بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين نبينا محمد، وعلى آله وصحبه ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد ...
فهذه بعضٌ من الدرر الغوالي للعلامة محمد ناصـر الدِّين رحمه الله تعالى الذي كان من المِنَن والعطايا الطيبة التي يسرها ربُّ العزة والجلال لهذه الأمة في عصر الفتن والمحـن وعصر خساسة الهمم، عصر الزهد في العلم، والقصور في طلبه، فقيض الله لنا ذاك العالم الربـاني الفـذ من بقية السلف، بلَّغ العلم وصبر على الآذى والبلايا فيه
حتى أظهره الله تعالى به.
فإليكم أحبتي في الله هذه الدُّرر في موضوع (الإجمــاع) للإمــام المُجـدد المُحدِّث الفقيه النَّحْريـر محمد ناصر الدين الألباني رحمه الله تعالى الذي قضى حياته يذب عن الدِّين فينفي عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين.
فاسأل الله تعالى أن يرحم الشيخ برحمته وأن يكتب له بكل حرف خطته يده الأجر لِمَا كان من كتاباته وكلامه ونصحه من أثـر عظيم على هذه الأمـة.
وهـذا آوان الشـروع في المقصـود
السائــل: استاذي بدي اسألك بالنسبة لموضوع الإجماع، إجماع العلماء وإجماع الأمة والشذوذ، يعني فكرة بسيطة عن النظرتين، ... احنا بدنا أول شيء، السؤال يتفرع كثيرًا نحن نريد أول شيء أن نعرف ما هو الإجماع؟
أجاب الشيخ العلامة محمد ناصر الدين الألباني رحمه الله تعالى:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهدُ أن محمدًا عبدهُ ورسوله.
أما بعد، فالإجماع عند العلماء أقسام:
القسم الأول منه، هو الذي لا يجوز مخالفته، وهناك أقسامًا أخرى من الإجماعات؛ فربما نرى من الفائدة أن نذكرها أو نذكر ما تيسر منها.
الإجماع الأول: وهو إجماع الأمة، ويدخل في هذا التعريف إجماع علماء الأمة وسائر الأمة؛ فهناك من يقول أن الإجماع هو إجماع العلماء؛ ولكن الإمام الغزالي يقول: (الإجماع هو إجماع الأمة)، بحيث أن يدخل فيها من دون العلماء من الأمة، سواءٌ كانوا من طلاب العلم أو كانوا من عامة المسلمين، هذا الإجماع هو الذي يعبر عنه بعض العلماء الذين لا يعتَدَّونَ بالأنواع الأخرى من الإجماع مما سنذكر بعد ذلك إن شاء الله، ويسميه هؤلاء العلماء بما هو معلوم من الدينِ بالضرورة، فما كان معلومًا من الدين بالضرورة يشترك فيه كل الأمة لا فرق كما ذكرنا بين عالم وغيره.
وهذا الإجماع هو الذي إذا جحده مسلم خرج من الدين، أما الإجماعات الأخرى فهي ليست كذلك وهي تدخل الآن في مناقشة علمية هادئة وهي:
أن الإجماع غير الإجماع الأول، هو إجماعٌ نظري، وهو الذي يعبر عنه بعض العلماء بالمتفق عليه بين العلماء ولا يسمونه إجماعًا وذلك لإن الإجماع في الحقيقة الذي يعتبر إنكاره خروجًا عن الملة لا يمكن أن يُصور إلا بالمفهوم الأول، أما الإجماع النظري والذي هو جمع أقوال العلماء الذين تكلموا في المسألة في عصر معين فهذا الأمر مستحيل لا يمكن تحقيقه واقعيًا. وهذا سهل إن شاء الله تصوره، ذلك لأن العلماء في كل قطر ومصر كما نعلم جميعًا متفرقون، فمن الذي يستطيع أن يتصل بكل فردٍ من أفراد العلماء ويأخذ ارائهم فيجدها كلها متفقة بعضها مع بعض؟. هذا أمرٌ مستحيل تحقيقه؛ ولذلك يقول الإمام أحمد رحمه الله كما ذكر ذلك أبنه عبدالله بن أحمد في كتابه مسائل الإمام أحمد، الإمام أحمد رحمه الله له عدَّة كتب تسمى بكتب المسائل، أي إن الإمام أحمد رحمه الله سُئِلَ عن كثيرٍ من المسائل، فإجاب عنها. هذه الإجابات نقلها وسجلها بعض تلامذته منهم أبنه عبدالله الذي هو راوي مسند أبيه وهو مسند أحمد المعروف المشهور، ومنهم أبو داود السجستاني مؤلف كتاب السُنن الذي هو الكتاب الثالث من الكتب الستة، ومنهم أبنه صالح ابن الإمام أحمد ومنهم ومنهم وغيره.
