل بالمعلولات ، كما قالت مريم للملك عندما قال لها :
( إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لأَهَبَ لكِ غُلامًا زَكِيًّا قَالتْ أَنَّى يَكُونُ لي غُلامٌ وَلمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ – بزواج - وَلمْ أَكُنْ بَغِيًّا - بزنا – لأن البديهيات تجعل العاقل يحكم حكما يقينيا بأن الولد لا يأتي إلا من طريق مشروع أو طريق ممنوع ولذلك أكد لها الملك أن ذلك واضح صحيح ، وأن حالتها استثناء وأن الله يخلق ما يشاء - قَال كَذَلكِ قَال رَبُّكِ هُوَ عَليَّ هَيِّنٌ وَلنَجْعَلهُ آيَةً للنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا – من أجل ذلك أثبت لها الخالق براءتها ، بخرق العادات وظهور المعجزات ، وأوحى إليها أنها إذا رأت من أنكر عليها ، أن تلزم الصمت وتمتنع عن الكلام ، وكل ما عليها أن تشير إلى الغلام وتقول :
( إِنِّي نَذَرْتُ للرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلنْ أُكَلمَ اليَوْمَ إِنسِيًّا فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا فَأَشَارَتْ إِليْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلمُ مَنْ كَانَ فِي المَهْدِ صَبِيًّا قَال إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتَانِي الكِتَابَ وَجَعَلنِي نَبِيًّا وَجَعَلنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا وَبَرًّا بِوَالدَتِي وَلمْ يَجْعَلنِي جَبَّارًا شَقِيًّا وَالسَّلامُ عَلي يَوْمَ وُلدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا ) ، سبحان الله أطفل صغير ينطق بهذه الكلمات ؟ ويعرف كل هذه المعلومات ، ويفهم لوازم العبارات ( إِنَّ مَثَل عِيسَى عِنْدَ اللهِ كَمَثَل آدَمَ خَلقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَال لهُ كُنْ فَيَكُونُ ) ، ( ذَلكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْل الحَقِّ الذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ مَا كَانَ للهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لهُ كُنْ فَيَكُونُ ) .
فالله عز وجل قادر على أن يعلم الناس ما يشاء ، فيدركون بأبصارهم ما هو تحت الأرض وفوق السماء ، كما قال سبحانه وتعالى : ( وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلمِهِ إِلا بِمَا شَاءَ ) البقرة ، ولكنه من حكمته جعل جهاز الإدراك في الإنسان محدودا ، وجعل باب الإطلاع على الغيب بالعقل وحده مسدودا ، لكي تكون الحياة نوعا من أنواع الابتلاءات ، ويكون أهل العلم بين الناس درجات ، فآيات القرآن أثبتت للإنسان جهازا للإدراك شاملا متكاملا أساسه في القلب ، أول مهامه إدراك الأشياء ومعرفة الأسماء ، وتمييز خصائصها والتعرف على أوصافها ، يقول الله تعالى : ( أَفَلمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلكِنْ تَعْمَى القُلُوبُ التِي فِي الصُّدُورِ ) وقال أيضاً: ( وَلقَدْ ذَرَأْنَا لجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنْ الجِنِّ وَالإِنسِ لهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلئِكَ كَالأَنْعَامِ بَل هُمْ أَضَلُّ أُوْلئِكَ هُمْ الغَافِلُونَ ) ، فالبديهيات من أبرز الأمور العقلية في الدلالة على وجود الخالق .
