بسم الله الرحمن الرحيم
"عِبَادةِ الإِخْلاَص التي بها عَقْدُ الخَلاص "
*أما"عِبَادةِ الإِخْلاَص التي بها عَقْدُ الخَلاص " فهي -إخوانِي الكرام والجالسين معِي في مَجلِسِ النُّصْح والوِئام-, انْجِذابُ الرّوح, إلى ربِّ المَلائِكَةِ والرُّوح, الإقْبَالُ بالكُلِيَّة, على ربِّ البَرِيَّة, هي مِلَّةِ أبِينَا إبْرَاهيم, وحَقيقَةُِ دِينِ نبيِّّنا الأمِين، عَليْهِما أفْضَلُ صَلاةٍ وأزْكى تسْلِِيم.
نَعم هو الإخْلاص, تِلْكُمُ الخَصْلة ُالغالية ُبلِ الأغْلَى, والرُّتبَة ُالعَالِيَة الفُضلى, واللـّذةُ البَاقِيَةُ الأحْلى, والحَسَنَة ُالوَافِيَة ُفي الدّنيا والأخْرَى.
~ أعظمُ المَطالبِ الإلهيَّة, وأكبرُالأوامرِ الرّبّانيّة،
~ لبُّ القرْآن, وسِرُّ الإيمان, وعماد ُالإحسان.
~ بلْ هو سر الخَلق ِوالأمْر, والخَيْرِ والشّر, والمَحْيا والمَمَات, والنّارِ والجَنّات.
~لأجْلِهِ أُنزِلتِ الكُتُبُ السَّواطِع، وأُرْسِلتِ الرُّسُلُ لأقْوَامِها تَتْرَى توَابِع, وأُذِنَ الخِصَامُ بالحُجَج ِالنّوَاصِع، وشُرِع َالجِهَادُ بالسُّيُوفِ القوَاطِع.
~ تَضَمّنَتْ كَلِمَة ُالتّوحِيدِ جَمِيعَ مَعناه، فكانتْ أفضَلَ ما رَدََّّدَتْهُ الأفْوَاه، وأنْفَعَ الكَلام ِوأصْفَاه ، فمَا ذُكِرَتْ في قلِيلٍ إلاّ كثـَّرََتْه، ولاعَسِيرٍ إلاّ يَسَّرَتْه، ولا وَعْرٍ إلاّ سَهّلَتْه, ولا صَعْبٍِ إلاّ ذَلّلتْه، ولا كرْبٍ إلاّ فرّجَتْه, ولاهَمٍّ إلا أجْلتْه ُوأذْهَبَتْه.
~ بَلْ ما فُتِحَ الإخْلاصُ على عَبْدٍ إلاّ عَزَّ وسَاد, وأنَالَهُ اللهُ ما أرَاد, في الدُّنيَا والمَعَاد
~فالمُخلِصُونَ هُمُ الصَّفْوَة، وأهْلُ القُرْبِ والحَظْوَة، والوِلايَةِ والقُدْوَة، من الرُّسُلِ والأنْبِيَاء, والصِّدِّيقِينَ والشُّهَدَاء, والصَّالِحِينَ والأتْقِيَاء.
~ عَرَفُوا قدْرَ الله ِحَقَّ المَعْرِفَة, وأيْقنُوا بِكُلِّ اسْمٍ لهُ وَصِفَة, فاسْتَحْكَمَتْ قُلُوبَهُمُ المَهَابَةُ، وفَزِعَتْ نُفُوسُهم للإخْبَاتِ والإنابَة،
~وعَلِمُوا أنَّ كُلَّ مَا سِوَى اللهِ بَاطِل, وكلَّ نَعِيمٍ لاَ مَحَالَةَ زَائِل, فشَحُّوا بِأعمَالِهِمْ أنْ تكُونَ إلاّ لله, واعْتَصَمُوا بهِ اعْتِصَامَ الغَرِيقِ لِمَن ِامْتَدَّتْ يَدَاه
~صَارَ سُبْحانَهُ أكبَرَ هُمُومِهِمْ وأعْظَمَ مَطْلُوبِهِمْ فلا يُرْضِيهِمْ إلاّ رِضَاه, ولا يُحَرِّكُهُمْ إلاّ ما أرَادَهُ وابْتَغَاه, فهو مَعْبُودُهُمْ فَلا مَعْبُودَ لَهُم سِوَاه، وهو مَقْصُودُهُمْ فلا مَقْصُودَ إلاّ إيَّاه.
~ وبعد هذا عَقَدُوا لِوَاءَ الوَلاَءِ لِكُلَّ هؤلاء وأحَبُّوا كلَّّ مَنْ عَبَدَهُ وذَكَرَه, وكلَّ منْ دَعَى إليْهِ ونَصَرَه, ومنْ سَعَى في دِينِهِ ونَشَرَه، ذَلُّوا لهم فلا ترَاهُم جَبَّارِين, وتَواضَعُوا فلا تَراهُم مُتكبِّرِين, واجْتَمَعُوا فلا ترَاهُم مُتفرِّقِين, وتنَاصَحُوا فيمَا بَينَهُم بالنُّصْح ِالأمِين.
.للهِ ذَيَّاكَ الفَرِيقُ فإنّهُم ... خُصُّوا بخَالِصَةٍ مِنَ الرّحمن ِ
.شُدَّتْ رَكَائِبُُهُم إلى مَعْبُودِهِم ... ورسُولِهِ يا خَيْبَة َالكَسْلان ِ
~ فالإخلاصُ رُوحُ الإسْلام, وبَلسَمُ جَمِيع ِالأسْقَام, وسَبَبُ حُسْنِ الخِتَامِ، والأمْنِ التَّامِّ في يَوْمٍ هو أشدُّ الأيَّام.
~ فالسَّاعِي في تحْصِيلِهِ وتحْقِيقِهِ قدْ أدْرَكَ البَاب، -والنَّاسُ قدْ فرَّقتهُم كثرَة ُالأبْواب-، فليُكثِرِ الطَّرْقَ ولِيَلْزَمِ الأسباب، فإذا فُتِحَ لَهُ فقَدْ فَازَ وَرَبِّ الأرباب.
*وأمّا عَدُوُّ الإخلاص ِوالصَّفَاء, وفِتْنَتُهُ العَمْيَاءُ الصَّمَّاء, ودَاءُهُ الّذِى أعْيَى الأطبَّاءَ الحُكَمَاء, فهُو الرِّيَاء:
~ صَنَمُ السِّرِّ وطَاغُوتُ الخَفَاء, والشَّبَحُ الّذِي يُعْبَدُ مِنْ دُونِ رَبِّ السَّمَاء,
~ أكبَرُ الوَسَاوِسِ والأوْهَام, وأخْطرُ الذّنُوبِ والآثام,
~أصلُ الشِّركِ ومَادَّةُ النِّفاق, وأسَاسُ المَعَاصِي ومَسَاوِئ ِالأخلاق,
~ حِجَابُهُ أغلظُ الحُجُبِ، فالقُلُوبُ قدْ عَدِمَتِ الإبْصَارَ فلا تَرَى الحَقائِق, وسُحُبُهُ أكْثفُ السُّحُبِ فهي إعْصَارٌ فيهِ نَارٌ تُنْذِرُ بالحَرَائِق,
~اغْتَرَّ بِلَذَّتِهِ المُنَافِقُونَ فهو أنْعَمُ الجِنَانِ وأنْعَمُ القَرَار, واسْتَرْوَحَ لَهُ أهْلُ الدُّنيَا فهُوَ الرُّوح ُوالرَّيْحَانُ في هذِهِ الدَّار, وتـَلى المُؤْمِنُونَ عَليْهِم القُرْءَانَ: ﴿قُلْ تَمَتـَّعْ بكُفْرِكَ قَلِيلا ًإنَّكَ مِن ْأصْحَابِ النَّار﴾ [الزمر/8].
~ ألمْ تَرَ أنَّّهُ سَيِّئَة تسْلخُ منْ كلِّ الفضَاِئل, وتضَعُ أرْبَابَهَا أحَطَّ المَنَازِل, فلفْظُهُمُ الصَّلاحُ والعِبَادَة، ومَعْنَاهُمْ أبُو الحِنْبَص ِوَأبُوالجَعَادَة:
فقلتُ لهُ أبَا جَعَادَة إنْ تَمُتْ . . . يَمُتْ سَيِّءُ الأخلاق ِلا يُتَقَبَّلُ
~لِسَانُهُمُ المَحَبَّة ُوالصِّدْق, وفِعَالُهُمُ المُرَاوَغَة ُوالمِذْق
~ اسْتكْسَوْهُ فكَسَاهُمُ الجُبْنَ والبُخْلَ والخَوْف, واسْتَسْقَوْهُ فسَقَاهُمُ الذِّلة َوالصَّغَارَ في الشِّتاءِ والصَّيف,
~ اتَّخَذَ النَّاسُ أرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ فكانَ أخَسَّ الأربَابِ في البِلاد، وكان أصحابُهُ هُمُ الأرْذَلُ مِنْ كلِّ هَؤُلاءِ العُبَّاد, لذلك كانَ أوَّلَ مَنْ تُسَعَّرُ بِهِ النَّارُ يَومَ القِيَامَةِ المُرَاؤون مِنْ أهلِ العِلمِ والعِبَادَةِ والجِهَاد, إذْ كانتْ صُوَرُهُم صُوَرَ العُلمَاءِ وهُمُ الجَاهِلُون، ولِسَانُهُمْ لِسَانَ الفُقهَاءِ وهم المُتَنَطِّعُون, وحَالهُم حَالَ الصُّلحَاءِ وهُمُ المُفسِدُون, وخُلاصَة ُماَكانَ من أمرِهِمُ المَأفُون, ﴿هُمُ العَدُوُّ فاحذَرْهُمْ قاتلهُمُ اللهُ أنَّى يُوفَكُون﴾ [المنافقون/4]
~فمَا نَالُوا الكَمَالَ، ولابَلَغُوا رِضْوَانَ الكَبِيرِالمُتَعَال, وحَصَّلُوا المَقْتَ مِنَ الخَلْقِ جَزَاءَ أبِي المِرْقَال:
.إنّ الغُراب و كان يَمشِي مِشيَة .... فيما مَضَى من سَالِفِ الأحْوَالِ
.حَسَد القَطَاةَ فَرَامَ يَمشِي مَشْيها .... فأصَابَهُ ضَرْبٌ من العُقَّالِ
.فأضَلَّ مِشيَتَهَا و أخْطَأ مَشْيَهُ .... فلِذاكَ كََنَّوْهُ أبَا المِرقَالِ
كالشَّاءِ بَيْنَ الغَنَمَيْنِ لا إلى هؤلاءِ ولا إلى هؤلاء.
~ فاحْذَرْهُ ياعَبْدَ اللهِ فإنَّهُ الزَّغَلُ الدَّفِينِ، وامْقُتْهُ أشَدَّ المَقْتِ فليسَ إلاّ التُّرَابَ والطِّين, وقدْ خَفِي في مَسَالِكِ القُلُوبِ فأعْمَاهَا, وطَارَ إلى نُجُومِ سَمَاءِهَا فأطْفَاهَا, وليسَ هُو إلا فِتْنَة َ العَظَمَةِ وصِفَاتِ الكَمَالِ, تَرَاهَا في نَفسِكَ أو ترَاهَا في الرِّجَال, فالأولى تَدْعُوكَ إلى التـَّكَبُّرِ في الأرضِ بغيرِ الحَقِّ, والثانِيَة ُتدْعُوكَ إلى الذِّلةِ بالعُبُودِيَّةِ للخَلق, وفي كلِّ ذلكَ أنتَ تَرْتَعُ في الإشْرَاك, وتَسْتعْمِلُ الرِّيَاءَ للوُصُولِ إلى هُنَاك, فأبْشِرْ بالهَلاك، بَلْ كُلـُّنا ذاك، فلا يَكَادُ يَنجُو منهُ أحَدٌ إلاّ الرُّسُلُ والأمْلاك, لِذلِكَ كانَ يَقُولُ مَنْ صَلّى اللهُ عَليْهِ وَسَلّمْ: «اللّهُمَّ إنَّي أعُوذُ بِكَ أنْ أشرِكَ بِكَ وأنا أعْلَمْ, وأسْتَغْفِرُكَ لِمَا لا أعلم».
