• الحديث الرابع: في إثبات العجب وصفات أخرى.
وهو قوله: "عَجِبَ رَبُّنا مِنْ قُنوطِ عِبادِه وقُرب غِيَرِهِ؛ يَنْظُرُ إِلَيْكُمْ أَزِلينَ قَنِطينَ، فَيَظَلُّ يَضْحَكُ؛ يَعْلَمُ أنَّ فرَجَكُمْ قَرِيبٌ". حديث حسن (1).
(1) من حديث أبي رزين عند ابن كثير في تفسيره، لقوله تعالى: {أم حسبتم أن تدخلوا الجنة } [البقرة: 214]، ولفظه: "عجب ربك" الحديث. وبدل "غيره" "غيثه".
انظر حديث رقم: 3981 في صحيح الجامع.وفي السلسلة الصحيحة :ضحك ربنا عز وجل من قنوط عباده وقرب غيره فقال أبو رزين أو يضحك الرب عز وجل قال نعم . فقال لن نعدم من رب يضحك خيرا )رقم: 732/2810.
شرح الواسطية - العلامة ابن عثيمين رحمه الله تعالى:
* العجب: هو استغراب الشيء، ويكون ذلك لسببين:
- السبب الأول: خَفاء الأسباب على هذا المستغرب للشيء المتعجَّب منه؛ بحيث يأتيه بغتة بدون توقع، وهذا مستحيل على الله تعالى؛ لأن الله بكل شيء عليم، لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء.
- والثاني: أن يكون السبب فيه خروج هذا الشيء عن نظائره وعمّا ينبغي أن يكون عليه، بدون قصور من المتعجب؛ بحيث يعمل عملًا مستغربًا لا ينبغي أن يقع من مثله.
وهذا ثابت لله تعالى؛ لأنه ليس عن نقص من المتعجِّب، ولكنه عجب بالنظر إلى حال المتعجَّب منه.
* قوله: "عَجِبَ ربُّنا من قنوط عباده": القنوط: أشد اليأس. يعجب الرب عزَّ وجلَّ من دخول اليأس الشديد على قلوب العباد.
"وقُربِ غِيَرِه": الواو بمعنى (مع)، يعني: مع قرب غيره.
و (الغير): اسم جمع غِيَرَة، كطِيَر: اسم جمع طِيَرَة، وهي اسم بمعنى التغيير، وعلى هذا؛ فيكون المعنى: وقرب تغييره.
فيعجب الرب عزَّ وجلَّ، كيف نقنط وهو سبحانه وتعالى قريب التغيير، يغير الحال إلى حال أخرى بكلمة واحدة، وهي: كُنْ. فيكون.
* وقوله: "ينظر إليكم أَزِلين"؛ أي: ينظر الله إلينا بعينه.
* "أزِلين قَنِطين": الأزِل: الواقع في الشدة. و"قنطينَ": جمع قانط، والقانط: اليائس من الفرج وزوال الشدة.
فذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - حال الإنسان وحال قلبه، حاله أنه واقع في شدة، وقلبه قانط يائس مستبعد للفَرَجِ.
* "فيظل يضحك": يظل يضحك من هذه الحال العجيبة الغريبة؛ كيف تقنط من رحمة أرحم الراحمين الذي يقول للشيء: كنْ. فيكون؟
* "يعلم أن فرجكم قريب"، أي: زوال شدتكم قريب.
* في هذا الحديث عدة صفات:
-أولًا: العجب، لقوله: "عجب ربنا من قنوط عباده".
وقد دلَّ على هذه الصفة القرآن الكريم، قال الله تعالى: {بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ} [الصافات: 12]؛ على قراءة ضم التاء.
- وفيه أيضًا بيان قدرة الله عزَّ وجلَّ، لقوله: "وقرب غِيَره"، وأنه عزَّ وجلَّ تام القدرة، إذا أراد؛ غيَّر الحال من حال إلى ضدها في وقت قريب.