ومن الأمور التي يدرك بها العقل حقائق الأشياء المحسوسات ، وقد جعلها الله وسيلة من وسائل الإثبات ، في الحكم على الزانيات المومسات فقال : ( وَالذِينَ يَرْمُونَ المُحْصَنَاتِ ثُمَّ لمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلدَةً وَلا تَقْبَلُوا لهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلئِكَ هُمْ الفَاسِقُونَ إِلا الذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلكَ وَأَصْلحُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ – جاء في الصحيح عَنْ عَبْدِ اللهِ بن مسعود أنه قَال : كنَّا ليْلةَ الجُمُعَةِ فِي المَسْجِدِ إِذْ جَاءَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ فَقَال : لوْ أَنَّ رَجُلًا وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلًا فَتَكَلمَ جَلدْتُمُوهُ ، أَوْ قَتَل قَتَلتُمُوهُ ، وَإِنْ سَكَتَ سَكَتَ عَلى غَيْظٍ ، وَاللهِ لأَسْأَلنَّ عَنْهُ رَسُول اللهِ صَلى اللهم عَليْهِ وَسَلمَ ، فَلمَّا كَانَ مِنَ الغَدِ أَتَى رَسُول اللهِ صَلى اللهم عَليْهِ وَسَلمَ فَسَأَلهُ ، فَقَال يا رسول الله : لوْ أَنَّ رَجُلًا وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلًا فَتَكَلمَ جَلدْتُمُوهُ أَوْ قَتَل قَتَلتُمُوهُ أَوْ سَكَتَ سَكَتَ عَلى غَيْظٍ ، فنزل قول الله تعالى :
( وَالذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلمْ يَكُنْ لهُمْ شُهَدَاءُ إِلا أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللهِ إِنَّهُ لمِنْ الصَّادِقِينَ وَالخَامِسَةُ أَنَّ لعْنَةَ اللهِ عَليْهِ إِنْ كَانَ مِنْ الكَاذِبِينَ وَيَدْرَأُ عَنْهَا العَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللهِ إِنَّهُ لمِنْ الكَاذِبِينَ وَالخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللهِ عَليْهَا إِنْ كَانَ مِنْ الصَّادِقِينَ ) .
وقد أمر الله عبادة باستخدام المحسوسات التي هى من مكونات الجهاز الإدراكى في النظر إلى الإبداع الكونى ، والتأمل في خلق السماوات والتفكر في سائر المخلوقات ، ( إِنَّ فِي خَلقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ الليْل وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولي الأَلبَابِ الذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ) .
وقال تعالى : ( أَفَلمْ يَنْظُرُوا إِلى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لهَا مِنْ فُرُوجٍ وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُل زَوْجٍ بَهِيجٍ تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لكُل عَبْدٍ مُنِيبٍ وَنَزَّلنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الحَصِيدِ وَالنَّخْل بَاسِقَاتٍ لهَا طَلعٌ نَضِيدٌ رِزْقًا للعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلدَةً مَيْتًا كَذَلكَ الخُرُوجُ ) ق/6: 11 ، وقال أيضاً: ( أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلى الإِبِل كَيْفَ خُلقَتْ وَإِلى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ وَإِلى الجِبَال كَيْفَ نُصِبَتْ وَإِلى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ) الغاشية/171:21 .
والحق سبحانه وتعالى يدعوا عباده إلى النظر في آياتة الكونية ، والمخلوقات المرئية ، بما في ذلك النفس البشرية ، فهى في حقيقتها صفحات كونية وأدلة عقلية في كتاب الله الكونى ، ودور الإنسان الذي أمر الله به في القرآن هو التفكر والاعتبار والنظر في الآثار ، فالأثر يدل على المسير والبعرة تدل على البعير ، سماء ذات أبراج وأرض ذات فجاج ألا تدل على اللطيف الخبير ، فدور العقل هنا البحث في المخلوقات وما فيها من حكم وآيات ، فإن المفعولات دالة على الأفعال ، والأفعال دالة على الصفات ، فالمفعول يدل على الفاعل ، والمخلوق يدل على الخالق ، وذلك يدل باللزوم على وجود الله وقدرته وعلمه ومشيئته .
ثم ما في المخلوقات من أنواع التغييرات ، وما فيها من تنوع في الأشكال والجمال والحسن والكمال ، يدل على وجود إرادة للحق في إدارة الملك ، كما أن ما فيها من المصالح والغايات والحكم البينات الواضحات ، يدل على حكمته وإتقان صنعته ، وغير ذلك مما دعانا الله تعالى إلى النظر فيه فقال سبحانه تعالى : ( إِنَّ فِي خَلقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ الليْل وَالنَّهَارِ وَالفُلكِ التِي تَجْرِي فِي البَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَل اللهُ مِنْ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُل دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ المُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) البقرة/164 .