عبدالله بن أحمد يروي عن أبيه قال: (من أدّعى الإجماع فقد كَذب وما يدريه لعلهم اختلفوا)، الإمام أحمد في الشطر الأول من هذه الكلمة يشير إلى عدم إمكانية الإجماع لو وقع؛ لأنه يقول (وما يدريك)، من أدّعى الإجماع فقد كَذب (وما يدريه)، هذا نقد ثاني؛ لأنهم لو اجتمعوا اليوم ممكن يختلفوا غدًا فشو درا هذا الإنسان أن العلماء كلهم في ساعة واحدة أو في يوم واحد أو في أسبوع أو شهر أو سنة اجتمعوا على شيء ثم ما اختلفوا؛ ما يدريه؟
لذلك جنح بعض العلماء المنصفين إلى عدم التلفظ بلفظة الإجماع إلا إذا كان بالمعنى الأول، وهو المعلوم من الدين بالضرورة فيقول بدل إجماع اتفق العلماء، وهذا لا يعني أن كل عالم تكلم في هذه المسألة أولًا، ثم طابق كلام بعضهم بعضًا ثانيًا؛ وإنما الأقوال التي نُقِلت عن هؤلاء العلماء يوافق بعضها بعضًا؛ ولذلك فيقال في هذه الحالة اتفق العلماء.
من تلك الإجماعات التي آلمحْتُ إليها آنفًا هو إجماع منطقة معينة أو بلدةٍ خاصة من تلك المنطقة، كإجماع أهل المدينة مثلًا. فالإمام مالك رحمه الله يعتد بإجماع أهل المدينة دون أي إجماع آخر، ذلك لأن المدينة كما نعلم جميعًا كان مقر واستقرار الدعوة الإسلامية في عهد الرسول عليه السلام والخلفاء الراشدين، فكان مؤول ومجمع العلماء من كافة أقطار البلاد من الصحابة وغيرهم؛ ولذلك فالإمام مالك رحمه الله يرى أن ما أجمع عليه علماء المدينة خاصة من الصحابة والتابعين الذين هو أدركهم في عهده هذا هو الإجماع؛ لكن الحقيقة التي يلحظها الباحث بل يلمسه لمسَ اليدِ أن مع كون هذا الإجماع دائرته ضيقة جدًا أي المدينة وليس العالم الإسلامي كله، يستدرك العلماء على الإمام مالك الكثير من الإجماعات التي أدعاها من أهل المدينة، ويقولون له: قد خالف هذا كثير من علماء المدينة بل سيد التابعين ألا وهو سعيد بن المسيب؛ فإذن هذا الإجماع المصغر والذي هو حجة الإمام مالك رحمه الله دون بقية الائمة، هذا الإجماع نفسه لم يمكن إثباته فكيف يمكن إثبات إجماع الأمة في سائر أقطار البلاد الإسلامية؟
من هذه الأنواع إجماع أهل الكوفة وهذا يحتج به الإمام أبو حنيفة رحمه الله وأصحابه، ويقال فيه ما قيل في الإجماع السابق، ألا وهو إجماع أهل المدينة أي أنه ينتقض بكثير من الأقوال التي تخالف الإجماع المدعى، ثم يأتي من أنواع الإجماع، الإجماع السكوتي: وهذا معناه أن عالمًا من علماء المسلمين يتكلم في محضر من المسلمين بقول ولا أحد ينتقده ويقولون ما دام هذا من عالم فاضل تكلم بهذا الكلام ثم لم يتعقب من أحد الفاضلين، فمعنى ذلك أن هذا هو الحق والصواب وإلا كان انتُقِد.