- وفيه أيضًا إثبات النظر، لقوله: "ينظر إليكم".
- وفيه إثبات الضحك، لقوله: "فيظل يضحك".
- وكذلك العلم، "يعلم أن فرجكم قريب".
- والرحمة؛ لأن الفرج من الله دليل على رحمة الله بعباده.
وكل هذه الصفات التي دلَّ عليها الحديث يجب علينا أن نثبتها لله عزَّ وجلَّ حقًّا على حقيقتها، ولا نتأول فيها.
* والفائدة المسلكية في هذا: أن الإنسان إذا علم ذلك من الله سبحانه وتعالى، حذر من هذا الأمر، وهو القنوط من رحمة الله، ولهذا، كان القنوط من رحمة الله من الكبائر:
قال الله تعالى: {قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إلا الضَّالُّونَ} [الحجر: 56].
وقال تعالى: {وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إلا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف: 87].
فالقنوط من رحمة الله، واستبعاد الرحمة: من كبائر الذنوب، والواجب على الإنسان أن يحسن الظن بربه؛ إن دعاه؛ أحسن الظن به بأنه سيجيبه، وإن تعبَّد له بمقتضى شرعه؛ فليحسن الظن بأن الله سوف يقبل منه، وإن وقعت به شدة؛ فليحسن الظن بأن الله سوف يزيلها، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسرًا" (1).
بل قد قال الله تعالى: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [الشرح: 5، 6]، ولن يغلب عسر يسرين، كما يروى عن ابن عباس رضي الله عنهما.
(1) قطعة من الحديث الذي رواه الإمام أحمد (1/ 307)، والترمذي (2518 ، وقال حديث حسن صحيح، وأبو يعلى (2556) عن ابن عباس. قال الحافظ ابن رجب في شرحه لهذا الحديث في "جامع العلوم والحكم" (1/ 460): وقد روي هذا الحديث من طرق كثيرة، وأصح الطرق كلها طريق حنش الصنعاني التي خرجها الترمذي.
* * *
26-30/2 (شرح الواسطية العلامة ابن عثيمين رحمه الله تعالى)
الناشر: دار ابن الجوزي للنشر والتوزيع، المملكة العربية السعودية
الطبعة: السادسة، 1421 هـ
- يقول معالي الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ حفظه الله تعالى (شرح العقيدة الواسطية):
(وَقَوْلُهُ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ "عَجِبَ رَبُّنَا مِنْ قُنُوطِ عِبَادِهِ وَقُرْبِ غِيَرِهِ، يَنْظُرُ إِلَيْكُمْ أَزِلينَ قَنِطِينَ، فَيَظَلُّ يَضْحَكُ يَعْلَمُ أَنَّ فَرَجَكُمْ قَرِيبٌ" حَدِيثٌ حَسَنٌ)
ويعني بالحديث الحسن ما تقاصر رواته عن رتبة الصحيح بأن نقله عدل خف ضبطه أو كما عرِّف عرفه الخطابي وغيره أن الحديث الحسن هو ما اشتهر مخرجه وعدلت نقلته .المقصود بالحديث الحسن يعني الحديث الحسن الاصطلاحي .
شيخ الإسلام تارة يستعمل الحسن بمعنى حسن المعنى وتارة يستخدم الحسن ويريد به الحسن الاصطلاحي ولكن أكثر ما يستعمله بمعنى الحسن الاصطلاحي وأما الحسن من جهة المعنى فإنه استعمله عدة مرات في أحاديث وحملت على أن المعنى حسن وليس حسنا على طريقة أهل الحديث.
قال (وَقَوْلُهُ "عَجِبَ رَبُّنَا مِنْ قُنُوطِ عِبَادِهِ وَقُرْبِ غِيَرِهِ) أولا هنا في بعض النسخ (وقرب خيره) وهذا ليس بجيد بل الصحيح (وَقُرْبِ غِيَرِهِ) والغِيَر يعني التغيير وقرب تغييره الشيء من حال إلى حال (عَجِبَ رَبُّنَا مِنْ قُنُوطِ عِبَادِهِ) إذا لم يأتهم المطر أو زادت عليهم الشدة والبأس فإنهم يقنطون والله جل وعلا يعجب (مِنْ قُنُوطِ عِبَادِهِ وَقُرْبِ غِيَرِهِ) يعني وقرب تغييره .