~وأكتفِي أخِي المُبَارَكِ الكَرِيمِ -من قرآن ربنا العظيم- ببَعْضِ الدَّلائِل, مُرْفَقَة ًببَعْضِ التَّوضِيحِ والمَسَائِل, تُقَرِّرُ مَا مَضَى مِنَ البُنُود, وتُجَلّي الَمزِيدَ مِنَ المَعْنَى المَنُشُود:
ـ قالَ اللهُ تعَالَى: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ [الفاتحة: 5] قال فيها قتادَة: "يَأمُرُكُم أنْ تُخْلِصُوا لهُ العِبَادَةَ وَأنْ تَسْتَعِينُوهُ على أمْركُم". والدِّينُ يَرْجِعُ كُلُّهُ إلى هَذَيْنِِ المَعْنَيَيْن، وهذا كمَا قالَ بَعضُ السَّلف: الفَاتِحَة ُسِرُّ القُرْآن، وسِرُّها هذهِ الكَلِمَة: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ فالأوّلُ تَبَرُّؤٌ مِنَ الشِّرْك، والثانِي تبرُّؤٌ مِنَ الحَوْلِ والقُوَّة، والتَّفْوِيضُ إلى اللهِ عَزَّ وَجَلّّ. وهذا المَعنَى في غَيرِ آيَةٍ مِنْ القرْآن، كمَا قالَ تعَالى: ﴿فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ [هود: 123] ﴿قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا﴾ [الملك: 29] ﴿رَبّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلا﴾ [المزمل: 9]، وكذلك هذه الآية الكريمَة: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ (تفسيرُ ابنُ كثِير - ج 1 / ص134) بل وحتَّى المَعْنَى الثـَّان، هُو تبَرُّؤٌ من الكُفْرَان, قالَ شيْخُ الإسْلام: وَكَثِيرًا مَا يَقْرِنُ النَّاسُ بَيْنَ الرِّيَاءِ وَالْعُجْبِ, فَالرِّيَاءُ مِنْ بَابِ الْإِشْرَاكِ بِالْخَلْقِ, وَالْعُجْبُ مِنْ بَابِ الْإِشْرَاكِ بِالنَّفْسِ, وَهَذَا حَالُ الْمُسْتَكْبِرِ, فَالْمُرَائِي لَا يُحَقِّقُ قَوْلَهُ: ﴿إيَّاكَ نَعْبُدُ﴾, وَالْمُعْجَبُ لَا يُحَقِّقُ قَوْلَهُ: ﴿وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾, فَمَنْ حَقَّقَ قَوْلَهُ: ﴿إيَّاكَ نَعْبُدُ﴾ خَرَجَ عَنْ الرِّيَاءِ, وَمَنْ حَقَّقَ قَوْلَهُ ﴿وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ خَرَجَ عَنْ الْإِعْجَابِ. [مَجمُوعُ فتاوَى ابنِ تيْمِيَّة - ج 2 / ص 372] ولذلك كانتْ هذهِ الآيَة ُدَعْوَةَ جميع ِالرُّسُلِ, فإنَّهُم كلَّهم دَعَوْا إلى توحِيدِ اللهِ وإخلاصِ عِبَادَتِهِ. [مَدَارِج السالكين لابن القيم ص112 بتصرُّف] وقدْ عَقدَ العَلاّمَة ُابنُ القيِّمِ فصْلا ًفي اشْتِمَالِ هذِهِ السُّورَةِ العَظِيمَةِ عَلى الرَّدِّ على جَمِيعِ المُبْطِلِينَ مِنْ أهلِ المِللِ والنِّحَلِ منَ المُشْرِكِينَ والمُبتدِعِينَ فِي كِتَابِهِ المَاتِعِ المَتِين ِ"مَدَارِجُ السَّالِكِين" بلْ أحْصَى العَلاّمَة "صَدِّيقٌ حَسَنٌ خَان" في كِتابِهِ الفَرِيدِ مِن نوْعِهِ "الدِّينُ الخَاِلصُ" في أوَّلِهِ ثلاثِينَ مَوْضِعًا مِنْ هذِهِ السُّورَةِ العَظِيمَةِ فِيهَا الإرشادُ إلى إخلاصِ التوْحِيدِ للهِ سُبْحَانه ثمّ قال: "وهذِهِ المَوَاضِعُ يُفِيدُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنهَا إخلاصَ التَّوْحِيدِ مَعَ أنَّ فاتِحَة َالكِتابِ ليْسَتْ إلاّ سَبْعَ آياتٍ فمَاَ ظَنُّكَ بمَا فِي سَائِرِ الكِتَابِ العَزِيزِ." اهـ فالإعتناءُ بِهَذِهِ السُّورَةِ مِنَ الإعتِنَاءِِ بِأنْفَعِ العِلمِ وأوْجَبِه.
ـ وقال سُبْحانهُ وتعَالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21)﴾ إلى أن قالِ: ﴿فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة 21 /22] وهو أوّلُ أمرٍ عَامٍّ في كِتابِ اللهِ تعَالَى لِكُلِّ النَّاس, [تفسير السعدي بتصرف] "والعِبَادَةُ أقْصَى غَايَات الخُضُوع والتَّذلُل، قالَ ابنُ كثِير: و[هي] في الشَّرْعِ عِبَارَةٌ عَمَّا يَجْمَعُ كَمَالَ المَحَبَّةَِ، والخُضُوعِ، والخوفِ."اهـ [فتح القدير - ج 1 / ص 10]
قال ابنُ القيِّمِ فِي نُونِيَّتِه:
و عِبَادَةُ الرَّحْمَنِ غَايَة ُحُبِّهِ ..... مَعْ ذُلِّ عَابِدِهِ هُمَا قُطْبَان.
فمَن أحبَبتْهُ ولمْ تكنْ خَاضِعًا لهُ لْم تكنْ عَابِدًا لهُ، ومن خضَعتَ لهُ بلا مَحَبَّةٍ لمْ تكنْ عَابِدًا لهُ حَتَّى تكونَ مُحِبًا خَاضِعًا [المَدَارِج ص87] وبعد الأمْرِ بالعبادة بيّن سبحانه وجهَ استحقاقه لها وأنه الخالق الرازق ذو الربوبية علينا وحده، "ثم خَتَمَ نِدَاءَهُ لهُمْ بتَنْبِيهِهِمْ عنِ اتِخَاذِ شُرَكَاءَ لهُ يَعْبُدُونَهُم مَعَهُ مَعَ عِلمِهِمْ أنّهُمْ لا يَسْتَحِقُّونَ العِبَادَة َلِعَجْزِهِمْ عنْ نفْعِهِِمْ أو ضَرِّهِمْ؛ وفي الآيةِ ثلاثةُ أصُول:
1- وُجُوبُ عِبَادَةِ اللهِ تعَالى، إذ هِىَ عِلَّة ُالحَيَاةِ كُلّهَا.
2- وُجوبُ مَعْرِفَةِ الله ِتعَالى بِأسْمَائِهِ وَصِفَاتِه.
3- تَحْرِيمُ الشِّرْكُ صَغِيرِهِ وَكَبِيرِهِ ظَاهِرِهِ وَخَفِيِّه. [أيْسَرُ التّفَاسِير للجَزَائِرِي ج 1 / ص 14بتصرف يسير].
ـ وقال سُبحَانهُ وتعَالى: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمة﴾[البينة:5] أيْ ثابتاً غَايَة َالثبَاتِ إخلاصُهُم ﴿لهُ الدِّين﴾ بحَيثُ لا يَكُونُ فِيهِ شَوْبُ شَيْءٍ مِمَّا يُكَدِّرُهُ مِن شِرْكٍ جَلِيٍّ وَلا خَفِيٍّ، بأنْ يَكُونَ الامْتِثالُ لِكَوْنِهِ أمر لِرضَاهُ لا لِشَيءٍ مِنْ نَفْعٍ وَلاَ دَفْع [َنظْمُ الدُّرَرِ للبقاعِي - ج 9 / ص 485]، فيَقْصِدُونَ بجَمِيع ِعِبَادَاتِهِم الظَّاهِرَةِ وَالبَاطِنَةِ وَجْهَ اللهِ وطَلَبَ الزُّلْفَى لَدَيْه، وَ﴿حُنَفَاءَ﴾ أيْ: مُعْرِضِينَ مَائِلِينَ عنْ سَائِرِ الأدْيَان ِالمُخَالِفَةِ لِدِينِ التَّوْحِيد. [تفسير السَّعدي- (ج 1 / ص 931). بتصَرُّف]
ـ ومِثلُهَا قولهُ سُبْحَانَهُ وتعَالى: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (2) أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ (3)﴾ [الزمر]
فأمَرَاللهُ جَلَّ وعَلاَ نَبِيَّهُ صَلَّى اللهُ عَليْهِ وسَلّم في هذِهِ الآيةِ الكرِيمَةِ أنْ يَعْبُدَهُ في حَالِ كَوْنِهِ مُخْلِصًا لهُ الدِّين، أيْ مُخلِصًا لهُ في عِبَادَتِهِ مِنْ جَمِيعِ أنْواعِ الشِّرْكِ صَغِيرِهَا وكَبِيرِهَا، كمَا هُو وَاضِحٌ مِنْ لفظِ الآية.
والإخلاصُ: إفرَادُ المَعْبُودِ بالقصْدِ في كلِّ مَا أمَرَ بالتقَرُّبِ بهِ إليهِ، ومَا تضَمَّنَتهُ هذِهِ الآيَة ُالكريمة ، مِنْ كَوْنِ الإخلاصِ في العِبَادَةِ للهِ وحدَهُ لا بُدَّ مِنه، جَاءَ في آياتٍ مُتعَدِّدَة، وقدْ بَيَّنَ جَلَّ وعَلاَ أنَّهُ مَا أمََرَ بعِبَادَةٍ إلاّ عِبَادَةً يُخْلِصُ لهُ العَابِدُ فِيهَا. [أضواء البيان للشنقيطي المالكي - ج 7 / ص 25.]
ـ وأيضًا في التَّصْرِيحِ بِالإخلاصِ وأنَّهُ أمْرٌ منَ اللهِ الأعْظَمِ قالَ سُبحَانه: ﴿قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (11) وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (12) قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (13) قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي (14) فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (15) لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ (16) وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ (1﴾ [الزمر]
والآيَاتُ في هَذا الأصلِ الأعظَمِ لا تُحْصَر, وكُلُّهَا تَدُلُّ على أنَّ الإخلاصَ هو المَطلَبُ الأكَبَر, وأنَّهُ الَواجِبُ عَلى كُلِّ البَشَر.
~وأمّا أدلة الإخلاصُ في السُّنَّةِ المُطَّهَرَةِ، فهي لا تُعَدُّ كَثْرة, ولا تُحْصَرُ وَفْرَة, فمِنْها:
1ـ عن الْأَسْوَدِ بْنِ هِلَالٍ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رضي الله عنه قَالَ:
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا مُعَاذُ أَتَدْرِي مَا حَقُّ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ؟» قَالَ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: «أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا. أَتَدْرِي مَا حَقُّهُمْ عَلَيْهِ؟» قَالَ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: «أَنْ لَا يُعَذِّبَهُمْ.» [صحيح البخاري - ج 22 / ص 365] قالَ النَّوَوِيُّ [في شرحه على صحيح مسلم1/71]: وَأَمَّا قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَا تُشْرِك بِهِ) فَإِنَّمَا ذَكَرَهُ بَعْد الْعِبَادَة لِأَنَّ الْكُفَّار كَانُوا يَعْبُدُونَهُ سُبْحَانه وَتَعَالَى فِي الصُّورَة، وَيَعْبُدُونَ مَعَهُ أَوْثَانًا يَزْعُمُونَ أَنَّهَا شُرَكَاء، فَنَفَى هَذَا. وَاَللَّه أَعْلَمُ. قلت: وهو معنى التوحيدِ والإخلاصِ والحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَة، وانظُرْ تقْسِيمَ ابنِ القيِّمِ للشِّرْكِ في [الجَوَابِ الكَافِي ص31] فانه بديع كافي.
2ـ وعَنْ عُمَرَ رضي الله عنه:
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّةِ وَلِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لدُنْيَا يُصِيبُهَا أَوْ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ." [أخرجه البخاري وغيره :فتح الباري لابن حجر - (ج 1 / ص 86)]
"...وفيه أيضًا الدلِيلُ الوَاضِحُ على أنَّ مَن عَمِلَ عَمَلا ًمنَ الأعْمَالِ التِّي يُتقَرَّبُ بِمِثلِهَا إلى اللهِ تعَالى ذِكرُه، مِن صَلاةٍ أو صَدَقةٍ أو قِرَاءَةِ قُرْآنٍ أو أمْرٍ في الظَّاهِرِ بِمَعْرُوفٍ أونَهْي ٍعنْ مُنكَر، ومَا أشبَهَ ذلِك مِنَ الأعْمَالِ التِّي إذا قصَدَ بهَا العَبْدُ طَلَبَ رِضَا اللهِ اسْتَحَقَّ بِهَا مِنْهُ مَا وَعَدَ أهْلَهَا عَلَيْهَا مُرِيدًا مِنْ ذلكَ منَ النَّاسِ الحَمْدَ عَليهَا، أو اِختِدَاعَ ضَعِيف ٍأو قوِيٍ بهَا مِن أهلِ الإسْلامِ أو غيْرِهم عنْ مَالِهِ لِيُظنَّ بهِ خَيْرًا فيُودِعَهُ إ يَّاهُ وَيتمنه [كذا] عليهِ، أو يُوصِي بهِ إليهِ من بَعدِ وَفاتِه، أو لِيَضُمَّ إليهِ شَيْئًا من أسْبَابهِ، والتَّعَرُّضَ بهِ لِذِي سُلطانٍ ليَسْتَكْفِيَهُ بَعْضَ أعمَالِهِ، وَيُولِيَهُ بَعضَ مَا هُو بسَبِيلِه ِ، أو يَغُرَّ بذلكَ امْرَأة ً فتَرْكَنُ إليْهِ ومَا أشْبَهَ ذلك، فإنَّ عَمَلَهُ ذلكَ لِمَا عَمِلَهُ لَهُ، واللهُ تعَالَى ذِكْرُهُ ورَسُولُهُ مِنْهُ بَرِيئَان، كمَا قالَ صَلّى اللهُ عليهِ وسَلّم: «ومَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إلى دُنْيَا يُصِيبُهَا، أوِ اِمْرَأةٌ يَتَزَوَّجُهَا، فهِجْرَتُهُ إلى مَا هَاجَرَ إليْه »". [تهذِيبُ الآثار للطّبَرِي - (ج 3 / ص 127)]
3ـ وفى صحيح مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: «أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنْ الشِّرْكِ مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ.»