الواقع هذا الإجماع تقبله النفس المطمئنة بشرط واحد إذا لم يكن ثمة نص من كتاب الله، أو من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم يخالفه، وإلا فهو إجماع مرفوض، ولماذا؟ لأمرين اثنين:
الأمر الأول: أن الله عز وجل يقول: (وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيراً) [النساء: 115]، الله تعالى يقول هنا (وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ) فإذا جاءتنا الرواية الصحيحة بأن أحد علماء المسلمين تكلم في مسألة ما في محضر من علمائهم وأقروه على ذلك، فالنفس تطمئن حين ذاك ليقال هذا هو سبيل المؤمنين؛ لكن بالشرط السابق وأعيد التذكير به أن لا يكون هناك نص من كتاب الله أو من حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يخالف هذا الإجماع السكوتي، وفي رأي علماء الأصول أن الإجماع السكوتي هو أضعف الإجماعات؛ لأنه قد يتكلم المتكلم بقولٍ ويكون هناك في المجلس من يرى خلافه؛ ولكن يرى من المصلحة أن لا يتكلم بخلاف ما سَمِعَ من باب درء المفسدة الكبرى من المفسدة الصغرى.
وأنا الآن أضرب مثالين: أحدهما يتعلق بالإجماع السكوتي شو مثاله ـ أي ما مثاله ـ، والآخر يتعلق بأنه يمكن أن يكون في مثل هذا الإجماع السكوتي من سكت على مضض لسبب سأذكر الآن مثالًا هو المثال الثاني.
مثــال الإجمــاع السكوتي: جاء في صحيح البخاري أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه خطب يوم جمعة وتلى آية السجدة، فنزل من المنبر وسجد، وسجد الناس معه، في الأسبوع التالي خطب أيضًا وتلى آية السجدة هي أو غيرها أنا الآن لا أذكر، فلما رأى الناس يتهيئون للسجود أشار إليهم بقوله رضي الله عنه: (إن الله لم يكتبها علينا إلا أن نشاء) إن الله لم يكتب علينا سجدة التلاوة إلا أن نشاء، فهذا نص صريح بأن سجدة التلاوة ليست أمرًا فرضًا، وإنما هو راجع إلى مشيئة التالي أو السامع، ولا شك أن عمر بن الخطاب حينما يخطب في مسجد المدينة أن هناك المئات من الصحابة والتابعين فحينما لا يقوم أحد وهو خليفة المسلمين ليبين خلاف ما قال أمير المؤمنين، النفس تطمئن إلى كون هذا الرأي ليس فيه خلاف؛ لكن هذا لا يفيد القطع واليقين؛ ولذلك لا يعتبر أن من خالف مثل هذا الإجماع يكون كافرًا؛ لأن الكفر لا يجوز الصيرورة إليه إلا إذا كان من خالفه خالف أمرًا كما قلنا في تعريف الإجماع الأول معلومًا من الدين بالضرورة؛ ذلك لأنه من الممكن كما ذكرت آنفًا أن يكون هناك من يرى خلاف هذا الرأي وإن كان لم ينقل؛ لكن هذا تطبيق نظري احتمالي بسبب أو أكثر من سبب كما هو يقال اليوم مِثاله وهو المثال الثاني الذي أشرت إليه آنفًا أن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه كان قد حج في زمن عثمان بن عفان، وثبت عن عثمان رضي الله عنه أنه كان إذا أتى مِنى ونزل فيها أيام التشريق أتمَّ الصلاةَ ولم يقصر، ومعلوم عند علماء