و (قرب خيره) هو في معنى تغييره يعني قرب إرسال الخير إليهم .
(عَجِبَ رَبُّنَا) (عَجِبَ) هذا فعل ماضي وفيها إثبات صفة العَجَبْ لأنه مشتمل على المصدر .
وصفة العَجَبْ لله جل وعلا على ما يليق بجلاله وعظمته .
وقد جاءت هذه الصفة في عدة أحاديث عن النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ كما في قوله (عجب ربنا من شاب ليست له صبوة) الحديث رواه أحمد في المسند وفي إسناده بعض الكلام.
وفي سورة الصافات قال الله جل وعلا لنبيه (بل عجِبْتُ ويسخرون) (بل عَجِبْتُ) فيها إثبات صفة العَجَبْ لله جل وعلا على قراءة حمزة والكِسائي فإن فيها ضم التاء من (عجبتُ) والقراءة المشهورة (بل عجِبْتَ ويسخرون)
( بل عجِبْت ُ) يعني عجب الله جل وعلا وكذلك قوله جل وعلا (وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ) في سورة الرعد .
(إِن تَعْجَبْ) أنت (فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ) يعني تعجب من عدم إيمانهم أو إنكارهم البعث إلى آخره مما قالوه (فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ) فالمتعجب هو الله جل وعلا في هذه الآية أيضا إثبات صفة العَجَبْ لله جل وعلا .
إذن صفة العَجَبْ لله سبحانه وتعالى دل عيها القرآن والسنة في نصوص متعددة والعَجَبْ يكون من أحد شيئين :
* إما أن يكون العَجَبْ والتعجب من جهة عدم توقع حصول الشيء والجهل بحصوله ثم حصل على نحو ما فيُتَعَجَّب منه لأنه لم يكن يُتَوقَّع أو لم يكن يُظَنَّ أن يحصل كذا وكذا هذا المعنى الأول للعجب في اللغة أو في استعمالها .
* والثاني أن العَجَبْ يكون إذا حصل شيء لأحد من الخلق ويكون بالنسبة له - بالنسبة للمخلوق - فيه عدم علمه بالعاقبة وعدم نظره في حال نفسه ، فيكون يُتَعَجَّبُ منه لأجل حاله .
فإذن المعنى الأول راجع إلى جهل المتعجِّب ، والمعنى الثاني راجع إلى حال المتعجَّبِ منه .
والمعنى الأول لما كان فيه الجهل وفيه عدم العلم صار منفيا عن الله جل وعلا والمثبَتُ لله جل وعلا المعنى الثاني وهذا من جهة التقريب كما ذكرت لكم وليس من جهة الحد .
يعني أن مورِد العَجَبْ هو (عجب ربنا) هو أنه حصل من المخلوق ما يُتَعَجَّبُ منه مما يدل على جهله بالعاقبة أو عدم علمه بحال نفسه أو بتقلباته إلى آخره .
المقصود أن يُثبتُ لله جل وعلا العَجَبْ على جهة الكمال ، أما العَجَبْ الذي فيه الجهل ومؤداه الجهل وعدم العلم والشك ونحو ذلك أو التفاجؤ بالأمر والانصدام به والانذهال بالشيء هذا كله ينزّه عنه الله جل وعلا لأن الله سبحانه يعلم ما حصل وما سيحصل وليس شيء عنده جل وعلا جديدا ولا غريبا ولا هو جل وعلا سبق علمه جهل أو نسيان فيتعجب لأجل نسيانه أو عدم علمه بل هو جل وعلا الكامل في صفاته .
