بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله حمدا طيبا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى ، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه وسلم.
أما بعد:
فقد قرأت في سنن الدارمي(1/237) تحقيق الزهراني "باب رِسَالَةِ عَبَّادِ بْنِ عَبَّادٍ الْخَوَّاصِ الشَّامِيِّ" وهي رسالة كتبها عباد بن عباد الخواص الشامي أحد الفضلاء الثقاة الزهاد إلى بعض أصحابه يعظهم ويذكرهم بالله تعالى ؛ ويحثهم على ترك الرأي والتقليد ، وترك الخوض في الدين بما لا يحسن ، وحثهم على التقوى واتهام آراهم ، والرجوع إلى الاقتداء بالسلف الصالح ، والعمل بالكتاب والسنة على مراد الله ومراد رسوله وغير ذلك .. فألفيتها رسالة سديدة نافعة مفيدة ، وأن كثيرا مما نطق به فيها ينطبق على كثير من إخواننا السلفيين اليوم ، وكثيرا من التوجيهات فيها يحتاجون إليه ؛ فأحببت أن أذكرهم ونفسي بها، وأعلق على مواضع منها في الهامش تحت أرقام متسلسلة بقدر ما يقتضيه المقام ، وأسأله تعالى أن يجعلني وإخواني ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه إنه سميع قريب مجيب . وإليكم نص الرسالة: قال أبو محمد عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ سُلَيْمَانَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْأَنْطَاكِيُّ، عَنْ عَبَّادِ بْنِ عَبَّادٍ الْخَوَّاصِ الشَّامِيِّ أَبِي عُتْبَةَ(1)قَالَ:
أَمَّا بَعْدُ: " اعْقِلُوا، وَالْعَقْلُ نِعْمَةٌ، فَرُبَّ ذِي عَقْلٍ، قَدْ شُغِلَ قَلْبُهُ، بِالتَّعَمُّقِ فِيمَا هُوَ عَلَيْهِ ضَرَرٌ، عَنِ الِانْتِفَاعِ بِمَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ حَتَّى صَارَ عَنْ ذَلِكَ سَاهِيًا.(2).
وَمِنْ فَضْلِ عَقْلِ الْمَرْءِ، تَرْكُ النَّظَرِ فِيمَا لَا نَظَرَ فِيهِ، حَتَّى لَا يَكُونَ فَضْلُ عَقْلِهِ، وَبَالًا عَلَيْهِ فِي تَرْكِ مُنَافَسَةِ مَنْ هُوَ دُونَهُ فِي الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ (3).أَوْ رَجُلٍ شُغِلَ قَلْبُهُ بِبِدْعَةٍ، قَلَّدَ فِيهَا دِينَهُ، رِجَالًا دُونَ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.(4). أَوِ اكْتَفَى بِرَأْيِهِ فِيمَا لَا يَرَى الْهُدَى إِلَّا فِيهَا، وَلَا يَرَى الضَّلَالَةَ إِلَّا بِتَرْكِهَا، يَزْعُمُ أَنَّهُ أَخَذَهَا مِنَ الْقُرْآنِ، وَهُوَ يَدْعُو إِلَى فِرَاقِ الْقُرْآنِ..(5).
أَفَمَا كَانَ لِلْقُرْآنِ حَمَلَةٌ قَبْلَهُ، وَقَبْلَ أَصْحَابِهِ يَعْمَلُونَ بِمُحْكَمِهِ، وَيُؤْمِنُونَ بِمُتَشَابِهِهِ؟ وَكَانُوا مِنْهُ عَلَى مَنَارٍ لِوَضَحِ الطَّرِيقِ، وَكَانَ الْقُرْآنُ إِمَامَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِمَامًا لِأَصْحَابِهِ، وكانَ أَصْحَابُهُ أَئِمَّةً، لِمَنْ بَعْدَهُمْ ، رِجَالٌ مَعْرُوفُونَ مَنْسُوبُونَ فِي الْبُلْدَانِ، مُتَّفِقُونَ فِي الرَّدِّ عَلَى أَصْحَابِ الْأَهْوَاءِ، مَعَ مَا كَانَ بَيْنَهُمْ مِنَ الِاخْتِلَافِ.(6). وَتَسَكَّعَ (7)أَصْحَابُ الْأَهْوَاءِ بِرَأْيِهِمْ فِي سُبُلٍ مُخْتَلِفَةٍ جَائِرَةٍ عَنِ الْقَصْدِ، مُفَارِقَةٍ لِلصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، فَتَوَّهَتْ بِهِمْ أَدِلَّاؤُهُمْ فِي مَهَامِهَ(مُضِلَّةٍ، فَأَمْعَنُوا فِيهَا مُتَعَسِّفِينَ فِي تِيهِهِمْ. كُلَّمَا أَحْدَثَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ بِدْعَةً فِي ضَلَالَتِهِمْ، انْتَقَلُوا مِنْهَا إِلَى غَيْرِهَا، لِأَنَّهُمْ لَمْ يَطْلُبُوا أَثَرَ السَّابقينَ، وَلَمْ يَقْتَدُوا بِالْمُهَاجِرِينَ..(9).(10). وَقَدْ ذُكِرَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ لِزِيَادٍ: هَلْ تَدْرِي مَا يَهْدِمُ الْإِسْلَامَ؟ زَلَّةُ عَالِمٍ، وَجِدَالُ مُنَافِقٍ بِالْقُرْآنِ، وَأَئِمَّةٌ مُضِلُّونَ))... (11).
ثم يقول : اتَّقُوا اللَّهَ وَمَا حَدَثَ فِي قُرَّائِكُمْ، وَأَهْلِ مَسَاجِدِكُمْ، مِنَ الْغِيبَةِ، وَالنَّمِيمَةِ، وَالْمَشْيِ بَيْنَ النَّاسِ بِوَجْهَيْنِ، وَلِسَانَيْنِ، وَقَدْ ذُكِرَ أَنَّ مَنْ كَانَ ذَا وَجْهَيْنِ فِي الدُّنْيَا، كَانَ ذَا وَجْهَيْنِ فِي النَّارِ.. (12). يَلْقَاكَ صَاحِبُ الْغِيبَةِ، فَيَغْتَابُ عِنْدَكَ مَنْ يَرَى أَنَّكَ تُحِبُّ غِيبَتَهُ، وَيُخَالِفُكَ إِلَى صَاحِبِكَ، فَيَأْتِيهِ عَنْكَ بِمِثْلِهِ، فَإِذَا هُوَ قَدْ أَصَابَ عِنْدَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْكُمَا حَاجَتَهُ، وَخَفِيَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْكُمَا مَا أَتِى بِهِ عِنْدَ صَاحِبِهِ...(13).
