كلام نفيس للإمام ابن قيم الجوزية رحمه الله:
ومن عقوباتها ( المعاصي ) أنها تجعل صاحبها من السفلة, بعد أن كان مهيئا لأن يكون من العلية, فان الله خلق خلقه قسمين: علية وسفلة وجعل عليين مستقر العلية وأسفل سافلين مستقر السفلة, وجعل أهل طاعته الأعلين في الدنيا والآخرة وأهل معصيته الأسفلين في الدنيا والآخرة, كما جعل أهل طاعته أكرم خلقه عليه، وأهل معصيته أهون خلقه عليه، وجعل العزة لهؤلاء والذلة والصغار لهؤلاء. كما في مسند أحمد من حديث عبد الله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( وجعلت الذل والصغار على من خالف أمري ) وكلما عمل العبد معصية نزل إلى أسفل درجة ولا يزال في نزول حتى يكون من الأسفلين، وكلما عمل طاعة ارتفع بها درجة ولا يزال في ارتفاع حتى يكون من الأعلين.
وقد يجتمع للعبد في أيام حياته الصعود من وجه والنزول من وجه وأيهما كان أغلب عليه كان من أهله, فليس من صعد مائة درجة ونزل درجة واحدة كمن كان بالعكس ولكن يعرض هاهنا للنفوس غلط عظيم؛ وهو أن العبد قد ينزل نزولا بعيدا أبعد مما بين المشرق والمغرب ومما بين السماء والأرض ولا يفيء بصعوده ألف درجة بهذا النزول الواحد كما فى الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( إن العبد ليتكلم بالكلمة الواحدة لا يلقى لها بالا يهوى بها فى النار أبعد مما بين المشرق والمغرب ) فأي صعود يوازي هذه النزلة والنزول أمر لازم للإنسان ولكن من الناس من يكون نزوله إلى غفلة؛ فهذا متى استيقظ من غفلته عاد إلى درجته أو إلى أرفع منها بحسب يقظته, ومنهم من يكون نزوله إلى مباح لا ينوي به الاستعانة على الطاعة فهذا إذا رجع إلى الطاعة قد يعود إلي درجته وقد لا يصل إليها وقد يرتفع عنها فانه قد يعود أعلي همة مما كان وقد يكون اضعف همة وقد تعود همته كما كانت. ومنهم من يكون نزوله الي معصية إما صغيرة أو كبيرة فهذا قد يحتاج فى عوده إلي توبة نصوح و انابه صادقة.
واختلف الناس هل يعود بعد التوبة الى درجته التي كان فيها بناء على أن التوبة تمحو أثر الذنب وتجعل وجوده كعدمه فكأنه لم يكن, أو لا يعود بناء على أن التوبة تأثيرها فى إسقاط العقوبة وأما الدرجة التي فاتته فانه لا يصل إليها ؟
قالوا: وتقرير ذلك انه كان مستعدا باشتغاله بالطاعة في الزمن الذي عصى فيه لصعود آخر, وارتقاء تحمله أعماله السالفة إليه بمنزلة كسب الرجل كل يوم بجملة ماله الذي يملكه, وكلما تضاعف المال تضاعف الربح, فقد راح عليه في زمن المعصية ارتفاع وربح تحمله أعماله فإذا استأنف العمل استأنف صعودا من نزول وكان قبل ذلك صاعدا من أسفل إلى أعلى وبينهما بون عظيم.
قالوا ومثل ذلك رجلان يرتقيان في سلمين لا نهاية لهما وهما سواء, فنزل أحدهما إلى أسفل ولو درجة واحدة ثم استأنف الصعود فإن الذي لم ينزل يعلو عليه ولا بد. وحكم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله بين الطائفتين حكما مقبولا فقال: التحقيق أن من التائبين من يعود إلى أرفع من درجته ومنهم من يعود الى مثل درجته ومنهم من لا يصل الى درجته.