قال النَّوَوِيُّ رحِمَهُ الله: هَكَذَا وَقَعَ فِي بَعْض الْأُصُول: ( وَشِرْكه )، وَفِي بَعْضهَا ( وَشَرِيكه )، وَفِي بَعْضهَا: ( وَشَرِكَته ). وَمَعْنَاهُ أَنَا غَنِيّ عَنْ الْمُشَارَكَة وَغَيْرهَا، فَمَنْ عَمِلَ شَيْئًا لِي وَلِغَيْرِي لَمْ أَقْبَلهُ، بَلْ أَتْرُكهُ لِذَلِكَ الْغَيْر. وَالْمُرَادُ أَنَّ عَمَلَ الْمُرَائِي بَاطِلٌ لَا ثَوَابَ فِيهِ، وَيَأْثَمُ بِهِ. [شرحُ النّوَوِيّ على صحيح مُسلم - (ج 9 / ص 370)]
وقال الصَّنعَانِىّ رحِمَهُ الله : ... سَمَّى اللهُ الرِّيَاءَ في الطَّاعَاتِ شِرْكًا، مَعَ أنَّ فَاعِلَ الطَّاعَةِ مَا قَصَدَ بهَا إلاّ اللهَ تعَالَى، وإنَّمَا أرَادَ طَلَبَ المَنْزِلَةِ بالطَّاعَةِ في قُلوبِ النَّاسِ، فالمُرَائِي عَبَدَ اللهَ لا غَيْرَه, لكِنَّهُ خَلَطَ عَمَلهُ بطلَبِ المَنْزِلَةِ في قلُوبِ النّاس، فلمْ يَقبَلْ لهُ عِبَادة ٌوسَمَّاهَا شِرْكًا، كمَا أخْرَجَ مُسْلِمٌ مِنُ حَدِيثِ أبِي هُرَيْرَة َ. . . (وذكرَ الحَدِيثَ الآنِفَ الذِّكْر) [تطْهِيرُ الإعْتِقادِ مِنْ أدْرَانِ الإلْحَاد - (ج 1 / ص 17)]
4ـ وفيه عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ سَمَّعَ سَمَّعَ اللَّهُ بِهِ وَمَنْ رَاءَى رَاءَى اللَّهُ بِهِ."
قَالَ الْعُلَمَاء: مَعْنَاهُ مَنْ رَايَا [كذا] بِعَمَلِهِ، وَسَمَّعَهُ النَّاس لِيُكْرِمُوهُ وَيُعَظِّمُوهُ وَيَعْتَقِدُوا خَيْره سَمَّعَ اللَّه بِهِ يَوْم الْقِيَامَة النَّاس، وَفَضَحَهُ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ مَنْ سَمَّعَ بِعُيُوبِهِ، وَأَذَاعَهَا، أَظْهَرَ اللَّه عُيُوبه، وَقِيلَ: أَسْمَعَهُ الْمَكْرُوه، وَقِيلَ: أَرَاهُ اللَّه ثَوَاب ذَلِكَ مِنْ غَيْر أَنْ يُعْطِيه إِيَّاهُ لِيَكُونَ حَسْرَة عَلَيْهِ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ مَنْ أَرَادَ بِعَمَلِهِ النَّاس أَسْمَعَهُ اللَّه النَّاس، وَكَانَ ذَلِكَ حَظّه مِنْهُ. [شرح النووي على مسلم - (ج 9 / ص 371)]
وقالَ السَّعدِي رَحِمَهُ الله: والرّيَاءُ آفةٌ عَظِيمَة ٌ، ويَحتاجُ إلى عِلاج ٍشَدِيدٍ، وتَمْرِينِ النَّفسِ عَلَى الإخلاص، ومُجَاهَدَتِهَا في مُدَافَعَةِ خَوَاطِرِ الرِّيَاءِ والأغْرَاضِ الضَّارَّةِ، والإسْتِعَانَةُ باللهِ على دَفعِهَا لعَلَّ اللهَ يُخَلّصُ إيمَانَ العَبْدِ وَيُحَقِّقُ تَوْحِيدَهُ. [القَوْلُ السَّدِيدُ شرْحُِ كتابِ التوحيدِ - (ج 1 / ص 132)]
5ـ عن عِتْبَانَ بْنَ مَالِكٍ الْأَنْصارِيَّ رضي الله عنه قَالَ:
غَدَا عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَنْ يُوَافِيَ عَبْدٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَقُولُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَبْتَغِي بِهِ وَجْهَ اللَّهِ إِلَّا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ النَّارَ. [أخرجه البخاري: فتح الباري (ج 18 / ص 233)]
قال شيْخُ الإسلام: ولِهَذا كانتْ ( لا إلهَ إلاّ الله ) أصْدَقَ الكلامِ، وكانَ أهْلهَا أهل اللهِ وحِزبهِ، والمُنْكِرُونَ لهَا أعْدَاءَهُ وأهْلَ غَضَبِهِ وَنَقْمَتِهِ، فإذا صَحَّتْ صَحَّ بهَا كلُّ مَسْألَةٍ وحاَلٍ وذَوْقٍ، وإذا لَمْ يُصَحِّحْهَا العَبْدُ فالفَسَادُ لازِمٌ لهُ في عُلومِهِ وأعْمَالِهِ. [فتحُ المَجِيدِ شرحُ كتابِ التَّوحِيد - (ج 1 / ص 46)]
وقال ابنُ رَجَبٍ: ( الإلهُ ) هُو الذي يُطَاعُ فلا يُعْصَى، هَيْبَة ًلهُ وإجْلالا، ومَحَبَّة ًوخَوفًا ورَجَاءً، وتوَكُلا عَليه، وسُؤَالا ًمِنْهُ ودُعَاءً له، ولا يَصْلًحُ هَذا كُلّهُ إلاّ لله عَزّ وَجَلّ، فَمَنْ أشْرَكَ مَخْلُوقـًا في شَيءٍ منْ هذِهِ الأمُورِ التِّي هِيَ مِنْ خَصَائِصِ الإلَهيَّة كانَ ذلكَ قدْحـًا في إخلاصِهِ فِي قولِ ( لا إلهَ إلاّ الله ) وكانَ فيهِ مِنْ عُبُودِيَّةِ المَخلوقِ بحَسَبِ مَا فِيهِ من ذلك. [فتحُ المَجِيدِ شرحُ كتابِ التَّوحِيد - (ج 1 / ص 47)]
6ـ عَنْ أَبِي مُوسَى الأشعري رضي الله عنه قَال:
جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: الرَّجُلُ يُقَاتِلُ حَمِيَّةً وَيُقَاتِلُ شَجَاعَةً وَيُقَاتِلُ رِيَاءً, فَأَيُّ ذَلِكَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ قَالَ: "مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ." [متفق عليه]
7ـ عن أَبَي ذَرٍّ رضي الله عنه:
عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "أَتَانِي جِبْرِيلُ فَبَشَّرَنِي أَنَّهُ مَنْ مَاتَ لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا دَخَلَ الْجَنَّةَ, قُلْتُ: وَإِنْ سَرَقَ وَإِنْ زَنَى قَالَ: وَإِنْ سَرَقَ وَإِنْ زَنَى. [صحيح البخاري - (ج 23 / ص 4)] وهذا الحَدِيثُ فِيهِ أنَّ تحقيقَ الإخلاصِ يَحْرِقُ جَمِيعَ السِّيئَاتِ، وأنَّهُ أحْسَنُ الحَسَناتِ والبَاقِيَاتِ الصَّالِحَات.
8ـ عَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا ذِئْبَانِ جَائِعَانِ أُرْسِلَا فِي غَنَمٍ بِأَفْسَدَ لَهَا مِنْ حِرْصِ الْمَرْءِ عَلَى الْمَالِ وَالشَّرَفِ لِدِينِهِ" [سُنَنُ التَّرمِذِيّ-(ج 8 / ص 381) وقال الألبَانِيّ صَحِيحٌ].
قالَ المُبَارَكْفُورِي رَحِمَهُ اللهُ بَعْدَمَا تكَلّمَ عَلَى المَال: وَأَمَّا الْجَاهُ فَيَكْفِي بِهِ إِفْسَادًا أَنَّ الْمَالَ يُبْذَلُ لِلْجَاهِ وَلَا يُبْذَلُ الْجَاهُ لِلْمَالِ وَهُوَ الشِّرْكُ الْخَفِيُّ، فَيَخُوضُ فِي الْمُرَاءَاةِ وَالْمُدَاهَنَةِ وَالنِّفَاقِ وَسَائِرِ الْأَخْلَاقِ الذَّمِيمَةِ، فَهُوَ أَفْسَدُ وَأَفْسَدُ اِنْتَهَى. [تُحْفَةُ الأحْوَذِي - (ج 6 / ص 162)]
9ـ وعن أبي أمَامَة رَضِي اللهُ عنهُ قالَ:
جَاءَ رَجُلٌ إلى رَسُولِ اللهِ صَلّى اللهُ عليهِ وسَلّم فقالَ: أرَأيْتَ رَجُلا ًغَزَا يَلْتَمِسُ الأجْرَ والذِّكْرَ, مَا لهُ؟ فقالَ رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عليهِ وسَلّم: "لا شَيْءَ له." فأعَادَهَا ثلاثَ مَرَّاتٍ يَقُولُ رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عليهِ وسَلّمَ" "لا شَيْءَ له." ثمّ قالَ: "إنَّ اللهَ لا يَقبَلُ منَ العَمَلِ إلاّ مَا كَانَ خَالِصًا وابْتُغِيَ بهِ وجْهُه." [رَوَاهُ أبُودَاودَ والنَّسَائِيّ، و(حسّنه) في صحيح الترغيب والترهيب - (ج 2 / ص 56)]
وغيرهَا مَنِ الأحَادِيثِ النَّبَوِيَّةِ، عَلَى صَاحِبِهَا الصَّلاَةُ والسَّلامُ بُكْرَةً وعشيَّة.
~وأمّا مَا وَرَدَ عنِ الأئِمَّةِ الأجِلَّةِ, وَعُلمَاءِ الدِّينِ وَالمِلَّة, ِمنَ السَّابقِينَ واللاّحِقِين, في شأنِ الإخلاصِ والمُخْلِصِين, فهوَ مَوْرِدٌ عَذْبٌ لا يَنْضَب, وأرْضٌ خصْبٌة لا تَجْذَب, فمِن ذلكَ أخِي السَّالِك:
~ قولُ يَحْيَى ابنُ أبِي كثِير: "تعلّمُوا النِّيَّة فإنَّهَا أبْلغُ منَ العَمَل."
~وعن يُوسُفَ ابن ِأسْبَاط قال: "تخْليصُ النيَّةِ منْ فسَادِها أشدُّ على العاملينَ من طُول ِ الاجتهَاد",
~ وعن ِابن ِالمُبَارَك: "رُبَّ عَمَل ٍصَغِيرٍ تُعَظِّمُهُ النيَّة، ورُبَّ عَمَل ٍكبيرٍ تُصَغِّرُهُ النيَّة."
~ وقال الفُضَيلُ ابنُ عِياضٍ: "إنَّمَا يُرِيدُ اللهُ مِنكَ نِيَّتكَ وإرَادَتكَ",
~وقال بَعْضُهم: "إنَّمَا تفَاضَلُوا بالإرَادَات ِولمْ يَتفَاضََلَوا بالصَّوْم والصَّلاة",
~وعن التُسْتُرِي سَهْلِ بنِ عبدِ الله: "ليْسَ عَلى النَّفس ِشَيْءٌ أشَقَّ مِنَ الإخلاص ِلأنَّهُ ليسَ لهَا فيهِ نَصِيب",
~وسُئِلَ بَعضُ الحُكَمَاء ِمَن ِالمُخْلِصُ؟ فقالَ: "المُخلِصُ الذي يَكتُمُ حَسَنَاتِهِ كمَا يَكتُمُ سَيِّئاتِه"،
~وقيلَ لبَعضِهِم: "مَا غايَة ُالإخلاصِ قالَ: "أنْ لا تحِبَّ مَحْمَدَةَ النَّاس".
~وقالَ الفُضَيلُ بنُ عِيَاضٍ: "تَرْكُ العَمَل ِلأجْل ِالنَّاس ِرِيَاءٌ، وَالعَمَلُ لأجْل ِالنَّاس ِشِرْكٌ، والإخْلاصُ أنْ يُعَافِيكَ اللهُ منْهُمَا" .[ ينظر جامع العلوم والحكم لابن رجب، والكبائر للذهبي] وغيْرُهَا كثيرٌ طَيِّب, ووَابِلٌ صَيِّب .
~وأمَّا كلام من تأخَّر فقدْ اخْترتُ لكَ ما يلمُّ بَعْضَ مالمْ يُذكرْ, ويَجْمَعُ لُبَابَ البَابِ فإنَّهُ بَحرٌ وأكثر:
قال الحافظ ابن الديبع الشيباني في كتابه [مكفرات الذنوب وموجبات الجنة ج 1 / ص 15]
أقول: تبين لنا منْ كلِّ ما نقلناهُ منَ السُّنة ِالمُطهَّرَة: أنَّ مبَانِيَ الإسلام ِالخَمسَةِ كلُّ واحدٍ منْها يُكفِّرُ الذنُوبَ وَالخَطايَا ويَهدِمُهَا، وأنَّ: (لا إلهَ إلاّ الله) لا تُبقِى ذنبًا ولا يَسْبقُهَا عَمَل, والصَّلوَاتِ الخَمس، والجُمعة َإلى الجُمعة، ورَمَضانَ إلى رَمضَان، مكَفِّرَاتٌ لمَا بَينَهُنَّ مَا اجْتُنِبَتْ الكَبَائِر، وأنَّ الصَدَقة َتُطفِىءُ الخَطِيئَة َكمَا يُطفِىءُ المَاءُ النَّارَ، وأنَّ الحَجَّ المَبْرُورَ يُطَهِّرُ صَاحِبَهُ منَ الذُّنُوبِ كيَوْم ِولدَتْهُ أُمَّه، وأن َّالدُّعَاءَ مِنْهُ مَا يَعُودٌ بِرِضَا اللهِ، حَتَّى يُصِيبَ العَبْدُ بهِ الجَنَّة َمَعَ قلِيل ِالعَمَلِ.