حُضُورُهُ عِنْدَ مَنْ حَضَرَهُ حُضُورُ الْإِخْوَانِ، وَغَيْبَتُهُ عَنْ منْ غَابَ عَنْهُ غَيْبَةُ الْأَعْدَاءِ، مَنْ حَضَرَ مِنْهُمْ كَانَتْ لَهُ الْأَثَرَةُ، وَمَنْ غَابَ مِنْهُمْ لَمْ تَكُنْ لَهُ حُرْمَةٌ، يَفْتِنُ مَنْ حَضَرَهُ بِالتَّزْكِيَةِ، وَيَغْتَابُ مَنْ غَابَ عَنْهُ بِالْغِيبَةِ، (14). فَيَا لَعِبَادَ اللَّهِ أَمَا فِي الْقَوْمِ مَنْ رَشِيدٍ(15)، وَلَا مُصْلِحٍ بِهِ يَقْمَعُ هَذَا عَنْ مَكِيدَتِهِ، وَيَرُدُّهُ عَنْ عِرْضِ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ؟بَلْ عَرَفَ هَوَاهُمْ فِيمَا مَشَى بِهِ إِلَيْهِمْ، فَاسْتَمْكَنَ مِنْهُمْ وَأَمْكَنُوهُ مِنْ حَاجَتِهِ، فَأَكَلَ بِدِينِهِ مَعَ أَدْيَانِهِمْ، فَاللَّهَ اللَّهَ، ذُبُّوا عَنْ حُرَمِ أعْيانكمْ، وَكُفُّوا أَلْسِنَتَكُمْ عَنْهُمْ، إِلَّا مِنْ خَيْرٍ، وَنَاصِحُوا اللَّهَ فِي أُمَّتِكُمْ إِذْ كُنْتُمْ حَمَلَةَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، فَإِنَّ الْكِتَابَ لَا يُنْطَقَ حَتَّى يَنْطِقُ بِهِ، وَإِنَّ السُّنَّةَ لَا تَعْمَلُ حَتَّى يُعْمَلَ بِهَا، فَمَتَى يَتَعَلَّمُ الْجَاهِلُ إِذَا سَكَتَ الْعَالِمُ، فَلَمْ يُنْكِرْ مَا ظَهَرَ، وَلَمْ يَأْمُرْ بِمَا تُرِكَ؟ وَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ. (16)..(17).
اتَّقُوا اللَّهَ فَإِنَّكُمْ فِي زَمَانٍ رَقَّ فِيهِ الْوَرَعُ، وَقَلَّ فِيهِ الْخُشُوعُ، وَحَمَلَ الْعِلْمَ مُفْسِدُوهُ، فَأَحَبُّوا أَنْ يُعْرَفُوا بِحَمْلِهِ، وَكَرِهُوا أَنْ يُعْرَفُوا بِإِضَاعَتِهِ، فَنَطَقُوا فِيهِ بِالْهَوَى، لَمَّا أَدْخَلُوا فِيهِ مِنَ الْخَطَأ، وَحَرَّفُوا الْكَلِمَ عَمَّا تَرَكُوا مِنَ الْحَقِّ إِلَى مَا عَمِلُوا بِهِ مِنْ بَاطِلٍ، فَذُنُوبُهُمْ ذُنُوبٌ لَا يُسْتَغْفَرُ مِنْهَا، وَتَقْصِيرُهُمْ تَقْصِيرٌ لَا يُعْتَرَفُ بِهِ، كَيْفَ يَهْتَدِي الْمُسْتَدِلُّ الْمُسْتَرْشِدُ إِذَا كَانَ الدَّلِيلُ حَائِرًا؟(1..
أَحَبُّوا الدُّنْيَا، وَكَرِهُوا مَنْزِلَةَ أَهْلِهَا، فَشَارَكُوهُمْ فِي الْعَيْشِ، وَزَايَلُوهُمْ بِالْقَوْلِ، وَدَافَعُوا بِالْقَوْلِ عَنْ أَنْفُسَهُمْ أَنَّ يُنْسَبُوا إِلَى عَمَلِهِمْ، فَلَمْ يَتَبَرَّءُوا مِمَّا انْتَفَوْا مِنْهُ، وَلَمْ يَدْخُلُوا فِيمَا نَسَبُوا إِلَيْهِ أَنْفُسِهِمْ، لِأَنَّ الْعَامِلَ بِالْحَقِّ مُتَكَلِّمٌ وَإِنْ سَكَتَ.وَقَدْ ذُكِرَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: إِنِّي لَسْتُ كُلَّ كَلَامِ الْحَكِيمِ أَتَقَبَّلُ، وَلَكِنِّي أَنْظُرُ إِلَى هَمِّهِ وَهَوَاهُ، فَإِنْ كَانَ هَمُّهُ وَهَوَاهُ لِي، جَعَلْتُ صَمْتَهُ حَمْدًا وَوَقَارًا، وَإِنْ لَمْ يَتَكَلَّمْ. .(19).
وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا، كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا} [الجمعة: 5] كُتبا)..(20).
وَقَالَ: {خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ} [البقرة: 63] قَالَ: الْعَمَلُ بِمَا فِيهِ، وَلَا تَكْتَفُوا مِنَ السُّنَّةِ، بِانْتِحَالِهَا بِالْقَوْلِ دُونَ الْعَمَلِ بِهَا، فَإِنَّ انْتِحَالَ السُّنَّةِ دُونَ الْعَمَلِ بِهَا، كَذِبٌ بِالْقَوْلِ مَعَ إِضَاعَةِ الْعِلْم، وَلَا تَعِيبُوا بِالْبِدَعِ تَزَيُّنًا بِعَيْبِهَا، فَإِنَّ فَسَادَ أَهْلِ الْبِدَعِ، لَيْسَ بِزَائِدٍ فِي صَلَاحِكُمْ، وَلَا تَعِيبُوهَا بَغْيًا عَلَى أَهْلِهَا، فَإِنَّ الْبَغْيَ مِنْ فَسَادِ أَنْفُسِكُمْ، وَلَيْسَ يَنْبَغِي لِلطَّبِيبِ أَنْ يُدَاوِيَ الْمَرْضَى بِمَا يُبَرِّئُهُمْ وَيُمْرِضُهُ، فَإِنَّهُ إِذَا مَرِضَ، اشْتَغَلَ بِمَرَضِهِ عَنْ مُدَاوَاتِهِمْ، وَلَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يَلْتَمِسَ لِنَفْسِهِ الصِّحَّةَ، لِيَقْوَى بِهِ عَلَى عِلَاجِ الْمَرْضَى.(21).
فَلْيَكُنْ أَمْرُكُمْ فِيمَا تُنْكِرُونَ عَلَى إِخْوَانِكُمْ نَظَرًا مِنْكُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَنَصِيحَةً مِنْكُمْ لِرَبِّكُمْ، وَشَفَقَةً مِنْكُمْ عَلَى إِخْوَانِكُمْ، وَأَنْ تَكُونُوا مَعَ ذَلِكَ بِعُيُوبِ أَنْفُسِكُمْ، أَعْنَى مِنْكُمْ بِعُيُوبِ غَيْرِكُمْ، وَأَنْ يَسْتَفْطِمَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا النَّصِيحَةَ، وَأَنْ يَحْظَى عِنْدَكُمْ مَنْ بَذَلَهَا لَكُمْ وَقَبِلَهَا مِنْكُمْ...(22).
وَقَدْ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- : رَحِمَ اللَّهُ مَنْ أَهْدَى إِلَيَّ عُيُوبِي.( 23). تُحِبُّونَ أَنْ تَقُولُوا فَيُحْتَمَلَ لَكُمْ، وَإِنْ قِيلَ مِثْلُ الَّذِي قُلْتُمْ، غَضِبْتُمْ. تَجِدُونَ عَلَى النَّاسِ فِيمَا تُنْكِرُونَ مِنْ أُمُورِهِمْ، وَتَأْتُونَ مِثْلَ ذَلِكَ أفَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يؤخذَ عَلَيْكُمْ؟اتَّهِمُوا رَأْيَكُمْ وَرَأْيَ أَهْلِ زَمَانِكُمْ،.(24)
وَتَثَبَّتُوا قَبْلَ أَنْ تَكَلَّمُوا، وَتَعَلَّمُوا قَبْلَ أَنْ تَعْمَلُوا، فَإِنَّهُ يَأْتِي زَمَانٌ يَشْتَبِهُ فِيهِ الْحَقُّ وَالْبَاطِلُ، وَيَكُونُ الْمَعْرُوفُ فِيهِ مُنْكَرًا، وَالْمُنْكَرُ فِيهِ مَعْرُوفًا، فَكَمْ مِنْ مُقترِّبٍ إِلَى اللَّهِ بِمَا يُبَاعِدُهُ، وَمُتَحَبِّبٍ إِلَيْهِ بِمَا يبغْضهُ عَلَيْهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا} [فاطر: 8]، الْآيَةَ..فَعَلَيْكُمْ بِالْوُقُوفِ عِنْدَ الشُّبُهَاتِ، حَتَّى يَبْرُزَ لَكُمْ وَاضِحُ الْحَقِّ بِالْبَيِّنَةِ فَإِنَّ الدَّاخِلَ فِيما لَا يَعْلَمُ بِغَيْرِ عِلْمٍ آثِمٌ، وَمَنْ نَظَرَ لِلَّهِ، نَظَرَ اللَّهُ لَهُ.