قلت: وهذا بحسب قوة التوبة وكمالها وما أحدثته المعصية للعبد من الذل والخضوع والإنابة والحذر والخوف من الله والبكاء من خشية الله وقد تقوى على هذه الأمور حتى يعود التائب إلى أرفع من درجته ويصير بعد التوبة خيرا منه قبل الخطيئة, فهذا قد تكون الخطيئة في حقه رحمة, فإنها نفت عنه داء العجب وخلصته من ثقته بنفسه و إذلاله بعمله ووضعت خد ضراعته وذله وانكساره على عتبة باب سيده ومولاه وعرفته قدره وأشهدته فقره وضرورته إلى حفظ سيده ومولاه له والى عفوه عنه ومغفرته له وأخرجت من قلبه صولة الطاعة وكسرت أنفه أن يشمخ أو يتكبر بالطاعة أو يرى نفسه بها خيرا من غيره وأوقفته بين يدي ربه موقف الخطائين المذنبين ناكس الرأس بين يدي ربه مستحييا منه خائفا وجلا محتقرا لطاعته مستعظما لمعصيته قد عرف نفسه بالنقص والذم وربه متفرد بالكمال والحمد والوفاء كما قيل:
استأثر الله بالوفاء وبالحمد وولى الملامة الرجلا
فأي نعمة وصلت من الله إليه استكثرها على نفسه, ورأى نفسه دونها ولم يرها أهلا وأي نقمة أو بلية وصلت إلى رأي نفسه أهلا لما هو أكبر منها ورأى مولاه قد أحسن إليه إذ لم يعاقبه على قدر جرمه ولا شطره ولا أدنى جزء منه.
فان ما يستحقه من العقوبة لا تحمله الجبال الراسيات فضلا عن هذا العبد الضعيف العاجز فان الذنب وان صغر فان مقابلة العظيم الذي لاشيء أعظم منه, الكبير الذي لاشيء أكبر منه, الجليل الذي لا أجل منه ولا أجمل, المنعم بجميع أصناف النعم دقيقها و جليلها, من أقبح الأمور وأفظعها وأشنعها فان مقابلة العظماء و الأجلاء و سادات الناس بمثل ذلك يستقبحه كل أحد من مؤمن وكافر وأرذل الناس وأسقطهم مروءة من قابلهم بالرذائل فكيف بعظيم السموات و الأرض وملك السموات و الأرض وإله السموات والأرض.
ولولا أن رحمته غالبت غضبه ومغفرته سبقت عقوبته و إلا لتدكدكت الجبال بمن قابله بما لا يليق مقابلته به ولولا حلمه ومغفرته لزلزلت السموات و الأرض من معاصي العباد قال تعالى: ( إن الله يمسك السموات و الأرض أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده إنه كان حليما غفورا ) فتأمل ختم هذه الآية باسمين من أسمائه وهما الحليم والغفور, كيف تجد تحت ذلك انه لولا حلمه عن الجناة ومغفرته للعصاة لما استقرت السموات والارض وقد أخبر سبحانه عن بعض كفر عباده أنه ( تكاد السموات يتفطرن منه وتنشق الارض وتخر الجبال هذا ) وقد أخرج الله سبحانه الأبوين من الجنة بذنب واحد ارتكباه وخالفا فيه نهيه, ولعن إبليس وطرده وأخرجه من ملكوت السموات بذنب واحد ارتكبه وخالف فيه أمره, ونحن معاشرُ الحمقاء كما قيل:
نصل الذنوب الى الذنوب ونرتجى درج الجنان لذا النعيم الخالد
ولقد علمنا أخرج الأبوين مــــــــن ملكوته الأعلى بذنب واحـــد
والمقصود أن العبد قد يكون بعد التوبة خيرا مما كان قبل الخطيئة وأرفع درجة, وقد تضعف الخطيئة همته وتوهن عزمه وتمرض قلبه, فلا يقوى دواء التوبة على إعادته إلى الصحة الأولى فلا يعود الى درجته, وقد يزول المرض بحيث تعود الصحة كما كانت ويعود الى مثل عمله فيعود الى درجته هذا كله إذا كان نزوله الى معصيته فان كان نزوله الى أمر يقدح في أصل إيمانه مثل الشكوك والريب والنفاق فذاك نزول لا يرجى لصاحبه صعود الا بتجديد إسلامه من رأسه ( الجواب الكافي: ص: 58- 60 )
ومن عقوباتها ( المعاصي ) أنها تجعل صاحبها من السفلة, بعد أن كان مهيئا لأن يكون من العلية, فان الله خلق خلقه قسمين: علية وسفلة وجعل عليين مستقر العلية وأسفل سافلين مستقر السفلة, وجعل أهل طاعته الأعلين في الدنيا والآخرة وأهل معصيته الأسفلين في الدنيا والآخرة, كما جعل أهل طاعته أكرم خلقه عليه، وأهل معصيته أهون خلقه عليه، وجعل العزة لهؤلاء والذلة والصغار لهؤلاء. كما في مسند أحمد من حديث عبد الله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( وجعلت الذل والصغار على من خالف أمري ) وكلما عمل العبد معصية نزل إلى أسفل درجة ولا يزال في نزول حتى يكون من الأسفلين، وكلما عمل طاعة ارتفع بها درجة ولا يزال في ارتفاع حتى يكون من الأعلين.