وإنما يكون التعجب لحال المتعجَّبِ منه يعني فعل فعلا غريبا بالنسبة إلى نظرائه أو عجيبا بالنسبة إلى نظرائه فيدل ذلك على أن المتعجَّب منه لا يعلم العاقبة لا يعلم الحال على جهله على عدم النظر في حاله وقت عمل شيء من الأعمال .
إذن فقوله (عجب ربنا) يُثبت العَجَبْ على الوجه اللائق بالله وهو العَجَبْ بحق أو العَجَبْ الكامل لله جل وعلا الذي ليس فيه نقص ولا يؤدي إلى نقص بوجه من الوجوه وهو إثبات مثل الصفات الأخر لكن اضطرنا إلى التفسير ما سيأتي من ضرورة الرد على من أول هذه الكلمة .
قال (يَنْظُرُ إِلَيْكُمْ أَزِلينَ قَنِطِينَ، فَيَظَلُّ يَضْحَكُ يَعْلَمُ أَنَّ فَرَجَكُمْ قَرِيبٌ) أيضا فيه إثبات صفة الضحك على ما ذكرنا .
إذا تقرر ذلك فالعَجَبْ لله جل وعلا ثابت وهو دليل على كماله وعزته وقهره لخلقه وأن خلقه ضعاف فقراء إليه جل وعلا لا يعلمون ما يستقبلون ولا يعلمون أحوالهم بل أحوالهم على التردد وعدم فهمهم لأحوالهم كما ينبغي والله جل وعلا هو العالم بما سيكون وما يكون سبحانه وتعالى فيتعجب من حال عباده .
إذن فالعَجَبْ إثبات صفة كمال لله جل جلاله .
أما النفاة فنفوا هذه الصفة على ما ذكرنا في نظائرها فيما سبق وقالوا : العَجَبْ يطلق ويراد به المخلوق المنفصل مثل ما ذكرنا فيما سبق يعني ما يُتَعَجَّب منه .
فـ (عَجِبَ رَبُّنَا مِنْ قُنُوطِ عِبَادِهِ) هنا (عَجِبَ) يعني أنه نظر إلى ما يتعَجَّبُ منه الخلق وإلا فالله جل وعلا لا يتعجب عندهم .
فالشيء الذي وقع يُتَعَجَّبُ منه يَتَعَجَّبُ منه الخلق لو اطلعوا على ذلك لو عرفوا ذلك يتعجبوا والله جل وعلا أضاف الفعل هنا إلى نفسه عندهم لأنه حصل شيء يتعجبون منه .
ومنهم من يقول وإن صفة العَجَبْ لله جل وعلا أن معنى صفة العَجَبْ - اللي هم الأشاعرة - لله جل وعلا إظهار غرابة ما من شأنه أن يُتَعَجَّب .
فالمعتزلة عندهم أن العَجَبْ منفصل .
والأشاعرة عندهم أنه إظهار لما يُتَعَجَّب منه إما بالقول .. أو بالإشادة به أو بتعجيب الخلق منه وإما بالفعل بأن بفعل بهم فعل ما يُتَعَجَّب منه .
وهذا لا شك من جميع الجهات باطل لأن فيه نفي لصفة الله جل وعلا .
والذي قادهم إلى ذلك أن العَجَبْ فيه نوع نقص لأنهم قالوا إن العَجَبْ لا يكون إلا ممن لا يعرف الحقيقة ولا يعرف المستقبل ولا يعرف أن هذا سيحصل ، والجواب الذي أسلفنا ذكره هو أن العَجَبْ ينقسم إلى ما يكون من جهة عدم العلم وما يكون من جهة المتعجَّب منه وهم أوّلوا ذلك من جهة المتعجَّب منه .
فإذن يثبتون العَجَبْ لله جل وعلا ويكون عجبه لأجل حال المتعجَّب منه وليس مؤولا بأن عجب الله جل وعلا هو حال المتعجَّب منه وإنما عجبه لأجل حاله .
****
شرح العقيدة الواسطية للشيخ صالح آل الشيخ
ص(417-420)
****