عَلَيْكُمْ بِالْقُرْآنِ فَأْتَمُّوا بِهِ، وَأُمُّوا بِهِ، وَعَلَيْكُمْ بِطَلَبِ أَثَرِ الْمَاضِينَ فِيهِ، وَلَوْ أَنَّ الْأَحْبَارَ وَالرُّهْبَانَ لَمْ يَتَّقُوا زَوَالَ مَرَاتِبِهِمْ، وَفَسَادَ مَنْزِلَتِهِمْ، بِإِقَامَةِ الْكِتَابِ بِأَعْمَالِهِمْ، وَتِبْيَانِهِ مَا حَرَّفُوهُ وَلَا كَتَمُوهُ، وَلَكِنَّهُمْ لَمَّا خَالَفُوا الْكِتَابَ بِأعْمالهمْ، الْتَمَسُوا أَنْ يَخْدَعُوا قَوْمَهُمْ عَمَّا صَنَعُوا، مَخَافَةَ أَنْ يفْسدواَ مَنَازِلُهُمْ، وَأَنْ يَتَبَيَّنَ لِلنَّاسِ فَسَادُهُمْ، فَحَرَّفُوا الْكِتَابَ بِالتَّفْسِيرِ، وَمَا لَمْ يَسْتَطِيعُوا تَحْرِيفَهُ، كَتَمُوهُ، فَسَكَتُوا عنْ صَنِيعِ أَنْفُسِهِمْ إِبْقَاءً عَلَى مَنَازِلِهِمْ، وَسَكَتُوا عَمَّا صَنَعَ قَوْمُهُمْ مُصَانَعَةً لَهُمْ، وَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ، لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ، بَلْ مَالَئُوا عَلَيْهِ، وَرَفَّقُوا لَهُمْ فِيهِ " (25)(26).
---------------.
1 –هو: عباد بن عباد الرملي الأرسوفي ، أَبُو عتبة الخواص، فارسي الأصل. ترجمته في تهذيب الكمال في أسماء الرجال (14/ 134(( 3085) قال عثمان بْن سَعِيد الدارمي في تاريخه، الترجمة ( 495) عَنْ يحيى بْن مَعِين: ثقة. وَقَال أَحْمَد بْن عَبد اللَّهِ العجلي في (ثقاته، الورقة 28) : ثقة، رجل صالح.وَقَال أَبُو حاتم في الجرح والتعديل: الترجمة (424)من الْعِبَاد. وَقَال يعقوب بْن سُفْيَان في المعرفة والتاريخ: (2 /4/ 437) : كَانَ من الزهاد والعباد، ثقة . وَقَال ابن حبان: كان ممن غلب عليه التقشف، والعبادة، حتى غفل عن الحفظ والإتقان فكان يأتي بالشيء على حسب التوهم حتى كثرت المناكير في روايته على قلتها فاستحق الترك (المجروحين: 2 / 170). ونقله الحافظ ابن حجر في تهذيب التهذيب (5/97).وَقَال في "التقريب (1/290) (3134)": عباد ابن عباد الرملي الأرسوفي بمهملة وفاء أبو عتبة الخواص ، صدوق يهم ، أفحش ابن حبان فقال يستحق الترك من التاسعة. –2قلت : لا يثبت في فضل العقل حديث ، قال العراقي في تخريج أحاديث الإحياء (1/1510):وَلم يَصح فِي فضل الْعقل شَيء. وقال ابن الجوزي في ذم الهوى (ص 15): المنقول عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في فضل العقل كثير، إلَّا أنه بعيد الثبوت. وذكره ابن تيمية في بغية المرتاد (1/247). قال الحافظ هنا في المطالب - بعد الحديث القادم برقم (3311) -: هذه الْأَحَادِيثُ مِنْ كِتَابِ "الْعَقْلِ" لِدَاوُدَ بْنِ المُحَبَّر، كلها موضوعة، ذكرها الحارث في مسنده.
وقال الألباني في الضعيفة (1/53) مما يحسن التنبيه عليه أن كل ما ورد في فضل العقل من الأحاديث لا يصح منها شيء، وهي تدور بين الضعف والوضع، وقد تتبعت ما أورده منها أبو بكر بن أبي الدنيا في كتابه " العقل وفضله " فوجدتها كما ذكرت لا يصح منها شيء، فالعجب من مصححه الشيخ محمد زاهد الكوثري كيف سكت عنها؟ ! بل أشار في ترجمته للمؤلف (ص 4) إلى خلاف ما يقتضيه التحقيق العلمي عفا الله عنا وعنه.
وقد قال العلامة ابن القيم في " المنار " (ص 25) : أحاديث العقل كلها كذب.
وانظر الضعيفة (12/112) وفيها رد على الكوثري الذي أنكر على من نفى أن يكون قد صح في العقل شيء .وبوب ابن أبي شيبة في الأدب بَابُ فَضْلِ الْعَقْلِ ثم ساق بسنده 286 - حَدَّثَنَا عَبْدُ الْأَعْلَى، عَنِ الْجُرَيْرِيِّ، عَنْ أَبِي الْعَلَاءِ، قَالَ: «مَا أُعْطِيَ عَبْدٌ بَعْدَ الْإِسْلَامِ أَفْضَلُ مِنْ عَقْلٍ صَالِحٍ يُرْزَقُهُ » وفي مصنفه (5/266).
وفي شعب الإيمان للبيهقي (6/34 فصل في فضل العقل الذي هو من النعم العظام التي كرم الله بها عباده وبسنده إلى الحسن ، قال: " لما خلق الله عز وجل العقل، قال له: أقبل فأقبل، ثم قال له: أدبر فأدبر، وقال:ما خلقت خلقا هو أحب إلي منك إني بك أعبد، وبك أعرف، وبك آخذ، وبك أعطي ". " وقال عقبه : هذا من قول الحسن، وغيره مشهور، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم بإسناد غير قوي ".
قال أبو عمر بن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله (1/549)وَقَالُوا: فَضْلُ الْعَقْلِ عَلَى الْمَنْطِقِ حِكْمَةٌ. وَفَضْلُ الْمَنْطِقِ عَلَى الْعَقْلِ هُجْنَةٌ.
قلت :ومع ذلك فقد جاء في كتاب الله تعالى ما يبين فضل العقل فقد كرم الله الإنسان بالعقل وميزه به عن سائر الحيوانات ، وخاطبه عز وجل في كثير من الآيات ، فقال :{ أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ}(44)البقرة .
في أربع وعشرين آية بين قوله : أفلا تعقلون ، وقوله تعالى : ولعلكم تعقلون ، وقوله سبحانه : أن كنتم تعقلون ، و{ أفلم تكونوا تعقلون }
وقال سبحانه وتعالى : { إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}(164) البقرة .
في اثنين وعشرين آية بين قوله تعالى : لقوم يعقلون ، وقوله : أفلا يعقلون ، وقوله : لا يعقلون ، وقوله : أو يعقلون ..
وقال تعالى :{ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} (46)الحج.
