الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فقد رأيت أمرًا يقع لكثير من الناس وهم على أعتاب عيد الفطر من كل عام، قد يكون سببًا لنزاعهم، فأحببت كتابة هذه السطور القليلة، عسى الله أن ينفع بها .
إنَّ من المعلوم أنَّ صدقة الفطر لا تُجزئ إلا من طعام، لحديث النبي –صلى الله عليه وسلَّم-: ((فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- زَكَاةَ الْفِطْرِ طُهْرَةً لِلصَّائِمِ مِنْ اللَّغْوِ وَالرَّفَثِ وَطُعْمَةً لِلْمَسَاكِينِ مَنْ أَدَّاهَا قَبْلَ الصَّلَاةِ فَهِيَ زَكَاةٌ مَقْبُولَةٌ وَمَنْ أَدَّاهَا بَعْدَ الصَّلَاةِ فَهِيَ صَدَقَةٌ مِنْ الصَّدَقَاتِ)) [ رواه أبوداود 1371 وابن ماجه 1817 وصححه الحفاظ؛ انظر المستدرك 1438، وسنن الدارقطني 2090 وإرواء الغليل 843 ].
فإذا فرضها –صلى الله عليه وسلَّم- طُعمة، فلا يجوز أن نخالف فرضه –صلى الله عليه وسلم- ونخرجها نقودًا أو لباسًا أو أي شيء يخرج عن مسمى الطعام .
خصوصًا وأنَّ الدراهم كانت موجودة على عهده وعهد أصحابه -صلى الله عليه وسلّم- ولم يقل أحد منهم بإجزاء القيمة .
فكل خير في اتباع من سلف، وكل شر في ابتداع من خلف .
ولو كان خيرًا لسبقونا إليه .
وقد نُقل عن الحسن البصري والثوري وعمر بن عبد العزيز جواز إخراجها مالاً.
والأحناف والإمام الألباني في القديم على ذلك، وقد رجع عنه فلا تغتر بمن ينقل قوله القديم كصاحب كتاب الحاوي المنحول على الإمام الألباني -رحمه الله- والذي أنكره طلبته –حفظهم الله-.
وقد نقل الإمام ابن عثيمين -رحمه الله- انعقاد إجماع سكوتي من قبلهم على عدم إخراج القيمة، فكل من قال بإخراج القيمة محجوج بإجماع الصحابة الذين سبقوه .
فلا يجوز الخروج عن ذلك الإجماع، لا بقياس ولا بغيره.
وعلى ذلك فإنَّ إخراج هذه الصدقة من المال لا يجزئ .
قال العلاَّمة الفوزان في المنتقى ف163: " قيل للإمام أحمد بن حنبل - رحمه الله- : قوم يقولون : عمر بن عبد العزيز كان يأخذ القيمة في الفطرة ؟ قال : يَدَعون قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ويقولون : قال فلان، وقد قال ابن عمر : ((فرض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- زكاة الفطر صاعًا . . . الحديث))" اهـ .
هذا والأدلة متعاضدة وليس هذا هو الدليل الوحيد، والمقام لا يحتمل البسط، فمن أحب الرجوع إلى بقية الأدلة على عدم إجزاء القيمة، فليراجع ما أدلى به أهل الحديث وجمهور العلماء على مر العصور في ردِّ إجزاء القيمة .
فإذا تقرر ذلك، فقد أجمع العلماء أنها صاع من طعام، على خلاف في البر .
ولما كان يصعب ضبط الكيل على عامة المسلمين، فقد عبَّر العلماء بالوزن على سبيل التقريب، فعبَّروه بأثقل الحبوب، وهو العدس حتى يكون الوزن وافيًا لصاع جميع الأصناف .
وعمل أهل المدينة في مثل هذا حُجة، ووزن الصاع النبوي عندهم كما عليه الجمهور خمسة أرطال وثلث، وقد حققوه أمام أبي يوسف فرجع عن قوله في قصة مشهورة.
وقد حققه أحمد –رحمه الله- .
قال ابن قدامة في المغني: " الْأَصْلُ فِيهِ الْكَيْلُ وَإِنَّمَا قَدَّرَهُ الْعُلَمَاءُ بِالْوَزْنِ لِيُحْفَظَ وَيُنْقَلَ، وَقَدْ رَوَى جَمَاعَةٌ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ قَالَ الصَّاعُ وَزَنْتُهُ فَوَجَدْته خَمْسَةَ أَرْطَالٍ وَثُلُثًا حِنْطَة .