وقد يجتمع للعبد في أيام حياته الصعود من وجه والنزول من وجه وأيهما كان أغلب عليه كان من أهله, فليس من صعد مائة درجة ونزل درجة واحدة كمن كان بالعكس ولكن يعرض هاهنا للنفوس غلط عظيم؛ وهو أن العبد قد ينزل نزولا بعيدا أبعد مما بين المشرق والمغرب ومما بين السماء والأرض ولا يفيء بصعوده ألف درجة بهذا النزول الواحد كما فى الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( إن العبد ليتكلم بالكلمة الواحدة لا يلقى لها بالا يهوى بها فى النار أبعد مما بين المشرق والمغرب ) فأي صعود يوازي هذه النزلة والنزول أمر لازم للإنسان ولكن من الناس من يكون نزوله إلى غفلة؛ فهذا متى استيقظ من غفلته عاد إلى درجته أو إلى أرفع منها بحسب يقظته, ومنهم من يكون نزوله إلى مباح لا ينوي به الاستعانة على الطاعة فهذا إذا رجع إلى الطاعة قد يعود إلي درجته وقد لا يصل إليها وقد يرتفع عنها فانه قد يعود أعلي همة مما كان وقد يكون اضعف همة وقد تعود همته كما كانت. ومنهم من يكون نزوله الي معصية إما صغيرة أو كبيرة فهذا قد يحتاج فى عوده إلي توبة نصوح و انابه صادقة.
واختلف الناس هل يعود بعد التوبة الى درجته التي كان فيها بناء على أن التوبة تمحو أثر الذنب وتجعل وجوده كعدمه فكأنه لم يكن, أو لا يعود بناء على أن التوبة تأثيرها فى إسقاط العقوبة وأما الدرجة التي فاتته فانه لا يصل إليها ؟
قالوا: وتقرير ذلك انه كان مستعدا باشتغاله بالطاعة في الزمن الذي عصى فيه لصعود آخر, وارتقاء تحمله أعماله السالفة إليه بمنزلة كسب الرجل كل يوم بجملة ماله الذي يملكه, وكلما تضاعف المال تضاعف الربح, فقد راح عليه في زمن المعصية ارتفاع وربح تحمله أعماله فإذا استأنف العمل استأنف صعودا من نزول وكان قبل ذلك صاعدا من أسفل إلى أعلى وبينهما بون عظيم.
قالوا ومثل ذلك رجلان يرتقيان في سلمين لا نهاية لهما وهما سواء, فنزل أحدهما إلى أسفل ولو درجة واحدة ثم استأنف الصعود فإن الذي لم ينزل يعلو عليه ولا بد. وحكم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله بين الطائفتين حكما مقبولا فقال: التحقيق أن من التائبين من يعود إلى أرفع من درجته ومنهم من يعود الى مثل درجته ومنهم من لا يصل الى درجته.