كل ذلك من الآيات الكثيرة التي تبين فضل العقل ومنزلته ومزيته ، وأنه نعمة عظيمة منّ الله بها على الإنسان ؛ فإذا سخرها فيما خلقت له أي في العقل عن الله ورسله ، فقد عرف قدرها وشكرها ، وكان من ذوي العقول الراجحة ، والألباب السليمة الصحيحة التي تدفعه للحرص على التأمل فيما ينفع ، وترك ما يضر ، والتدبر فيما ينجي من الهلاك في الدنيا والعذاب الشديد في الآخرة ، وإدراك الوظيفة التي من أجلها أوجده الله الكريم في هذه الدنيا وخلقه من أجلها فقام بها أحسن قيام على الوجه الذي يرضي مولاه ومعبوده .
وهذه المنزلة ليست لكل النّاس فالكثير منهم لا يعقلون ، ولا يشكرون ، ولكنها منقبة عظيمة لطائفة من عباده اصطفاهم واجتباهم على غيرهم أولئك هم أولوا الألباب الذين قال الله فيهم : {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} (7)البقرة .
وقال تعالى فيهم :{ أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ}(19)الرعد .
وقال جل وعز فيهم :{ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ }(190)آل عمران .
وقال عز وجل :{ يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ}(269) البقرة .
في ستة عشر آية بين قوله : أولو الألباب ، وقوله : وأولي الألباب ..
فهم الذين عقلوا عن الله خطابه ؛ فامتثلوا أوامره واجتنبوا نواهيه معظمين للوحي ، خائفين من العواقب ، قد استجابوا إذ دعاهم لما يحييهم ، فاشتغلوا بما يعنيهم ويعينهم وتركوا ما لا يعنيهم ويضيعهم
.. وهم الذين عقلوا عن الله خطابه في كتابه المفتوح فتدبروه ، وتأملوه فزادهم قربا وحبا منه ، وتواضعا وخشوعا ، وطمأنينة وسكينة فكانوا مفاتيح خير مغاليق شر ، وكانوا هداة مهديين ، وعلماء صادقين ربانيين .
3 -هذا الذي ترك منافسة من هو دونه في الأعمال الصالحة والإقبال على ما ينجي في الآخرة إنّما ترك أعظم سبب للازدياد من الحسنات والمنجيات والمكفرات ، فالمفروض أن ينافس من هم فوقه في الطاعات ، وهو ترك منافسة من دونه ؛ فلا شك أن هذه خسارة كبيرة ، وأي خسارة أن يكون في آخر ركب الصالحين ، وربما لم يلحق بهم ، ومازال العبد يتأخر حتى يؤخره الله تعالى
.عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى فِي أَصْحَابِهِ تَأَخُّرًا فَقَالَ لَهُمْ: «تَقَدَّمُوا فَأْتَمُّوا بِي، وَلْيَأْتَمَّ بِكُمْ مَنْ بَعْدَكُمْ، لَا يَزَالُ قَوْمٌ يَتَأَخَّرُونَ حَتَّى يُؤَخِّرَهُمُ اللهُ» رواه مسلم(430)وأحمد (11142)وأبو داود (680)والنسائي في الصغرى (795(
4 -من شغل قلبه ببدعة أي كانت فقد كساه زيغا وضلالا ، فأولئك الذين سمى الله تعالى في كتابه فليحذرهم العاقل ،
قال تعالى :{ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ}(7) آل عمران .
فلا تجد مبتدعا إلا وقد اشتبه عليه الحق ، وزين له الشيطان عمله فرآه حسنا وهو في حقيقة الأمر على زيغ وضلال ، قد اشرأب قلبه حب الشبه والبدع التي توافق هواه حتى على عليه الرّان فأصبح كالكوز مجخيا لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا
..وبهذا جاء الوحي :ففي صحيح مسلم (231) قال صلى الله عليه وسلم (( ...وَالْآخَرُ أَسْوَدُ مُرْبَادًّا كَالْكُوزِ، مُجَخِّيًا لَا يَعْرِفُ مَعْرُوفًا، وَلَا يُنْكِرُ مُنْكَرًا، إِلَّا مَا أُشْرِبَ مِنْ هَوَاهُ)).وأحمد (23280)).
وإذا وصل لهذه المرتبة أصبح لا يعقل عن الله ، ولا عن رسوله ، ولا عن الراسخين في العلم ، فقد أصبح كالبهائم الضالة التائهة ..نسأل الله السلام .
5 -هذا حال كثير من متعصبة هذا الزمان ، لا يرى الهُدى إلا في رأيه واجتهاده ، وفي حزبه وطائفته ، ولا يرى الضلالة إلا في مجانبة ما هو عليه من غلو ، وتعصب ، وتأويل فاسد ، وفهم كاسد ، وتحريف للحقائق ، والمصيبة أن الكثير منهم يدعي المشيخة والانتساب إلى طلاب العلم ، حتى أصبح حال بعضهم يعتبر رأي شيخه ، واجتهاداته وحي معلوم ، وهو عن الخطأ معصوم ، وبعضهم يجعله خط أحمر من انتقده أو خالفه كفر ، وبعضهم حاله كحال فرعون حيث أخبرنا الله عنه أنه قال : {قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ}(29)غافر
.والبعض الآخر يقول عن خصمه ما قاله فرعون عن رسول الله وكليمه موسى عليه السلام :{ وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ} (26).وسيأتي الكلام على ذم الرأي والاعتداد به والوقوف عنده لا يقبل غيره ..
6 -الشيخ يقصد إمّا اختلاف بلدان العلماء ، أو اختلاف التنوع الذي كان بينهم ، أما اختلاف التضاد فلم يكن بين علماء النقد المتفقين فيما بينهم على إنكار الأهواء والبدع والضلالات؛ لأنه من اختلاف التضاد الذي نهاهم الله عنه ، وكذلك الصحابة لم يكونوا مختلفين في التوحيد والإيمان ، والعقيدة وإنما كان الخلاف بينهم في بعض الأحكام الفرعية - على قلته - وكلّما ابتعدنا من عصرهم زاد ذلك الخلاف حتى وصل ببعض المتعصبة من أصحاب المذاهب والحزبيات والطائفيات والجماعات إلى اختلاف تضاد.
7 -التسكع: التحير، وهل يستوي ضلال قوم تسكعوا، وهو أيضا التمادي في الباطل. (النهاية 2/ 384).
8- المَهْمَه: الْمَفَازَةُ والبريةُ الْقَفْرُ، وَجَمْعُهَا: مَهَامِه.النهاية في غريب الحديث والأثر(4/376) ولسان العرب (13/542).قَالَ اللَّيْث: المَهْمَهُ: الخَرْقُ الأملس الْوَاسِع. وَقَالَ ابْن شُمَيْل: المَهْمَهُ: الفلاة بِعَينهَا، لَا ماءَ بهَا وَلَا أَنِيس. وَأَرْض مَهَامِهُ: بعيدَة. وَقيل: المَهْمَهُ: الْبَلَد المُقْفِرُ، وَيُقَال: مَهْمَهَةٌ تهذيب اللغة (5/250).
9 - الله أكبر ؛ وكأنه شاهد عيان على عصرنا وما يجري فيه مما وصف به أهل الأهواء ممن تتجارى بهم كما يتجارى داء الكلب بصاحبه ، وهذا ليس بضائرٍ أهل الحق - إن شاء الله – فهم على بينة من ربهم فيه ، وإنّما المحزن والمضر هو أن يتصف أهل السلفية المحضة بشيء من هذه الأوصاف التي وصف بها أهل الأهواء أو يتصفوا بمن ذمهم الله تعالى ذما شديدا في كتابه من اليهود والنصارى .وإلى الله المشتكى .