المسلمين كافة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يومَ حجَّ حجة الوداع من يوم خرج من المدينة إلى أن رجع إليها صلى ركعتيتن ركعتين، ومعنى ذلك في مِنى نفسها صلى أيضًا ركعتين ركعتين، أما عثمان رضي الله عنه فقد أتمَّ وهنا يذكر العلماء رأيين أو سببين قد نُعرج عليهما فيما بعد حتى لا نبعد كثيرًا عن توضيح المثال فكان ابن مسعود إذا صلى خلف عثمان يتابعه في مِنى ويصلي أربعًا، فقيل له: أنت تقول أن الرسول عليه السلام كان يصلي ركعتين ركعتين حتى رجع إلى المدينة فما بالك تتم؟، فكان يقول جواب مختصر جدًا؛ لكنه حكيم جدًا أيضًا، كان يقول: (الخلاف شر) الخلاف شر أي مخالفة فرد من أفراد المسلمين عمل خليفة المسلمين وهو بلا شك من العلم والدين والصلاح في مكان معروف مشهود له بذلك، فلا بد أن إتمامه له في ذلك وجهة نظر، فهو لا يفعل ذلك نكاية بالسُّنة، وهو يعلمها. إذن أنا لا أريد أن أخالفه فأصلي خلاف صلاته وإن كنت اعتقد أن السنة القصر، فيقول: (الخلاف شر). فإذن هو كان يصلي، وفي نفسه أن السنة ركعتان؛ لكن لما سُئِل قال: (الخلافُ شرٌ).
هذا المثال ممكن يصور لنا احتمال أن يكون هناك قول وقع في مجمع من الناس، أو فعل ويكون لا يرى ذلك؛ لكنه يسكت، كما قلْتُ في أول كلامي من باب دفع المفسدة الكبرى بالمفسدة الصغرى، فهو يسكت حتى لا تصير فتنة وبلبلة في جماعة المسلمين.
فهذا ما يحضرني الآن من أنواع الإجماعات، وأن شيئًا من ذلك لا يمكن تكفير المسلم إلا إذا كان يجحد أو يخالف ما كان معلوم من الدين بالضرورة وهو الإجماع اليقيني وليس ثمة إجماع آخر؛ لكننا في الواقع نلاحظ أن المسألة لا ينبغي أن نأخذ لها أهمية كبرى لأن النتيجة أنه إذا لم يكن هناك نص من كتاب الله، أو من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، واتفق جماعة من المسلمين الأولين خاصة إذا كانوا من الصحابة المُكرمين فليس لأحدٍ أن يخالفهم إلا بنصًا من كتاب الله أو من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، متى يخالف؟ إذا كان الرعيل الأول والجيل الأول هم أنفسهم اختلفوا، فحين ذلك يختار مما اختلفوا فيه ما هو أقرب إلى الصواب فيما يراه هو؛ ولذلك يقول الإمام ابن قيم الجوزية رحمه الله يصنف العلم ثلاث مراتب فيقول:
العلم قال الله، قال رسولهقال الصحابة، ليس بالتمويهِ
ما العلمُ نَصبك للخلاف سفاهةًبين الرسولِ وبين رأي فقيهِ
كلا، ولا جحد الصفات ونفيهاحذرًا من التعطيل والتشبيهِ
هذا ما عندي جوابًا عن السؤال السابق، وإذا كان هناك بعض الفروع، ما تعرضنا لذكرها فيما يتعلق بالسؤال فلا مانع عندي من أن نسمع ما عندكما.
[سلسلة الهدى والنور، رقم الشريط (070)، من الدقيقة 00:30 إلى الدقيقة 23:11]
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين نبينا محمد، وعلى آله وصحبه ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد ...