وسِرُّ ذلك كلِّهِ الإخْلاصُ, يَعْنِي إخْلاصُ العَمَلِ للهِ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لهُ، لا لِشَيءٍ آخرَ سِوَاه، فإذا كان العَمَلُ غَيرَ مُخلِصٍ للهِ لا يُقبَل، وبالتَّالِي لا يُؤثِّرُ فِي أيِّ أثر، ولا يُكَفِّرُ أيَّ ذَنْبٍ ولا يُوجِبُ أيَّ ثوَاب. ونظَرًا " لِكثرَة ِدَوَرَان ِكَلِمَة َالإخلاصِ عَلى الألسِنَةِ، فقَدِ اِدَّعَاهَا بَعْضُ النَّاس، دُونَ تحْقِيق ٍولا تدْقِيق ٍفي مَعْناهَا, الإخلاصُ مُقدَّمٌ على النُّبُُوَّة ِوالرِّسَالةِ في قولِهِ تعَالَى: ﴿وَاذكُر فيِ الكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخلَصاً وَكَانَ رَسُولاً نَبِيَّا﴾ [مريم/51]، وذلكَ لِشَرَفِ الإخلاص ِوفضْلِهِ، وتَقَدُّمِ وُجُودُهُ على وُجُودِهِمَا، وَكَوْنِهِ سَبَبًا في التَّرْشِيح ِلمَنْصِبِ الرِّسَالةِ والنُّبُوَّة.
وحقِيقَة ُالإخلاص: تَصْفِيَة ُالعَملِ ِعنْ مُلاحَظَةِ الخَلْق، وتَحْدِيدِ الإرَادَةِ بالعَمَلِ للهِ وحْدَهُ دُونَ شَيْءٍ آخَرَ سِوَاه، وبهَذا المَعْنَى وَحْدَهُ تَتَحَقَّقُ نَجَاة ُالإنسَان مِنْ سُوءِ الذُّنُوبِ وسُوءِ الدُّنيَا بوَجْهٍ عَامٍّ، انْظُر إلى قولِه تعَالى: ﴿كَذَلِكَ لِنَصرفَ عَنهُ السُّوءَ والفَحشَاءَ إِنَّهُ مِن عِبَادِنَا المُخلَصِينَ﴾ [يوسف/24]، فأنتَ تَرَى الإخلاصَ سَبَبًا في صَرْفِ السُّوءِ والفَحْشَاءِ عنْ يُوسُفَ عَليهِ السَّلامُ، كمَا أنَّهُ سَبَبٌ لاصْطِفَاء َالمُخلِصِينَ للنُّبُوَّةِ وَالرِّسَالةِ, وحُبُّ اللهِ حَسْبَ دَرَجَاتِ الإخلاص, فالإخلاصُ شَرْطٌ عامٌّ في قَبُولِ جَمِيع ِأنْوَاعِ الطّاعَاتِ، وكُّلُّ عَمَلٍ خَلاَ مِنْهُ فهُوَ إلى الهَلاكِ أقْرَب، ففِي الحَدِيثِ المَرْفُوع ِ: "إنَّ اللهَ لا يَقبَلُ مِنَ العَمَل ِإلاّ مَا كَانَ خَالِصًا وابتُغِيَ بهِ وَجْهُه", ولأهَمِّيَةِ الإخْلاصِ كتَبَ عُمَرُ إلى أبِي مُوسَى الأشْعَرٍي: (من خلصُتْ نِيَتُه ُكَفَاهُ اللهُ مَا بَينَهُ وبَينَ النَّاس)[شرحه ابن القيم في إعلام الموقعين]، وكَتَبَ سَالِمُ بنُ عَبدِاللهِ بن ِعمرَ، إلى عُمَرَ بن ِعَبدِالعَزِيز: (اعلمْ يا عُمرُ أنَّ عَونَ اللهِ للعَبدِ بقدْرِ نِيَّتِه، فمنْ خَلُصَتْ نِيَّتُهُ، تَمَّ عَوْنَ اللهِ له، ومَنْ نَقَصََتْ نِيَّتُهُ نَقَصَ عَنْهُ مِنْ عَوْن ِاللهِ بقَدْرِ ذلك). ولِهَذَا فليْسَتِ العِبْرَةُ بكَثْرَةِ الأعْمَالِ، وكَثْرَةِ الأدْعِيَةِ بقَدْرِ مَا هِيَ بالإخْلاصِ فِيهَا، ولَوْ كَانتْ قَلِيلَة ...
والرِّيَاءُ المُحرَّم ِالمُحْبطِ للعَمَل ِهو: العَمَلُ لطلب ِحَظٍ دُنْيَوِيٍّ، وَغَلَبَةِ هَذا الحَظِّ على القلْبِ أثنَاءَ العَمَل ِوبَعْدَهُ وَقبْلهُ، وهُو على مَرَاتِبٌ: أوَّلُها: أنْ يُحْسِنَ العَمَلَ في الظَّاهِرِ أمَامَ النَّاسِ ليَحْظَى بالثَّنَاءِ عِنْدَ النَّاس، وبالإشتِهَارِ بالصَّلاحِ والتَّقوَى, والثانيةُ:-وهِيَ أقبَحُ مِنَ الأولَى- أنْ يَنْشُط َفِي العَمَل ِأمَامَ النَّاسِ ويَكْسَلَ إذاكَانَ وحْدَه، والثالثة: وهِيَ أقْبَحُ الكُلِّ: أنْ يَجْعَلَ صُورَةَ الطَّاعَةِ وَسِيلَة ًلاكْتِسَابِ أمْرٍ مُحَرَّمٍ كَأنْ يُجَوِّدَ العَمَلَ في الظَّاهِرِ لِتُسَاقَ إليْهِ الوَدَائِعُ ثمَّ يَأخُذُهَا لنَفْسِه, أو تَقَرُّبًا مِن ِاِمْرَأة ٍيُحِبُّهَا، والرابعة: وهِيَ أخَفُّ الجَمِيعِ: أنْ يُجَوِّدَ العَمَلَ لا لِتحْصِيل ِغَرَض ٍدُنْيَوِيٍّ، وإنَّمَا خَوْفًا مِنْ أنْ يَنْظُرَ النَّاسُ إليْهِ بِعَيْن ِالاحْتِقَار، وَلاَ يَعُدُّوهُ مْنَ الأخْيَارْ, وَكُلّهُ رِيَاءٌ، وَقلِيلُ الرِّيَاءِ شِرْكٌ، وَلكِنّهُ دَرَجَاتٌ، وكُلُّ عَمَل ٍخَالَطَهُ الرِّيَاءُ فلا ثوَابَ لهُ لمَا وَرَدَ في الخَبَرِ: (مَنْ عَمِلَ لِيَ عَمَلاً أشْرَكَ فِيهِ غَيْرِي فأنَا مِنْهُ بَرِيءٌ). وأخْرَجَ ابنُ جَرِيرٍ مُرْسَلا: (لا يَقبَلُ اللهُ عَمَلا فِيهِ مِثقَالَ حَبَّةٍ مِنَ الرِّيَاء). وأخْرَجَ الطَّيَالِسِيُّ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ شَدَّادِ بْن ِأوْس ٍعَنْ رَسُول ِاللهِ صَلّى اللهُ عَليْهِ وَسَلّمَ: ( مَنْ صَلّى مُرَائِيًا فَقَدْ أشْرَكَ، وَمَنْ تَصَدَّقَ مُرَائِيًا فقدْ أشْرَك). فقالَ عَوْفُ بنُ مَالِكٍ لِشَدَّادٍ: "أفَلا يَعْمَدُ اللهُ إلى مَا كانَ لهُ منْ ذلكَ فيَقبَلَهُ ويَدَعَ مَا سِِوَاهُ؟ فقالَ شَدَّادٌ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ يَقُْولُ: (قالَ اللهُ عزَّ وَجلَّ: أنَا خَيْرُ شَرِيكٍ أوْ قسِيمٍ, مَن أشْرَكَ بي فعَمَلهُ قليلهُ وكَثِيرُهُ لِشَرِيكِي وَأنَا مِنْهُ بَرِيءٌ) [مسند الطيالسي 1120].
فإذا عَقَدَ الإنْسَانُ نِيَّتَهُ عَلَى العَمَل ِمُخْلِصًا للهِ ثمَّ طَرَقَهُ الرِّيَاءُ أثنَاءَ العَمَل ِفلِذلكَ حَالتَانِ:
الأولى: أن يَكُونَ العَمَلُ مِمَّا يَرْتبطُ آخَرُهُ بأوَّلِهِ، كالصَّلاة ِوالصَّوْم ِونحْوِهِمَا، وهذا إذا صَحَّحَ الإنْسَانُ نِيَّتَهُ في أوَّلِهِ ثمَّ طَرَقَهُ الرِّيَاءُ فلا شَيْءَ عَليهِ إذا حَاوَلَ دَفْعَ الرِّيَاءِ وَالتَّخَلّصَ مِنهُ قَدْرَ طَاقتِه.
الثانية: أن يَكُونَ العَمَلُ مِمَّا تَسْتَقِلُّ أجْزَاؤُهُ، كالقِرَاءَةِ وَالأذكَار، بَدَأهَا مُخلِصًا، ثمَّ طَرَقهُ، فَلا ثوَابَ لِمَا بَعْدَ طُروق ِالرِّيَاء.
وإذا عَمِلَ العَمَلَ مُخلِصًا كمَا َيجِبُ عَليْهِ، وبَعْدَ الانْتِهَاءِ مِنْهُ أثنَى النَّاسُ عَليْهِ فلا يَضُّرَّه، لحَدِيثِ مُسْلِمٍ: (تلكَ عَاجلُ بُشرَى المُسْلِم), وقدْ يَعْمَلُ الإنسَانُ عمَلا منَ أعْمال ِالبِرِّ خَالِصًا لله، ثمَّ يُبْطِلُهُ بَعْدَ زمَان ٍطَوِيل ٍ، وَهُوَ لا يَشعُر, وذلكَ كالرَّجُل ِيَصْنَعُ الخَيْرَ مَعَ رَجُل ٍآخَرَ يُرِيدُ بِهِ اللهَ وَحْدَهُ، ويَمْضِي زَمَنٌ طَوِيلٌ، ثمّ يَقصِدُ الرّجُلُ الذِي صَنَعَ المَعرُوفَ، صاحِبَهُ الذِي صَنَعَ إليهِ المَعْرُوفُ في حَاجَةٍ، فلا يَقضِيهَا لهُ، فيَذْكُرَ لهُ أو للنَّاس ِأو في نَفْسِهِ نَادِمًا: أنَّهُ صَنَعَ إليهِ مَعْرُوفًا مُنذُ كذا وكذا سَنَةٍ، وَفِي هَذِهِ الحَالةِ أفسَدَ نِيَّتَهُ المَاضِيَةِ، وَأحْبَط َعَمَلَهُ الذِي مَضَى صَحِيحًا وَهُو لا يَشعُر, وكالعَالِم ِيُرِيدُ بعَمَلِهِ وَجْهَ اللهِ، فوَجَدَ النَّاسَ بَعدَ زَمَن ٍطَوِيل، لا يَعُدُّونَهُ بَيْنَ المُجِيدِينَ مِنَ العُلَمَاءِ فَغَضِبَ فأفْسدَ بِغَضَبِهِ نِيَّتِهِ، وأبْطَلَ إخلاصَهُ وهو لا يَشعُر.
وعلى هذا وَجَبَ على المُؤْمِن ِأنْ يُرَاقِبَ نَفسَهُ، وأنْ يَحْذَرَ خِدَاعَهَا لِئَلاّ تُحْبِطُ عَمَلَهُ، وأنْ يُحَافِظَ عَلى نِيّتِه ِالصَّالِحَةِ قبْلَ العَمَل، وأثنْاءَ العَمَل، وبَعْدَ العَمَل ِإلى مَا شَاءَ اللهُ مِنْ أيَّامِ حَيَاتِهِ. اهـ
~وخِتام الوصية: فيا أخِي الحَبِيبُ بعدَ هذِهِ الفصول الوَافِيَةِ، والعُرُوض ِالضَّافِيَةِ الكَافِيَة، أليْسَ الإخلاصُ قدْ تَجَلّى فَضْله، وبَانَ حَقِيقَتُهُ وقدْرُه, واتَّضَحَ لنَا ثوَابُهُ وأجْرُه, وأنَّ الرِّيَاءَ غِلٌّ وَدَغَل, يٌفسِدُ الدِّينَ كمَا يُفسِدُ الخَلُّ العَسَل, فلا حَالٌ ولا ذوقٌ ولا عَمَل, " فعَليْكَ... ـ أخي المسلم بعد كل هذاـ أنْ تكُونَ فِي مِثال ِالمُؤْمِن ِالصّالِح المُطِيع ِلِرَبَّهِ والمُتّبِع ِلسُنّةِ نَبِيِّهِ فِي كُلِّ مَا جَاءَ بِهِ عَنْ رَبِّهِ وخَاصَة ًفِيمَا يَتعَلّقُ بإقامَةِ هَذِهِ العِبَادَةِ العَظِيمَةِ (الإخلاص ِللهِ تعَالى)" [من كلام الإمَامِ الألبَانِي رحمه الله تعالى بتصرف من (صلاة التراويح - (ج 1 / ص 113)] "فيَنْبَغِي لَكَ ...الانْتِبَاهُ لِهذا الأمْرِ، وَالإقبَالُ عَلى كِتابِ اللهِ، وسنةِ رَسُولِهِ صَلّى اللهُ عليهِ وسَلّم، دِرَاسَة ًوتَدَبُّرًا وتعَقُلا ً، حَتّى تعْرِفَ تَوحِيدَ اللهِ والإيمَان ِبهِ، وحَتّى تعْرِفَ مَا هُو الشّرْكُ باللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وحَتَّى تكُونَ بَصِيرًا بدِينِكَ، وحَتّى تعْرِفَ مَا هُو سَبَبُ دُخُول ِالجَنّةِ والنَّجَاةِ مِنَ النّارِ، معَ العِنَايَةِ بحُضُورِ حَلقاتِ العِلمِ والمُذاكَرَةِ مَعَ أهْل ِالعِلم ِوالدّينِ، حَتّى تسْتفِيدَ وتفِيد، وحَتَّى تكُونَ على بَيِّنةٍ وعلى بَصِيرَةٍ فِي أمْرِك." [من كلام ابن باز رحمه الله تعالى بيان التوحيد الذي بعث الله به الرسل جميعا وبعث به خاتمهم محمدا عليه السلام - (ج 1 / ص 29)]
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات
و صلى الله على نبينا وسلم تسليما كثيرا
"عِبَادةِ الإِخْلاَص التي بها عَقْدُ الخَلاص "
*أما"عِبَادةِ الإِخْلاَص التي بها عَقْدُ الخَلاص " فهي -إخوانِي الكرام والجالسين معِي في مَجلِسِ النُّصْح والوِئام-, انْجِذابُ الرّوح, إلى ربِّ المَلائِكَةِ والرُّوح, الإقْبَالُ بالكُلِيَّة, على ربِّ البَرِيَّة, هي مِلَّةِ أبِينَا إبْرَاهيم, وحَقيقَةُِ دِينِ نبيِّّنا الأمِين، عَليْهِما أفْضَلُ صَلاةٍ وأزْكى تسْلِِيم.