قلت: وهذا بحسب قوة التوبة وكمالها وما أحدثته المعصية للعبد من الذل والخضوع والإنابة والحذر والخوف من الله والبكاء من خشية الله وقد تقوى على هذه الأمور حتى يعود التائب إلى أرفع من درجته ويصير بعد التوبة خيرا منه قبل الخطيئة, فهذا قد تكون الخطيئة في حقه رحمة, فإنها نفت عنه داء العجب وخلصته من ثقته بنفسه و إذلاله بعمله ووضعت خد ضراعته وذله وانكساره على عتبة باب سيده ومولاه وعرفته قدره وأشهدته فقره وضرورته إلى حفظ سيده ومولاه له والى عفوه عنه ومغفرته له وأخرجت من قلبه صولة الطاعة وكسرت أنفه أن يشمخ أو يتكبر بالطاعة أو يرى نفسه بها خيرا من غيره وأوقفته بين يدي ربه موقف الخطائين المذنبين ناكس الرأس بين يدي ربه مستحييا منه خائفا وجلا محتقرا لطاعته مستعظما لمعصيته قد عرف نفسه بالنقص والذم وربه متفرد بالكمال والحمد والوفاء كما قيل:
استأثر الله بالوفاء وبالحمد وولى الملامة الرجلا
فأي نعمة وصلت من الله إليه استكثرها على نفسه, ورأى نفسه دونها ولم يرها أهلا وأي نقمة أو بلية وصلت إلى رأي نفسه أهلا لما هو أكبر منها ورأى مولاه قد أحسن إليه إذ لم يعاقبه على قدر جرمه ولا شطره ولا أدنى جزء منه.
فان ما يستحقه من العقوبة لا تحمله الجبال الراسيات فضلا عن هذا العبد الضعيف العاجز فان الذنب وان صغر فان مقابلة العظيم الذي لاشيء أعظم منه, الكبير الذي لاشيء أكبر منه, الجليل الذي لا أجل منه ولا أجمل, المنعم بجميع أصناف النعم دقيقها و جليلها, من أقبح الأمور وأفظعها وأشنعها فان مقابلة العظماء و الأجلاء و سادات الناس بمثل ذلك يستقبحه كل أحد من مؤمن وكافر وأرذل الناس وأسقطهم مروءة من قابلهم بالرذائل فكيف بعظيم السموات و الأرض وملك السموات و الأرض وإله السموات والأرض.
ولولا أن رحمته غالبت غضبه ومغفرته سبقت عقوبته و إلا لتدكدكت الجبال بمن قابله بما لا يليق مقابلته به ولولا حلمه ومغفرته لزلزلت السموات و الأرض من معاصي العباد قال تعالى: ( إن الله يمسك السموات و الأرض أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده إنه كان حليما غفورا ) فتأمل ختم هذه الآية باسمين من أسمائه وهما الحليم والغفور, كيف تجد تحت ذلك انه لولا حلمه عن الجناة ومغفرته للعصاة لما استقرت السموات والارض وقد أخبر سبحانه عن بعض كفر عباده أنه ( تكاد السموات يتفطرن منه وتنشق الارض وتخر الجبال هذا ) وقد أخرج الله سبحانه الأبوين من الجنة بذنب واحد ارتكباه وخالفا فيه نهيه, ولعن إبليس وطرده وأخرجه من ملكوت السموات بذنب واحد ارتكبه وخالف فيه أمره, ونحن معاشرُ الحمقاء كما قيل:
نصل الذنوب الى الذنوب ونرتجى درج الجنان لذا النعيم الخالد
ولقد علمنا أخرج الأبوين مــــــــن ملكوته الأعلى بذنب واحـــد
والمقصود أن العبد قد يكون بعد التوبة خيرا مما كان قبل الخطيئة وأرفع درجة, وقد تضعف الخطيئة همته وتوهن عزمه وتمرض قلبه, فلا يقوى دواء التوبة على إعادته إلى الصحة الأولى فلا يعود الى درجته, وقد يزول المرض بحيث تعود الصحة كما كانت ويعود الى مثل عمله فيعود الى درجته هذا كله إذا كان نزوله الى معصيته فان كان نزوله الى أمر يقدح في أصل إيمانه مثل الشكوك والريب والنفاق فذاك نزول لا يرجى لصاحبه صعود الا بتجديد إسلامه من رأسه ( الجواب الكافي: ص: 58- 60 )
تعليق