..يتبع - إن شاء الله
الحمد لله حمدا طيبا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى ، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه وسلم.
أما بعد:
فقد قرأت في سنن الدارمي(1/237) تحقيق الزهراني "باب رِسَالَةِ عَبَّادِ بْنِ عَبَّادٍ الْخَوَّاصِ الشَّامِيِّ" وهي رسالة كتبها عباد بن عباد الخواص الشامي أحد الفضلاء الثقاة الزهاد إلى بعض أصحابه يعظهم ويذكرهم بالله تعالى ؛ ويحثهم على ترك الرأي والتقليد ، وترك الخوض في الدين بما لا يحسن ، وحثهم على التقوى واتهام آراهم ، والرجوع إلى الاقتداء بالسلف الصالح ، والعمل بالكتاب والسنة على مراد الله ومراد رسوله وغير ذلك .. فألفيتها رسالة سديدة نافعة مفيدة ، وأن كثيرا مما نطق به فيها ينطبق على كثير من إخواننا السلفيين اليوم ، وكثيرا من التوجيهات فيها يحتاجون إليه ؛ فأحببت أن أذكرهم ونفسي بها، وأعلق على مواضع منها في الهامش تحت أرقام متسلسلة بقدر ما يقتضيه المقام ، وأسأله تعالى أن يجعلني وإخواني ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه إنه سميع قريب مجيب . وإليكم نص الرسالة: قال أبو محمد عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ سُلَيْمَانَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْأَنْطَاكِيُّ، عَنْ عَبَّادِ بْنِ عَبَّادٍ الْخَوَّاصِ الشَّامِيِّ أَبِي عُتْبَةَ(1)قَالَ:
أَمَّا بَعْدُ: " اعْقِلُوا، وَالْعَقْلُ نِعْمَةٌ، فَرُبَّ ذِي عَقْلٍ، قَدْ شُغِلَ قَلْبُهُ، بِالتَّعَمُّقِ فِيمَا هُوَ عَلَيْهِ ضَرَرٌ، عَنِ الِانْتِفَاعِ بِمَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ حَتَّى صَارَ عَنْ ذَلِكَ سَاهِيًا.(2).
وَمِنْ فَضْلِ عَقْلِ الْمَرْءِ، تَرْكُ النَّظَرِ فِيمَا لَا نَظَرَ فِيهِ، حَتَّى لَا يَكُونَ فَضْلُ عَقْلِهِ، وَبَالًا عَلَيْهِ فِي تَرْكِ مُنَافَسَةِ مَنْ هُوَ دُونَهُ فِي الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ (3).أَوْ رَجُلٍ شُغِلَ قَلْبُهُ بِبِدْعَةٍ، قَلَّدَ فِيهَا دِينَهُ، رِجَالًا دُونَ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.(4). أَوِ اكْتَفَى بِرَأْيِهِ فِيمَا لَا يَرَى الْهُدَى إِلَّا فِيهَا، وَلَا يَرَى الضَّلَالَةَ إِلَّا بِتَرْكِهَا، يَزْعُمُ أَنَّهُ أَخَذَهَا مِنَ الْقُرْآنِ، وَهُوَ يَدْعُو إِلَى فِرَاقِ الْقُرْآنِ..(5).
أَفَمَا كَانَ لِلْقُرْآنِ حَمَلَةٌ قَبْلَهُ، وَقَبْلَ أَصْحَابِهِ يَعْمَلُونَ بِمُحْكَمِهِ، وَيُؤْمِنُونَ بِمُتَشَابِهِهِ؟ وَكَانُوا مِنْهُ عَلَى مَنَارٍ لِوَضَحِ الطَّرِيقِ، وَكَانَ الْقُرْآنُ إِمَامَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِمَامًا لِأَصْحَابِهِ، وكانَ أَصْحَابُهُ أَئِمَّةً، لِمَنْ بَعْدَهُمْ ، رِجَالٌ مَعْرُوفُونَ مَنْسُوبُونَ فِي الْبُلْدَانِ، مُتَّفِقُونَ فِي الرَّدِّ عَلَى أَصْحَابِ الْأَهْوَاءِ، مَعَ مَا كَانَ بَيْنَهُمْ مِنَ الِاخْتِلَافِ.(6). وَتَسَكَّعَ (7)أَصْحَابُ الْأَهْوَاءِ بِرَأْيِهِمْ فِي سُبُلٍ مُخْتَلِفَةٍ جَائِرَةٍ عَنِ الْقَصْدِ، مُفَارِقَةٍ لِلصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، فَتَوَّهَتْ بِهِمْ أَدِلَّاؤُهُمْ فِي مَهَامِهَ(مُضِلَّةٍ، فَأَمْعَنُوا فِيهَا مُتَعَسِّفِينَ فِي تِيهِهِمْ. كُلَّمَا أَحْدَثَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ بِدْعَةً فِي ضَلَالَتِهِمْ، انْتَقَلُوا مِنْهَا إِلَى غَيْرِهَا، لِأَنَّهُمْ لَمْ يَطْلُبُوا أَثَرَ السَّابقينَ، وَلَمْ يَقْتَدُوا بِالْمُهَاجِرِينَ..(9).(10). وَقَدْ ذُكِرَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ لِزِيَادٍ: هَلْ تَدْرِي مَا يَهْدِمُ الْإِسْلَامَ؟ زَلَّةُ عَالِمٍ، وَجِدَالُ مُنَافِقٍ بِالْقُرْآنِ، وَأَئِمَّةٌ مُضِلُّونَ))... (11).
ثم يقول : اتَّقُوا اللَّهَ وَمَا حَدَثَ فِي قُرَّائِكُمْ، وَأَهْلِ مَسَاجِدِكُمْ، مِنَ الْغِيبَةِ، وَالنَّمِيمَةِ، وَالْمَشْيِ بَيْنَ النَّاسِ بِوَجْهَيْنِ، وَلِسَانَيْنِ، وَقَدْ ذُكِرَ أَنَّ مَنْ كَانَ ذَا وَجْهَيْنِ فِي الدُّنْيَا، كَانَ ذَا وَجْهَيْنِ فِي النَّارِ.. (12). يَلْقَاكَ صَاحِبُ الْغِيبَةِ، فَيَغْتَابُ عِنْدَكَ مَنْ يَرَى أَنَّكَ تُحِبُّ غِيبَتَهُ، وَيُخَالِفُكَ إِلَى صَاحِبِكَ، فَيَأْتِيهِ عَنْكَ بِمِثْلِهِ، فَإِذَا هُوَ قَدْ أَصَابَ عِنْدَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْكُمَا حَاجَتَهُ، وَخَفِيَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْكُمَا مَا أَتِى بِهِ عِنْدَ صَاحِبِهِ...(13).