نَعم هو الإخْلاص, تِلْكُمُ الخَصْلة ُالغالية ُبلِ الأغْلَى, والرُّتبَة ُالعَالِيَة الفُضلى, واللـّذةُ البَاقِيَةُ الأحْلى, والحَسَنَة ُالوَافِيَة ُفي الدّنيا والأخْرَى.
~ أعظمُ المَطالبِ الإلهيَّة, وأكبرُالأوامرِ الرّبّانيّة،
~ لبُّ القرْآن, وسِرُّ الإيمان, وعماد ُالإحسان.
~ بلْ هو سر الخَلق ِوالأمْر, والخَيْرِ والشّر, والمَحْيا والمَمَات, والنّارِ والجَنّات.
~لأجْلِهِ أُنزِلتِ الكُتُبُ السَّواطِع، وأُرْسِلتِ الرُّسُلُ لأقْوَامِها تَتْرَى توَابِع, وأُذِنَ الخِصَامُ بالحُجَج ِالنّوَاصِع، وشُرِع َالجِهَادُ بالسُّيُوفِ القوَاطِع.
~ تَضَمّنَتْ كَلِمَة ُالتّوحِيدِ جَمِيعَ مَعناه، فكانتْ أفضَلَ ما رَدََّّدَتْهُ الأفْوَاه، وأنْفَعَ الكَلام ِوأصْفَاه ، فمَا ذُكِرَتْ في قلِيلٍ إلاّ كثـَّرََتْه، ولاعَسِيرٍ إلاّ يَسَّرَتْه، ولا وَعْرٍ إلاّ سَهّلَتْه, ولا صَعْبٍِ إلاّ ذَلّلتْه، ولا كرْبٍ إلاّ فرّجَتْه, ولاهَمٍّ إلا أجْلتْه ُوأذْهَبَتْه.
~ بَلْ ما فُتِحَ الإخْلاصُ على عَبْدٍ إلاّ عَزَّ وسَاد, وأنَالَهُ اللهُ ما أرَاد, في الدُّنيَا والمَعَاد
~فالمُخلِصُونَ هُمُ الصَّفْوَة، وأهْلُ القُرْبِ والحَظْوَة، والوِلايَةِ والقُدْوَة، من الرُّسُلِ والأنْبِيَاء, والصِّدِّيقِينَ والشُّهَدَاء, والصَّالِحِينَ والأتْقِيَاء.
~ عَرَفُوا قدْرَ الله ِحَقَّ المَعْرِفَة, وأيْقنُوا بِكُلِّ اسْمٍ لهُ وَصِفَة, فاسْتَحْكَمَتْ قُلُوبَهُمُ المَهَابَةُ، وفَزِعَتْ نُفُوسُهم للإخْبَاتِ والإنابَة،
~وعَلِمُوا أنَّ كُلَّ مَا سِوَى اللهِ بَاطِل, وكلَّ نَعِيمٍ لاَ مَحَالَةَ زَائِل, فشَحُّوا بِأعمَالِهِمْ أنْ تكُونَ إلاّ لله, واعْتَصَمُوا بهِ اعْتِصَامَ الغَرِيقِ لِمَن ِامْتَدَّتْ يَدَاه
~صَارَ سُبْحانَهُ أكبَرَ هُمُومِهِمْ وأعْظَمَ مَطْلُوبِهِمْ فلا يُرْضِيهِمْ إلاّ رِضَاه, ولا يُحَرِّكُهُمْ إلاّ ما أرَادَهُ وابْتَغَاه, فهو مَعْبُودُهُمْ فَلا مَعْبُودَ لَهُم سِوَاه، وهو مَقْصُودُهُمْ فلا مَقْصُودَ إلاّ إيَّاه.
~ وبعد هذا عَقَدُوا لِوَاءَ الوَلاَءِ لِكُلَّ هؤلاء وأحَبُّوا كلَّّ مَنْ عَبَدَهُ وذَكَرَه, وكلَّ منْ دَعَى إليْهِ ونَصَرَه, ومنْ سَعَى في دِينِهِ ونَشَرَه، ذَلُّوا لهم فلا ترَاهُم جَبَّارِين, وتَواضَعُوا فلا تَراهُم مُتكبِّرِين, واجْتَمَعُوا فلا ترَاهُم مُتفرِّقِين, وتنَاصَحُوا فيمَا بَينَهُم بالنُّصْح ِالأمِين.
.للهِ ذَيَّاكَ الفَرِيقُ فإنّهُم ... خُصُّوا بخَالِصَةٍ مِنَ الرّحمن ِ
.شُدَّتْ رَكَائِبُُهُم إلى مَعْبُودِهِم ... ورسُولِهِ يا خَيْبَة َالكَسْلان ِ
~ فالإخلاصُ رُوحُ الإسْلام, وبَلسَمُ جَمِيع ِالأسْقَام, وسَبَبُ حُسْنِ الخِتَامِ، والأمْنِ التَّامِّ في يَوْمٍ هو أشدُّ الأيَّام.
~ فالسَّاعِي في تحْصِيلِهِ وتحْقِيقِهِ قدْ أدْرَكَ البَاب، -والنَّاسُ قدْ فرَّقتهُم كثرَة ُالأبْواب-، فليُكثِرِ الطَّرْقَ ولِيَلْزَمِ الأسباب، فإذا فُتِحَ لَهُ فقَدْ فَازَ وَرَبِّ الأرباب.
*وأمّا عَدُوُّ الإخلاص ِوالصَّفَاء, وفِتْنَتُهُ العَمْيَاءُ الصَّمَّاء, ودَاءُهُ الّذِى أعْيَى الأطبَّاءَ الحُكَمَاء, فهُو الرِّيَاء:
~ صَنَمُ السِّرِّ وطَاغُوتُ الخَفَاء, والشَّبَحُ الّذِي يُعْبَدُ مِنْ دُونِ رَبِّ السَّمَاء,
~ أكبَرُ الوَسَاوِسِ والأوْهَام, وأخْطرُ الذّنُوبِ والآثام,
~أصلُ الشِّركِ ومَادَّةُ النِّفاق, وأسَاسُ المَعَاصِي ومَسَاوِئ ِالأخلاق,
~ حِجَابُهُ أغلظُ الحُجُبِ، فالقُلُوبُ قدْ عَدِمَتِ الإبْصَارَ فلا تَرَى الحَقائِق, وسُحُبُهُ أكْثفُ السُّحُبِ فهي إعْصَارٌ فيهِ نَارٌ تُنْذِرُ بالحَرَائِق,
~اغْتَرَّ بِلَذَّتِهِ المُنَافِقُونَ فهو أنْعَمُ الجِنَانِ وأنْعَمُ القَرَار, واسْتَرْوَحَ لَهُ أهْلُ الدُّنيَا فهُوَ الرُّوح ُوالرَّيْحَانُ في هذِهِ الدَّار, وتـَلى المُؤْمِنُونَ عَليْهِم القُرْءَانَ: ﴿قُلْ تَمَتـَّعْ بكُفْرِكَ قَلِيلا ًإنَّكَ مِن ْأصْحَابِ النَّار﴾ [الزمر/8].
~ ألمْ تَرَ أنَّّهُ سَيِّئَة تسْلخُ منْ كلِّ الفضَاِئل, وتضَعُ أرْبَابَهَا أحَطَّ المَنَازِل, فلفْظُهُمُ الصَّلاحُ والعِبَادَة، ومَعْنَاهُمْ أبُو الحِنْبَص ِوَأبُوالجَعَادَة:
فقلتُ لهُ أبَا جَعَادَة إنْ تَمُتْ . . . يَمُتْ سَيِّءُ الأخلاق ِلا يُتَقَبَّلُ
~لِسَانُهُمُ المَحَبَّة ُوالصِّدْق, وفِعَالُهُمُ المُرَاوَغَة ُوالمِذْق
~ اسْتكْسَوْهُ فكَسَاهُمُ الجُبْنَ والبُخْلَ والخَوْف, واسْتَسْقَوْهُ فسَقَاهُمُ الذِّلة َوالصَّغَارَ في الشِّتاءِ والصَّيف,
~ اتَّخَذَ النَّاسُ أرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ فكانَ أخَسَّ الأربَابِ في البِلاد، وكان أصحابُهُ هُمُ الأرْذَلُ مِنْ كلِّ هَؤُلاءِ العُبَّاد, لذلك كانَ أوَّلَ مَنْ تُسَعَّرُ بِهِ النَّارُ يَومَ القِيَامَةِ المُرَاؤون مِنْ أهلِ العِلمِ والعِبَادَةِ والجِهَاد, إذْ كانتْ صُوَرُهُم صُوَرَ العُلمَاءِ وهُمُ الجَاهِلُون، ولِسَانُهُمْ لِسَانَ الفُقهَاءِ وهم المُتَنَطِّعُون, وحَالهُم حَالَ الصُّلحَاءِ وهُمُ المُفسِدُون, وخُلاصَة ُماَكانَ من أمرِهِمُ المَأفُون, ﴿هُمُ العَدُوُّ فاحذَرْهُمْ قاتلهُمُ اللهُ أنَّى يُوفَكُون﴾ [المنافقون/4]
~فمَا نَالُوا الكَمَالَ، ولابَلَغُوا رِضْوَانَ الكَبِيرِالمُتَعَال, وحَصَّلُوا المَقْتَ مِنَ الخَلْقِ جَزَاءَ أبِي المِرْقَال:
.إنّ الغُراب و كان يَمشِي مِشيَة .... فيما مَضَى من سَالِفِ الأحْوَالِ
.حَسَد القَطَاةَ فَرَامَ يَمشِي مَشْيها .... فأصَابَهُ ضَرْبٌ من العُقَّالِ
.فأضَلَّ مِشيَتَهَا و أخْطَأ مَشْيَهُ .... فلِذاكَ كََنَّوْهُ أبَا المِرقَالِ
كالشَّاءِ بَيْنَ الغَنَمَيْنِ لا إلى هؤلاءِ ولا إلى هؤلاء.
~ فاحْذَرْهُ ياعَبْدَ اللهِ فإنَّهُ الزَّغَلُ الدَّفِينِ، وامْقُتْهُ أشَدَّ المَقْتِ فليسَ إلاّ التُّرَابَ والطِّين, وقدْ خَفِي في مَسَالِكِ القُلُوبِ فأعْمَاهَا, وطَارَ إلى نُجُومِ سَمَاءِهَا فأطْفَاهَا, وليسَ هُو إلا فِتْنَة َ العَظَمَةِ وصِفَاتِ الكَمَالِ, تَرَاهَا في نَفسِكَ أو ترَاهَا في الرِّجَال, فالأولى تَدْعُوكَ إلى التـَّكَبُّرِ في الأرضِ بغيرِ الحَقِّ, والثانِيَة ُتدْعُوكَ إلى الذِّلةِ بالعُبُودِيَّةِ للخَلق, وفي كلِّ ذلكَ أنتَ تَرْتَعُ في الإشْرَاك, وتَسْتعْمِلُ الرِّيَاءَ للوُصُولِ إلى هُنَاك, فأبْشِرْ بالهَلاك، بَلْ كُلـُّنا ذاك، فلا يَكَادُ يَنجُو منهُ أحَدٌ إلاّ الرُّسُلُ والأمْلاك, لِذلِكَ كانَ يَقُولُ مَنْ صَلّى اللهُ عَليْهِ وَسَلّمْ: «اللّهُمَّ إنَّي أعُوذُ بِكَ أنْ أشرِكَ بِكَ وأنا أعْلَمْ, وأسْتَغْفِرُكَ لِمَا لا أعلم».