فهذه بعضٌ من الدرر الغوالي للعلامة محمد ناصـر الدِّين رحمه الله تعالى الذي كان من المِنَن والعطايا الطيبة التي يسرها ربُّ العزة والجلال لهذه الأمة في عصر الفتن والمحـن وعصر خساسة الهمم، عصر الزهد في العلم، والقصور في طلبه، فقيض الله لنا ذاك العالم الربـاني الفـذ من بقية السلف، بلَّغ العلم وصبر على الآذى والبلايا فيه
حتى أظهره الله تعالى به.
فإليكم أحبتي في الله هذه الدُّرر في موضوع (الإجمــاع) للإمــام المُجـدد المُحدِّث الفقيه النَّحْريـر محمد ناصر الدين الألباني رحمه الله تعالى الذي قضى حياته يذب عن الدِّين فينفي عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين.
فاسأل الله تعالى أن يرحم الشيخ برحمته وأن يكتب له بكل حرف خطته يده الأجر لِمَا كان من كتاباته وكلامه ونصحه من أثـر عظيم على هذه الأمـة.
وهـذا آوان الشـروع في المقصـود
السائــل: استاذي بدي اسألك بالنسبة لموضوع الإجماع، إجماع العلماء وإجماع الأمة والشذوذ، يعني فكرة بسيطة عن النظرتين، ... احنا بدنا أول شيء، السؤال يتفرع كثيرًا نحن نريد أول شيء أن نعرف ما هو الإجماع؟
أجاب الشيخ العلامة محمد ناصر الدين الألباني رحمه الله تعالى:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهدُ أن محمدًا عبدهُ ورسوله.
أما بعد، فالإجماع عند العلماء أقسام:
القسم الأول منه، هو الذي لا يجوز مخالفته، وهناك أقسامًا أخرى من الإجماعات؛ فربما نرى من الفائدة أن نذكرها أو نذكر ما تيسر منها.
الإجماع الأول: وهو إجماع الأمة، ويدخل في هذا التعريف إجماع علماء الأمة وسائر الأمة؛ فهناك من يقول أن الإجماع هو إجماع العلماء؛ ولكن الإمام الغزالي يقول: (الإجماع هو إجماع الأمة)، بحيث أن يدخل فيها من دون العلماء من الأمة، سواءٌ كانوا من طلاب العلم أو كانوا من عامة المسلمين، هذا الإجماع هو الذي يعبر عنه بعض العلماء الذين لا يعتَدَّونَ بالأنواع الأخرى من الإجماع مما سنذكر بعد ذلك إن شاء الله، ويسميه هؤلاء العلماء بما هو معلوم من الدينِ بالضرورة، فما كان معلومًا من الدين بالضرورة يشترك فيه كل الأمة لا فرق كما ذكرنا بين عالم وغيره.
وهذا الإجماع هو الذي إذا جحده مسلم خرج من الدين، أما الإجماعات الأخرى فهي ليست كذلك وهي تدخل الآن في مناقشة علمية هادئة وهي:
أن الإجماع غير الإجماع الأول، هو إجماعٌ نظري، وهو الذي يعبر عنه بعض العلماء بالمتفق عليه بين العلماء ولا يسمونه إجماعًا وذلك لإن الإجماع في الحقيقة الذي يعتبر إنكاره خروجًا عن الملة لا يمكن أن يُصور إلا بالمفهوم الأول، أما الإجماع النظري والذي هو جمع أقوال العلماء الذين تكلموا في المسألة في عصر معين فهذا الأمر مستحيل لا يمكن تحقيقه واقعيًا. وهذا سهل إن شاء الله تصوره، ذلك لأن العلماء في كل قطر ومصر كما نعلم جميعًا متفرقون، فمن الذي يستطيع أن يتصل بكل فردٍ من أفراد العلماء ويأخذ ارائهم فيجدها كلها متفقة بعضها مع بعض؟. هذا أمرٌ مستحيل تحقيقه؛ ولذلك يقول الإمام أحمد رحمه الله كما ذكر ذلك أبنه عبدالله بن أحمد في كتابه مسائل الإمام أحمد، الإمام أحمد رحمه الله له عدَّة كتب تسمى بكتب المسائل، أي إن الإمام أحمد رحمه الله سُئِلَ عن كثيرٍ من المسائل، فإجاب عنها. هذه الإجابات نقلها وسجلها بعض تلامذته منهم أبنه عبدالله الذي هو راوي مسند أبيه وهو مسند أحمد المعروف المشهور، ومنهم أبو داود السجستاني مؤلف كتاب السُنن الذي هو الكتاب الثالث من الكتب الستة، ومنهم أبنه صالح ابن الإمام أحمد ومنهم ومنهم وغيره.
