بسم الله الرحمن الرحيم
ترافع الأقارب إلى القضاء
الحمد لله، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد:
فما وضعت المحاكم إلا لحل النزاع وفض الخصومات وإقامة العقوبة على الجناة، وغير ذلك مما ينفع الناس.
وقد تحدث خصومات بين الأخ وأخيه والابن وأبيه والزوج وزوجته وغير ذلك من النزاعات التي قد تقع بين الأقارب والأصهار، بسب بيع وشراء أو إرث أو في حدود أرض أو غير ذلك من المشاكل، وربما لا يصل كلا الطرفين لحل يرضي الجميع، فيلجأ أحد الخصمين إلى القضاء.
فنجد من لا علم عنده ولا فقه يستنكر هذا الفعل – الترافع للقضاء - ويستقبحه، سواء من أصحاب الخصومة أو من غيرهم.
وفي السنة المطهر والآثار ما يشهد لهذا الفعل، وأنه لا حرج فيه ولا عيب على من لجأ إلى المحكمة لفض الخصومة وحل النزاع.
عن عائشة رضي الله عنها: قالت هند أم معاوية لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أبا سفيان رجل شحيح، فهل علي جناح أن آخذ من ماله سرا؟
قال: ((خذي أنت وبنوك ما يكفيك بالمعروف)).
أخرجه البخاري.
وفي هذا الحديث تقديم شكوى من زوجة على زوجها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو صاحب السلطة العليا.
وعن عائشة رضي الله عنها، قالت: جاءت فتاة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، إن أبي زوجني ابن أخيه يرفع بي خسيسته (فجعل الأمر إليها).
قالت: فإني قد أجزت ما صنع أبي، ولكن أردت أن تعلم النساء أن ليس للآباء من الأمر شيء.
أخرجه أحمد في ((المسند)) والنسائي في ((السنن)) وابن ماجه في ((السنن)) وإسحاق بن راهوية في ((المسند)) والطبراني في ((الأوسط)).
قال محقق المسند: حديث صحيح، وهذا إسناد رجاله ثقات رجال الشيخين إلا أنه قد اختلف فيه على كهمس بن الحسن.
والحديث ضعفه الألباني.
إن صح الحديث فيه ترافع البنت على أبيه.
وأخرج البخاري أن عليا قال: كانت لي شارف من نصيبي من المغنم يوم بدر، وكان النبي صلى الله عليه وسلم أعطاني شارفا من الخمس، فلما أردت أن أبتني بفاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، واعدت رجلا صواغا من بني قينقاع أن يرتحل معي، فنأتي بإذخر أردت أن أبيعه الصواغين، وأستعين به في وليمة عرسي، فبينا أنا أجمع لشارفي متاعا من الأقتاب، والغرائر، والحبال، وشارفاي مناختان إلى جنب حجرة رجل من الأنصار، رجعت حين جمعت ما جمعت، فإذا شارفاي قد اجتب أسنمتهما، وبقرت خواصرهما وأخذ من أكبادهما، فلم أملك عيني حين رأيت ذلك المنظر منهما، فقلت: من فعل هذا؟
فقالوا: فعل حمزة بن عبد المطلب وهو في هذا البيت في شرب من الأنصار.
فانطلقت حتى أدخل على النبي صلى الله عليه وسلم وعنده زيد بن حارثة، فعرف النبي صلى الله عليه وسلم في وجهي الذي لقيت.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((ما لك؟)).
فقلت: يا رسول الله، ما رأيت كاليوم قط، عدا حمزة على ناقتي، فأجب أسنمتهما، وبقر خواصرهما، وها هو ذا في بيت معه شرب، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم بردائه، فارتدى، ثم انطلق يمشي واتبعته أنا وزيد بن حارثة حتى جاء البيت الذي فيه حمزة، فاستأذن، فأذنوا لهم، فإذا هم شرب.
فطفق رسول الله صلى الله عليه وسلم يلوم حمزة فيما فعل.
فإذا حمزة قد ثمل، محمرة عيناه، فنظر حمزة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم صعد النظر، فنظر إلى ركبته، ثم صعد النظر، فنظر إلى سرته، ثم صعد النظر، فنظر إلى وجهه، ثم قال حمزة: هل أنتم إلا عبيد لأبي؟
فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قد ثمل، فنكص رسول الله صلى الله عليه وسلم على عقبيه القهقرى، وخرجنا معه.
وفي هذا رفع الشكوى من ابن الأخ على عمه.