ٍ وَقَالَ حَنْبَلٌ: قَالَ أَحْمَدُ: أَخَذْت الصَّاعَ مِنْ ابْنِ أَبِي النَّضْر،ِ وَقَالَ أَبُو النَّضْرِ أَخَذْته مِنْ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ وَقَالَ:َ هَذَا صَاعُ النَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الَّذِي يُعْرَفُ بِالْمَدِينَةِ، قَالَ أَحْمَدُ: فَأَخَذْنَا الْعَدَسَ فَعَبَّرْنَا بِهِ وَهُوَ أَصْلَحُ مَا يُكَالُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَجَافَى عَنْ مَوَاضِعِهِ؛ فَكِلْنَا بِهِ، ثُمَّ وَزَنَّاهُ، فَإِذَا هُوَ خَمْسَةُ أَرْطَالٍ وَثُلُثٌ، وَقَال:َ هَذَا أَصْلَحُ مَا وَقَفْنَا عَلَيْهِ وَمَا يَبِينُ لَنَا مِنْ صَاعِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- .
وَإِذَا كَانَ خَمْسَةَ أَرْطَالٍ وَثُلُثًا مِنْ الْحِنْطَةِ وَالْعَدَسِ وَهُمَا مِنْ أَثْقَلِ الْحُبُوبِ؛ فَمَا عَدَاهُمَا مِنْ أَجْنَاسِ الْفِطْرَةِ أَخَفُّ مِنْهُمَا، فَإِذَا أَخْرَجَ مِنْهَا خَمْسَةَ أَرْطَالٍ وَثُلُثًا فَهِيَ أَكْثَرُ مِنْ صَاعٍ . . .
وَالْأَوْلَى لِمَنْ أَخْرَجَ مِنْ الثَّقِيلِ بِالْوَزْنِ أَنْ يَحْتَاطَ؛ فَيَزِيدَ شَيْئًا يُعْلَمُ بِهِ أَنَّهُ قَدْ بَلَغَ صَاعًا" ا هـ كَلَامُ ابْنِ قُدَامَةَ .
قلت: ولكنَّ الكيل أولى لأنه دقيق، أما الوزن فهو تقريبي، كما صرَّح العلماء .
قال القاضي الشيخ عطية محمد سالم –رحمه الله- في أضواء البيان: " أمَّا مقدار الصاع، فهو في العرف الكيل، وهو أربع حفنات بكفي رجل معتدل الكفين، ولتفاوت الناس في ذلك عمد العلماء إلى بيان مقداره بالوزن.
وقد نبه النووي أن المقدار بالوزن تقريبي، لأن المكيلات تختلف في الوزن ثقلاً وخفة، باختلاف أجناسها كالعدس والشعير مثلاً، وما كان عرفه الكيل لا يمكن ضبطه بالوزن، ولكنه على سبيل التقريب" اهـ .
وقال: " قال النووي: نقل الحافظ عبد الحق في كتاب الأحكام عن أبي محمد بن علي بن حزم أنه قال: وجدنا أهل المدينة لا يختلف منهم اثنان في أن مد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الذي يؤدي به الصدقات ليس بأكثر من رطل ونصف ولا دون رطل وربع" اهـ .
قال الإمام ابن عثيمين –رحمه الله- في مجموع الفتاوى: " ولكن بعض العلماء المعاصرين قدروا الطعام لأي صنف بثلاثة كيلوات إلا ربع وبعضهم باثنين وربع والبعض الآخر باثنين و مئة جرام ولا تناقض بينها، لأن تقدير الفطرة بالكيل، والكيل يعتمد الحجم لا الوزن، فرب شيء يزن شيئاً كبيراً وهو صغير الحجم إذا كان هذا الشيء ثقيلاً كالحديد مثلاً، والآخر خفيفاً، ولذلك وزن التمر لا يمكن أن يكون كوزن البر، ووزن البر لا يمكن أن يكون كوزن الرز، ووزن الرز أيضاً بعضها مع البعض الآخر لا يمكن أن يتفق مثال ذلك أن الحبوب ربما تتأثر بالجو إذا كان الجو رطباً تمتص من هذه الرطوبة فيزداد وزنها، وربما تمتص فيزداد حجمها، فالمهم أننا إذا قدرنا زكاة الفطر بالكيلو فليس معنى ذلك أن التقدير عام في كل شيء، لأن العبرة بالكيل الحجم دون الوزن، فإذا قدرناه بالبر الرزين بألفين وأربعين غراماً، وجاءنا رز أثقل منه يجب أن يزيد الوزن في الرز، إذا كان هذا كيلوين وأربعين غراماً يجب أن يزاد هذا، كذلك لو جاءنا رز أثقل من الأول يجب أن نزيد الوزن فكلما كان الشيء أثقل وهو مقدر بالكيل يجب أن يزداد وزنه وهذه قاعدة. ولذلك لا يمكن أن يقدر الناس الفطرة بوزن معين في كل الطعام، ولو فعلنا ذلك لكنا مخطئين" اهـ .