عبدالله بن أحمد يروي عن أبيه قال: (من أدّعى الإجماع فقد كَذب وما يدريه لعلهم اختلفوا)، الإمام أحمد في الشطر الأول من هذه الكلمة يشير إلى عدم إمكانية الإجماع لو وقع؛ لأنه يقول (وما يدريك)، من أدّعى الإجماع فقد كَذب (وما يدريه)، هذا نقد ثاني؛ لأنهم لو اجتمعوا اليوم ممكن يختلفوا غدًا فشو درا هذا الإنسان أن العلماء كلهم في ساعة واحدة أو في يوم واحد أو في أسبوع أو شهر أو سنة اجتمعوا على شيء ثم ما اختلفوا؛ ما يدريه؟
لذلك جنح بعض العلماء المنصفين إلى عدم التلفظ بلفظة الإجماع إلا إذا كان بالمعنى الأول، وهو المعلوم من الدين بالضرورة فيقول بدل إجماع اتفق العلماء، وهذا لا يعني أن كل عالم تكلم في هذه المسألة أولًا، ثم طابق كلام بعضهم بعضًا ثانيًا؛ وإنما الأقوال التي نُقِلت عن هؤلاء العلماء يوافق بعضها بعضًا؛ ولذلك فيقال في هذه الحالة اتفق العلماء.
من تلك الإجماعات التي آلمحْتُ إليها آنفًا هو إجماع منطقة معينة أو بلدةٍ خاصة من تلك المنطقة، كإجماع أهل المدينة مثلًا. فالإمام مالك رحمه الله يعتد بإجماع أهل المدينة دون أي إجماع آخر، ذلك لأن المدينة كما نعلم جميعًا كان مقر واستقرار الدعوة الإسلامية في عهد الرسول عليه السلام والخلفاء الراشدين، فكان مؤول ومجمع العلماء من كافة أقطار البلاد من الصحابة وغيرهم؛ ولذلك فالإمام مالك رحمه الله يرى أن ما أجمع عليه علماء المدينة خاصة من الصحابة والتابعين الذين هو أدركهم في عهده هذا هو الإجماع؛ لكن الحقيقة التي يلحظها الباحث بل يلمسه لمسَ اليدِ أن مع كون هذا الإجماع دائرته ضيقة جدًا أي المدينة وليس العالم الإسلامي كله، يستدرك العلماء على الإمام مالك الكثير من الإجماعات التي أدعاها من أهل المدينة، ويقولون له: قد خالف هذا كثير من علماء المدينة بل سيد التابعين ألا وهو سعيد بن المسيب؛ فإذن هذا الإجماع المصغر والذي هو حجة الإمام مالك رحمه الله دون بقية الائمة، هذا الإجماع نفسه لم يمكن إثباته فكيف يمكن إثبات إجماع الأمة في سائر أقطار البلاد الإسلامية؟
من هذه الأنواع إجماع أهل الكوفة وهذا يحتج به الإمام أبو حنيفة رحمه الله وأصحابه، ويقال فيه ما قيل في الإجماع السابق، ألا وهو إجماع أهل المدينة أي أنه ينتقض بكثير من الأقوال التي تخالف الإجماع المدعى، ثم يأتي من أنواع الإجماع، الإجماع السكوتي: وهذا معناه أن عالمًا من علماء المسلمين يتكلم في محضر من المسلمين بقول ولا أحد ينتقده ويقولون ما دام هذا من عالم فاضل تكلم بهذا الكلام ثم لم يتعقب من أحد الفاضلين، فمعنى ذلك أن هذا هو الحق والصواب وإلا كان انتُقِد.