ومن الأمور التي يدرك بها العقل حقائق الأشياء أيضا المتواترات : كعلمنا بوجود مكة والمدينة ، فإن العلم بوجودهما علم يقيني ، وكذلك بعثة النبي العلم بها علم يقينى ، لما ورد فيها من تواتر الأخبار وحملة الآثار ، وقد اتفق علماء الحديث على أن الأحاديث المتواترة تدل على اليقين وهى التي رواها جمع يستحيل اتفاقهم على الكذب عن جمع آخر يستحيل اتفاقهم على الكذب إلى نهاية الإسناد إلى رسول الله صَلى الله عَليْهِ وَسَلمَ .
ومن الأمور التي يدرك بها العقل حقائق الأشياء التجريبيات وقد يعبر عنها باطراد العادات ، وذلك مثل حكمك بأن النار محرقة وأن الشمس مشرقة ، وأن الماء ينزل من السماء فيحي الأرض بعد موتها ، فهي سنن وعادات وتجربة وممارسات ، ولذلك حذرنا الله من العصيان ، بما حدث لأعدائه في سالف الزمان ، كان مصيرهم الخسف والمسخ والصيحة والنبران فقال تعالى :
( قَدْ خَلتْ مِنْ قَبْلكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المُكَذِّبِينَ آل عمران ) وقال : ( قُل للذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لهُمْ مَا قَدْ سَلفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلينَ ) ( فَهَل يَنْظُرُونَ إِلا سُنَّةَ الأَوَّلينَ فَلنْ تَجِدَ لسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلا وَلنْ تَجِدَ لسُنَّةِ اللهِ تَحْوِيلا ) ، وفي الحديث ( لا يُلدَغُ المُؤْمِنُ مِنْ جُحْرٍ وَاحِدٍ مَرَّتَيْنِ ) .
وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ أن رَسُولُ اللهِ صَلى الله عَليْهِ وَسَلمَ قَال : ( إِنَّ الصِّدْقَ بِرٌّ وَإِنَّ البِرَّ يَهْدِي إِلى الجَنَّةِ وَإِنَّ العَبْدَ ليَتَحَرَّى الصِّدْقَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ صِدِّيقًا وَإِنَّ الكَذِبَ فُجُورٌ وَإِنَّ الفُجُورَ يَهْدِي إِلى النَّارِ وَإِنَّ العَبْدَ ليَتَحَرَّى الكَذِبَ حَتَّى يُكْتَبَ كَذَّابًا ) ، فغاية ما للعقل النظر في الأسباب والتعرف على دلالتها ، ولا يجوز للإنسان أن يتجاوز ذلك كما قال تعالى : ( وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالبَصَرَ وَالفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً )
ما هي الغاية الرئيسية من وجود العقل؟ معرفة الإنسان بما ينفعه ويضره، وكيف يحصِّل الخير الأعلى ويدفع عن نفسه الشر الأدنى ويحقق لنفسه الأفضل دائما
أى بحيث يستطيع النجاة والبعد عن الوقوع فى الكفر والبدع التى تستوجب العذاب وان يستطيع أن يصل الى الجنة بالاخلاص والاتباع أى بفعل المأمورات والانتهاء عن النواهى.
الا انه هناك الكثيرون من الناس يفعلون ما يضرهم ، ويقال عنهم بأنهم عقلاء.
نقول: هذا عقل نسبي ، لأن أعقل الناس قد يكونون ممن يُضرب بهم المثل في العلم ، ولكن تسمع قول الله تبارك وتعالى فيهم : (تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ . قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ . وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ ) (الملك:8-10) ، فهؤلاء كان لهم عقول ، ولكن لم يُميزوا بين الضرر والنفع ، لأن الله تبارك وتعالى لمَّا أوجد العقل فينا أراد منا أن نُميز بين ما ينفعنا وما يضرنا ، والإشكال الذي يحدث هو في قِصر النظر إلى النفع والضرر ، فتجد من يرى أن الخير الذي سيعود عليه هو أن يستمتع بالحياة بمجموعة من المتع .
والحمد لله والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
تعليق