~وأكتفِي أخِي المُبَارَكِ الكَرِيمِ -من قرآن ربنا العظيم- ببَعْضِ الدَّلائِل, مُرْفَقَة ًببَعْضِ التَّوضِيحِ والمَسَائِل, تُقَرِّرُ مَا مَضَى مِنَ البُنُود, وتُجَلّي الَمزِيدَ مِنَ المَعْنَى المَنُشُود:
ـ قالَ اللهُ تعَالَى: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ [الفاتحة: 5] قال فيها قتادَة: "يَأمُرُكُم أنْ تُخْلِصُوا لهُ العِبَادَةَ وَأنْ تَسْتَعِينُوهُ على أمْركُم". والدِّينُ يَرْجِعُ كُلُّهُ إلى هَذَيْنِِ المَعْنَيَيْن، وهذا كمَا قالَ بَعضُ السَّلف: الفَاتِحَة ُسِرُّ القُرْآن، وسِرُّها هذهِ الكَلِمَة: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ فالأوّلُ تَبَرُّؤٌ مِنَ الشِّرْك، والثانِي تبرُّؤٌ مِنَ الحَوْلِ والقُوَّة، والتَّفْوِيضُ إلى اللهِ عَزَّ وَجَلّّ. وهذا المَعنَى في غَيرِ آيَةٍ مِنْ القرْآن، كمَا قالَ تعَالى: ﴿فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ [هود: 123] ﴿قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا﴾ [الملك: 29] ﴿رَبّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلا﴾ [المزمل: 9]، وكذلك هذه الآية الكريمَة: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ (تفسيرُ ابنُ كثِير - ج 1 / ص134) بل وحتَّى المَعْنَى الثـَّان، هُو تبَرُّؤٌ من الكُفْرَان, قالَ شيْخُ الإسْلام: وَكَثِيرًا مَا يَقْرِنُ النَّاسُ بَيْنَ الرِّيَاءِ وَالْعُجْبِ, فَالرِّيَاءُ مِنْ بَابِ الْإِشْرَاكِ بِالْخَلْقِ, وَالْعُجْبُ مِنْ بَابِ الْإِشْرَاكِ بِالنَّفْسِ, وَهَذَا حَالُ الْمُسْتَكْبِرِ, فَالْمُرَائِي لَا يُحَقِّقُ قَوْلَهُ: ﴿إيَّاكَ نَعْبُدُ﴾, وَالْمُعْجَبُ لَا يُحَقِّقُ قَوْلَهُ: ﴿وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾, فَمَنْ حَقَّقَ قَوْلَهُ: ﴿إيَّاكَ نَعْبُدُ﴾ خَرَجَ عَنْ الرِّيَاءِ, وَمَنْ حَقَّقَ قَوْلَهُ ﴿وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ خَرَجَ عَنْ الْإِعْجَابِ. [مَجمُوعُ فتاوَى ابنِ تيْمِيَّة - ج 2 / ص 372] ولذلك كانتْ هذهِ الآيَة ُدَعْوَةَ جميع ِالرُّسُلِ, فإنَّهُم كلَّهم دَعَوْا إلى توحِيدِ اللهِ وإخلاصِ عِبَادَتِهِ. [مَدَارِج السالكين لابن القيم ص112 بتصرُّف] وقدْ عَقدَ العَلاّمَة ُابنُ القيِّمِ فصْلا ًفي اشْتِمَالِ هذِهِ السُّورَةِ العَظِيمَةِ عَلى الرَّدِّ على جَمِيعِ المُبْطِلِينَ مِنْ أهلِ المِللِ والنِّحَلِ منَ المُشْرِكِينَ والمُبتدِعِينَ فِي كِتَابِهِ المَاتِعِ المَتِين ِ"مَدَارِجُ السَّالِكِين" بلْ أحْصَى العَلاّمَة "صَدِّيقٌ حَسَنٌ خَان" في كِتابِهِ الفَرِيدِ مِن نوْعِهِ "الدِّينُ الخَاِلصُ" في أوَّلِهِ ثلاثِينَ مَوْضِعًا مِنْ هذِهِ السُّورَةِ العَظِيمَةِ فِيهَا الإرشادُ إلى إخلاصِ التوْحِيدِ للهِ سُبْحَانه ثمّ قال: "وهذِهِ المَوَاضِعُ يُفِيدُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنهَا إخلاصَ التَّوْحِيدِ مَعَ أنَّ فاتِحَة َالكِتابِ ليْسَتْ إلاّ سَبْعَ آياتٍ فمَاَ ظَنُّكَ بمَا فِي سَائِرِ الكِتَابِ العَزِيزِ." اهـ فالإعتناءُ بِهَذِهِ السُّورَةِ مِنَ الإعتِنَاءِِ بِأنْفَعِ العِلمِ وأوْجَبِه.
ـ وقال سُبْحانهُ وتعَالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21)﴾ إلى أن قالِ: ﴿فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة 21 /22] وهو أوّلُ أمرٍ عَامٍّ في كِتابِ اللهِ تعَالَى لِكُلِّ النَّاس, [تفسير السعدي بتصرف] "والعِبَادَةُ أقْصَى غَايَات الخُضُوع والتَّذلُل، قالَ ابنُ كثِير: و[هي] في الشَّرْعِ عِبَارَةٌ عَمَّا يَجْمَعُ كَمَالَ المَحَبَّةَِ، والخُضُوعِ، والخوفِ."اهـ [فتح القدير - ج 1 / ص 10]
قال ابنُ القيِّمِ فِي نُونِيَّتِه:
و عِبَادَةُ الرَّحْمَنِ غَايَة ُحُبِّهِ ..... مَعْ ذُلِّ عَابِدِهِ هُمَا قُطْبَان.
فمَن أحبَبتْهُ ولمْ تكنْ خَاضِعًا لهُ لْم تكنْ عَابِدًا لهُ، ومن خضَعتَ لهُ بلا مَحَبَّةٍ لمْ تكنْ عَابِدًا لهُ حَتَّى تكونَ مُحِبًا خَاضِعًا [المَدَارِج ص87] وبعد الأمْرِ بالعبادة بيّن سبحانه وجهَ استحقاقه لها وأنه الخالق الرازق ذو الربوبية علينا وحده، "ثم خَتَمَ نِدَاءَهُ لهُمْ بتَنْبِيهِهِمْ عنِ اتِخَاذِ شُرَكَاءَ لهُ يَعْبُدُونَهُم مَعَهُ مَعَ عِلمِهِمْ أنّهُمْ لا يَسْتَحِقُّونَ العِبَادَة َلِعَجْزِهِمْ عنْ نفْعِهِِمْ أو ضَرِّهِمْ؛ وفي الآيةِ ثلاثةُ أصُول:
1- وُجُوبُ عِبَادَةِ اللهِ تعَالى، إذ هِىَ عِلَّة ُالحَيَاةِ كُلّهَا.
2- وُجوبُ مَعْرِفَةِ الله ِتعَالى بِأسْمَائِهِ وَصِفَاتِه.
3- تَحْرِيمُ الشِّرْكُ صَغِيرِهِ وَكَبِيرِهِ ظَاهِرِهِ وَخَفِيِّه. [أيْسَرُ التّفَاسِير للجَزَائِرِي ج 1 / ص 14بتصرف يسير].
ـ وقال سُبحَانهُ وتعَالى: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمة﴾[البينة:5] أيْ ثابتاً غَايَة َالثبَاتِ إخلاصُهُم ﴿لهُ الدِّين﴾ بحَيثُ لا يَكُونُ فِيهِ شَوْبُ شَيْءٍ مِمَّا يُكَدِّرُهُ مِن شِرْكٍ جَلِيٍّ وَلا خَفِيٍّ، بأنْ يَكُونَ الامْتِثالُ لِكَوْنِهِ أمر لِرضَاهُ لا لِشَيءٍ مِنْ نَفْعٍ وَلاَ دَفْع [َنظْمُ الدُّرَرِ للبقاعِي - ج 9 / ص 485]، فيَقْصِدُونَ بجَمِيع ِعِبَادَاتِهِم الظَّاهِرَةِ وَالبَاطِنَةِ وَجْهَ اللهِ وطَلَبَ الزُّلْفَى لَدَيْه، وَ﴿حُنَفَاءَ﴾ أيْ: مُعْرِضِينَ مَائِلِينَ عنْ سَائِرِ الأدْيَان ِالمُخَالِفَةِ لِدِينِ التَّوْحِيد. [تفسير السَّعدي- (ج 1 / ص 931). بتصَرُّف]
ـ ومِثلُهَا قولهُ سُبْحَانَهُ وتعَالى: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (2) أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ (3)﴾ [الزمر]
فأمَرَاللهُ جَلَّ وعَلاَ نَبِيَّهُ صَلَّى اللهُ عَليْهِ وسَلّم في هذِهِ الآيةِ الكرِيمَةِ أنْ يَعْبُدَهُ في حَالِ كَوْنِهِ مُخْلِصًا لهُ الدِّين، أيْ مُخلِصًا لهُ في عِبَادَتِهِ مِنْ جَمِيعِ أنْواعِ الشِّرْكِ صَغِيرِهَا وكَبِيرِهَا، كمَا هُو وَاضِحٌ مِنْ لفظِ الآية.
والإخلاصُ: إفرَادُ المَعْبُودِ بالقصْدِ في كلِّ مَا أمَرَ بالتقَرُّبِ بهِ إليهِ، ومَا تضَمَّنَتهُ هذِهِ الآيَة ُالكريمة ، مِنْ كَوْنِ الإخلاصِ في العِبَادَةِ للهِ وحدَهُ لا بُدَّ مِنه، جَاءَ في آياتٍ مُتعَدِّدَة، وقدْ بَيَّنَ جَلَّ وعَلاَ أنَّهُ مَا أمََرَ بعِبَادَةٍ إلاّ عِبَادَةً يُخْلِصُ لهُ العَابِدُ فِيهَا. [أضواء البيان للشنقيطي المالكي - ج 7 / ص 25.]
ـ وأيضًا في التَّصْرِيحِ بِالإخلاصِ وأنَّهُ أمْرٌ منَ اللهِ الأعْظَمِ قالَ سُبحَانه: ﴿قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (11) وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (12) قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (13) قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي (14) فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (15) لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ (16) وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ (1﴾ [الزمر]
والآيَاتُ في هَذا الأصلِ الأعظَمِ لا تُحْصَر, وكُلُّهَا تَدُلُّ على أنَّ الإخلاصَ هو المَطلَبُ الأكَبَر, وأنَّهُ الَواجِبُ عَلى كُلِّ البَشَر.
~وأمّا أدلة الإخلاصُ في السُّنَّةِ المُطَّهَرَةِ، فهي لا تُعَدُّ كَثْرة, ولا تُحْصَرُ وَفْرَة, فمِنْها:
1ـ عن الْأَسْوَدِ بْنِ هِلَالٍ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رضي الله عنه قَالَ:
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا مُعَاذُ أَتَدْرِي مَا حَقُّ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ؟» قَالَ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: «أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا. أَتَدْرِي مَا حَقُّهُمْ عَلَيْهِ؟» قَالَ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: «أَنْ لَا يُعَذِّبَهُمْ.» [صحيح البخاري - ج 22 / ص 365] قالَ النَّوَوِيُّ [في شرحه على صحيح مسلم1/71]: وَأَمَّا قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَا تُشْرِك بِهِ) فَإِنَّمَا ذَكَرَهُ بَعْد الْعِبَادَة لِأَنَّ الْكُفَّار كَانُوا يَعْبُدُونَهُ سُبْحَانه وَتَعَالَى فِي الصُّورَة، وَيَعْبُدُونَ مَعَهُ أَوْثَانًا يَزْعُمُونَ أَنَّهَا شُرَكَاء، فَنَفَى هَذَا. وَاَللَّه أَعْلَمُ. قلت: وهو معنى التوحيدِ والإخلاصِ والحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَة، وانظُرْ تقْسِيمَ ابنِ القيِّمِ للشِّرْكِ في [الجَوَابِ الكَافِي ص31] فانه بديع كافي.
2ـ وعَنْ عُمَرَ رضي الله عنه:
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّةِ وَلِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لدُنْيَا يُصِيبُهَا أَوْ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ." [أخرجه البخاري وغيره :فتح الباري لابن حجر - (ج 1 / ص 86)]
"...وفيه أيضًا الدلِيلُ الوَاضِحُ على أنَّ مَن عَمِلَ عَمَلا ًمنَ الأعْمَالِ التِّي يُتقَرَّبُ بِمِثلِهَا إلى اللهِ تعَالى ذِكرُه، مِن صَلاةٍ أو صَدَقةٍ أو قِرَاءَةِ قُرْآنٍ أو أمْرٍ في الظَّاهِرِ بِمَعْرُوفٍ أونَهْي ٍعنْ مُنكَر، ومَا أشبَهَ ذلِك مِنَ الأعْمَالِ التِّي إذا قصَدَ بهَا العَبْدُ طَلَبَ رِضَا اللهِ اسْتَحَقَّ بِهَا مِنْهُ مَا وَعَدَ أهْلَهَا عَلَيْهَا مُرِيدًا مِنْ ذلكَ منَ النَّاسِ الحَمْدَ عَليهَا، أو اِختِدَاعَ ضَعِيف ٍأو قوِيٍ بهَا مِن أهلِ الإسْلامِ أو غيْرِهم عنْ مَالِهِ لِيُظنَّ بهِ خَيْرًا فيُودِعَهُ إ يَّاهُ وَيتمنه [كذا] عليهِ، أو يُوصِي بهِ إليهِ من بَعدِ وَفاتِه، أو لِيَضُمَّ إليهِ شَيْئًا من أسْبَابهِ، والتَّعَرُّضَ بهِ لِذِي سُلطانٍ ليَسْتَكْفِيَهُ بَعْضَ أعمَالِهِ، وَيُولِيَهُ بَعضَ مَا هُو بسَبِيلِه ِ، أو يَغُرَّ بذلكَ امْرَأة ً فتَرْكَنُ إليْهِ ومَا أشْبَهَ ذلك، فإنَّ عَمَلَهُ ذلكَ لِمَا عَمِلَهُ لَهُ، واللهُ تعَالَى ذِكْرُهُ ورَسُولُهُ مِنْهُ بَرِيئَان، كمَا قالَ صَلّى اللهُ عليهِ وسَلّم: «ومَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إلى دُنْيَا يُصِيبُهَا، أوِ اِمْرَأةٌ يَتَزَوَّجُهَا، فهِجْرَتُهُ إلى مَا هَاجَرَ إليْه »". [تهذِيبُ الآثار للطّبَرِي - (ج 3 / ص 127)]
3ـ وفى صحيح مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: «أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنْ الشِّرْكِ مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ.»