ومن صحيح الآثار في ترافع العم على ابن أخيه، ما أخرجه البخاري عن مالك بن أوس النصري، وكان محمد بن جبير بن مطعم ذكر لي ذكرا من ذلك، فدخلت على مالك فسألته، فقال: انطلقت حتى أدخل على عمر أتاه حاجبه يرفأ، فقال: هل لك في عثمان، وعبد الرحمن، والزبير، وسعد يستأذنون.
قال: نعم.
فدخلوا فسلموا وجلسوا، فقال: هل لك في علي، وعباس.
فأذن لهما.
قال العباس: يا أمير المؤمنين، اقض بيني وبين الظالم استبا.
فقال الرهط: - عثمان وأصحابه -: يا أمير المؤمنين اقض بينهما، وأرح أحدهما من الآخر.
فقال: اتئدوا، أنشدكم بالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض، هل تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا نورث ما تركنا صدقة)) يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه؟
قال الرهط: قد قال ذلك.
فأقبل عمر على علي، وعباس فقال: أنشدكما بالله هل تعلمان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذلك؟
قالا: نعم.
قال عمر: فإني محدثكم عن هذا الأمر، إن الله كان خص رسوله صلى الله عليه وسلم في هذا المال بشيء لم يعطه أحدا غيره، فإن الله يقول: {ما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم} [الحشر: 6] الآية، فكانت هذه خالصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم والله ما احتازها دونكم، ولا استأثر بها عليكم، وقد أعطاكموها وبثها فيكم حتى بقي منها هذا المال، وكان النبي صلى الله عليه وسلم ينفق على أهله نفقة سنتهم من هذا المال، ثم يأخذ ما بقي فيجعله مجعل مال الله، فعمل النبي صلى الله عليه وسلم بذلك حياته، أنشدكم بالله: هل تعلمون ذلك؟
فقالوا: نعم.
ثم قال لعلي وعباس: أنشدكما الله، هل تعلمان ذلك؟
قالا: نعم.
ثم توفى الله نبيه صلى الله عليه وسلم، فقال أبو بكر: أنا ولي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقبضها أبو بكر فعمل فيها بما عمل فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنتما حينئذ - وأقبل على علي وعباس - تزعمان أن أبا بكر فيها كذا، والله يعلم أنه فيها صادق بار راشد تابع للحق، ثم توفى الله أبا بكر، فقلت: أنا ولي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر، فقبضتها سنتين أعمل فيها بما عمل به رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر، ثم جئتماني وكلمتكما على كلمة واحدة، وأمركما جميع، جئتني تسألني نصيبك من ابن أخيك، وأتاني هذا يسألني نصيب امرأته من أبيها، فقلت: إن شئتما دفعتها إليكما على أن عليكما عهد الله وميثاقه، لتعملان فيها بما عمل به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبما عمل فيها أبو بكر، وبما عملت فيها منذ وليتها، وإلا فلا تكلماني فيها، فقلتما: ادفعها إلينا بذلك، فدفعتها إليكما بذلك، أنشدكم بالله، هل دفعتها إليهما بذلك؟
قال الرهط: نعم.
فأقبل على علي وعباس، فقال: أنشدكما بالله، هل دفعتها إليكما بذلك؟
قالا: نعم.
قال: أفتلتمسان مني قضاء غير ذلك، فوالذي بإذنه تقوم السماء والأرض، لا أقضي فيها قضاء غير ذلك حتى تقوم الساعة، فإن عجزتما عنها فادفعاها إلي، فأنا أكفيكماها.
ومن تتبع السنن والآثار جمع أضعاف ما جمعت من مثل هذه الترافعات، فلا لوم على من لجأ عند الخصومة للقضاء.
وكثير من الناس لا يستنكر حسب نظره ما يقع من شكاوى بين الزوجين ويتعجب من الترافع بين الأقارب، ومن المعلوم أن الزوجة أقرب إلى الرجل من آل بيته وأقاربه.
فالترافع بين الأقارب إلى القضاء عند الخصومة شأن القرن المفضل على الأمة جمعاء، فلماذا يستنكر على من جاء بعدهم؟!
ولماذا تشن الحرب على من لجأ من الأقارب للقضاء؟
هذا والله أعلم، وبالله التوفيق، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
كتبه
عزالدين بن سالم بن الصادق أبوزخار
طرابلس الغرب: يوم الأثنين 9 صفر سنة 1441 هـ
الموافق لـ: 8 أكتوبر سنة 2019 ف
عزالدين بن سالم بن الصادق أبوزخار
طرابلس الغرب: يوم الأثنين 9 صفر سنة 1441 هـ
الموافق لـ: 8 أكتوبر سنة 2019 ف