الواقع هذا الإجماع تقبله النفس المطمئنة بشرط واحد إذا لم يكن ثمة نص من كتاب الله، أو من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم يخالفه، وإلا فهو إجماع مرفوض، ولماذا؟ لأمرين اثنين:
الأمر الأول: أن الله عز وجل يقول: (وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيراً) [النساء: 115]، الله تعالى يقول هنا (وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ) فإذا جاءتنا الرواية الصحيحة بأن أحد علماء المسلمين تكلم في مسألة ما في محضر من علمائهم وأقروه على ذلك، فالنفس تطمئن حين ذاك ليقال هذا هو سبيل المؤمنين؛ لكن بالشرط السابق وأعيد التذكير به أن لا يكون هناك نص من كتاب الله أو من حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يخالف هذا الإجماع السكوتي، وفي رأي علماء الأصول أن الإجماع السكوتي هو أضعف الإجماعات؛ لأنه قد يتكلم المتكلم بقولٍ ويكون هناك في المجلس من يرى خلافه؛ ولكن يرى من المصلحة أن لا يتكلم بخلاف ما سَمِعَ من باب درء المفسدة الكبرى من المفسدة الصغرى.
وأنا الآن أضرب مثالين: أحدهما يتعلق بالإجماع السكوتي شو مثاله ـ أي ما مثاله ـ، والآخر يتعلق بأنه يمكن أن يكون في مثل هذا الإجماع السكوتي من سكت على مضض لسبب سأذكر الآن مثالًا هو المثال الثاني.
مثــال الإجمــاع السكوتي: جاء في صحيح البخاري أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه خطب يوم جمعة وتلى آية السجدة، فنزل من المنبر وسجد، وسجد الناس معه، في الأسبوع التالي خطب أيضًا وتلى آية السجدة هي أو غيرها أنا الآن لا أذكر، فلما رأى الناس يتهيئون للسجود أشار إليهم بقوله رضي الله عنه: (إن الله لم يكتبها علينا إلا أن نشاء) إن الله لم يكتب علينا سجدة التلاوة إلا أن نشاء، فهذا نص صريح بأن سجدة التلاوة ليست أمرًا فرضًا، وإنما هو راجع إلى مشيئة التالي أو السامع، ولا شك أن عمر بن الخطاب حينما يخطب في مسجد المدينة أن هناك المئات من الصحابة والتابعين فحينما لا يقوم أحد وهو خليفة المسلمين ليبين خلاف ما قال أمير المؤمنين، النفس تطمئن إلى كون هذا الرأي ليس فيه خلاف؛ لكن هذا لا يفيد القطع واليقين؛ ولذلك لا يعتبر أن من خالف مثل هذا الإجماع يكون كافرًا؛ لأن الكفر لا يجوز الصيرورة إليه إلا إذا كان من خالفه خالف أمرًا كما قلنا في تعريف الإجماع الأول معلومًا من الدين بالضرورة؛ ذلك لأنه من الممكن كما ذكرت آنفًا أن يكون هناك من يرى خلاف هذا الرأي وإن كان لم ينقل؛ لكن هذا تطبيق نظري احتمالي بسبب أو أكثر من سبب كما هو يقال اليوم مِثاله وهو المثال الثاني الذي أشرت إليه آنفًا أن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه كان قد حج في زمن عثمان بن عفان، وثبت عن عثمان رضي الله عنه أنه كان إذا أتى مِنى