قال النَّوَوِيُّ رحِمَهُ الله: هَكَذَا وَقَعَ فِي بَعْض الْأُصُول: ( وَشِرْكه )، وَفِي بَعْضهَا ( وَشَرِيكه )، وَفِي بَعْضهَا: ( وَشَرِكَته ). وَمَعْنَاهُ أَنَا غَنِيّ عَنْ الْمُشَارَكَة وَغَيْرهَا، فَمَنْ عَمِلَ شَيْئًا لِي وَلِغَيْرِي لَمْ أَقْبَلهُ، بَلْ أَتْرُكهُ لِذَلِكَ الْغَيْر. وَالْمُرَادُ أَنَّ عَمَلَ الْمُرَائِي بَاطِلٌ لَا ثَوَابَ فِيهِ، وَيَأْثَمُ بِهِ. [شرحُ النّوَوِيّ على صحيح مُسلم - (ج 9 / ص 370)]
وقال الصَّنعَانِىّ رحِمَهُ الله : ... سَمَّى اللهُ الرِّيَاءَ في الطَّاعَاتِ شِرْكًا، مَعَ أنَّ فَاعِلَ الطَّاعَةِ مَا قَصَدَ بهَا إلاّ اللهَ تعَالَى، وإنَّمَا أرَادَ طَلَبَ المَنْزِلَةِ بالطَّاعَةِ في قُلوبِ النَّاسِ، فالمُرَائِي عَبَدَ اللهَ لا غَيْرَه, لكِنَّهُ خَلَطَ عَمَلهُ بطلَبِ المَنْزِلَةِ في قلُوبِ النّاس، فلمْ يَقبَلْ لهُ عِبَادة ٌوسَمَّاهَا شِرْكًا، كمَا أخْرَجَ مُسْلِمٌ مِنُ حَدِيثِ أبِي هُرَيْرَة َ. . . (وذكرَ الحَدِيثَ الآنِفَ الذِّكْر) [تطْهِيرُ الإعْتِقادِ مِنْ أدْرَانِ الإلْحَاد - (ج 1 / ص 17)]
4ـ وفيه عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ سَمَّعَ سَمَّعَ اللَّهُ بِهِ وَمَنْ رَاءَى رَاءَى اللَّهُ بِهِ."
قَالَ الْعُلَمَاء: مَعْنَاهُ مَنْ رَايَا [كذا] بِعَمَلِهِ، وَسَمَّعَهُ النَّاس لِيُكْرِمُوهُ وَيُعَظِّمُوهُ وَيَعْتَقِدُوا خَيْره سَمَّعَ اللَّه بِهِ يَوْم الْقِيَامَة النَّاس، وَفَضَحَهُ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ مَنْ سَمَّعَ بِعُيُوبِهِ، وَأَذَاعَهَا، أَظْهَرَ اللَّه عُيُوبه، وَقِيلَ: أَسْمَعَهُ الْمَكْرُوه، وَقِيلَ: أَرَاهُ اللَّه ثَوَاب ذَلِكَ مِنْ غَيْر أَنْ يُعْطِيه إِيَّاهُ لِيَكُونَ حَسْرَة عَلَيْهِ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ مَنْ أَرَادَ بِعَمَلِهِ النَّاس أَسْمَعَهُ اللَّه النَّاس، وَكَانَ ذَلِكَ حَظّه مِنْهُ. [شرح النووي على مسلم - (ج 9 / ص 371)]
وقالَ السَّعدِي رَحِمَهُ الله: والرّيَاءُ آفةٌ عَظِيمَة ٌ، ويَحتاجُ إلى عِلاج ٍشَدِيدٍ، وتَمْرِينِ النَّفسِ عَلَى الإخلاص، ومُجَاهَدَتِهَا في مُدَافَعَةِ خَوَاطِرِ الرِّيَاءِ والأغْرَاضِ الضَّارَّةِ، والإسْتِعَانَةُ باللهِ على دَفعِهَا لعَلَّ اللهَ يُخَلّصُ إيمَانَ العَبْدِ وَيُحَقِّقُ تَوْحِيدَهُ. [القَوْلُ السَّدِيدُ شرْحُِ كتابِ التوحيدِ - (ج 1 / ص 132)]
5ـ عن عِتْبَانَ بْنَ مَالِكٍ الْأَنْصارِيَّ رضي الله عنه قَالَ:
غَدَا عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَنْ يُوَافِيَ عَبْدٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَقُولُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَبْتَغِي بِهِ وَجْهَ اللَّهِ إِلَّا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ النَّارَ. [أخرجه البخاري: فتح الباري (ج 18 / ص 233)]
قال شيْخُ الإسلام: ولِهَذا كانتْ ( لا إلهَ إلاّ الله ) أصْدَقَ الكلامِ، وكانَ أهْلهَا أهل اللهِ وحِزبهِ، والمُنْكِرُونَ لهَا أعْدَاءَهُ وأهْلَ غَضَبِهِ وَنَقْمَتِهِ، فإذا صَحَّتْ صَحَّ بهَا كلُّ مَسْألَةٍ وحاَلٍ وذَوْقٍ، وإذا لَمْ يُصَحِّحْهَا العَبْدُ فالفَسَادُ لازِمٌ لهُ في عُلومِهِ وأعْمَالِهِ. [فتحُ المَجِيدِ شرحُ كتابِ التَّوحِيد - (ج 1 / ص 46)]
وقال ابنُ رَجَبٍ: ( الإلهُ ) هُو الذي يُطَاعُ فلا يُعْصَى، هَيْبَة ًلهُ وإجْلالا، ومَحَبَّة ًوخَوفًا ورَجَاءً، وتوَكُلا عَليه، وسُؤَالا ًمِنْهُ ودُعَاءً له، ولا يَصْلًحُ هَذا كُلّهُ إلاّ لله عَزّ وَجَلّ، فَمَنْ أشْرَكَ مَخْلُوقـًا في شَيءٍ منْ هذِهِ الأمُورِ التِّي هِيَ مِنْ خَصَائِصِ الإلَهيَّة كانَ ذلكَ قدْحـًا في إخلاصِهِ فِي قولِ ( لا إلهَ إلاّ الله ) وكانَ فيهِ مِنْ عُبُودِيَّةِ المَخلوقِ بحَسَبِ مَا فِيهِ من ذلك. [فتحُ المَجِيدِ شرحُ كتابِ التَّوحِيد - (ج 1 / ص 47)]
6ـ عَنْ أَبِي مُوسَى الأشعري رضي الله عنه قَال:
جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: الرَّجُلُ يُقَاتِلُ حَمِيَّةً وَيُقَاتِلُ شَجَاعَةً وَيُقَاتِلُ رِيَاءً, فَأَيُّ ذَلِكَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ قَالَ: "مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ." [متفق عليه]
7ـ عن أَبَي ذَرٍّ رضي الله عنه:
عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "أَتَانِي جِبْرِيلُ فَبَشَّرَنِي أَنَّهُ مَنْ مَاتَ لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا دَخَلَ الْجَنَّةَ, قُلْتُ: وَإِنْ سَرَقَ وَإِنْ زَنَى قَالَ: وَإِنْ سَرَقَ وَإِنْ زَنَى. [صحيح البخاري - (ج 23 / ص 4)] وهذا الحَدِيثُ فِيهِ أنَّ تحقيقَ الإخلاصِ يَحْرِقُ جَمِيعَ السِّيئَاتِ، وأنَّهُ أحْسَنُ الحَسَناتِ والبَاقِيَاتِ الصَّالِحَات.
8ـ عَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا ذِئْبَانِ جَائِعَانِ أُرْسِلَا فِي غَنَمٍ بِأَفْسَدَ لَهَا مِنْ حِرْصِ الْمَرْءِ عَلَى الْمَالِ وَالشَّرَفِ لِدِينِهِ" [سُنَنُ التَّرمِذِيّ-(ج 8 / ص 381) وقال الألبَانِيّ صَحِيحٌ].
قالَ المُبَارَكْفُورِي رَحِمَهُ اللهُ بَعْدَمَا تكَلّمَ عَلَى المَال: وَأَمَّا الْجَاهُ فَيَكْفِي بِهِ إِفْسَادًا أَنَّ الْمَالَ يُبْذَلُ لِلْجَاهِ وَلَا يُبْذَلُ الْجَاهُ لِلْمَالِ وَهُوَ الشِّرْكُ الْخَفِيُّ، فَيَخُوضُ فِي الْمُرَاءَاةِ وَالْمُدَاهَنَةِ وَالنِّفَاقِ وَسَائِرِ الْأَخْلَاقِ الذَّمِيمَةِ، فَهُوَ أَفْسَدُ وَأَفْسَدُ اِنْتَهَى. [تُحْفَةُ الأحْوَذِي - (ج 6 / ص 162)]
9ـ وعن أبي أمَامَة رَضِي اللهُ عنهُ قالَ:
جَاءَ رَجُلٌ إلى رَسُولِ اللهِ صَلّى اللهُ عليهِ وسَلّم فقالَ: أرَأيْتَ رَجُلا ًغَزَا يَلْتَمِسُ الأجْرَ والذِّكْرَ, مَا لهُ؟ فقالَ رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عليهِ وسَلّم: "لا شَيْءَ له." فأعَادَهَا ثلاثَ مَرَّاتٍ يَقُولُ رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عليهِ وسَلّمَ" "لا شَيْءَ له." ثمّ قالَ: "إنَّ اللهَ لا يَقبَلُ منَ العَمَلِ إلاّ مَا كَانَ خَالِصًا وابْتُغِيَ بهِ وجْهُه." [رَوَاهُ أبُودَاودَ والنَّسَائِيّ، و(حسّنه) في صحيح الترغيب والترهيب - (ج 2 / ص 56)]
وغيرهَا مَنِ الأحَادِيثِ النَّبَوِيَّةِ، عَلَى صَاحِبِهَا الصَّلاَةُ والسَّلامُ بُكْرَةً وعشيَّة.
~وأمّا مَا وَرَدَ عنِ الأئِمَّةِ الأجِلَّةِ, وَعُلمَاءِ الدِّينِ وَالمِلَّة, ِمنَ السَّابقِينَ واللاّحِقِين, في شأنِ الإخلاصِ والمُخْلِصِين, فهوَ مَوْرِدٌ عَذْبٌ لا يَنْضَب, وأرْضٌ خصْبٌة لا تَجْذَب, فمِن ذلكَ أخِي السَّالِك:
~ قولُ يَحْيَى ابنُ أبِي كثِير: "تعلّمُوا النِّيَّة فإنَّهَا أبْلغُ منَ العَمَل."
~وعن يُوسُفَ ابن ِأسْبَاط قال: "تخْليصُ النيَّةِ منْ فسَادِها أشدُّ على العاملينَ من طُول ِ الاجتهَاد",
~ وعن ِابن ِالمُبَارَك: "رُبَّ عَمَل ٍصَغِيرٍ تُعَظِّمُهُ النيَّة، ورُبَّ عَمَل ٍكبيرٍ تُصَغِّرُهُ النيَّة."
~ وقال الفُضَيلُ ابنُ عِياضٍ: "إنَّمَا يُرِيدُ اللهُ مِنكَ نِيَّتكَ وإرَادَتكَ",
~وقال بَعْضُهم: "إنَّمَا تفَاضَلُوا بالإرَادَات ِولمْ يَتفَاضََلَوا بالصَّوْم والصَّلاة",
~وعن التُسْتُرِي سَهْلِ بنِ عبدِ الله: "ليْسَ عَلى النَّفس ِشَيْءٌ أشَقَّ مِنَ الإخلاص ِلأنَّهُ ليسَ لهَا فيهِ نَصِيب",
~وسُئِلَ بَعضُ الحُكَمَاء ِمَن ِالمُخْلِصُ؟ فقالَ: "المُخلِصُ الذي يَكتُمُ حَسَنَاتِهِ كمَا يَكتُمُ سَيِّئاتِه"،
~وقيلَ لبَعضِهِم: "مَا غايَة ُالإخلاصِ قالَ: "أنْ لا تحِبَّ مَحْمَدَةَ النَّاس".
~وقالَ الفُضَيلُ بنُ عِيَاضٍ: "تَرْكُ العَمَل ِلأجْل ِالنَّاس ِرِيَاءٌ، وَالعَمَلُ لأجْل ِالنَّاس ِشِرْكٌ، والإخْلاصُ أنْ يُعَافِيكَ اللهُ منْهُمَا" .[ ينظر جامع العلوم والحكم لابن رجب، والكبائر للذهبي] وغيْرُهَا كثيرٌ طَيِّب, ووَابِلٌ صَيِّب .
~وأمَّا كلام من تأخَّر فقدْ اخْترتُ لكَ ما يلمُّ بَعْضَ مالمْ يُذكرْ, ويَجْمَعُ لُبَابَ البَابِ فإنَّهُ بَحرٌ وأكثر:
قال الحافظ ابن الديبع الشيباني في كتابه [مكفرات الذنوب وموجبات الجنة ج 1 / ص 15]
أقول: تبين لنا منْ كلِّ ما نقلناهُ منَ السُّنة ِالمُطهَّرَة: أنَّ مبَانِيَ الإسلام ِالخَمسَةِ كلُّ واحدٍ منْها يُكفِّرُ الذنُوبَ وَالخَطايَا ويَهدِمُهَا، وأنَّ: (لا إلهَ إلاّ الله) لا تُبقِى ذنبًا ولا يَسْبقُهَا عَمَل, والصَّلوَاتِ الخَمس، والجُمعة َإلى الجُمعة، ورَمَضانَ إلى رَمضَان، مكَفِّرَاتٌ لمَا بَينَهُنَّ مَا اجْتُنِبَتْ الكَبَائِر، وأنَّ الصَدَقة َتُطفِىءُ الخَطِيئَة َكمَا يُطفِىءُ المَاءُ النَّارَ، وأنَّ الحَجَّ المَبْرُورَ يُطَهِّرُ صَاحِبَهُ منَ الذُّنُوبِ كيَوْم ِولدَتْهُ أُمَّه، وأن َّالدُّعَاءَ مِنْهُ مَا يَعُودٌ بِرِضَا اللهِ، حَتَّى يُصِيبَ العَبْدُ بهِ الجَنَّة َمَعَ قلِيل ِالعَمَلِ.