حُضُورُهُ عِنْدَ مَنْ حَضَرَهُ حُضُورُ الْإِخْوَانِ، وَغَيْبَتُهُ عَنْ منْ غَابَ عَنْهُ غَيْبَةُ الْأَعْدَاءِ، مَنْ حَضَرَ مِنْهُمْ كَانَتْ لَهُ الْأَثَرَةُ، وَمَنْ غَابَ مِنْهُمْ لَمْ تَكُنْ لَهُ حُرْمَةٌ، يَفْتِنُ مَنْ حَضَرَهُ بِالتَّزْكِيَةِ، وَيَغْتَابُ مَنْ غَابَ عَنْهُ بِالْغِيبَةِ، (14). فَيَا لَعِبَادَ اللَّهِ أَمَا فِي الْقَوْمِ مَنْ رَشِيدٍ(15)، وَلَا مُصْلِحٍ بِهِ يَقْمَعُ هَذَا عَنْ مَكِيدَتِهِ، وَيَرُدُّهُ عَنْ عِرْضِ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ؟بَلْ عَرَفَ هَوَاهُمْ فِيمَا مَشَى بِهِ إِلَيْهِمْ، فَاسْتَمْكَنَ مِنْهُمْ وَأَمْكَنُوهُ مِنْ حَاجَتِهِ، فَأَكَلَ بِدِينِهِ مَعَ أَدْيَانِهِمْ، فَاللَّهَ اللَّهَ، ذُبُّوا عَنْ حُرَمِ أعْيانكمْ، وَكُفُّوا أَلْسِنَتَكُمْ عَنْهُمْ، إِلَّا مِنْ خَيْرٍ، وَنَاصِحُوا اللَّهَ فِي أُمَّتِكُمْ إِذْ كُنْتُمْ حَمَلَةَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، فَإِنَّ الْكِتَابَ لَا يُنْطَقَ حَتَّى يَنْطِقُ بِهِ، وَإِنَّ السُّنَّةَ لَا تَعْمَلُ حَتَّى يُعْمَلَ بِهَا، فَمَتَى يَتَعَلَّمُ الْجَاهِلُ إِذَا سَكَتَ الْعَالِمُ، فَلَمْ يُنْكِرْ مَا ظَهَرَ، وَلَمْ يَأْمُرْ بِمَا تُرِكَ؟ وَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ. (16)..(17).
اتَّقُوا اللَّهَ فَإِنَّكُمْ فِي زَمَانٍ رَقَّ فِيهِ الْوَرَعُ، وَقَلَّ فِيهِ الْخُشُوعُ، وَحَمَلَ الْعِلْمَ مُفْسِدُوهُ، فَأَحَبُّوا أَنْ يُعْرَفُوا بِحَمْلِهِ، وَكَرِهُوا أَنْ يُعْرَفُوا بِإِضَاعَتِهِ، فَنَطَقُوا فِيهِ بِالْهَوَى، لَمَّا أَدْخَلُوا فِيهِ مِنَ الْخَطَأ، وَحَرَّفُوا الْكَلِمَ عَمَّا تَرَكُوا مِنَ الْحَقِّ إِلَى مَا عَمِلُوا بِهِ مِنْ بَاطِلٍ، فَذُنُوبُهُمْ ذُنُوبٌ لَا يُسْتَغْفَرُ مِنْهَا، وَتَقْصِيرُهُمْ تَقْصِيرٌ لَا يُعْتَرَفُ بِهِ، كَيْفَ يَهْتَدِي الْمُسْتَدِلُّ الْمُسْتَرْشِدُ إِذَا كَانَ الدَّلِيلُ حَائِرًا؟(1..
أَحَبُّوا الدُّنْيَا، وَكَرِهُوا مَنْزِلَةَ أَهْلِهَا، فَشَارَكُوهُمْ فِي الْعَيْشِ، وَزَايَلُوهُمْ بِالْقَوْلِ، وَدَافَعُوا بِالْقَوْلِ عَنْ أَنْفُسَهُمْ أَنَّ يُنْسَبُوا إِلَى عَمَلِهِمْ، فَلَمْ يَتَبَرَّءُوا مِمَّا انْتَفَوْا مِنْهُ، وَلَمْ يَدْخُلُوا فِيمَا نَسَبُوا إِلَيْهِ أَنْفُسِهِمْ، لِأَنَّ الْعَامِلَ بِالْحَقِّ مُتَكَلِّمٌ وَإِنْ سَكَتَ.وَقَدْ ذُكِرَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: إِنِّي لَسْتُ كُلَّ كَلَامِ الْحَكِيمِ أَتَقَبَّلُ، وَلَكِنِّي أَنْظُرُ إِلَى هَمِّهِ وَهَوَاهُ، فَإِنْ كَانَ هَمُّهُ وَهَوَاهُ لِي، جَعَلْتُ صَمْتَهُ حَمْدًا وَوَقَارًا، وَإِنْ لَمْ يَتَكَلَّمْ. .(19).
وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا، كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا} [الجمعة: 5] كُتبا)..(20).
وَقَالَ: {خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ} [البقرة: 63] قَالَ: الْعَمَلُ بِمَا فِيهِ، وَلَا تَكْتَفُوا مِنَ السُّنَّةِ، بِانْتِحَالِهَا بِالْقَوْلِ دُونَ الْعَمَلِ بِهَا، فَإِنَّ انْتِحَالَ السُّنَّةِ دُونَ الْعَمَلِ بِهَا، كَذِبٌ بِالْقَوْلِ مَعَ إِضَاعَةِ الْعِلْم، وَلَا تَعِيبُوا بِالْبِدَعِ تَزَيُّنًا بِعَيْبِهَا، فَإِنَّ فَسَادَ أَهْلِ الْبِدَعِ، لَيْسَ بِزَائِدٍ فِي صَلَاحِكُمْ، وَلَا تَعِيبُوهَا بَغْيًا عَلَى أَهْلِهَا، فَإِنَّ الْبَغْيَ مِنْ فَسَادِ أَنْفُسِكُمْ، وَلَيْسَ يَنْبَغِي لِلطَّبِيبِ أَنْ يُدَاوِيَ الْمَرْضَى بِمَا يُبَرِّئُهُمْ وَيُمْرِضُهُ، فَإِنَّهُ إِذَا مَرِضَ، اشْتَغَلَ بِمَرَضِهِ عَنْ مُدَاوَاتِهِمْ، وَلَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يَلْتَمِسَ لِنَفْسِهِ الصِّحَّةَ، لِيَقْوَى بِهِ عَلَى عِلَاجِ الْمَرْضَى.(21).
فَلْيَكُنْ أَمْرُكُمْ فِيمَا تُنْكِرُونَ عَلَى إِخْوَانِكُمْ نَظَرًا مِنْكُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَنَصِيحَةً مِنْكُمْ لِرَبِّكُمْ، وَشَفَقَةً مِنْكُمْ عَلَى إِخْوَانِكُمْ، وَأَنْ تَكُونُوا مَعَ ذَلِكَ بِعُيُوبِ أَنْفُسِكُمْ، أَعْنَى مِنْكُمْ بِعُيُوبِ غَيْرِكُمْ، وَأَنْ يَسْتَفْطِمَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا النَّصِيحَةَ، وَأَنْ يَحْظَى عِنْدَكُمْ مَنْ بَذَلَهَا لَكُمْ وَقَبِلَهَا مِنْكُمْ...(22).
وَقَدْ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- : رَحِمَ اللَّهُ مَنْ أَهْدَى إِلَيَّ عُيُوبِي.( 23). تُحِبُّونَ أَنْ تَقُولُوا فَيُحْتَمَلَ لَكُمْ، وَإِنْ قِيلَ مِثْلُ الَّذِي قُلْتُمْ، غَضِبْتُمْ. تَجِدُونَ عَلَى النَّاسِ فِيمَا تُنْكِرُونَ مِنْ أُمُورِهِمْ، وَتَأْتُونَ مِثْلَ ذَلِكَ أفَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يؤخذَ عَلَيْكُمْ؟اتَّهِمُوا رَأْيَكُمْ وَرَأْيَ أَهْلِ زَمَانِكُمْ،.(24)
وَتَثَبَّتُوا قَبْلَ أَنْ تَكَلَّمُوا، وَتَعَلَّمُوا قَبْلَ أَنْ تَعْمَلُوا، فَإِنَّهُ يَأْتِي زَمَانٌ يَشْتَبِهُ فِيهِ الْحَقُّ وَالْبَاطِلُ، وَيَكُونُ الْمَعْرُوفُ فِيهِ مُنْكَرًا، وَالْمُنْكَرُ فِيهِ مَعْرُوفًا، فَكَمْ مِنْ مُقترِّبٍ إِلَى اللَّهِ بِمَا يُبَاعِدُهُ، وَمُتَحَبِّبٍ إِلَيْهِ بِمَا يبغْضهُ عَلَيْهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا} [فاطر: 8]، الْآيَةَ..فَعَلَيْكُمْ بِالْوُقُوفِ عِنْدَ الشُّبُهَاتِ، حَتَّى يَبْرُزَ لَكُمْ وَاضِحُ الْحَقِّ بِالْبَيِّنَةِ فَإِنَّ الدَّاخِلَ فِيما لَا يَعْلَمُ بِغَيْرِ عِلْمٍ آثِمٌ، وَمَنْ نَظَرَ لِلَّهِ، نَظَرَ اللَّهُ لَهُ.