ونزل فيها أيام التشريق أتمَّ الصلاةَ ولم يقصر، ومعلوم عند علماء المسلمين كافة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يومَ حجَّ حجة الوداع من يوم خرج من المدينة إلى أن رجع إليها صلى ركعتيتن ركعتين، ومعنى ذلك في مِنى نفسها صلى أيضًا ركعتين ركعتين، أما عثمان رضي الله عنه فقد أتمَّ وهنا يذكر العلماء رأيين أو سببين قد نُعرج عليهما فيما بعد حتى لا نبعد كثيرًا عن توضيح المثال فكان ابن مسعود إذا صلى خلف عثمان يتابعه في مِنى ويصلي أربعًا، فقيل له: أنت تقول أن الرسول عليه السلام كان يصلي ركعتين ركعتين حتى رجع إلى المدينة فما بالك تتم؟، فكان يقول جواب مختصر جدًا؛ لكنه حكيم جدًا أيضًا، كان يقول: (الخلاف شر) الخلاف شر أي مخالفة فرد من أفراد المسلمين عمل خليفة المسلمين وهو بلا شك من العلم والدين والصلاح في مكان معروف مشهود له بذلك، فلا بد أن إتمامه له في ذلك وجهة نظر، فهو لا يفعل ذلك نكاية بالسُّنة، وهو يعلمها. إذن أنا لا أريد أن أخالفه فأصلي خلاف صلاته وإن كنت اعتقد أن السنة القصر، فيقول: (الخلاف شر). فإذن هو كان يصلي، وفي نفسه أن السنة ركعتان؛ لكن لما سُئِل قال: (الخلافُ شرٌ).
هذا المثال ممكن يصور لنا احتمال أن يكون هناك قول وقع في مجمع من الناس، أو فعل ويكون لا يرى ذلك؛ لكنه يسكت، كما قلْتُ في أول كلامي من باب دفع المفسدة الكبرى بالمفسدة الصغرى، فهو يسكت حتى لا تصير فتنة وبلبلة في جماعة المسلمين.
فهذا ما يحضرني الآن من أنواع الإجماعات، وأن شيئًا من ذلك لا يمكن تكفير المسلم إلا إذا كان يجحد أو يخالف ما كان معلوم من الدين بالضرورة وهو الإجماع اليقيني وليس ثمة إجماع آخر؛ لكننا في الواقع نلاحظ أن المسألة لا ينبغي أن نأخذ لها أهمية كبرى لأن النتيجة أنه إذا لم يكن هناك نص من كتاب الله، أو من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، واتفق جماعة من المسلمين الأولين خاصة إذا كانوا من الصحابة المُكرمين فليس لأحدٍ أن يخالفهم إلا بنصًا من كتاب الله أو من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، متى يخالف؟ إذا كان الرعيل الأول والجيل الأول هم أنفسهم اختلفوا، فحين ذلك يختار مما اختلفوا فيه ما هو أقرب إلى الصواب فيما يراه هو؛ ولذلك يقول الإمام ابن قيم الجوزية رحمه الله يصنف العلم ثلاث مراتب فيقول:
العلم قال الله، قال رسولهقال الصحابة، ليس بالتمويهِ
ما العلمُ نَصبك للخلاف سفاهةًبين الرسولِ وبين رأي فقيهِ
كلا، ولا جحد الصفات ونفيهاحذرًا من التعطيل والتشبيهِ
هذا ما عندي جوابًا عن السؤال السابق، وإذا كان هناك بعض الفروع، ما تعرضنا لذكرها فيما يتعلق بالسؤال فلا مانع عندي من أن نسمع ما عندكما.
[سلسلة الهدى والنور، رقم الشريط (070)، من الدقيقة 00:30 إلى الدقيقة 23:11]
تعليق