ولكنَّ نقدرها على السبيل الذي يشمل كل الطعام .
هذا وإنَّ الصوع النبوية المتداول الآن، ليست على نسق واحد، مما ينتج عنه اختلاف في الوزن أيضًا، وهذا بسبب فتحتها من الأعلى فينبغي مراعاة ذلك وإن كان هذا الفرق اليسير معفوًا عنه، قال في المغني: " إلا أن يكون نقصًا يسيرا يدخل في المكاييل، كالأوقية ونحوها فلا عبرة به؛ لأن مثل ذلك يجوز أن يدخل في المكاييل، فلا ينضبط فهو كنقص الحول ساعة أو ساعتين" اهـ .
قال الإمام ابن عثيمين في الشرح الممتع: " يقول شيخنا ابن سعدي - -: إن الصاع النبوي زنته ثمانون ريالاً فرنسياً، وزنة الصاع عندنا مئة وأربعة ريالات، فيكون الصاع عندنا زائداً على الصاع النبوي "الربع وخُمس الربع". .
قال القاضي الشيخ عطية –رحمه الله- في أضواء البيان: " وإذا كانت موازين العالم اليوم قد تحولت إلى موازين فرنسية، وهي بالكيلوجرام، والكيلو: ألف جرام، فلزم بيان النسبة بالجرام، وهي أن: المكيلات تتفاوت ثقلاً وكثافة، فأخذت الصاع الذي عندي وعايرته أولاً على صاع آخر قديماً؛ فوجدت أمراً ملتفتاً للنظر عند المقارنة، وهو أن الصاع الذي عندي يزيد عن الصاع الآخر قدر ملء الكف، فنظرت فإذا القدر الذي فوق فتحة الصاعين مختلفة، لأن أحد الصاعين فتحته أوسع .
فكان الجزء المعلى فوق فتحته يشكل مثلثاً قاعدته أطول من قاعدة المثلث فوق الصاع الآخر؛ فعايرتهما مرة أخرى على حد الفتحة فقط بدون زيادة فكانا سواء.
فعايرتهما بالماء حيث أن الماء لا يختلف وزنه غالباً ما دام صالحاً للشرب وليس مالحاً، وأنه لا يسمح بوجود قدر زائد فوق الحافة، فكان زن الصاع بعد هذا التأكيد هو بالعدس المجروش 2.600 كيلوين وستمائة جرام .
وبالماء 3.100 ثلاثة كيلوات ومائة جرام" اهـ .
وقد ذهبت اللجنة الدائمة إلى تقدير الشيخ القاضي –رحمه الله- فقررت أنَّ الصاع: 2600 جرام وهو باعتبار العدس المجروش، وقد قدَّره بعض علماء الشام بـ2750 جرام بما عبروه من طعامهم، أمَّا اللجنة الدائمة وكذا الشيخ العلامة ابن باز –رحمه الله- فوزن الصاع عندهم ما يقارب 3000 جرام ومن المؤكد أنَّه قد عُبِِّرَ بشيء أثقل .
أمَّا ما ذكره الشيخ ابن منيع في بحثه: " تحويل الموازين والمكاييل الشرعية إلى المقادير المعاصرة" فإنَّه لم يذكر ما يُعبر به، وهذا شيء مهم جدًا، وهو محور التحويل، هذا مما جعل الكثير من قرَّاء بحثه –حفظه الله- يظنون أنه يمكن ضبط المكاييل بالوزن ضبطًا دقيقًا، وهو شيء مستحيل .
وأتمم على بحثه فأقول، إنَّ ما عبَّر به الشيخ ابن منيع أو نقله عن الذين عبَّروا في بحثه هو القمح، وليس العدس، فلذلك كان مقدار الصاع عنده: 2175جرام؛ راجع معجم لغة الفقهاء.
ولا شكَّ أنَّه أخف بشكل ملحوظ من العدس، لذلك فإنَّ أرجح الأوزان أثقلها، حتى يكون وافيًا لجميع أصناف الطعام كما يقول العلماء، فلو أخرجت صدقة الفطر عدسًا أو طعامًا ثقيلاً بالوزن الذي رجحه الشيخ ابن منيع لما أجزأت .
وليأخذ المُسلم عندها بالأوفى، وهو ما صرَّحت به اللجنة الدائمة والشيخ العلاَّمة ابن باز –رحمه الله- من أنَّ الصاع يقارب 3000 جرام، فقد عبَّروا وزنهم بأثقل الحبوب، فكان أوفى الأوزان وأشملها للطعام.
على أنَّ من أراد أن يحتاط لدينه؛ فليلزم الكيل ما استطاع سبيلاً.
وهذا ما أردت التعليق به، فأسأل الله التوفيق، لا إله إلا هو .
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .
تعليق