عَلَيْكُمْ بِالْقُرْآنِ فَأْتَمُّوا بِهِ، وَأُمُّوا بِهِ، وَعَلَيْكُمْ بِطَلَبِ أَثَرِ الْمَاضِينَ فِيهِ، وَلَوْ أَنَّ الْأَحْبَارَ وَالرُّهْبَانَ لَمْ يَتَّقُوا زَوَالَ مَرَاتِبِهِمْ، وَفَسَادَ مَنْزِلَتِهِمْ، بِإِقَامَةِ الْكِتَابِ بِأَعْمَالِهِمْ، وَتِبْيَانِهِ مَا حَرَّفُوهُ وَلَا كَتَمُوهُ، وَلَكِنَّهُمْ لَمَّا خَالَفُوا الْكِتَابَ بِأعْمالهمْ، الْتَمَسُوا أَنْ يَخْدَعُوا قَوْمَهُمْ عَمَّا صَنَعُوا، مَخَافَةَ أَنْ يفْسدواَ مَنَازِلُهُمْ، وَأَنْ يَتَبَيَّنَ لِلنَّاسِ فَسَادُهُمْ، فَحَرَّفُوا الْكِتَابَ بِالتَّفْسِيرِ، وَمَا لَمْ يَسْتَطِيعُوا تَحْرِيفَهُ، كَتَمُوهُ، فَسَكَتُوا عنْ صَنِيعِ أَنْفُسِهِمْ إِبْقَاءً عَلَى مَنَازِلِهِمْ، وَسَكَتُوا عَمَّا صَنَعَ قَوْمُهُمْ مُصَانَعَةً لَهُمْ، وَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ، لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ، بَلْ مَالَئُوا عَلَيْهِ، وَرَفَّقُوا لَهُمْ فِيهِ " (25)(26).
---------------.
1 –هو: عباد بن عباد الرملي الأرسوفي ، أَبُو عتبة الخواص، فارسي الأصل. ترجمته في تهذيب الكمال في أسماء الرجال (14/ 134(( 3085) قال عثمان بْن سَعِيد الدارمي في تاريخه، الترجمة ( 495) عَنْ يحيى بْن مَعِين: ثقة. وَقَال أَحْمَد بْن عَبد اللَّهِ العجلي في (ثقاته، الورقة 28) : ثقة، رجل صالح.وَقَال أَبُو حاتم في الجرح والتعديل: الترجمة (424)من الْعِبَاد. وَقَال يعقوب بْن سُفْيَان في المعرفة والتاريخ: (2 /4/ 437) : كَانَ من الزهاد والعباد، ثقة . وَقَال ابن حبان: كان ممن غلب عليه التقشف، والعبادة، حتى غفل عن الحفظ والإتقان فكان يأتي بالشيء على حسب التوهم حتى كثرت المناكير في روايته على قلتها فاستحق الترك (المجروحين: 2 / 170). ونقله الحافظ ابن حجر في تهذيب التهذيب (5/97).وَقَال في "التقريب (1/290) (3134)": عباد ابن عباد الرملي الأرسوفي بمهملة وفاء أبو عتبة الخواص ، صدوق يهم ، أفحش ابن حبان فقال يستحق الترك من التاسعة. –2قلت : لا يثبت في فضل العقل حديث ، قال العراقي في تخريج أحاديث الإحياء (1/1510):وَلم يَصح فِي فضل الْعقل شَيء. وقال ابن الجوزي في ذم الهوى (ص 15): المنقول عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في فضل العقل كثير، إلَّا أنه بعيد الثبوت. وذكره ابن تيمية في بغية المرتاد (1/247). قال الحافظ هنا في المطالب - بعد الحديث القادم برقم (3311) -: هذه الْأَحَادِيثُ مِنْ كِتَابِ "الْعَقْلِ" لِدَاوُدَ بْنِ المُحَبَّر، كلها موضوعة، ذكرها الحارث في مسنده.
وقال الألباني في الضعيفة (1/53) مما يحسن التنبيه عليه أن كل ما ورد في فضل العقل من الأحاديث لا يصح منها شيء، وهي تدور بين الضعف والوضع، وقد تتبعت ما أورده منها أبو بكر بن أبي الدنيا في كتابه " العقل وفضله " فوجدتها كما ذكرت لا يصح منها شيء، فالعجب من مصححه الشيخ محمد زاهد الكوثري كيف سكت عنها؟ ! بل أشار في ترجمته للمؤلف (ص 4) إلى خلاف ما يقتضيه التحقيق العلمي عفا الله عنا وعنه.
وقد قال العلامة ابن القيم في " المنار " (ص 25) : أحاديث العقل كلها كذب.
وانظر الضعيفة (12/112) وفيها رد على الكوثري الذي أنكر على من نفى أن يكون قد صح في العقل شيء .وبوب ابن أبي شيبة في الأدب بَابُ فَضْلِ الْعَقْلِ ثم ساق بسنده 286 - حَدَّثَنَا عَبْدُ الْأَعْلَى، عَنِ الْجُرَيْرِيِّ، عَنْ أَبِي الْعَلَاءِ، قَالَ: «مَا أُعْطِيَ عَبْدٌ بَعْدَ الْإِسْلَامِ أَفْضَلُ مِنْ عَقْلٍ صَالِحٍ يُرْزَقُهُ » وفي مصنفه (5/266).
وفي شعب الإيمان للبيهقي (6/34 فصل في فضل العقل الذي هو من النعم العظام التي كرم الله بها عباده وبسنده إلى الحسن ، قال: " لما خلق الله عز وجل العقل، قال له: أقبل فأقبل، ثم قال له: أدبر فأدبر، وقال:ما خلقت خلقا هو أحب إلي منك إني بك أعبد، وبك أعرف، وبك آخذ، وبك أعطي ". " وقال عقبه : هذا من قول الحسن، وغيره مشهور، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم بإسناد غير قوي ".
قال أبو عمر بن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله (1/549)وَقَالُوا: فَضْلُ الْعَقْلِ عَلَى الْمَنْطِقِ حِكْمَةٌ. وَفَضْلُ الْمَنْطِقِ عَلَى الْعَقْلِ هُجْنَةٌ.
قلت :ومع ذلك فقد جاء في كتاب الله تعالى ما يبين فضل العقل فقد كرم الله الإنسان بالعقل وميزه به عن سائر الحيوانات ، وخاطبه عز وجل في كثير من الآيات ، فقال :{ أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ}(44)البقرة .
في أربع وعشرين آية بين قوله : أفلا تعقلون ، وقوله تعالى : ولعلكم تعقلون ، وقوله سبحانه : أن كنتم تعقلون ، و{ أفلم تكونوا تعقلون }
وقال سبحانه وتعالى : { إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}(164) البقرة .
في اثنين وعشرين آية بين قوله تعالى : لقوم يعقلون ، وقوله : أفلا يعقلون ، وقوله : لا يعقلون ، وقوله : أو يعقلون ..
وقال تعالى :{ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} (46)الحج.