وسِرُّ ذلك كلِّهِ الإخْلاصُ, يَعْنِي إخْلاصُ العَمَلِ للهِ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لهُ، لا لِشَيءٍ آخرَ سِوَاه، فإذا كان العَمَلُ غَيرَ مُخلِصٍ للهِ لا يُقبَل، وبالتَّالِي لا يُؤثِّرُ فِي أيِّ أثر، ولا يُكَفِّرُ أيَّ ذَنْبٍ ولا يُوجِبُ أيَّ ثوَاب. ونظَرًا " لِكثرَة ِدَوَرَان ِكَلِمَة َالإخلاصِ عَلى الألسِنَةِ، فقَدِ اِدَّعَاهَا بَعْضُ النَّاس، دُونَ تحْقِيق ٍولا تدْقِيق ٍفي مَعْناهَا, الإخلاصُ مُقدَّمٌ على النُّبُُوَّة ِوالرِّسَالةِ في قولِهِ تعَالَى: ﴿وَاذكُر فيِ الكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخلَصاً وَكَانَ رَسُولاً نَبِيَّا﴾ [مريم/51]، وذلكَ لِشَرَفِ الإخلاص ِوفضْلِهِ، وتَقَدُّمِ وُجُودُهُ على وُجُودِهِمَا، وَكَوْنِهِ سَبَبًا في التَّرْشِيح ِلمَنْصِبِ الرِّسَالةِ والنُّبُوَّة.
وحقِيقَة ُالإخلاص: تَصْفِيَة ُالعَملِ ِعنْ مُلاحَظَةِ الخَلْق، وتَحْدِيدِ الإرَادَةِ بالعَمَلِ للهِ وحْدَهُ دُونَ شَيْءٍ آخَرَ سِوَاه، وبهَذا المَعْنَى وَحْدَهُ تَتَحَقَّقُ نَجَاة ُالإنسَان مِنْ سُوءِ الذُّنُوبِ وسُوءِ الدُّنيَا بوَجْهٍ عَامٍّ، انْظُر إلى قولِه تعَالى: ﴿كَذَلِكَ لِنَصرفَ عَنهُ السُّوءَ والفَحشَاءَ إِنَّهُ مِن عِبَادِنَا المُخلَصِينَ﴾ [يوسف/24]، فأنتَ تَرَى الإخلاصَ سَبَبًا في صَرْفِ السُّوءِ والفَحْشَاءِ عنْ يُوسُفَ عَليهِ السَّلامُ، كمَا أنَّهُ سَبَبٌ لاصْطِفَاء َالمُخلِصِينَ للنُّبُوَّةِ وَالرِّسَالةِ, وحُبُّ اللهِ حَسْبَ دَرَجَاتِ الإخلاص, فالإخلاصُ شَرْطٌ عامٌّ في قَبُولِ جَمِيع ِأنْوَاعِ الطّاعَاتِ، وكُّلُّ عَمَلٍ خَلاَ مِنْهُ فهُوَ إلى الهَلاكِ أقْرَب، ففِي الحَدِيثِ المَرْفُوع ِ: "إنَّ اللهَ لا يَقبَلُ مِنَ العَمَل ِإلاّ مَا كَانَ خَالِصًا وابتُغِيَ بهِ وَجْهُه", ولأهَمِّيَةِ الإخْلاصِ كتَبَ عُمَرُ إلى أبِي مُوسَى الأشْعَرٍي: (من خلصُتْ نِيَتُه ُكَفَاهُ اللهُ مَا بَينَهُ وبَينَ النَّاس)[شرحه ابن القيم في إعلام الموقعين]، وكَتَبَ سَالِمُ بنُ عَبدِاللهِ بن ِعمرَ، إلى عُمَرَ بن ِعَبدِالعَزِيز: (اعلمْ يا عُمرُ أنَّ عَونَ اللهِ للعَبدِ بقدْرِ نِيَّتِه، فمنْ خَلُصَتْ نِيَّتُهُ، تَمَّ عَوْنَ اللهِ له، ومَنْ نَقَصََتْ نِيَّتُهُ نَقَصَ عَنْهُ مِنْ عَوْن ِاللهِ بقَدْرِ ذلك). ولِهَذَا فليْسَتِ العِبْرَةُ بكَثْرَةِ الأعْمَالِ، وكَثْرَةِ الأدْعِيَةِ بقَدْرِ مَا هِيَ بالإخْلاصِ فِيهَا، ولَوْ كَانتْ قَلِيلَة ...
والرِّيَاءُ المُحرَّم ِالمُحْبطِ للعَمَل ِهو: العَمَلُ لطلب ِحَظٍ دُنْيَوِيٍّ، وَغَلَبَةِ هَذا الحَظِّ على القلْبِ أثنَاءَ العَمَل ِوبَعْدَهُ وَقبْلهُ، وهُو على مَرَاتِبٌ: أوَّلُها: أنْ يُحْسِنَ العَمَلَ في الظَّاهِرِ أمَامَ النَّاسِ ليَحْظَى بالثَّنَاءِ عِنْدَ النَّاس، وبالإشتِهَارِ بالصَّلاحِ والتَّقوَى, والثانيةُ:-وهِيَ أقبَحُ مِنَ الأولَى- أنْ يَنْشُط َفِي العَمَل ِأمَامَ النَّاسِ ويَكْسَلَ إذاكَانَ وحْدَه، والثالثة: وهِيَ أقْبَحُ الكُلِّ: أنْ يَجْعَلَ صُورَةَ الطَّاعَةِ وَسِيلَة ًلاكْتِسَابِ أمْرٍ مُحَرَّمٍ كَأنْ يُجَوِّدَ العَمَلَ في الظَّاهِرِ لِتُسَاقَ إليْهِ الوَدَائِعُ ثمَّ يَأخُذُهَا لنَفْسِه, أو تَقَرُّبًا مِن ِاِمْرَأة ٍيُحِبُّهَا، والرابعة: وهِيَ أخَفُّ الجَمِيعِ: أنْ يُجَوِّدَ العَمَلَ لا لِتحْصِيل ِغَرَض ٍدُنْيَوِيٍّ، وإنَّمَا خَوْفًا مِنْ أنْ يَنْظُرَ النَّاسُ إليْهِ بِعَيْن ِالاحْتِقَار، وَلاَ يَعُدُّوهُ مْنَ الأخْيَارْ, وَكُلّهُ رِيَاءٌ، وَقلِيلُ الرِّيَاءِ شِرْكٌ، وَلكِنّهُ دَرَجَاتٌ، وكُلُّ عَمَل ٍخَالَطَهُ الرِّيَاءُ فلا ثوَابَ لهُ لمَا وَرَدَ في الخَبَرِ: (مَنْ عَمِلَ لِيَ عَمَلاً أشْرَكَ فِيهِ غَيْرِي فأنَا مِنْهُ بَرِيءٌ). وأخْرَجَ ابنُ جَرِيرٍ مُرْسَلا: (لا يَقبَلُ اللهُ عَمَلا فِيهِ مِثقَالَ حَبَّةٍ مِنَ الرِّيَاء). وأخْرَجَ الطَّيَالِسِيُّ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ شَدَّادِ بْن ِأوْس ٍعَنْ رَسُول ِاللهِ صَلّى اللهُ عَليْهِ وَسَلّمَ: ( مَنْ صَلّى مُرَائِيًا فَقَدْ أشْرَكَ، وَمَنْ تَصَدَّقَ مُرَائِيًا فقدْ أشْرَك). فقالَ عَوْفُ بنُ مَالِكٍ لِشَدَّادٍ: "أفَلا يَعْمَدُ اللهُ إلى مَا كانَ لهُ منْ ذلكَ فيَقبَلَهُ ويَدَعَ مَا سِِوَاهُ؟ فقالَ شَدَّادٌ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ يَقُْولُ: (قالَ اللهُ عزَّ وَجلَّ: أنَا خَيْرُ شَرِيكٍ أوْ قسِيمٍ, مَن أشْرَكَ بي فعَمَلهُ قليلهُ وكَثِيرُهُ لِشَرِيكِي وَأنَا مِنْهُ بَرِيءٌ) [مسند الطيالسي 1120].
فإذا عَقَدَ الإنْسَانُ نِيَّتَهُ عَلَى العَمَل ِمُخْلِصًا للهِ ثمَّ طَرَقَهُ الرِّيَاءُ أثنَاءَ العَمَل ِفلِذلكَ حَالتَانِ:
الأولى: أن يَكُونَ العَمَلُ مِمَّا يَرْتبطُ آخَرُهُ بأوَّلِهِ، كالصَّلاة ِوالصَّوْم ِونحْوِهِمَا، وهذا إذا صَحَّحَ الإنْسَانُ نِيَّتَهُ في أوَّلِهِ ثمَّ طَرَقَهُ الرِّيَاءُ فلا شَيْءَ عَليهِ إذا حَاوَلَ دَفْعَ الرِّيَاءِ وَالتَّخَلّصَ مِنهُ قَدْرَ طَاقتِه.
الثانية: أن يَكُونَ العَمَلُ مِمَّا تَسْتَقِلُّ أجْزَاؤُهُ، كالقِرَاءَةِ وَالأذكَار، بَدَأهَا مُخلِصًا، ثمَّ طَرَقهُ، فَلا ثوَابَ لِمَا بَعْدَ طُروق ِالرِّيَاء.
وإذا عَمِلَ العَمَلَ مُخلِصًا كمَا َيجِبُ عَليْهِ، وبَعْدَ الانْتِهَاءِ مِنْهُ أثنَى النَّاسُ عَليْهِ فلا يَضُّرَّه، لحَدِيثِ مُسْلِمٍ: (تلكَ عَاجلُ بُشرَى المُسْلِم), وقدْ يَعْمَلُ الإنسَانُ عمَلا منَ أعْمال ِالبِرِّ خَالِصًا لله، ثمَّ يُبْطِلُهُ بَعْدَ زمَان ٍطَوِيل ٍ، وَهُوَ لا يَشعُر, وذلكَ كالرَّجُل ِيَصْنَعُ الخَيْرَ مَعَ رَجُل ٍآخَرَ يُرِيدُ بِهِ اللهَ وَحْدَهُ، ويَمْضِي زَمَنٌ طَوِيلٌ، ثمّ يَقصِدُ الرّجُلُ الذِي صَنَعَ المَعرُوفَ، صاحِبَهُ الذِي صَنَعَ إليهِ المَعْرُوفُ في حَاجَةٍ، فلا يَقضِيهَا لهُ، فيَذْكُرَ لهُ أو للنَّاس ِأو في نَفْسِهِ نَادِمًا: أنَّهُ صَنَعَ إليهِ مَعْرُوفًا مُنذُ كذا وكذا سَنَةٍ، وَفِي هَذِهِ الحَالةِ أفسَدَ نِيَّتَهُ المَاضِيَةِ، وَأحْبَط َعَمَلَهُ الذِي مَضَى صَحِيحًا وَهُو لا يَشعُر, وكالعَالِم ِيُرِيدُ بعَمَلِهِ وَجْهَ اللهِ، فوَجَدَ النَّاسَ بَعدَ زَمَن ٍطَوِيل، لا يَعُدُّونَهُ بَيْنَ المُجِيدِينَ مِنَ العُلَمَاءِ فَغَضِبَ فأفْسدَ بِغَضَبِهِ نِيَّتِهِ، وأبْطَلَ إخلاصَهُ وهو لا يَشعُر.
وعلى هذا وَجَبَ على المُؤْمِن ِأنْ يُرَاقِبَ نَفسَهُ، وأنْ يَحْذَرَ خِدَاعَهَا لِئَلاّ تُحْبِطُ عَمَلَهُ، وأنْ يُحَافِظَ عَلى نِيّتِه ِالصَّالِحَةِ قبْلَ العَمَل، وأثنْاءَ العَمَل، وبَعْدَ العَمَل ِإلى مَا شَاءَ اللهُ مِنْ أيَّامِ حَيَاتِهِ. اهـ
~وخِتام الوصية: فيا أخِي الحَبِيبُ بعدَ هذِهِ الفصول الوَافِيَةِ، والعُرُوض ِالضَّافِيَةِ الكَافِيَة، أليْسَ الإخلاصُ قدْ تَجَلّى فَضْله، وبَانَ حَقِيقَتُهُ وقدْرُه, واتَّضَحَ لنَا ثوَابُهُ وأجْرُه, وأنَّ الرِّيَاءَ غِلٌّ وَدَغَل, يٌفسِدُ الدِّينَ كمَا يُفسِدُ الخَلُّ العَسَل, فلا حَالٌ ولا ذوقٌ ولا عَمَل, " فعَليْكَ... ـ أخي المسلم بعد كل هذاـ أنْ تكُونَ فِي مِثال ِالمُؤْمِن ِالصّالِح المُطِيع ِلِرَبَّهِ والمُتّبِع ِلسُنّةِ نَبِيِّهِ فِي كُلِّ مَا جَاءَ بِهِ عَنْ رَبِّهِ وخَاصَة ًفِيمَا يَتعَلّقُ بإقامَةِ هَذِهِ العِبَادَةِ العَظِيمَةِ (الإخلاص ِللهِ تعَالى)" [من كلام الإمَامِ الألبَانِي رحمه الله تعالى بتصرف من (صلاة التراويح - (ج 1 / ص 113)] "فيَنْبَغِي لَكَ ...الانْتِبَاهُ لِهذا الأمْرِ، وَالإقبَالُ عَلى كِتابِ اللهِ، وسنةِ رَسُولِهِ صَلّى اللهُ عليهِ وسَلّم، دِرَاسَة ًوتَدَبُّرًا وتعَقُلا ً، حَتّى تعْرِفَ تَوحِيدَ اللهِ والإيمَان ِبهِ، وحَتّى تعْرِفَ مَا هُو الشّرْكُ باللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وحَتَّى تكُونَ بَصِيرًا بدِينِكَ، وحَتّى تعْرِفَ مَا هُو سَبَبُ دُخُول ِالجَنّةِ والنَّجَاةِ مِنَ النّارِ، معَ العِنَايَةِ بحُضُورِ حَلقاتِ العِلمِ والمُذاكَرَةِ مَعَ أهْل ِالعِلم ِوالدّينِ، حَتّى تسْتفِيدَ وتفِيد، وحَتَّى تكُونَ على بَيِّنةٍ وعلى بَصِيرَةٍ فِي أمْرِك." [من كلام ابن باز رحمه الله تعالى بيان التوحيد الذي بعث الله به الرسل جميعا وبعث به خاتمهم محمدا عليه السلام - (ج 1 / ص 29)]
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات
و صلى الله على نبينا وسلم تسليما كثيرا