كل ذلك من الآيات الكثيرة التي تبين فضل العقل ومنزلته ومزيته ، وأنه نعمة عظيمة منّ الله بها على الإنسان ؛ فإذا سخرها فيما خلقت له أي في العقل عن الله ورسله ، فقد عرف قدرها وشكرها ، وكان من ذوي العقول الراجحة ، والألباب السليمة الصحيحة التي تدفعه للحرص على التأمل فيما ينفع ، وترك ما يضر ، والتدبر فيما ينجي من الهلاك في الدنيا والعذاب الشديد في الآخرة ، وإدراك الوظيفة التي من أجلها أوجده الله الكريم في هذه الدنيا وخلقه من أجلها فقام بها أحسن قيام على الوجه الذي يرضي مولاه ومعبوده .
وهذه المنزلة ليست لكل النّاس فالكثير منهم لا يعقلون ، ولا يشكرون ، ولكنها منقبة عظيمة لطائفة من عباده اصطفاهم واجتباهم على غيرهم أولئك هم أولوا الألباب الذين قال الله فيهم : {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} (7)البقرة .
وقال تعالى فيهم :{ أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ}(19)الرعد .
وقال جل وعز فيهم :{ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ }(190)آل عمران .
وقال عز وجل :{ يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ}(269) البقرة .
في ستة عشر آية بين قوله : أولو الألباب ، وقوله : وأولي الألباب ..
فهم الذين عقلوا عن الله خطابه ؛ فامتثلوا أوامره واجتنبوا نواهيه معظمين للوحي ، خائفين من العواقب ، قد استجابوا إذ دعاهم لما يحييهم ، فاشتغلوا بما يعنيهم ويعينهم وتركوا ما لا يعنيهم ويضيعهم
.. وهم الذين عقلوا عن الله خطابه في كتابه المفتوح فتدبروه ، وتأملوه فزادهم قربا وحبا منه ، وتواضعا وخشوعا ، وطمأنينة وسكينة فكانوا مفاتيح خير مغاليق شر ، وكانوا هداة مهديين ، وعلماء صادقين ربانيين .
3 -هذا الذي ترك منافسة من هو دونه في الأعمال الصالحة والإقبال على ما ينجي في الآخرة إنّما ترك أعظم سبب للازدياد من الحسنات والمنجيات والمكفرات ، فالمفروض أن ينافس من هم فوقه في الطاعات ، وهو ترك منافسة من دونه ؛ فلا شك أن هذه خسارة كبيرة ، وأي خسارة أن يكون في آخر ركب الصالحين ، وربما لم يلحق بهم ، ومازال العبد يتأخر حتى يؤخره الله تعالى
.عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى فِي أَصْحَابِهِ تَأَخُّرًا فَقَالَ لَهُمْ: «تَقَدَّمُوا فَأْتَمُّوا بِي، وَلْيَأْتَمَّ بِكُمْ مَنْ بَعْدَكُمْ، لَا يَزَالُ قَوْمٌ يَتَأَخَّرُونَ حَتَّى يُؤَخِّرَهُمُ اللهُ» رواه مسلم(430)وأحمد (11142)وأبو داود (680)والنسائي في الصغرى (795(
4 -من شغل قلبه ببدعة أي كانت فقد كساه زيغا وضلالا ، فأولئك الذين سمى الله تعالى في كتابه فليحذرهم العاقل ،
قال تعالى :{ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ}(7) آل عمران .
فلا تجد مبتدعا إلا وقد اشتبه عليه الحق ، وزين له الشيطان عمله فرآه حسنا وهو في حقيقة الأمر على زيغ وضلال ، قد اشرأب قلبه حب الشبه والبدع التي توافق هواه حتى على عليه الرّان فأصبح كالكوز مجخيا لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا
..وبهذا جاء الوحي :ففي صحيح مسلم (231) قال صلى الله عليه وسلم (( ...وَالْآخَرُ أَسْوَدُ مُرْبَادًّا كَالْكُوزِ، مُجَخِّيًا لَا يَعْرِفُ مَعْرُوفًا، وَلَا يُنْكِرُ مُنْكَرًا، إِلَّا مَا أُشْرِبَ مِنْ هَوَاهُ)).وأحمد (23280)).
وإذا وصل لهذه المرتبة أصبح لا يعقل عن الله ، ولا عن رسوله ، ولا عن الراسخين في العلم ، فقد أصبح كالبهائم الضالة التائهة ..نسأل الله السلام .
5 -هذا حال كثير من متعصبة هذا الزمان ، لا يرى الهُدى إلا في رأيه واجتهاده ، وفي حزبه وطائفته ، ولا يرى الضلالة إلا في مجانبة ما هو عليه من غلو ، وتعصب ، وتأويل فاسد ، وفهم كاسد ، وتحريف للحقائق ، والمصيبة أن الكثير منهم يدعي المشيخة والانتساب إلى طلاب العلم ، حتى أصبح حال بعضهم يعتبر رأي شيخه ، واجتهاداته وحي معلوم ، وهو عن الخطأ معصوم ، وبعضهم يجعله خط أحمر من انتقده أو خالفه كفر ، وبعضهم حاله كحال فرعون حيث أخبرنا الله عنه أنه قال : {قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ}(29)غافر
.والبعض الآخر يقول عن خصمه ما قاله فرعون عن رسول الله وكليمه موسى عليه السلام :{ وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ} (26).وسيأتي الكلام على ذم الرأي والاعتداد به والوقوف عنده لا يقبل غيره ..
6 -الشيخ يقصد إمّا اختلاف بلدان العلماء ، أو اختلاف التنوع الذي كان بينهم ، أما اختلاف التضاد فلم يكن بين علماء النقد المتفقين فيما بينهم على إنكار الأهواء والبدع والضلالات؛ لأنه من اختلاف التضاد الذي نهاهم الله عنه ، وكذلك الصحابة لم يكونوا مختلفين في التوحيد والإيمان ، والعقيدة وإنما كان الخلاف بينهم في بعض الأحكام الفرعية - على قلته - وكلّما ابتعدنا من عصرهم زاد ذلك الخلاف حتى وصل ببعض المتعصبة من أصحاب المذاهب والحزبيات والطائفيات والجماعات إلى اختلاف تضاد.
7 -التسكع: التحير، وهل يستوي ضلال قوم تسكعوا، وهو أيضا التمادي في الباطل. (النهاية 2/ 384).
8- المَهْمَه: الْمَفَازَةُ والبريةُ الْقَفْرُ، وَجَمْعُهَا: مَهَامِه.النهاية في غريب الحديث والأثر(4/376) ولسان العرب (13/542).قَالَ اللَّيْث: المَهْمَهُ: الخَرْقُ الأملس الْوَاسِع. وَقَالَ ابْن شُمَيْل: المَهْمَهُ: الفلاة بِعَينهَا، لَا ماءَ بهَا وَلَا أَنِيس. وَأَرْض مَهَامِهُ: بعيدَة. وَقيل: المَهْمَهُ: الْبَلَد المُقْفِرُ، وَيُقَال: مَهْمَهَةٌ تهذيب اللغة (5/250).
9 - الله أكبر ؛ وكأنه شاهد عيان على عصرنا وما يجري فيه مما وصف به أهل الأهواء ممن تتجارى بهم كما يتجارى داء الكلب بصاحبه ، وهذا ليس بضائرٍ أهل الحق - إن شاء الله – فهم على بينة من ربهم فيه ، وإنّما المحزن والمضر هو أن يتصف أهل السلفية المحضة بشيء من هذه الأوصاف التي وصف بها أهل الأهواء أو يتصفوا بمن ذمهم الله تعالى ذما شديدا في كتابه من اليهود والنصارى .وإلى الله المشتكى .
..يتبع - إن شاء الله
تعليق